المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر سلطنة الملك الظاهر ططر على مصر - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ١٤

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 815]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 816]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 817]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 818]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 819]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 820]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 821]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 822]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 823]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 824]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 815]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 816]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 817]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 818]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 819]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 820]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 821]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 822]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 823]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 824]

- ‌ذكر سلطنة الملك الظاهر ططر على مصر

- ‌ذكر سلطنة الملك الصالح محمد بن ططر

- ‌السنة التى حكم فيها أربعة سلاطين

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 825]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 826]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 827]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 828]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 829]

- ‌ذكر غزوة قبرس على حدتها

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 830]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 831]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 832]

- ‌ذكر قتلة الخواجا نور الدين على التبريزى العجمى المتوجه برسالة الحطى ملك الحبشة إلى ملوك الفرنج

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 833]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 834]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 835]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 836]

- ‌فهرس

- ‌فهرس الملوك والسلاطين الذين تولوا مصر من سنة 815- 836

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الأمم والقبائل والبطون والعشائر والأرهاط والطوائف والجماعات

- ‌فهرس البلاد والأماكن والأنهار والجبال وغير ذلك

- ‌فهرس الألفاظ الاصطلاحية وأسماء الوظائف والرتب والألقاب التى كانت مستعملة فى عصر المؤلف

- ‌فهرس وفاء النيل من سنة 815- 824

- ‌فهرس أسماء الكتب الواردة بالمتن والهوامش

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ذكر سلطنة الملك الظاهر ططر على مصر

‌ذكر سلطنة الملك الظاهر ططر على مصر

«1»

السلطان الملك الظّاهر سيف الدين أبو الفتح ططر، تسلطن بعد خلع السلطان الملك المظفّر أحمد ابن الملك المؤيد شيخ فى يوم الجمعة تاسع عشرين شعبان سنة أربع وعشرين وثمانمائة، بقلعة دمشق، وكان الموافق لهذا اليوم يوم نوروز القبط بمصر. ولبس خلعة السّلطنة من قصر قلعة دمشق، وركب بشعار السّلطنة وأبّهة الملك، ولقّب بالملك الظاهر ططر، وذلك بعد أن ثبت خلع الملك المظفّر، وحضر الخليفة المعتضد بالله داود والقضاة بقلعة دمشق، وبايعوه بالسلطنة بحضرة الملأ من الأمراء والخاصّكيّة، بعد أن سألهم الخليفة فى قيامه فى السلطنة، فقالوا الجميع: نحن راضون بالأمير الكبير ططر، وتمّ أمره فى السّلطنة، وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه، وحملت القبّة والطّير على رأسه، وخطب له على منابر دمشق من يومه. والملك الظاهر هذا هو السلطان الثلاثون من ملوك الترك بالديار المصرية، والسادس من الچراكسة وأولادهم.

قال المقريزى رحمه الله: كان چاركسى الجنس، يعنى عن الملك الظاهر ططر، ربّاه بعض التّجّار، وعلّمه شيئا من القرآن وفقه الحنفيّة، وقدم به إلى القاهرة فى سنة إحدى وثمانمائة وهو صبىّ، فدلّ عليه الأمير قانى باى- لقرابته به- وسأل السلطان الملك الظاهر فيه، حتى أخذه من تاجره، ومات السلطان قبل أن يصرف ثمنه، فوزن الأمير الكبير أيتمش ثمنه اثنى عشر ألف درهم، ونزّله فى جملة مماليك الملك الظاهر فى الطّباق ونشأ بينهم، وكان الملك الناصر أعتقه، فلم يزل فى جملة مماليك الطّباق حتى عاد السلطان الملك الناصر فرج إلى الملك بعد أخيه المنصور عبد العزيز، فأخرج له الخيل وأعطاه إقطاعا فى الحلقة، فانضمّ على الأمير نوروز الحافظى، وتقلب معه فى تلك الفتن- انتهى كلام المقريزى باختصار.

