الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سلطنة الملك الصالح محمد بن ططر
«1»
على مصر السلطان الملك الصالح ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبى الفتح ططر بن عبد الله الظاهرىّ، تسلطن بعد موت أبيه- بعهد منه إليه «2» - فى يوم الأحد رابع ذى الحجة سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وهو أنه لما مات أبوه حضر الخليفة المعتضد بالله أبو الفتح داود والقضاة والأمراء وجلسوا بباب السّتارة من القلعة، وطلبوا محمدا هذا من الدّور السلطانية، فحضر إليهم، فلما رآه الخليفة قام له وأجلسه بجانبه، وبايعه بالسلطنة، ثم ألبسوه خلعة السلطنة الجبّة السّوداء الخليفتيّة من مجلسه بباب السّتارة، وركب فرس النّوبة بشعار الملك وأبهة السلطنة، وسار إلى القصر السلطانى، والأمراء وجميع أرباب الدّولة مشاة بين يديه حتى دخل إلى القصر السلطانى بقلعة الجبل، وجلس على تخت الملك، وقبّل الأمراء الأرض بين يديه على العادة، وخلع على الخليفة وعلى الأمير الكبير جانى بك الصوفى، كونه حمل القبّة والطير على رأسه، ولقّب بالملك الصالح، وفى الحال دقّت البشائر، ونودى بالقاهرة ومصر بسلطنته، وسنّه يوم تسلطن نحو العشر سنين تخمينا، وأمّه خوند بنت سودون الفقيه الظاهرى، وهى إلى الآن فى قيد الحياة، وهى من الصالحات الخيّرات، لم تتزوّج بعد الملك الظاهر ططر.
والملك الصالح [محمد]«3» هذا هو السلطان الحادى والثلاثون من ملوك الترك، والسابع من الجراكسة وأولادهم، وتمّ أمره فى السلطنة، واستقرّ الأتابك جانى بك الصوفى مدبر مملكته، وسكن بالحرّاقة من الإسطبل السلطانى بباب السلسلة، وانضمّ عليه معظم الأمراء والمماليك السلطانية، وأقام الأمير برسباى الدّقماقى الدّوادار واللّالا
أيضا بطبقة الأشرفية فى عدّة أيضا من الأمراء المقدّمين، أعظمهم الأمير طرباى حاجب الحجّاب، والأمير قصروه من تمراز رأس نوبة النوب، والأمير جقمق العلائى نائب قلعة الجبل وأحد مقدّمى الألوف المعروف بأخى چركس المصارع، والأمير تغرى بردى المحمودى، وأما الأمير بيبغا المظفّرى أمير سلاح، والأمير قجق أمير مجلس، والأمير سودون من عبد الرحمن وغيرهم من الأمراء صاروا حزبا وتشاوروا إلى من يذهبون، إلى أن تكلم الأمير سودون من عبد الرحمن مع الأتابك جانى بك الصّوفى، فردّ عليه الجواب بما لا يرضى، فعند ذلك تحوّل سودون من عبد الرحمن ورفقته وصاروا من حزب برسباى وطرباى على ما سنذكر مقالتهما فيما بعد، وباتوا الجميع بالقلعة وباب السّلسلة مستعدّين للقتال، فلم يتحرك ساكن، وأصبحوا يوم الاثنين خامس ذى الحجة وقد تجمّع المماليك بسوق الخيل «1» يطلبون النّفقة عليهم- على العادة- والأضحية، وأغلظوا فى القول، وأفحشوا فى الكلام حتى كادت الفتنة أن تقوم، فلا زال الأمراء بهم يترضّونهم- وقد اجتمع الجميع عند السلطان الملك الصالح- حتى رضوا، وتفرّق جمعهم.
ولما كانت الخدمة بتّ الأتابك جانى بك الصّوفى بعض الأمور، وقرىء الجيش، وخلع على جماعة، وهو كالخائف الوجل من رفقته الأمير برسباى والأمير طرباى وغيرهما.
وظهر فى اليوم المذكور أن الأمر لا يسكن إلا بوقوع فتنة، وبذهاب بعض الطائفتين؛ لاختلاف الآراء واضطراب الدّولة، وعدم اجتماع الناس على واحد بعينه، يكون الأمر متوقّفا على ما يرسم به، وعلى ما يفعله، على أن الأمير برسباى جلس فى اليوم المذكور بين يدى جانى بك الصّوفى وامتثل أوامره فى وقت قراءة الجيش.
ثم بعد انتهاء قراءة الجيش والعلامة قام بين يديه على قدميه، وشاوره فى قضاء أشغال النّاس على عادة ما يفعله الدّوادار مع السّلطان، غير أن القلوب متنافرة،
والبواطن مشغولة لما سيكون، ثم انفض الموكب وبات كلّ أحد على أهبة القتال.
وأصبحوا يوم الثلاثاء سادسه فى تفرقة الأضاحى، فأخذ كلّ مملوك رأسين من الضأن.
ثم تجمعوا أيضا تحت القلعة لطلب النّفقة، وأفحشوا فى الكلام على عادتهم، وتردّدت الرسل بينهم وبين الأتابك جانى بك الصّوفى، وطال النّزاع بينهم، حتى تراضوا [على]«1» أن ينفق فيهم بعد عشرة أيّام من غير أن يعيّن لهم مقدار ما ينفقه فيهم، فانفضّوا على ذلك، وسكن الأمر من جهة المماليك السّلطانية، وانفضّ الموكب من عند الأتابك جانى بك الصّوفى، وطلع الأمير برسباى الدّقماقىّ الدّوادار واللالا إلى طبقة الأشرفيّة هو والأمير طرباى والأمير قصروه، وبعد طلوعهم تكلّم [بعض]«2» أصحاب جانى بك الصّوفى معه- لمّا رأوا أمره قد عظم- فى نزول الأمراء من القلعة إلى دورهم حتى يتمّ أمره، وتنفذ كلمته، وحسّنوا له ذلك.
وقالوا له: إن لم يقع ذلك وإلا فأمرك غير منتظم؛ فمال الأتابك جانى بك الصّوفى إلى كلامهم- وكان فيه طيش وخفّة- فبعث فى الحال إلى الأمير برسباى الدقماقى أن ينزل من القلعة هو والأمير طرباى حاجب الحجّاب والأمير قصروه رأس نوبة النّوب، وأن يسكنوا بدورهم من القاهرة، ويقيم الأمير جقمق العلائى عند السلطان لا غير، فلما بلغ الأمراء ذلك أراد الأمير برسباى الإفحاش فى الجواب فنهره الأمير طرباى وأسكته، وأجاب بالسّمع والطاعة، وأنّهم ينزلون بعد ثلاثة أيّام، وعاد الرسول إلى الأتابك جانى بك الصّوفى بذلك، فسكت ولم تسكت حواشيه عن ذلك، وهم الأمير يشبك الجكمىّ الأمير آخور الكبير، والأمير قرمش الأعور الظاهرىّ وغيرهما، وعرّفوه أنهم يريدون بذلك إبرام أمره، وألحوا عليه فى أن يرسل إليهم بنزولهم فى اليوم المذكور قبل أن يستفحل أمرهم، فلم يسمع لكون أن الأمير
طرباى نزل فى الحال من القلعة مظهرا أنه فى طاعة الأمير الكبير جانى بك الصّوفى، وأن برسباى وقصروه وغيرهما فى تجهيز أمرهم بعده إلى النزول، فمشى عليه ذلك.
