الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم أمر السلطان الملك المؤيد بالنداء بمنع المعاملة بالدنانير الناصرية، وقد تزايد سعر الذّهب حتى بلغ المثقال الذهب إلى مائتين وستين درهما والناصرى إلى مائتين وعشرة، فرسم السلطان بأن يكون سعر المثقال الذهب بمائتين وخمسين والإفرنتى بمائتين وثلاثين، وأن تنقص الناصرية ويدفع فيها من حساب مائة وثمانين درهما الدينار.
[ما وقع من الحوادث سنة 819]
ثم فى أوّل محرم سنة تسع عشرة وثمانمائة دفع السلطان للطّواشىّ فارس الخازندار مبلغا كبيرا وأمره أن ينزل إلى القاهرة ويفرّقه فى الجوامع والمدارس والخوانق «1» ، فتوسّع الناس بذلك، وكثر الدعاء له، ثم فرّق مبلغا كبيرا أيضا على الفقراء والمساكين فأقلّ ما ناب الواحد من المساكين خمسة مؤيدية فضة عنها خمسة وأربعون درهما، فشمل برّه عدّة طوائف من الفقراء والضّعفاء والأرامل وغيرهم، فكان جملة ما فرّقه فى هذه النوبة الأخيرة أربعة آلاف دينار «2» ، فوقع تفرقة هذا المال من الفقراء موقعا عظيما.
هذا والغلاء يتزايد بالقاهرة وضواحيها، والسلطان مجتهد فى إصلاح الأمر لا يفتر عن ذلك، وأرسل الطواشىّ مرجان الهندىّ الخازندار إلى الوجه القبلى بمال كثير ليشترى منه القمح ويرسله إلى القاهرة توسعة على الناس، ثم أخذ السلطان [فى]«3» النظر فى أحوال الرّعيّة بنفسه وماله حتى إنه لم يدع لمحتسب القاهرة فى ذلك أمرا، فمشى الحال بذلك، وردّ رمق الناس- سامحه الله تعالى وأسكنه الجنة.
ثم فى أوّل صفر من سنة تسع عشرة المذكورة أمر السلطان بعزل جميع نوّاب القضاة الأربعة، وكان عدتهم يومئذ مائة وستة وثمانين قاضيا بالقاهرة سوى من بالنواحى، وصمّم السلطان على أنّ كل قاض يكون له ثلاثة نوّاب لا غير، هؤلاء كفاية للقاهرة وزيادة «4» .
قلت: وما كان أحسن هذا لو دام أو استمرّ، وقد تضاعف هذا البلاء
فى زماننا حتى خرج عن الحدّ، وصار لكل قاض عدّة كبيرة من النّوّاب- انتهى.
ثم فشا الطاعون فى هذا الشهر بالقاهرة، ووقع الاهتمام فى عمارة الجامع المؤيّدىّ بالقرب من باب زويلة، وكان قبل ذلك عمله على التراخى، ثم تكلّم أرباب الدولة مع السلطان فى عود نوّاب القضاة، وأمعنوا فى ذلك، وقد وعدوا بمال كثير، فرسم السلطان بجمع القضاة الثلاثة، وكان قاضى القضاة علاء الدين بن مغلى الحنبلىّ مسافرا بحماة، وتكلّم معهم فيما رسم به، وصمّم على ذلك- رحمه الله.
وأرباب وظائفه الظّلمة البلاصيّة «1» تمعن فى الكلام معه [فى ذلك]«2» ، ولا زالوا به بعد أن خوّفوه بوقوف حال الناس من قلّة النوّاب، وأشياء غير ذلك إلى أن استقرّ الحال على أن يكون نوّاب القاضى الشافعى عشرة، ونوّاب القاضى الحنفى خمسة، ونوّاب القاضى المالكى أربعة، وانفضّ المجلس على هذا بعد أن عجز مباشر والدّولة فى أن يسمح بأكثر من ذلك، وبعد خروج القضاة من المجلس ضمن لهم بعض أعيان الدّولة من المباشرين الظّلمة العواتية- عليه من الله ما يستحقّه- بردّ جماعة أخر بعد حين. هذا والناس فى غاية السّرور [بما حصل]«3» ، من منع القضاة للحكم بين الناس.
ثم خلع السلطان على الأمير قطلوبغا باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن آقبردى المنقار بحكم عزله، وكان قطلوبغا هذا ممن أنعم عليه الأمير تمربغا الأفضلى المدعو منطاش بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية.
