الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المقريزى: وحججت أنا فى هذه السنة رجبيّة، وقد استجدّ بعيون القصب «1» من طريق الحجاز بئر احتفرت، فعظم النّفع بها، وذلك أنى أدركت بعيون القصب [أنه كان]«2» يخرج من بين الجبلين ماء يسيح على الأرض فينبت فيه من القصب الفارسى وغيره شىء كثير، ويرتفع فى الماء حتى يتجاوز قامة الرّجل فى عرض كبير، فإذا نزل الحاج عيون القصب أقاموا يومهم على هذا الماء يغتسلون منه ويبتردون به، ثم انقطع هذا الماء وجفّت تلك الأعشاب، فصار الحاج إذا نزل هناك احتفر حفائر يخرج منها ماء ردىء إذا بات ليلة واحدة فى القرب نتن، فأغاث الله العباد بهذا البئر، وخرج ماؤها عذبا، وكان قبل ذلك بشهرين قد حفر الأمير شاهين الطّويل بئرين بموضع يقال له زعم «3» وقيقاب، وذلك أن الخاج كان إذا ورد الوجه «4» تارة يجد فيه الماء وتارة لا يجد فيه، فلما هلك الناس من العطش فى السنة الماضية بعث السلطان بشاهين هذا- كما تقدّم ذكره- فحفر البئرين بناحية زعم حتى لا يحتاج الحاج إلى ورود الوجه، فتروّى الحاج منهما وعمّ الانتفاع بهما، وبطل سلوك الحاج على طريق الوجه من هذه السنة- انتهى كلام المقريزى.
قلت: وفرغت سنة أربع وثلاثين ولم يسافر السلطان ولا أحد من أمرائه إلى البلاد الشّامية.
[ما وقع من الحوادث سنة 835]
ثم فى يوم الاثنين ثالث عشرين محرّم سنة خمس وثلاثين وثمانمائة وصلت زوجة السلطان خوند جلبّان بعد أن حجّت وقضت المناسك، وقدم محمل الحاج صحبة الأمير قراسنقر.
ثم فى يوم الخميس سابع شهر ربيع الآخر من سنة خمس وثلاثين وثمانمائة المذكورة نزل عدّة من المماليك الجلبان من الأطباق إلى بيت الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ- وهو يومئذ وزير وأستادار- يريدون الفتك به، وكان علم من الليل، فتغيّب واستعدّ وهرب من بيته، فلم يظفروا به ولا بشىء فى داره، فعادوا بعد أن أفسدوا فيما حوله من بيوت جيرانه، وكان لهم من أيام الطاعون قد كفّوا عن هذه الفعلة، فبلغ السلطان نزولهم فغضب وأخذ فى الدّعاء عليهم أيضا بالفناء والوباء، حتى قال له التّاج الوالى بعد أن زال ما عنده: وسّط هؤلاء المعرّصين ولا تدع بعود الطاعون على المسلمين، فقال له السلطان: يجوز قتل المسلم بغير استحقاق؟ فقال التاج: وهؤلاء مسلمون؟ فقال السلطان: نعم، فقال التاج: والله ما هو صحيح، فضحك السلطان وأمر به فلكموه الخاصّكيّة لكما مزعجا، فقال: انظر صدق مقالتى، هذا فعل مسلم بمسلم؟
انتهى.
ثم أصبح الصاحب كريم الدين استعفى من وظيفة الأستادارية فأعفاه السلطان، واستدعى الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله فى يوم السبت ثالث عشرين شهر ربيع الآخر [المذكور]«1» وأخلع عليه باستقراره أستادارا عوضا عن الصاحب كريم الدين بعد انقطاع ابن نصر الله فى بيته عدّة سنين، وهذه ولاية ابن نصر الله الثانية لوظيفة الأستادارية.
ثم فى يوم الثلاثاء خامس عشرين جمادى الأولى ركب السلطان من القلعة بغير قماش الموكب ونزل إلى بيت زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، ثم ركب من بيت عبد الباسط إلى بيت القاضى سعد الدين إبراهيم بن كاتب جكم ناظر الخواصّ فجلس عنده أيضا قليلا، ثم ركب وعاد إلى القلعة، فلما كان يوم سادس عشرينه حمل عبد الباسط وسعد الدين ناظر الحاص تقادم جليلة إلى السلطان، بسبب نزوله إليهما.
وفى هذه السنة تكرّر ركوب السلطان ونزوله إلى الصّيد وعبوره إلى القاهرة وتوجّهه إلى النزه- بخلاف ما كان عليه أولا- غير مرّة.
ثم فى يوم الثلاثاء ثانى جمادى الآخرة عزل السلطان الصاحب بدر الدين بن نصر الله عن الأستادارية، وخلع من الغد على آقبغا الجمالى باستقراره أستادارا عوضا عن ابن نصر الله المذكور، وهذه ولاية آقبغا الثانية، ولزم ابن نصر الله داره على عادته؛ وكان سبب عزل الصاحب بدر الدين عن الأستاداريّة أنه لما بلغ آقبغا الجمالى عزل الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ عن الأستادارية سأل فى الحضور، وكان يتولى «1» كشف البحيرة، فأجيب، فحضر وسعى فى الوظيفة على أنّه يحمل عشرة آلاف دينار، وإن سافر السلطان إلى الشام حمل معه نفقة شهرين مبلغ أربعين ألف دينار، فأجيب وأبقى الكشف أيضا معه، وأضيف إليه كشف الوجه البحرى.