وكان أمر الامير طرباى فى الباطن بخلاف ما ظنه جانى بك الصوفى؛ فإنه أخذ فى تدبير أمره، وإحكام الأمر للأمير برسباى الدّقماقى ولنفسه، واستمال فى ذلك اليوم كثيرا من الأمراء والمماليك السلطانية، وساعده فى ذلك قلّة سعد جانى بك الصّوفى من نفور الأمراء عنه، وهو ما وعدنا بذكره من أمر سودون من عبد الرحمن مع جانى بك الصّوفى.
وقد تقدّم أن سودون من عبد الرحمن وغيره ممن تقدّم ذكرهم صاروا حزبا يحضر كلّ واحد منهم الخدمة، ثم ينزل إلى داره ليرى ما يكون بعد ذلك، ثم بدا لهم أن يكونوا من حزب جانى بك الصّوفى؛ كونه أتابك العساكر ومرشحا إلى السلطنة، بعد أن يكلّموه فى أمر، فإن قبله كانوا من حزبه، وإن لم يفعل مالوا إلى برسباى وطرباى؛ والذي يكلّموه بسببه هو الأمير يشبك الجكمىّ الأمير آخور؛ فإنهم لمّا كانوا عند قرا يوسف بالشرق ثم جاءهم أمير يشبك المذكور أيضا فارا من الحجاز خوفا من الملك المؤيّد، أكرمه قرا يوسف زيادة على هؤلاء- تعطفا من الله- والذين كانوا قبله عند قرا يوسف، هم سودون من عبد الرحمن وطرباى وتنبك البجاسىّ وجانى بك الحمزاوى، وموسى الكركرى وغيرهم.
وكل منهم ينظر يشبك المذكور فى مقام مملوكه، كونه مملوك خشداشهم جكم، فشقّ عليهم خصوصيته عند قرا يوسف وانفراده عنهم، ووقعت المباينة بينهم، ولم يسعهم يوم ذاك إلا السكات لوقته.
فلمّا مات قرا يوسف- وبعده بقليل توفى الملك المؤيّد- قدموا الجميع على
ططروهم فى أسوا حال، فقرّبهم ططر وأكرمهم، واختص أيضا بيشبك المذكور اختصاصا عظيما بحيث إنه ولّاه الأمير آخورية الكبرى، وعقد عقده على ابنته خوند فاطمة التى تزوّجها الملك الأشرف برسباى، فلم يسعهم أيضا إلا السكات، لعظم ميل ططر إليه.
فلما مات ططر انضم يشبك المذكور على جانى بك الصّوفى وصار له كالعضد، فعند ذلك وجد الأمراء المقال فقالوا، وركب الأمير سودون من عبد الرحمن والأمير قرمش الأعور- وهو من أصحاب جانى بك الصّوفى- وواحد «1» آخر، وأظنّه بيبغا المظفرى، ودخلوا على جانى بك الصّوفى بالحرّاقة من باب السّلسلة، ومرّوا فى دخولهم على يشبك الأمير آخور وهو فى أمره ونهيه بباب السّلسلة، فقام إليهم فلم يسلّم عليه سودون من عبد الرحمن، وسلّم عليه قرمش والآخر، وعند ما دخلوا على الأتابك جانى بك الصّوفى وسلّموا عليه وجلسوا كان متكلم القوم سودون من عبد الرحمن، فبدأ بأن قال: أنا، والأمراء نسلم عليك، ونقول لك أنت كبيرنا [ورأسنا]«2» وأغاتنا، ونحن راضون بك فيما تفعل وتريد، غير أن هذا الصبى يشبك مملوك خشداشنا جكم ليس هو منا، وقد وقع عنه قلة أدب فى حقنا ببلاد الشّرق عند قرا يوسف، ثم هو الآن أمير آخور كبير منزلته أكبر من منازلنا، ونحن لا نرضى بذلك، ثم إننا لا نريد من الأمير الكبير مسكه ولا حبسه لكونه انتمى إليه، غير أننا نريد إبعاده عنّا فيوليه الأمير الكبير بعض الأعمال بالبلاد الشاميّة، ثم نكون بعد ذلك جميعا تحت طاعة الأمير الكبير، ونقول قد عاش الملك الظاهر برقوق «3» ونحن فى خدمته، لأنّنا قد مللنا من الشتات والغربة والحروب فيطمئن كل أحد على نفسه وماله ووطنه.
فلما سمع جانى بك الصوفى كلام سودون من عبد الرحمن وفهمه، حنق منه واشتدّ عضبه، وأغلظ فى الجواب بكلام متحصله: رجل ملك ركن إلىّ وانضم علىّ كيف يمكننى إبعاده لأجل خواطركم؟ ثم أخذ فى الحط على خشداشيته الظاهرية [برقوق]«1» ومجيئهم لإثارة الفتن والشرور، فسكت عند ذلك سودون، وأخذ قرمش يراجعه فى ذلك ويحذّره المخالفة غير مرّة، مدلّا عليه كونه من حواشيه وهو لا يلتفت إلى كلامه، فلما أعياه أمره سكت، فأراد الآخر [أن]«2» يتكلم فأشار عليه سودون من عبد الرحمن بالسكات، فأمسك عن الكلام.
فتكلم سودون عند ذلك بباطن بأن قال: يا خوند نحن ما قلنا هذا الكلام إلا نظن أن الأمير الكبير ليس له ميل إليه، فلما تحققنا أنه من ألزام الأمير الكبير وأخصّائه فنسكت عن ذلك ونأخذ فى إصلاح الأمر بينه وبين الأمراء لتكون الكلمة واحدة، بحيث إننا نصير فى خدمته كما نكون فى خدمة الأمير الكبير، فانخدع جانى بك لكلامه وظنه [أنه]«3» على جليّته، وقال: نعم، أما هذا فيكون.
وقاموا عنه ورجع قرمش إلى حال سبيله، وعاد سودون من عبد الرحمن إلى رفقته الأمراء، وذكر لهم الحكاية برمتها، وعظم عليهم الأمر إلى أن قال لهم: تيقنوا جميعكم بأنكم تكونون فى خدمة يشبك الجكمىّ إن أطعتم جانى بك الصّوفى، فإنّ يشبك عنده مقام روحه، وربما إن تمّ له الأمر يعهد بالملك إليه من بعده، فلما سمع الأمراء ذلك قامت قيامتهم، ومالوا بأجمعهم إلى الأمير برسباى الدقماقى الدوادار الكبير والأمير طرباى حاجب الحجّاب، وقالوا: هذا تركنا ونحن خشداشيته لأجل يشبك فما عساه يفعل معنا إن صار الأمر إليه؟ لا والله لا نطيعه ولو ذهبت أرواحنا. وأخذ الجميع فى التدبير عليه فى الباطن، ولقد سمعت هذا القول من الأمير سودون من عبد الرحمن وهو يقول لى فى ضمنه: كان جانى بك الصّوفى مجنونا، أقول له: نحن بأجمعنا فى طاعتك،
وقد مات الملك المؤيد بحسرة أن نكون فى طاعته، فيتركنا ويميل إلى يشبك الجكمىّ وهو رجل غريب ليس له شوكة ولا حاشية- انتهى.