ص: 198

قلت: هذا هو الخباط «1» بعينه، ولم أقف على هذا النقل إلا من خطّه بعد موته، ولم أسمه من لفظه، فإن هذا القول يستحيا من ذكره؛ فأما قوله «اشتراه الملك الظاهر برقوق من تاجره» فمسلّم غير أنه قبل سنة إحدى وثمانمائة، وأنه لم يعط ثمنه فيمكن، وأما قوله «وأعتقه الملك الناصر فرج» فهذا القول لم يقله أحد غيره، وبإجماع المماليك الظاهرية إن الملك الظاهر برقوق أعتقه، وأخرج له الخيل والقماش فى عدّة كبيرة من المماليك، منهم جماعة [كبيرة]«2» فى قيد الحياة إلى يومنا هذا، ثم أخرج الملك الظاهر خرجا آخر من المماليك بعد ذلك قبل موته، من جملتهم الملك الأشرف برسباى الدّقماقى، والملك الظاهر جقمق العلائى وغيره، وكانت عادة برقوق، أنه لا يخرج لمماليكه الجلبان خيلا، إلا بعد إقامتهم فى الأطباق مدّة سنين، وأنّه لا يخرج فى سنة واحدة خرجين، وإنّما كان يخرج فى كل مدّة طويلة خرجا من مماليكه، ثم يتبعه بعد ذلك بمدّة طويلة بخرج آخر، وهذه كانت عادة ملوك السّلف، فعلى هذا يكون مشترى ططر هذا قبل سنة إحدى وثمانمائة بسنين.

ولما أراد الملك الظاهر عتق ططر المذكور، عرضه فى جملة من عرض من مماليك الطّباق الكتابيّة، وكان ططر قصير القامة، فاعتقد الظاهر أنه صغير، فردّه إلى الطّبقة فيمن ردّ من صغار المماليك، وكان الأمير جرباش الشّيخىّ الظاهرىّ «3» رأس نوبة واقفا، فمسك ططر من كتفه وقال: يا مولانا السلطان، هذا فقيه طالب علم، قرناص «4» يستأهل الخير، فأمر له الملك الظّاهر بالخيل وكتب عتاقته أمام السلطان الملك الظاهر سويدان المقرى، فكان ططر فى أيّام إمرته، وبعد سلطنته، كلّما رأى الناصر محمد

ص: 199

ابن جرباش الشيخى يترحّم على والده ويقول، لم يعتقنى الملك الظاهر برقوق إلا بسفارة الأمير جرباش الشيخى- رحمه الله وأحسن إلى ولده المذكور.

وأما قوله «وأقام ططر فى الطبقة حتى عاد الملك الناصر إلى ملكه بعد أخيه المنصور عبد العزيز» فهذا يكون فى سنة ثمان وثمانمائة، فهذه مجازفة لا يدرى معناها، فإنّ ططر كان يوم ذاك من رءوس الفتن، مرشّحا للإمرة وولاية الأعمال، بل كان قبل ذلك فى واقعة تيمور لنك فى سنة ثلاث وثمانمائة من أعيان القوم الذين أرادوا سلطنة الشيخ لاجين الچاركسىّ بالقاهرة، وعادوا إلى مصر، وهو يوم ذاك يخشى شرّه، وأيضا إنه فى سنة ثمان المذكورة كان برسباى الدقماقىّ- أعنى الملك الأشرف- صار من جملة الخاصكيّة السّقاة الخاص «1» الأعيان، وكان من جملة أصحاب ططر الصّغار ممّن ينتمى إليه، وبسفارته اتّصل إلى ما ذكرناه من الوظيفة وغيرها، ولا زال على ذلك إلى أن شفع فيه ططر- بعد أن حبسه الملك المؤيد بالمرقب- وأخرجه إلى دمشق، كل ذلك وططر مقدّم عليه وعلى غيره من أعيان الظاهرية، ويسمّونه أغاة «2» من تلك الأيام، فلو كان كما قاله المقريزى «إن الملك الناصر فرج أعتقه فى سنة ثمان» كان ططر من أصاغر المماليك الناصرية؛ فإن الذين أعتقهم الملك الناصر ممّن ورثهم من أبيه- وهم أول خرج أخرجه- جماعة كبيرة مثل الملك الأشرف إينال العلائى سلطان زماننا، والأمير طوخ من تمراز أمير مجلس زماننا، والأمير يونس العلائى أحد مقدّمى الألوف فى زماننا، فيكون هؤلاء بالنسبة إلى ططر قرانيص وأكابر، وقدماء هجرة، فهذا القول لا يقوله إلّا من ليس له خبرة بقواعد السّلاطين، ولا يعرف ما الملوك عليه بالكلّيّة، ولولا أن المقريزى ذكر هذه المقالة فى عدّة كتب من مصنّفاته ما كنت أتعرّض إلى جواب ذلك، فإن هذا شىء لا يشكّ فيه أحد، ولم يختلف فيه اثنان غير أنى أعذره فيما نقل؛ فإنه كان بمعزل عن الدولة، وينقل أخبار الأتراك عن