ثم فى يوم السبت سابع عشرينه خلع السلطان على قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى وأعيد إلى قضاء الحنفية بالديار المصرية، [عوضا]«2» عن زين الدين عبد الرحمن التّفهنى الحنفى بحكم طول مرضه، فباشر العينىّ القضاء والحسبة ونظر الأحباس؛ معا لخصوصيته عند الملك الأشرف، فإنه كان يقرأ له تواريخ الملوك وينادمه.
ثم فى يوم الثلاثاء أوّل شهر رجب خلع السلطان على الأمير صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين بن نصر الله باستقراره محتسب القاهرة عوضا عن العينى بحكم عزله برغبته عنها، وكان صلاح الدين هذا منذ عزل عن الأستادارية وعزل أبوه عن نظر الخاص وصودرا ملازمين لدارهما.
ثم فى يوم الخميس ثالث شهر رجب أدير المحمل على العادة فى كل سنة إلا أنه عجّل به فى هذا اليوم لأجل حركة السلطان إلى السفر إلى البلاد الشاميّة، وكان
السلطان أيضا فى هذه السنة أشاع سفره كما قال فى العام الماضى، وتجهّز لذلك هو وأمراؤه.
ثم فى عشرينه قدم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام باستدعاء، وصحبته القاضى كمال الدين محمد بن البارزىّ كاتب السّرّ بدمشق فباتا بتربة الملك الظاهر برقوق بالصحراء، ثم صعدا من الغد فى يوم الاثنين حادى عشرينه إلى القلعة وقبّلا الأرض، ولما «1» انفضّت الخدمة نزل الأمير سودون من عبد الرحمن إلى مكان بغير خلعة، فعلم كلّ أحد أنه معزول عن نيابة الشام.
فلما كان الغد وهو يوم الثلاثاء ثانى عشرين شهر رجب عملت الخدمة بالقصر السلطانى على العادة، وحضر الأمراء الخدمة على العادة، فقدّم سودون من عبد الرحمن قدّام جارقطلو وحجبه فى دخولهما على السلطان، وجلس جارقطلو على ميمنة السلطان، وجلس سودون من عبد الرحمن على ميسرة السلطان إلى أن قرىء الجيش ونجزت العلامة، ودخل السلطان من الخرجة إلى داخل القصر الأبلق «2» ، وجلس به استدعى الخلع وخلع على الأمير سودون «3» من عبد الرحمن نائب الشام باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن جارقطلو، وخلع على جارقطلو باستقراره فى نيابة «4» الشام عوضا عن سودون من عبد الرحمن، وقبّلا الأرض، وفى الوقت تحوّل سودون من عبد الرحمن إلى ميمنة السّلطان وذهب جارقطلو إلى ميسرة السّلطان بعكس ما كان أوّلا، ولما خرجا من الخدمة السلطانية حجب جارقطلو سودون من عبد الرحمن.
كل ذلك لما ثبت عند السلطان من القواعد القديمة الكائنة إلى يومنا هذا.
وفى هذا اليوم رسم السلطان بإبطال حركة سفر السلطان إلى البلاد الشاميّة، فتكلّم الناس أن سبب حركة السلطان للسّفر إنما كانت بسبب سودون من عبد الرحمن لما أشاعه عنه المتغرّضون من أنه يريد الوثوب على السلطان، وليس الأمر كذلك، وإنما كان لعزل سودون من عبد الرحمن أسباب:
أحدها: أنه طالت أيّامه فى نيابة الشام، وزادت عظمته، وكثرت مماليكه وحواشيه، فخاف الملك الأشرف عاقبته فعزله.
وثانيها- وهو الأقوى عندى: أن السلطان لما استدعاه بكتاب على يد الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك وعاد معه ابن منجك، فلما كان فى بعض الطريق تحادثا، فكان من جملة كلام سودون من عبد الرحمن لابن منجك: أنا أدخل أيضا إلى مصر أميرا بعد طول مدّتى فى نيابة دمشق، فنقلها ابن منجك برمتها إلى الملك الأشرف، فتحقّق الملك الأشرف عند ذلك ما كان أشيع عنه، فبادر وعزله، وكان مراد سودون من عبد الرحمن بقوله: أدخل مصر أميرا غير ما حمله عليه ابن منجك، وهو أن مراد سودون من عبد الرحمن أنه اعتاد بنيابة الشام، وأنه يكره الإقامة بمصر، وأن بعض نيابات البلاد الشامية أحبّ إليه من أن يكون أتابكا بمصر، وأشياء غير ذلك.