ولما خرج سودون من عبد الرحمن من عند جانى بك الصّوفى طلب جانى بك الصّوفى يشبك الأمير آخور المذكور، وعرّفه قول سودون من عبد الرحمن، واستشاره فيما يفعل معهم- وقد بلغه أن الأمراء تغيّروا عليه- فاتفق رأيهما على أنه يتمارض، فإذا نزل الأمراء لعيادته قبض عليهم، وافترقوا على ذلك. وباتوا تلك الليلة وقد عظم جمع طرباى وبرسباى من الأمراء والمماليك السلطانية، ولم ينضم على جانى بك الصّوفى غير جماعة من المماليك المؤيدية الصغار أعظمهم دولات باى المحمودى السّاقى.
ولما أصبح يوم الأربعاء ثامن ذى الحجة أشيع أن الأمير الكبير جانى بك الصّوفى متوعك، فتكلم الناس فى الحال أنها مكيدة حتى ينزل إليه الأمير برسباى فيقبض عليه، فلم ينزل إليه برسباى وتمادى الحال إلى يوم الجمعة عاشره وهو يوم عيد النحر.
فلما أصبح نهار الجمعة انتظر الأمير برسباى طلوع الأمير الكبير لصلاة العيد، فلم يحضر ولم يطلع، فتقدم الأمير برسباى وأخرج السلطان من الحريم وتوجّه به إلى الجامع ومعه سائر الأمراء والمماليك، فصلّى بهم قاضى القضاة الشافعى صلاة العيد، وخطب على العادة، ثم مضى الأميران برسباى وطرباى بالسلطان إلى باب السّتارة فنحر السلطان هناك ضحاياه من الغنم، وذبح الأمير برسباى ما هناك من البقر نيابة عن السلطان، ثم انفض الموكب، ونزل الأمير طرباى إلى بيته هو وجميع الأمراء وذبحوا ضحاياهم، وتوجه الأمير برسباى إلى طبقة الأشرفية، وبينما هو ينحر ضحاياه بلغه أن الأمير الكبير جانى بك الصّوفى لبس السلاح وألبس مماليكه، ولبس معه جماعة كبيرة من المؤيدية، وغيرهم، فاضطرب الناس، وأغلق باب القلعة ودقت الكؤوسات حربيا.
وكان من خبر جانى بك الصّوفى أنه لمّا تمارض لم يأت إليه أحد ممن كان أراد مسكه، فأجمع رأيه حينئذ على الركوب، وجمع له الأمير يشبك جماعة من إنياته من الماليك المؤيدية ومن أصحابهم.
حدثنى السّيفى جانى بك من سيدى بك البجمقدار المؤيدى، وهو أعظم إنيات يشبك الجكمى المذكور قال: لبسنا ودخلنا على الأتابك جانى بك الصّوفىّ وعنده الأمير يشبك أمير آخور وكلّمناه فى أنّه يقوم يصلّى العيد، ثم يلبس السلاح بعد الصلاة، فقال: صلاة العيد ما هى فرض علينا نتركها ونركب الآن قبل أن يبدءونا بالقتال، قال فقلت فى نفسى: بعيد أن ينجح «1» أمر هذا، قلت وقد وافق رأى جانى بك البجمقدار فى هذا القول قول من قال:«صلّ واركب ما تنكب» على أنه كان غتميّا لا يعرف ما قلته، فوقع لجانى بك الصّوفى أنه لم يصلّ وركب فنكب، ولما بلغ الأمير برسباى ركوب جانى بك الصّوفى لبس الأمير برسباى وحاشيته آلة الحرب، وتوجّه إلى القصر السّلطانى، وترامت الطائفتان بالنّشّاب ساعة فلم يكن غير قليل حتى خرج الأمير طرباى من داره فى عسكر كبير من الأمراء، وعليهم السلاح، ووقفوا تجاه باب السّلسلة، فلم يجدوا بباب السّلسلة ما يهولهم من كثرة العساكر، فأوقف الأمير طرباى بقيّة الأمراء، وسار هو والأمير قجق أمير مجلس، وطلعوا إلى باب السّلسله إلى الأمير الكبير جانى بك الصّوفى- على أنّ طرباى فى طاعته- ودخلا عليه وهو لابس، وعنده الأمير يشبك الأمير آخور، فأخذ طرباى يلومه على تأخّره عن صلاة العيد مع السّلطان، وما فعله من لبس السّلاح، وأنه يقاتل من؟! «2» [فإنّ الجميع فى طاعة السلطان و]«3» طاعة الأمير الكبير، فشكا الأمير الكبير جانى بك من الأمير برسباى الدّقماقىّ من عدم تأدّبه معه فى أمور المملكة، وأنه لا يمكن اجتماعنا أبدا فى بلد واحد، فقال له طرباى: السمع والطاعة، كلّم الأمراء فى ذلك فإنّهم فى طاعتك، فقال: وأين الأمراء، فقال ها هم وقوف تجاه باب السّلسلة، انزل أنت والأمير يشبك إلى بيت الأمير بيبغا المظفّرى أمير السلاح، واجلس به، واطلب الأمراء إلى عندك وكلمهم فيما تختار، فأخذ يشبك يقول له: كيف تنزل من باب السّلسلة إلى بيت من ليس هو معنا؟ فنهره الأمير طرباى فانقمع، ولا زال يخادع الأمير جانى بك الصّوفى حتى
انخدع له وقام معه هو والأمير يشبك المذكور، وركبا ونزلا من باب السّلسلة، وسارا إلى بيت الأمير بيبغا المظفّرى- وهو تجاه مصلاة المؤمنىّ- المعرف ببيت الأمير نوروز، وبه الآن جكم خال الملك العزيز، فمشى وقد تحاوطه القوم. قلت: ما يفعل الأعداء فى جاهل ما يفعل الجاهل فى نفسه.