ص: 200

الآحاد، فكان يقع له من هذا وأشباهه أوهام كثيرة نبّهته على كثير منها فأصلحها معتمدا على قولى، وها هى مصلوحة بخطه فى مظنّات الأتراك وأسمائهم ووقائعهم- انتهى.

واستمرّ الملك الظاهر ططر بقلعة دمشق، وعمل الخدمة السّلطانيّة بها فى يوم الاثنين ثالث شهر رمضان، وخلع على الخليفة والقضاة باستمرارهم، وعلى أعيان الأمراء على عادتهم، ثم خلع على الأمير طرباى الظّاهرىّ نائب غزّة- كان- فى دولة الملك المؤيّد بعد قدومه من عند قرا يوسف باستقراره حاجب الحجاب بالديار المصريّة عوضا عن إينال الأرغزىّ المقدّم ذكره، وعلى الأمير برسباى الدّقماقى نائب طرابلس- كان، وكان بطّالا بدمشق- باستقراره دوادارا كبيرا، عوضا عن الأمير على باى المؤيّدى بحكم القبض عليه، و [أنعم]«1» على الأمير يشبك الجكمىّ الدّوادار الثانى- كان، وهو أيضا ممّن قدم من بلاد الشّرق- باستقراره أمير آخور كبيرا، عوضا عن تغرى بردى المؤيّدى المنتقل إلى نيابة حلب، ثم خلع بعد ذلك على الأمير بيبغا المظفرى الظاهرىّ أمير مجلس باستقراره أمير سلاح، عوضا عن الأمير إينال الجكمىّ بحكم القبض عليه، [وأنعم]«2» على الأمير قجق العيساوىّ الظاهرىّ حاجب الحجاب- كان فى الدولة المؤيديّة- باستقراره أمير مجلس، عوضا عن بيبغا المظفرى، وخلع على الأمير قصروه من تمراز الظاهرى باستقراره رأس نوبة النّوب، عوضا عن يشبك أنالى المؤيّدى بحكم القبض عليه أيضا، ثم أنعم على جماعة كبيرة بتقادم ألوف بالديار المصرية، مثل الأمير أزبك المحمدى الظاهرى إنىّ برسبغا الدوادار، ومثل الأمير تغرى بردى المحمودى الناصرى، ومثل الأمير قرمش الأعور الظاهرى، وغيرهم، وأنعم على جماعة من مماليكه وحواشيه بإمرة طبلخانات وعشرات، منهم: صهره البدرى حسن بن سودون الفقيه، أنعم عليه بإمرة طبلخاناه عوضا عن مغلباى السّاقى المؤيّدى بحكم القبض عليه، و [أنعم]«3»