ثم أخرج الملك الظاهر برقوق إقطاعه وجعله بطّالا سنين طويلة حتى افتقر وطال خموله، واحتاج إلى السؤال، إلى أن طلبه الملك المؤيّد من داره وولّاه نيابة الإسكندرية من غير سؤال.
قلت: وهذه كانت عادة ملوك السّلف أن يقيموا من حطّه الدهر، وينتشلوا ذوى البيوتات من الرّؤساء وأرباب الكمالات.
وقد ذهب ذلك كلّه وصار لا يترقىّ فى الدّول إلا من يبذل المال، ولو كان من أوباش السّوقة لشره الملوك فى جمع الأموال- ولله درّ المتنبى حيث يقول:
[الطويل]
ومن ينفق الساعات فى جمع ماله
…
مخافة فقر فالذى فعل الفقر
حدّثنى بعض من حضر قطلوبغا المذكور لمّا طلبه المؤيّد ليستقرّ به فى نيابة الإسكندرية.
فعند حضوره قال له السلطان: أولّيك نيابة الإسكندرية، فمسك قطلوبغا المذكور لحيته البيضاء وقال: يا مولانا السلطان أنا لا أصلح لذلك، وإنما أريد شبع بطنى وبطن عيالى.
يظن أن السلطان يهزأ به، فقال له السلطان: لا والله إنما قولى «1» على حقيقته، ثم طلب له التّشريف وأفاضه عليه، وأمدّه بالخيل والقماش- انتهى.
ثم فى ثانى عشر شهر ربيع الأوّل أمسك السلطان الأستادار بدر الدين حسن بن محب الدين بعد أن أوسعه سبّا، وعوّقه نهاره بقلعة الجبل حتى شفع فيه الأمير جقمق الدّوادار على أن يحمل ثلاثمائة ألف دينار، فأخذه جقمق ونزل به إلى داره
ثم أرسل السلطان تشريفا إلى فخر الدين عبد الغنى بن أبى الفرج وهو كاشف الوجه البحرى باستقراره أستادارا عوضا عن ابن محب الدين المقدّم ذكره، ثم تقرّر الحال على ابن محب الدين أنه يحمل مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار بعد ما عوقب وعصر فى بيت الأمير جقمق عصرا شديدا، ثم نقل من بيت جقمق إلى بيت فخر الدين بن أبى الفرج، فتسلمه فخر الدين المذكور عند ما حضر إلى القاهرة.
هذا وقد ارتفع الطاعون بالديار المصرية، وظهر بالبلاد الشاميّة.
ثم فى سابع جمادى الآخرة من سنة تسع عشرة المقدّم ذكرها أمر السلطان أن الخطباء إذا أرادوا الدّعاء للسلطان على المنبر فى يوم الجمعة [أن]«1» ينزلوا درجة ثم يدعوا للسلطان حتى لا يكون ذكر السلطان فى الموضع الذي يذكر فيه اسم الله عز وجل واسم نبيّه صلى الله عليه وسلم؛ تواضعا لله تعالى، ففعل الخطباء «2» ذلك، وحسن هذا ببال الناس إلى الغاية، وعدّت هذه الفعلة من حسناته- رحمه الله.
تم تكرّرت صدقات السلطان فى هذه السنة مرارا عديدة على نقدات متفرقة.
هذا وقد ألزم السلطان مباشرى الدّوله بالرّخام الجيّد لأجل جامعه، فطلب الرّخام من كل جهة، حتى أخذ من البيوت والقاعات والأماكن التى بالمفترجات، ومن يومئذ عزّ الرخام بالديار المصرية لكثرة ما احتاجه الجامع المذكور من الرّخام؛ لكبره وسعته، وهو أحسن جامع بنى بالقاهرة فى الزّخرفة والرّخام لا فى خشونة العمل والإمكان، وقد اشتمل ذلك جميعه فى مدرسة السلطان حسن بالرّميلة، ثم فى مدرسة الملك الظاهر برقوق ببين القصرين، ولم يعب على الملك المؤيد فى شىء من بناء هذا الجامع إلا أخذه باب مدرسة السّلطان حسن والتّنّور الذي كان به، وكان اشتراهما السلطان حسن بخمسمائة دينار، وكان يمكن الملك المؤيد أن يصنع أحسن منهما لعلوّ همّته؛ فإن فى ذلك نقص مروءة وقلة أدب من جهات عديدة.