فلمّا وصل الأمير جانى بك الصّوفىّ «1» إلى باب الدّار المذكورة ودخله بفرسه صاح الأمير أزبك المحمّدى الظاهرىّ: هذا غريم السّلطان قد دخل إلى عندكم أحترصوا عليه، وقبل أن يتكامل دخولهم أغلق الباب على جانى بك الصّوفى ومن معه فعند ذلك زاغ بصر جانى بك الصوفى، وشرع يترقّق لهم، ويقول: المروءة افعلوا معنا ما أنتم أهله، ودخلوا إلى الدّار المذكورة، وإذا بالأمير بيبغا المظفّرى عليه قميص أبيض ورأسه مكشوف، وقد أخرج يده اليمنى من طوق قميصه وهو جالس على دكّة صغيرة عند بوائك الخيل، وبين يديه منقل نار عليه أسياخ من اللّحم تشوى، وبكل «2» فيها بوزا «3» ، وعلى ركبته قوس تترى وعدّة سهام، فعند ما رأى الأمراء قام إليهم على هيئته، وقبل أن يصلوا إلى عنده ركس الأمير أزدمر شايا ثانى رأس نوبة، وأخذ خوذة الأمير يشبك الأمير آخور من على رأسه، فدمعت عينا يشبك، فشقّ ذلك على الأمير بيبغا وأخذ قوسه بيده، واستوفى عليه بفردة نشّاب ليقتله، فهرب أزدمر ودخل إلى بوائك الخيل بعد أن أوسعه بيبغا المذكور من السّب والتوبيخ، ويقول: الملك إذا نكب تروح حرمته ولو مات حرمته باقية، حتى سكن غضبه. وأنزل جانى بك الصّوفىّ ويشبك الأمير آخور، فتقدّم الأمراء وقيّدوهما فى الحال «4» وأخذا أسيرين إلى القلعة وملك الأمير برسباى باب السلسلة من غير قتال ولا مانع، فإن الأمير الكبير جانى بك
الصّوفىّ تركه ونزل من غير [أمر]«1» أوجب نزوله، على أنه لما ركب وأراد النزول مع طرباى قال له بعض مماليكه أو حواشيه: يا خوند، هذا باب السّلسلة الذي تروح عليه الأرواح، أين تنزل وتخليه؟ فقال له: لمصلحة نراها، فقال له: فاتتك المصلحة بنزولك، والله لا تعود إليه أبدا، فلم يلتفت إليه جانى بك وتمادى فى غيّه لقلة سعادته، ولأمر سبق، ولمقاساة نالته بعد هروبه من سجن الإسكندرية ونالت أيضا خلائق بسبب هروبه [من سجن الإسكندرية «2» ] على ما يأتى ذكر ذلك فى ترجمة الملك الأشرف برسباى- إن شاء الله تعالى.
ولمّا ملك الأمير برسباى والأمير طرباى باب السّلسلة [فى الحال]«3» نودى بالقاهرة بنفقة المماليك السلطانية، فلما سمع المماليك هذه المناداة سكنوا بإذن الله، وذهب كلّ واحد إلى داره، وفتحت الأسواق، وشرع الناس فى بيعهم وشرائهم، بعد ما كان فى ظنّ الناس أن الفتنة تطول بين هؤلاء أيّاما كثيرة؛ لأن كل [واحد]«4» منهم مالك جهة من جهات القلعة، ومع كل طائفة خلائق لا تحصى، فجاء الأمر بخلاف ما كان فى ظنهم، ويأبى الله إلّا ما أراد.
واستبدّ من يومئذ الأمير برسباى بالأمر، وبتدبير المملكة مع مشاركة الأمير طرباى له فى ذلك.
فلما كان يوم السبت حادى عشر ذى الحجة استدعى الأمير أرغون شاه النّوروزىّ الأعور وخلع عليه باستقراره أستادارا بعد عزل الأمير صلاح الدين محمد بن نصر الله، وكان أرغون شاه المذكور قد قدم إلى القاهرة صحبة الملك الظاهر ططر من دمشق.
وفيه رسم بحمل الأميرين جانى بك الصّوفىّ ويشبك الجكمىّ الأمير آخور إلى ثغر الإسكندرية، وسجنا بها.
ثم فى يوم الاثنين ثالث عشر ذى الحجة خلع على الأمير آق خجا الحاجب الثانى باستقراره فى كشف الوجه القبلى، ثم عملت الخدمه السلطانية فى يوم الخميس سادس عشره بالقصر السلطانى، وحضر الخليفة والقضاة الموكب، فخلع على الأمير برسباى الدّقماقىّ الدّوادار الكبير واللالا باستقراره نظام الملك ومدبّر المملكة، كما كان الملك الظاهر ططر فى دولة الملك المظفر أحمد بن [المؤيد]«1» شيخ عوضا عن جانى بك الصوفى، وخلع على الأمير طرباى حاجب الحجاب باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن جانى بك الصوفى أيضا، وخلع على الأمير سودون من عبد الرحمن باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن برسباى الدّقماقى، وخلع على الأمير قصروه من تمراز رأس نوبة النّوب باستقراره أمير آخور كبيرا عوضا عن يشبك الجكمى، وخلع على الأمير جقمق العلائى «2» نائب القلعة باستقراره حاجب الحجاب عوضا عن طرباى، وعلى الأمير أزبك المحمدىّ باستقراره رأس نوبة النّوب عوضا عن قصروه.
ثم فوض الخليفة المعتضد بالله للأمير برسباى الدّقماقىّ نظام الملك أمور الدولة بأسرها، ليقوم بتدبير ذلك عن السلطان الصالح محمد إلى أن يبلغ رشده، وحكم بصحة ذلك قاضى القضاة زين الدين عبد الرحمن التّفهنى الحنفىّ؛ ومع هذا كله تقرر الحال على أن يكون تدبير الدولة وسائر أمور المملكة بين الأمير برسباى وبين الأمير طرباى، وأن يسكن الأمير برسباى بطبقة الأشرفية على عادته، ويسكن الأمير طرباى الأتابك بداره تجاه باب السّلسلة، وهو بيت قوصون «3» ، وأنّ طرباى يحضر الخدمة عند الأمير برسباى بالأشرفية، وانفض الموكب، وخرج جميع الأمراء وسائر أرباب الدّولة من الخدمة السلطانية بالقصر مشاة فى خدمة الأمير برسباى نظام الملك حتى دخل الأشرفيّة التى صارت سكنه من يوم مات الملك الظاهر ططر، وعملت بها الخدمة ثانيا بين يديه، وصرّف أمور الدولة على حسب اختياره ومقتضى رأيه،
واستمر على هذا، فعند ذلك كثر تردد الناس إلى بابه لقضاء حوائجهم، وعظم وضخم.
ولما كان يوم ثامن عشر ذى الحجة [المذكورة]«1» ورد الخبر بأن الأمير تغرى بردى المؤيّدىّ نائب حلب خرج عن طاعة السلطان، وقبض على الأمراء الحلبيّين، واستدعى التّركمان والعربان، وأكثر من استخدام المماليك.
وسبب خروجه عن الطاعة أنّه بلغه أن الملك الظّاهر ططر عزله، وأقرّ عوضه فى نيابة حلب الأمير تنبك البجاسىّ نائب طرابلس، فلما تحقّق ذلك خرج عن الطّاعة وفعل ما فعل، فشاور الأمير برسباى الأمراء فى أمره، فوقع الاتفاق على أن يكتب للأمير تنبك البجاسىّ بالتوجّه إليه وصحبته العساكر وقتاله، وأخذ مدينة حلب منه، وباستقراره فى نيابتها كما كان الملك الظّاهر ططر أقرّه، وكتب له بذلك.
ثم فى يوم ثالث عشرين ذى الحجّة: خلع الأمير برسباى على القاضى صدر الدين أحمد بن العجمى باستقراره فى حسبة القاهرة على عادته، بعد عزل قاضى القضاة جمال الدين يوسف البساطى.