ص: 201

على الأمير قرقماس الشّعبانى الناصرى بإمرة طبلخاناه، واستقرّ به دوادارا ثانيا، وعلى الأمير قانصوه النّوروزى أيضا بإمرة طبلخاناه، وجعله من جملة رءوس النّوب، وعلى رأس نوبته الثانى قانى باى الأبوبكرى الناصرىّ البهلوان بإمرة طبلخاناه، وجعله أيضا من جملة رءوس النّوب، وعلى فارس دواداره [الثانى]«1» بإمرة طبلخاناه، وأنعم على مشدّه يشبك السّودونى باستقراره شاد الشراب خاناه، وعلى أمير آخوره بردبك السيفى يشبك بن أزدمر باستقراره أمير آخور ثانيا، وعلى جماعة أخر من حواشيه ومماليكه، وجعل جميع مماليكه الذين كانوا بخدمته قبل سلطنته خاصّكيّة، وأنعم على بعضهم بعدة وظائف.

ثم أمر السلطان الملك الظاهر فكتب بسلطنته إلى مصر وأعمالها، وإلى البلاد الحلبيّة والسواحل والثغور، وإلى نواب الأقطار، وحملت إليهم التشاريف والتقاليد بولايتهم على عادتهم، وهم: الأمير تغرى بردى المؤيّدى المعروف بأخى قصروه نائب حلب، والأمير تنبك البجاسىّ نائب طرابلس، والأمير جارقطلو الظاهرى نائب حماة، والأمير قطلوبغا التنمىّ نائب صفد، والأمير يونس الرّكنى نائب غزة.

ثم خلع على الأمير تنبك ميق نائب الشام باستمراره على كفالته، وعلى الأمير برسباى الحمزاوىّ الناصرى باستقراره حاجب حجاب دمشق، وعلى الأمير أركماس الظاهرى باستقراره نائب قلعة دمشق، وعلى الأمير كمشبغا طولو باستقراره حاجبا ثانيا.

ثم أخذ الملك الظاهر فى تمهيد أمور دمشق والبلاد الشّاميّة إلى أن تمّ له ذلك، فبرز من دمشق بأمرائه وعساكره فى يوم الاثنين سابع عشر شهر رمضان من سنة أربع وعشرين وثمانمائة يريد الديار المصرية.

هذا ما كان من أمر الملك الظاهر ططر بالبلاد الشّاميّة.

وأما أخبار الديار المصرية فى غيبته فإنه لمّا سافر الأمير ططر بالسّلطان الملك

ص: 202

المظفر وعساكره من الرّيدانيّة استقلّ بالحكم بين الناس الأمير جقمق العلائى إلى أن حضر الأمير قانى باى الحمزاوى من بلاد الصّعيد فى يوم السبت حادى عشرين جمادى الأولى، وحكم فى نيابة الغيبة، وأرسل إلى الأمير جقمق بالكفّ عن الحكم بين الناس وخاشنه فى الكلام، فانكفّت يد الأمير جقمق أخى چاركس المصارع عن الحكم، وكانت سيرته جيّدة فى أحكامه.

ثم قدم الخبر على الأمير قانى باى الحمزاوىّ بدخول السلطان الملك المظفر إلى دمشق وقبضه على القرمشى وغيره، فدقت البشائر لذلك بالقاهرة ثلاثة أيام وزينت عشرة أيام.

ثم فى يوم الأربعاء خامس شهر رمضان خلع الأمير قانى باى الحمزاوىّ على القاضى جمال الدين يوسف البساطى باستقراره فى حسبة القاهرة عوضا عن القاضى صدر الدين بن العجمى، وكان سبب ولايته أنه طالت عطلته سنين، فتذكّر الأمير ططر صحبته، فكتب لقانى باى الحمزاوىّ بولايته.

ثم فى ثامن شهر رمضان قدم الخبر إلى الديار المصرية بخلع الملك المظفّر وسلطنة الملك الظاهر ططر.

وأما السلطان الملك الظاهر ططر فإنه سار بعساكره إلى جهة الدّيار المصرية إلى أن نزل بمنزلة الصّالحيّة فى يوم الاثنين أوّل شوال، فخرج الناس إلى لقائه وقد تزايد سرور الناس بقدومه، ثم ركب من الصالحيّة وسار إلى أن طلع إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس رابع شوال، وحملت القبة والطّير على رأسه- حملها الأمير [جانى بك]«1» الصّوفى أتابك العساكر، ولما طلع إلى القلعة أنزل الملك الظاهر [ططر]«2» الملك المظفر [أحمد]«3» وأمّه بالقاعة المعلقة من دور القلعة.

ثم فى يوم خامس شوال خلع السلطان الملك الظاهر [ططر]«4» على الطواشى

ص: 203

مرجان الهندى الخازندار باستقراره زمّاما «1» ، عوضا عن الطواشى كافور الرّومى الشّبلى الصّرغتمشى بحكم عزله.

ثم فى يوم الاثنين ثامن شوّال ابتدأ السلطان بعرض مماليك الطباق، وأنزل منهم جماعة كثيرة إلى إصطبلاتهم من القاهرة.

ثم فى يوم الاثنين «2» استدعى السلطان الشيخ ولىّ الدين أحمد ابن الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقىّ الشافعى وخلع عليه باستقراره قاضى قضاة الشافعيّة بالديار المصرية، بعد موت قاضى القضاة جلال الدين [عبد الرحمن]«3» البلقينى، فنزل العراقىّ إلى داره فى موكب جليل بعد أن اشترط على السلطان أنه لا يقبل شفاعة أمير فى حكم، فسرّ الناس بولايته.

وفى يوم الاثنين ثانى عشرين شوال ابتدأ بالسلطان الملك الظاهر ططر مرض موته، وأصبح ملازما للفراش واستمرّ فى مرضه والخدمة تعمل بالدّور السلطانية، ويجلس السلطان وينفّذ الأمور ويعلّم على المناشير وغيرها.

وأنعم فى هذه الأيام على الأمير كزل العجمى الأجرود، الذي كان ولى حجوبية الحجّاب فى الدّولة الناصرية، وعلى الأمير سودون الأشقر الذي كان ولى فى دولة المؤيّد رأس نوبة النّوّب ثم أمير مجلس، وكانا منفيّين بقرية الميمون من الوجه القبلى؛ بحكم أنه يكون كل واحد منهم أمير عشرين فارسا، فدحلا إلى الخدمة السلطانية بعد ذلك فى كل يوم، وصارا يقفان من جملة أمراء الطبلخانات والعشرات، ومقدمو الألوف جلوس بين يدى السلطان.

واستمر السلطان على فراشه إلى يوم الثلاثاء أوّل ذى القعدة فنصل السلطان من

ص: 204

مرضه ودخل الحمّام، وخلع على الأطباء وأنعم عليهم، ودقّت البشائر لذلك، وتخلّقت الناس بالزّعفران.

ثم فى ثالث ذى القعدة خلع السلطان على دواداره الأمير فارس باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن الأمير قشتم المؤيدى بحكم عزله، وقد حضر قشتم المذكور إلى القاهرة، وطلع إلى الخدمة، ثم أمر السلطان فقبض على الأمير قشتم المذكور، وعلى الأمير قانى باى الحمزاوى نائب الغيبة «1» وقيّدا فى الحال وحملا إلى ثغر الإسكندرية فسجنا بها.

ثم فى يوم الاثنين سابع ذى القعدة خلع السلطان على عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدّمشقى ناظر الخزانة باستقراره ناظر الجيوش «2» المنصورة بعد عزل القاضى كمال الدين بن البارزى ولزومه داره، وخلع السلطان أيضا على موقّعه القاضى شرف الدين محمد ابن القاضى تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله باستقراره فى نظر أوقاف الأشراف ونظر الكسوة «3» ونظر الخزانة عوضا عن عبد الباسط المذكور، وكان الملك الظاهر أراد تولية شرف الدين المذكور وظيفة نظر الجيش فسعى عبد الباسط فيها سعيا زائدا حتى وليها.