ثم فى يوم سابع عشرينه ابتدأ الأمير برسباى نظام الملك فى نفقة المماليك السلطانية، وهو والأمراء على تخوّف من المماليك السّلطانية أن يمتنعوا من أخذها؛ وذلك أنّهم وعدوا المماليك فى نوبة الأمير الكبير جانى بك الصّوفى لكل واحد بمائة دينار، فلم يصرّ لكل واحد سوى خمسين دينارا من أجل قلّة المال؛ فإن الملك الظاهر ططر فرّق الأموال التى خلّفها الملك المؤيد [شيخ]«2» جميعها، حتى إنه لم يبق منها بالخزانة السّلطانية غير ستين ألف دينار، ومع ما فرّقه من الأموال زاد فى جوامك المماليك بالدّيوان المفرد فى كل شهر ما ينيف على عشرة آلاف دينار، ولذلك استعفى صلاح الدين بن نصر الله من وظيفة الأستاداريّة، بعد أن قام هو وأبوه الصاحب بدر الدين
حسن بن نصر الله ناظر الخواصّ الشريفة بعشرة آلاف دينار فى ثمن الأضحية، وبعشرين ألف دينار مساعدة فى نفقة المماليك السلطانية، ثم تقرّر على كلّ من مباشرى الدّولة شىء من الذّهب حتى تجمع من ذلك كلة نفقة المماليك.
ولما جلس السلطان والأمراء لنفقة المماليك أخذ الأمير برسباى نظام الملك الصّرّة من النفقة بيده، وكلّم المماليك السلطانية بما معناه: إن الملك الظاهر ططر لم يدع فى بيت المال من الذّهب سوى ما هو كيت وكيب، وأنّهم عجزوا فى تحصيل المال لتكملة النفقة، ولم يقدروا إلا على هذا الذي تحصّل معهم، ثم وعدهم بكلّ خير، وأمر كاتب المماليك فاستدعى اسم أوّل من هو بطبقة الرّفرف «1» ، وكانت المماليك قبل أن يدخلوا الحوش السّلطانى اتفقوا على أنه إذا استدعى كاتب المماليك اسم أحد فلا يخرج إليه، ولا يأخذ النفقة إلا إن كانت مائة دينار، وتوعّدوا من أخذ ذلك بالقتل والإخراق، فلمّا استدعى كاتب المماليك اسم ذلك الرجل خرج بعد أن سمع كلام الأمير [برسباى]«2» نظام الملك من العذر الذي أبداه، وقال: إن أعطانا السلطان كفّ تراب أخذناه، فشكره نظام الملك على ذلك، ورمى له الصّرّة فأخذها، وقبّل الأرض وخرج، ولم يجسر أحد على أن يكلّمه الكلمة الواحدة بعد ذلك التهديد والوعيد، ثم صاح كاتب المماليك باسم غيره فخرج وأخذ، وتداول ذلك منه وكل من استدعى «3» اسمه خرج وأخذ إلى آخرهم، فأخذ الجميع النفقة، وانفضّوا بغير شرّ.
قلت: وهذه عادة المماليك يطلعون من ألف وينزلون إلى درهم، وكان الذي أخذ النفقة فى هذه النّوبة ثلاثة آلاف ومائتى مملوك، والمبلغ مائة وستّين ألف دينار.
ثم فى يوم الخميس تاسع عشرين ذى الحجة قدم مبشّر الحاج، وأخبر بسلامة الحاج، وأن الوقفة كانت يوم الجمعة.
ثم فى يوم الأحد ثالث المحرّم من سنة خمس وعشرين وثمانمائة ورد الخبر إلى الدّيار المصريّة بفرار الأمير تغرى بردى المؤيّدى المعروف بأخى قصروه نائب حلب منها، بعد وقعة كانت بينه وبين تنبك البجاسىّ المنتقل عوضه إلى نيابة حلب، فدقّت البشائر لذلك.
وكان من خبر تنبك البجاسىّ المذكور أنه لمّا قدم على الملك الظاهر ططر من بلاد الشّرق مع من قدم من الأمراء- وقد تقدّم ذكرهم فى عدّة مواضع- ولّاه نيابة حماة كما كان أوّلا فى دولة المؤيد [شيخ]«1» ، ثم خرج الملك الظاهر ططر من دمشق يريد الديار المصريّة بعد ما رسم بانتقاله من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس، فلما بلغ تنبك البجاسىّ ذلك وهو بحماة ركب الهجن من وقته، وساق خلف الملك الظاهر ططر إلى أن أدركه بالغور، فنزل وقبّل الأرض بين يديه، ولبس التّشريف بنيابة طرابلس عوضا عن الأمير أركماس الجلبّانىّ، ثم خرج وسار إلى جهة ولايته، وقبل أن يسافر الأمير تنبك المذكور أسرّ له الأمير برسباى الدّقماقىّ الدّوادار الكبير بأن الملك الظاهر [ططر «2» ] يريد توليته نيابة حلب عوضا عن تغرى بردى المؤيّدى- وكان بينهما صداقة؛ أعنى بين برسباى الدّقماقى وبين تنبك البجاسىّ، ثم أمره برسباى أن يكتم ذلك لوقته، وكان ذلك فى شهر رمضان، فاستمرّ تنبك فى نيابة طرابلس إلى يوم عرفة من السّنة فورد عليه مرسوم شريف من الملك الظّاهر [ططر]«3» بنيابة حلب عوضا عن تغرى بردى المؤيّدى المعروف بأخى قصروه بحكم عصيانه، وبالتوجّه لقتال تغرى بردى المذكور، فخرج تنبك
من طرابلس بالعساكر فى رابع عشر ذى الحجة من سنة أربع وعشرين [وثمانمائة]«1» إلى ظاهر طرابلس، وأقام يتجهز بالمكان المذكور إلى سادس عشر ذى الحجة، وبينما هو فى ذلك ورد عليه الخبر بموت الملك الظاهر ططر، فأمسك عند ذلك الأمير تنبك [البجاسىّ]«2» عن المسير إلى حلب حتى ورد عليه مرسوم الملك الصالح محمد ابن الملك الظاهر ططر باستمراره على نيابة حلب، وصحبة المرسوم الخلعة والتشريف بنيابة حلب، وبالمسير إلى حلب، فسار إليها لإخراج تغرى بردى منها، وعند مسيره إلى جهة حلب وافاه الأمير إينال النّوروزىّ نائب صفد بعسكرها، وتوجّه الجميع إلى حلب، فلما سمع تغرى بردى بقدومهم فرّ من حلب قبل أن يقاتلهم، وتوجّه نحو بلاد الرّوم، وقيل قاتلهم وانكسر، وسار الأمير تنبك البجاسىّ خلفه من ظاهر حلب إلى الباب «3» فلم يدركه، ورجع إلى حلب وأقام بها إلى ما يأتى ذكره.
وفى رابع عشرين المحرّم قدم أمير حاج المحمل بالمجمل، وهو الأمير تمرباى اليوسفىّ المؤيدى المشدّ كان، وهو يومئذ من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية، وقد كثر ثناء الناس عليه بحسن سيرته فيهم، فخلع عليه ونزل إلى داره، فلما كان يوم الخميس ثامن عشرين المحرم طلع المذكور إلى الخدمة السلطانية، فقبض عليه وعلى الأمير قرمش الأعور الظاهرىّ برقوق أحد مقدمى الألوف، وكان قرمش أحد أعيان أصحاب جانى بك الصوفىّ، وأخرج هو وتمرباى إلى ثغر دمياط، وأنعم على الأمير يشبك الساقى الظاهرى الأعرج بإمرته دفعة واحدة من الجندية.
وكان من خبر قرمش هذا مع الأمير برسباى الدّقماقى أن الأمير الكبير جانى بك الصوفى، لما صار أمر المملكة إليه بعد موت الملك الظاهر ططر أمره بالجلوس بباب السّتارة ليكون عينا على الأمير برسباى الدّقماقى، فأخذ الأمير برسباى [الدّقماقى]«4»
يستميله بكل ما وصلت القدرة إليه، فلم يقدر يحوّله عن جانى بك الصوفى، واعتذر بأنه ربّاه فى بلاد الچركس، وأنه كان يحمل جانى بك الصوفى على كتفه، فكيف يمكنه مفارقته؟ فلمّا وقع من أمر جانى بك الصوفى ما وقع، وتمّ أمر الأمير برسباى الدقماقى التفت إلى قرمش، وأخرج إقطاعه، ونفاه إلى دمياط لما كان فى نفسه منه.
ثم فى يوم الاثنين ثانى صفر أمسك الأمير الكبير برسباى الأمير أيتمش الخضرى الظاهرى أحد أمراء العشرات، ونفاه إلى القدس بطّالا «1» .
ثم فى يوم الأربعاء ثامن عشر صفر جمع الأمير الكبير برسباى الدقماقى الصّيارف بالإصطبل السلطانى للنظر فى الدّراهم المؤيدية، فإنه كثر هرش الدراهم منها، ومعنى الهرش أن يبرد من الدّرهم الذي زنته نصف درهم حتى يخفّ ويصير وزنه ربع درهم، فأضرّ ذلك بحال الناس، فأمر الأمير الكبير بإبطال المعاملة بالعدد، واستقرت المعاملة بها وزنا لا عددا، ورسم بأن يكون وزن الدرهم منها بعشرين درهما فلوسا، وأن يكون الدينار الإفرنتىّ بمائتين وعشرين درهما فلوسا، وبأحد عشر درهما من الفضة الموازنة، فشقّ ذلك على الناس كونهم كانوا يتعاملون بالفضة معاددة فصارت الآن بالميزان، واحتاج كل بائع أن يأخذ عنده ميزانا وتشكّوا من ذلك، فلم يلتفت الأمير برسباى إلى كلامهم وهدّدهم، فمشى الحال.
وفى هذا الشهر ابتدأت الوحشة بين الأمير برسباى الدقماقى نظام الملك وبين الأمير الكبير طرباى أتابك العساكر، وتنكر الحال بينهما فى الباطن، وسببه أن الأمير طرباى شقّ عليه استبداد الأمير برسباى الدقماقى بأمور المملكة وحدة، وتردّد الناس إلى بابه، وخاف إن دام ذلك ربما يصير من أمر برسباى ما أشاعه الناس، وكان طرباى يقول فى نفسه: إنه هو الذي مهّد الديار المصرية، ودبّر على قبض جانى بك الصوفى حتى كان من أمره ما كان، ولولاه لم يقدر برسباى على جانى بك الصوفى ولا غيره، وكان الاتفاق بينهما أن يكون أمر المملكة بينهما نصفين بالسّويّة لا يختص أحدهما عن الآخر بأمر
من الأمور، وكان الأمير طرباى فى الأصل من يوم مات الملك الظاهر برقوق «1» متميّزا على برسباى، ويرى أنه هو الأكبر والأعظم فى النّفوس، وأنه هو الذي أقام برسباى فى هذه المنزلة من كونه استمال المماليك السلطانيّة إليه، ونفّرهم عن الأمير الكبير جانى بك الصوفى حتى تمّ له ذلك، وأنه هو الذي خدع جانى بك الصوفى حتى أنزله من باب السلسلة، وقام مع الأمير برسباى إلى أن رضيه الناس بأن يكون مدبّر المملكة، كل ذلك ليكون برسباى تحت أوامره، ولا يفعل شيئا إلا بمشاورته؛ فلما رأى طرباى أن الأمر بخلاف ما أمّله ندم على ما كان من أمره فى حقّ جانى بك الصوفى حيث لا ينفعه النّدم، وتكلّم مع حواشيه فيما يفعله مع الأمير برسباى، وكان له شوكة كبيرة من خشداشيته المماليك الظاهرية [برقوق]«2» وغيرهم، فأشاروا عليه أن ينقطع عن طلوع الخدمة أياما لينظروا فيما يفعلونه، وكان طرباى مطاعا فى خشداشيته ولهم فيه «3» محبة زائدة، وتعصّب عظيم له على برسباى، فاغترّ طرباى بكلامهم، وعدى بمماليكه إلى برّ الجيزة حيث هو مربط خيوله على الرّبيع كالمتنزّه، وأقام به بقيّة صفر.
وأما الأمير برسباى لما علم أن الأمير طرباى توغّر خاطره منه، وعلم أنه لا يتم له أمر مع وجوده، أخذ يدبر عليه فيما يفعله معه حتى يمكنه القبض عليه، ثم يفعل ما بدا له، هذا وقد انضم عليه جماعة كبيرة من أمراء الألوف، أعظمهم الأمير سودون من عبد الرحمن الدّوادار الكبير، والأمير قصروه من تمراز رأس نوبة النّوب، والأمير يشبك الساقى الأعرج- وكان أعظمهم دهاء ومعرفة، وله دربة بالأمور- والأمير تغرى بردى المحمودى الناصرى وغيرهم، وباقى الأمراء هم أيضا فى خدمة الأمير برسباى فى الظاهر، غير أنهم فى الباطن جميعهم مع طرباى، ولكنهم حيثما ما أمكنهم الكلام مع برسباى أو طرباى قالوا له: أنت خشداشنا وأغاتنا؛ لأن كليهما من مماليك برقوق، بهذا المقتضى صار الأمير برسباى لا يعرف من هو معه من خشداشيته الظاهرية،
ولا من هو عليه غير من ذكرنا من الأمراء؛ فإنهم باينوا طرباى، وانضموا على برسباى ظاهرا وباطنا.
فلما علم برسباى أن هؤلاء الأمراء معه حقيقة قوى قلبه بهم، وألقى مقاليد أمر طرباى فى رقبة الأمير يشبك السّاقى الأعرج أن ينزل إليه، ويعمل جهده فى طلوعه إلى الخدمة السلطانية، ثم سلّط أيضا جماعة أخر على الأمير طرباى يحسّنون له الحضور من الربيع، هذا مع ما يقوى جأشه الأمير تغرى بردى المحمودى فى الإقدام على طرباى ويهوّن عليه أمره، والأمير برسباى يجبن عن ذلك حتى استهل شهر ربيع الأوّل.