ودخل السلطان فى هذه الأيام إلى القصر السلطانى وعمل الخدمة به، ثم انتكس السلطان فى يوم الخميس عاشر ذى القعدة ولزم الفراش ثانيا، وانقطع بالدّور السلطانية، وعملت الخدمة غير مرّة.

فلما كان يوم الجمعة خامس عشرينه عزل القاضى ولىّ الدين العراقىّ نفسه عن القضاء لمعارضة يعض الأمراء له فى ولاية القضاء بالأعمال.

ثم فى سادس عشرين ذى القعدة رسم السلطان بالإفراج عن أمير المؤمنين المستعين بالله العباس من سجنه بثغر الإسكندرية، وأن يسكن بقاعة فى الثغر المذكور،

ص: 205

ويخرج لصلاة الجمعة بالجامع الذي بالثّغر، ويركب حيث يشاء، وأرسل إليه فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش وبقجة «1» قماش، ورتّب له على الثّغر فى كل يوم ثمانمائة درهم لمصارف نفقته، فوقع ذلك من الناس الموقع الحسن.

واستهل ذو الحجة يوم الخميس والسلطان فى زيادة [ألم]«2» من مرضه ونموّه، والأقوال مختلفة فى أمره، والإرجاف بمرضه يقوى.

فلمّا كان يوم الجمعة ثانى ذى الحجة استدعى السلطان الخليفة والقضاة والأمراء وأعيان الدّولة إلى القلعة- وقد اجتمع بها غالب المماليك السلطانيّة- فلما اجتمعوا عند السلطان كلم الخليفة والأمراء فى إقامة أبنه فى السلطنة بعده، فأجابوه إلى ذلك، فعهد إلى ابنه محمد بالملك، وأن يكون الأمير جانى بك الصّوفىّ هو القائم بأمره ومديّر مملكته، وأن يكون الأمير برسباى الدّقماقىّ لالا السلطان والمتكفّل بتربيته، وحلف الأمراء على ذلك كما حلفوا لابن الملك المؤيّد شيخ.

ثم أذن السلطان لقاضى القضاة ولىّ الدين العراقى أن يحكم، وأعيد إلى القضاء، وانفض الموكب ونزل الناس إلى دورهم، وقد كثر الكلام بسبب ضعف السلطان، وأخذ الناس وأعيان الدّولة فى توزيع أمتعتهم وقماشهم من دورهم، خوفا من وقوع فتنة.

وثقل السلطان فى الضّعف، وأخذ من أواخر يوم السّبت ثالثه فى بوادر النّزع إلى أن توفّى ضحوة «3» نهار الأحد رابع ذى الحجّة من سنة أربع وعشرين وثمانمائة، فأضطرب الناس ساعة ثم سكنوا عند ما تسلطن ولده الملك الصالح محمد- حسبما يأتى ذكره- ثم أخذ الأمراء فى تجهيز الملك الظّاهر ططر، فغسّل وكفّن وصلّى عليه، وأخرج من باب السّلسلة، وليس معه إلا نحو عشرين رجلا لشغل الناس بسلطنة ولده، وساروا به حتى دفن بالقرافة من يومه بجوار الإمام اللّيث بن سعد رضى الله عنه،

ص: 206

ومات وهو فى مبادئ الكهولية، وكانت مدّة تحكّمه منذ مات الملك المؤيّد شيخ إلى أن مات أحد عشر شهرا تنقص خمسة أيام، منها مدّة سلطنته أربعة وتسعون يوما، وباقى ذلك أيام أتابكيّته.