فلما كان يوم الثلاثاء ثانية قدم الأمير الكبير طرباى من الربيع، ونزل بداره تجاه باب السلسلة، وتردّد إليه الأمير يشبك الساقى الأعرج، وحسّن له الطلوع بأن قال له: إن كل خشداشيته من الظاهرية [برقوق]«1» معه، وأنهم لا يؤثرون عليه أحدا، وأنه بطلوعه يستفحل أمره، وبعدم طلوعه ربما يجبّن ويضمحلّ أمره؛ فإن الناس مع القائم، وإذا حضرت أنت تلاشى أمر برسباى، وهوّن عليه أمر برسباى، ولا زال به حتى انخدع له وأذعن بالطلوع.
فلما أصبح يوم الأربعاء ثالثه أمسك الأمير برسباى الأمير سودون الحموىّ أحد أمراء الطلبخانات، والأمير قانصوه النّوروزىّ أحد أمراء الطبلخانات أيضا، وكانا من [جملة]«2» أصحاب طرباى، فعظم ذلك على طرباى، وقامت قيامة أصحابه وحذّروه عن الطلوع فى غده- فإنه كان قرّر مع الأمير يشبك الأعرج الطلوع إلى الخدمه فى يوم الخميس رابعه- فلما وقع مسك هؤلاء نهاه أصحابه عن الطلوع، فأبى إلّا الطلوع ليتكلّم مع الأمير برسباى بسبب مسكه لهؤلاء ويطلقهما منه، فألحوا عليه فى عدم الطلوع، وأكثروا من ذلك، وهو لا يصغى إلى قولهم، وفى ظنه أن
الأمير برسباى لا ينهض بأمر يفعله فى حقه، وأيضا لا يقابله بسوء لماله عليه من الإيادي قديما وحديثا.
فلما أصبح نهار الخميس رابع شهر ربيع الأوّل ركب الأمير الكبير طرباى من داره ومعه جماعة كبيرة من حواشيه، وطلع إلى القلعة، وكان لقلة سعده غالب من هو معه من خشداشيته رءوس نوب، ليس فى أوساطهم سيوف، فما هو إلا أن دخل فى «1» الخدمة، واستقرّ به الجلوس فى منزلته وقرىء الجيش «2» على السّلطان، وانتهت العلامة «3» ، وأحضر السّماط وقام الجميع على أقدامهم، أبتدأ الأمير [الكبير] «4» برسباى الدّقماقى نظام الملك بأن قال: الحال ضائع، والكلمة متفرّقة، وأحوال الناس متوقّفة لعدم اجتماع الناس على كبير يرجع إليه فيما يرسم به، ولابدّ للناس من كبير يرجع إليه فى أمور الرّعية، فأجابه فى الحال- قبل أن يتكلّم طرباى- الأمير قصروه رأس نوبة النّوب، وقال: أنت كبيرنا ومع وجودك من يكون خلافك؟ افعل ما شئت، فقال الأمير برسباى عند ذلك: اقبضوا على هذا وعنى الأمير الكبير طرباى، فلما سمع طرباى ذلك جذب سيفه ليدفع عن نفسه، وأراد القيام فسبقه الأمير برسباى نظام الملك، وضربه بالسيف ضربة جاءت فى يده كادت تبينها- وهى على ظاهر كفه حيث كان قابضا بها على سيفه- ثم بادره الأمير قصروه وأعاقه عن تمام القيام، وتقدّم إليه الأمير تغرى بردى المحمودىّ وقبض عليه من خلفه كالمعانق له، وحمل من وقته إلى أعلى القصر، وقيّد فى الحال، وقد تضمّخ بدمه، ووقعت الهجّة بالقصر، وتسللت
السيوف من حواشى طرباى بعد أن فات الأمر وقد خطف الأمير برسباى التّرس الفولاذ من يد السلطان الملك الصالح محمد وتترّس به، وأعطى ظهره إلى الشّباك وسيفه مسلول بيده فلم يجسر أحد على التقدّم إليه لكثرة حاشيته، ولقوة شوكته، ثم سكتت الهجّة فى الحال، وردّ كلّ واحد من أصحاب طرباى سيفه إلى غمده عندما رأوا أن الأمر فاتهم، وقالوا: نحن من أصحاب برسباى، فعرف برسباى الجميع ولم يؤاخذ أحدا منهم بعد ذلك، وتكسّر بعض صينىّ مما كان فيه الطعام للسّماط السلطانى لضيق المكان، فإن الحركة المذكورة كانت بالقصر الصغير السلطانى «1» حيث فيه الشرابخاناه، وطلب الأمير برسباى فى الحال المزيّن وأرسله إلى طرباى فخاط جراحه بعد ما قيّده، ثم أصبح من الغد حمله إلى الإسكندرية فسجن بها، إلى أن أطلقه فى أيّام سلطنته حسبما نذكره فى محلّه فى ترجمد الملك الأشرف برسباى إن شاء الله تعالى.
وخلا الجوّ للأمير برسباى بمسك الأمير طرباى هذا.
قلت: وكان فى أمر الأمير طرباى هذا عبرة لمن اعتبر، وهو أن طرباى لا زال بجانى بك الصّوفىّ حتى خدعه وغدر به عند ما أنزله من الحرّاقة بباب السّلسلة وتحيّل عليه حتى قبضه وحمله مقيّدا إلى سجن الإسكندرية وسجن بها، وقد ظنّ أن الأمر صفا له وأنه لا يعدل عنه إلى غيره لاستخفافه بالأمير برسباى فأتاه الله من حيث لم يحتسب، وعمل عليه الأمير برسباى حتى خدعه وأطلعه إلى القلعة، وصار فى يده بعد ما امتنع ببرّ الجيزة أيّاما، والناس تترقّب حركته ليكونوا فى خدمته، وفى قتال عدوّه، إلى أن عدّى من برّ الجيزة ومشى لحتفه بقدميه، فكان حاله فى ذلك كقول الإمام أبى الفتح البستىّ حيث قال [رحمه الله تعالى]«2» .
أرى قدمى أراق دمى وإن كان طرباى لم يهلك- فى هذه- الموتة المكتوبة فقد مات معنى، وحمل
إلى الإسكندرية، فأدخل به عند أخصامه الأمير الكبير جانى بك الصّوفىّ وغيره.
قلت: لتجزى كلّ نفس بما كسبت.