قال المقريزى فى تاريخه عن الملك الظاهر ططر: وكان يميل إلى تديّن، وفيه لين وإغضاء وكرم مع طيش وخفّة، وكان شديد التعصّب لمذهب الحنفية، يريد أن لا يدع من الفقهاء غير الحنفية، وأتلف فى مدته- مع قلّتها- أموالا عظيمة، وحمّل الدولة كلفا كثيرة، أتعب بها من بعده، ولم تطل أيّامه لتشكر أفعاله أو تذمّ- انتهى كلام المقريزى.

قلت: ولعل الصّواب فى حقّ الملك الظّاهر ططر بخلاف ما قاله المقريزى مما سنذكره مع عدم التعصّب له، فإنه كان يغضّ من الوالد كونه قبض على بعض أقاربه وخشداشيّته بأمر الملك الناصر فرج فى ولايته على دمشق الثالثة، غير أن الحقّ يقال على أى وجه كان.

كان ططر ملكا [عظيما]«1» جليلا كريما، عالى الهمة، جيّد الحدس، حسن التّدبير، سيوسا، توثّب على الأمور مع من كان أكبر منه قدرا وسنا، ومع عظم شوكة المماليك المؤيّدية [شيخ]«2» ، وقوة بأسهم، مع فقر كان به وإملاق، فلا زال يحسن سياسته، ويدبّر أموره، ويخادع أعداءه إلى أن استفحل أمره، وثبت قدمه، وأقلب دولة بدولة غيرها فى أيسر مدّة وأهون طريقة. كان تارة يملق هذا، وتارة يغدق على هذا، وتارة يقرّب هذا ويظهره على أسراره الخفيّة، كل ذلك وهو فى إصلاح شأنه فى الباطن مع من لا يقرّ به فى الظاهر، فكان حاله مع من يخافه كالطبيب الحاذق الذي يلاطف عدّة مرضى قد اختلف داؤهم، فينظر كل واحد ممن يخشى شرّه، فإن كان شهما رقّاه إلى المراتب العلية وأوعده بأضعاف ذلك، وإن كان طماعا أبذل إليه الأموال وأشبعه، حتى إنه دفع لبعض المماليك المؤيديّة الأجناد فى دفعات متفرّقة فى مدّة يسيرة

ص: 207

نحو عشرة آلاف دينار، وإن كان شهما رغبته الأمر والنهى ولّاه أعظم الوظائف، كما فعل بالأمير على باى المؤيّدى والأمير تغرى بردى المؤيّدى المعروف بأخى قصروه؛ ولّى كلّا منهما أجلّ وظيفة بديار مصر، فأقر على باى فى الدّواداريّة الكبرى دفعة واحدة من إمرة عشرة، وأقرّ تغرى بردى فى الأمير آخوريّة الكبرى دفعة واحدة، ومع هذا لم يتجنّ عليهما أبدا بل صار معهما فيما أراداه، يعطى من أحبّا ويمنع من أبغضا حتى إن تغرى بردى المذكور وسّط الأمير راشد بن أحمد ابن بقر خارج باب النصر «1» ظلما لما كان فى نفسه منه، فلم يسأله ططر عن ذنبه.

كل ذلك لكثرة دهائه وعظيم احتماله، ولم يكن فعله هذا مع على باى وتغرى بردى فقط، بل «2» مع غالب أشرار المؤيّديّة.

هذا وهو يقرب خشداشيته الظاهرية [برقوق]«3» واحدا بعد واحد، يقصد بذلك تقوية أمره فى الباطن، فأطلق مثل جانبك الصّوفى، ومثل بيبغا المظفّرىّ، ومثل قجق العيساوى. كل ذلك وهو مستمرّ فى بذل الأموال والإقطاعات لمن تقدّم ذكرهم، حتى إنه كلّمه بعض أصحابه سرّا بعد عوده من دمشق فيما أتلفه من الأموال، فقال:

«يا فلان أتظن أن الذي فرقته راح من حاصلى؟ جميعه فى قبضتى أسترجعه فى أيسر مدّة، إلّا ما أعطيته للفقهاء والصّلحاء» فمن يكن فيه طيش وخفّة لا يطيق هذا الصّبر ولو تلفت روحه.

وكان مقداما جريئا على الأمور بعد ما يحسب عواقبها، شهما يحب التجمّل؛ كانت مماليكه أيام إمرته مع فاقته أجلّ من جميع مماليك رفقته من الأمراء، فيهم الناصرية والجكميّة والنّوروزية وغيرهم.

ولما حصل له ما أراه وصفا له الوقت ووثب على ملك مصر أقام له شوكة وحاشية من خشداشيته ومماليكه فى هذه الأيام القليلة، لم ينهض بمثلها من جاء قبله ولا بعده أن ينشئ مثلها فى طول مملكته؛ وهو أنه أعطى لصهره البدرى حسن بن سودون الفقيه

ص: 208

إمرة طبلخاناه، ثم نقله إلى تقدمة ألف بالديار المصرية، ولم يكن قبلها من جملة مماليك السلطان ولا من أولاد الملوك، فإن والده سودون الفقيه مات بعد سنة ثلاثين جنديّا، وكذا فعل مع فارس داواداره، أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف ونيابة الإسكندرية، ومع جماعة أخر قد تقدم ذكرهم؛ فهذا مما يدلّ على قوّة جنانه وإقدامه وشجاعته، فإنه أنشأ هذا كلّه فى مدّة سلطنته، وهى ثلاثة أشهر وأربعة أيام.

وأنا أقول: إن مدّة سلطنته كانت ثمانية عشر يوما، وهى مدّة إقامته بمصر، وباقى ذلك مضى فى سفره ومرض موته، وكان يحبّ مجالسة العلماء والفقهاء وأرباب الفضائل من كل فن، وله اطلاع جيّد ونظر فى فروع مذهبه، ويسأل فى مجالسه الأسئلة المفحمة المشكلة، مع الإنصاف والتواضع ولين الجانب مع جلسائه وأعوانه وخدمه، وكان يحب إنشاد الشعر بين يديه لا سيما الشعر الذي باللغة التركية؛ فإنه كان حافظا له ولنظامه، ويميل إلى الصوت الحسن، ولسماع الوتر، مع عفته عن سائر المنكرات- قديما وحديثا- من المشارب. وأما الفروج فإنه كان يرمى بمحبة الشبّاب على ما قيل- والله أعلم بحاله.

ومع قصر مدّته انتفع بسلطنته سائر أصحابه وحواشيه ومماليكه، فإن أول ما طالت يده رقّاهم وأنعم عليهم بالأموال والإقطاعات والوظائف والرّواتب؛ قيل إنه أعطى الشيخ شمس الدين محمدا الحنفىّ فى دفعة واحدة عشرة آلاف دينار، وأوقف على زاويته «1» إقطاعا هائلا، وتنوّعت عطاياه لأصحابه على أنواع كثيرة، وأحبه غالب الناس لبشاشته وكرمه.

وأظنّه لو طالت مدّته أظهر فى أيامه محاسن، ودام ملكه سنين كثيرة لكثرة عطائه.

فإنه يقال فى الأمثال وهو من الجناس الملفق [المتقارب]

إذا ملك لم يكن ذاهبة

فدعه فدولته ذاهبة

ص: 209

قلت: وهو ثانى سلطان ملك الديار المصرية ممن له ذوق فى العلوم والفنون والآداب ومعاشرة الفضلاء والأدباء والظرفاء من المماليك الذين مسّهم الرّق: الأول الملك المؤيد شيخ، والثانى ططر هذا، غير أن الملك المؤيد طالت مدّته فعلم حاله الناس أجمعون و [الملك الظاهر «1» ] هذا قصرت مدته فخفى أمره على آخرين- انتهت [ترجمة الظاهر رحمه الله]«2» .

ص: 210