ولما تمّ أمر الأمير برسباى فيما أراد من القبض على الأمير طرباى والاستبداد بالأمر أخرج الأمير سودون الحموىّ منفيا إلى ثغر دمياط، ثم أخذ فى إبرام أمره ليترقّى إلى أعلى المراتب، فلم يلق فى طريقه من يمنعه من ذلك، وساعده فى ذلك موت الأمير حسن بن سودون الفقيه خال الملك الصالح محمد هذا فى يوم الجمعة ثالث عشر صفر؛ فإنه كان أحد مقدمى الألوف وخال السلطان الملك الصالح، وسكناه بقلعة الجبل، وكان جميع حواشى الملك الظاهر ططر يميلون إليه فكفى الأمير برسباى همّه أيضا بموته، فلما رأى برسباى أنه ما ثمّ عنده مانع يمنعه من بلوغ غرضه بالديار المصرية، خشى عاقبة الأمير تنبك ميق نائب الشّام، وقال لا بدّ من حضوره ومشورته فيما نريد نفعله، فندب لإحضاره الأمير ناصر الدين محمدا بن الأمير إبراهيم ابن الأمير منجك اليوسفىّ فحضر، فخرج المذكور مسرعا من الديار المصرية إلى دمشق لإحضار [الأمير]«1» تنبك المذكور، وأخذ الأمير برسباى فيما هو فيه من عمل مصالح الناس وتنفيذ الأمور، فرسم بإحضار الأمير أيتمش الخضرى من القدس «2» .
ثم فى يوم الاثنين ثانى عشرين شهر ربيع الأوّل أمسك الأمير الطواشىّ مرجان الهندى الزّمّام المعروف بالخازندار، وسلمه للأمير أرغون شاه النّوروزىّ الأعور الأستادار ليصادره، ويستخلص منه الأموال، وطلب الأمير الطواشىّ كافور الرومىّ الصّرغتمشىّ وخلع عليه باستقراره زمّاما على عادته أوّلا، ثم قدم أيتمش الخضرى إلى القاهرة «3» فرسم له الأمير برسباى بلزوم داره بطّالا، واستمر مرجان عند الأمير أرغون شاه المذكور إلى أن قرّر عليه حمل عشرين ألف دينار فحملها، وضمنه جماعة أخر فى حمل عشرة آلاف دينار أخرى، وأطلق فى يوم الأربعاء ثامن عشر شهر ربيع الآخر.
ثم فى سادس عشر [شهر]«1» ربيع الآخر المذكور قدم الأمير تنبك ميق نائب الشام إلى الديار المصرية، بعد أن تلقّاه جميع أعيان الدولة، وطلع إلى القلعة، فخرج الأمير الكبير برسباى لتلقّيه خارج باب القصر السلطانى، ونثر على رأسه خفايف الذّهب والفضة، وعاد معه إلى داخل القصر بعد أن اعتذر له عن عدم نزوله إلى تلقّيه مخافة من المماليك الأجلاب، فقبل الأمير تنبك عذره، ثم قدّمت خلعة جليلة فلبسها الأمير تنبك [نائب الشام «2» ] المذكور وهى خلعة الاستمرار له على نيابة دمشق على عادته، ثم خلا به الأمير برسباى وتكلّم معه واستشاره فيمن يكون سلطانا؛ لأن الديار المصرية لابد لها من سلطان تجتمع الناس على طاعته، ثم قال له: وإن كان ولابد فيكون أنت، فإنك أغاتنا وكبيرنا وأقدمنا هجرة، فاستعاذ الأمير تنبك من ذلك وقام فى الحال، وقبّل الأرض بين يديه وقال: ليس لها غيرك، فشكر له الأمير برسباى على ذلك، ثم اتّفق جميع الأمراء على سلطنته، وخلع الملك الصالح محمد من السّلطنة، فوقع ذلك فى يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر [من] »
سنة خمس وعشرين وثمانمائة حسبما يأتى ذكره فى أوّل ترجمة الملك الأشرف برسباى.
قلت: وكما تدين تدان جوزى الملك الظاهر ططر فى ولده كما فعل [هو]«4» بابن الملك المؤيد [شيخ]«5» الملك المظفر أحمد، غير أن الأمير ططر كانت له مندوحة بصغر ابن الملك المؤيد [شيخ]«6» من أنه كان [بقى]«7» لبلوغه الحلم سنين طويلة، وأما الملك الصالح هذا فكان مراهقا، غير أنهم احتجوا أيضا بأنه كان فى عقله شىء شبه الخلل.
قلت: وإن توقّف الأمر على أنّ كلّ واحد من هؤلاء يخلع بأمر من الأمور، ويكون ذلك حجّة لمن خلعه، فيلزم الخالع من ذلك أمور كثيرة لا يطيق التخلّص منها أبدا، ليس لإبدائها هنا محلّ، وقد دار هذا الدّور على أناس أخر بعدهما، والكأس ممزوج لمن
يشربه من يد ساقيه، كما جرت به العادة؛ والعادة لها حكم، وهى تثبت عند الشافعية بمرّة واحدة- انتهى.
ولمّا خلع الملك الصالح من السلطنة أدخل إلى أمّه خوند بنت سودون الفقيه ببعض الدّور السلطانية، ودام بها سنين عديدة من غير ترسيم ولا حرج حتى إنه بعد سنين صار يركب وينزل صحبة الناصرى محمد ابن السلطان الملك الأشرف برسباى إلى القاهرة من غير أن يحتفظ به أحد، وحضر معه مرّة مأتم والدته خوند زوجة الملك الأشرف بالمدرسة الأشرفية بخط العنبريّين «1» ، وجلسا فى الملأ بصدر المدرسة، فتعجّب الناس من ذلك غاية العجب؛ كون الملك الصالح المذكور كان سلطانا ثمّ خلع من الملك وبعد مدّة يسيرة صار يركب وينزل إلى القاهرة، ودام الملك الصالح [محمد]«2» بقلعة الجبل سنين حتى بلغ الحلم، وزوّجه الملك الاشرف [برسباى]«3» بابنة الأتابك يشبك السّاقى الأعرج، ودامت معه حتى مات عنها فى الطاعون بقلعة الجبل فى ليلة الخميس ثامن عشرين جمادى الآخرة من سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وهو فى حدود العشرين سنة من العمر تخمينا، وكان أهوج وعنده بعض بله وسذاجة، مع خفّة وسرعة حركة، وسلامة باطن، وعدم تجمّل فى ملبسه، ولم يكن عنده شىء من الكبر والتّرفّع ولم يتأسّف على الملك أبدا، وكان غالب حواشى الملك الأشرف [برسباى]«4» يسمّونه فى وجهه سيدى محمد، ويصيحون له بذلك، ومما ينسب إليه من السّذاجة أنّه ركب مرة فرسا ثم طلبه ثانيا فقال: هاتوا فرسى الأبيض، فنهره بعض حواشيه وقال [له] «5» :
لم لا تقول فرسى البوز، ثم أتى بعد ذلك بمشروب من السّكّر فقال: ما أشرب إلّا فى سلطانيتى البوز، فنهره ذلك الرّجل بعينه وقال [له] «6» : لم لا تقول سلطانيّتى البيضاء،
فقال: والله تحيرّت بينكم، تارة تقولون لا تقل أبيض وقل بوز، وتارة تقولون بالعكس، كيف يكون عملى معكم؟ وله أشياء من ذلك كثيرة، على أنه كان يحفظ القرآن، ويعرف بلسان الچاركسى، ولبلوهيّته حلاوة وطلاوة مع خفّة روح- انتهى والله تعالى أعلم.