ثم فى يوم الخميس ثانى شعبان خلع السلطان على الأمير جارقطلو خلعة السّفر، وخرج من يومه الى مخيّمه بالرّيدانيّة خارج القاهرة وقد استقرّ الأمير قراجا الخازندار الأشرفى مسفّره.
ثم خلع السلطان من الغد فى يوم الجمعة ثالثه على القاضى كمال الدين محمد بن البارزىّ كاتب سرّ دمشق باستقراره فى قضاء دمشق مضافا لكتابة سرّها عوضا عن شهاب الدين أحمد بن المحمرة، ولم يجتمع ذلك لأحد قبله فى الجمع بين قضاء دمشق وكتابة سرّها.
ثم فى يوم الاثنين سادس عشرين شهر رمضان خلع السلطان على دولات خجا
الظاهرىّ باستقراره والى القاهرة عوضا عن التاج الشّوبكى وأخيه عمر، ودولات خجا هو أحد أصاغر المماليك الظاهرية برقوق ومن شرارهم، وكان وضيعا تركى الجنس، كثير الشّرّ، يمشى على قدميه بالأسواق فى بعض الأحيان، وكان الملك الأشرف يعرفه أيّام جنديّته ويتوقّى شرّه، فلما تسلطن ولّاه الكشوفيّة ببعض النواحى، فأباد أهل تلك الناحية، ثم ولّاه الكشف بالوجه القبلى فتنوّع فى عذاب أهل الفساد وقطّاع الطريق أنواعا كثيرة، منها: أنه كان إذا قبض على الحرامى أمسكه ونفخ بالكير فى دبره حتى تندر «1» عيناه وينفلق دماغه، ومنها أنه كان يعلّق الرجل منكسا ولا يزال يرمى عليه بالنّشّاب إلى أن يموت، وأشياء كثيرة من ذلك، فلما ولى الولاية بالقاهرة أوّل ما بدأ به أنه أفرج عن جميع أرباب «2» الجرائم من الحبوس، وحلف لهم أنه متى ظفر بأحد منهم وقد سرق ليوسطنّه، وأرهب إرهابا عظيما، وصار يركب فى الليل ويطوف بحرمة زائدة عن الحد، وصدق فى يمينة فى السّرّاق فما وقع له سارق ممن أطلقه- وقد كتب أسماءهم عنده- إلا وسّطه، فذعر أهل الفساد منه، وانكفّوا عن السّرقة، ثم أخذ فى التضييق على الناس وإلزامهم بإلزامات منها: أنه أمرهم بكنس الشوارع ثم رشّها بالماء، وبتعليق كل سوقى قنديلا على دكّانه، وعاقب على ذلك خلائق، ثم منع النساء من الخروج إلى التّرب فى أيّام الجمع، وأشياء كثيرة إلى أن سئمته الناس وعزله الأشرف عنهم حسبما يأتى ذكره.
ثم أرسل السلطان يطلب قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك الحنفى ليستقرّ فى كتابة سرّ مصر بعد موت شهاب الدين أحمد بن السّفاح، على أنه يحمل بسبب ذلك عشرة آلاف دينار، فقدم جوابه فى يوم الاثنين ثالث شوّال فى ضمن كتاب الأمير جارقطلو نائب الشام على يد نجّاب، وهو يعتذر لعدم حضوره بضعف بصره وآلام تعتريه، وأرسل بمبلغ من الذّهب له صورة، فأعفاه السلطان عن ذلك،
واستدعى الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن كاتب المناح وخلع عليه فى يوم الثلاثاء «1» رابعه باستقراره كاتب السّرّ الشريف مضافا إلى الوزر، ولم يقع ذلك فى الدّولة التركية لأحد أنّ الوزر وكتابة السرّ اجتمعا لواحد معا، ونزل الصاحب كريم الدين فى موكب جليل وباشر وظيفة كتابة السرّ والوزر، مع بعده عن صناعة الإنشاء، وعن كل فضيلة، وقلّة دربته بقراءة القصص والمطالعات الواردة من الأعمال والأقطار، وكان مع ما هو فيه من الجهل أجهر العينين لا ينظر فى الكتابة إلا من قريب، وفى صوته خشونة، فكان إذا أمسك الكتاب فى يده ليقرأه على السلطان تنظر أعاجيب من تبحّره فى الكتاب بعينه، ثم من توقّفه فى القراءة، ثم من اللّحن الفاحش الخارج عن الحدّ، مع أن قراءته للكتب ما كانت إلا نادرا، وفى الغالب لا يقرؤها على السلطان إلا القاضى شرف الدين الأشقر نائب كاتب السرّ، وكنت أظن أن الأشرف إنما ولّى كريم الدين هذا لكتابة السرّ إلا ليطيّت خاطره ويقويه حتى يعيده إلى وظيفة الأستادارية، فإنه كان ماهرا بتدبير أمور الوزر والأستادارية، جيد التنفيذ فيها إلى الغاية، لم تر عينى بعده أحسن [تدبيرا]«2» وتصرفا منه فى فنّه، غير أنه ليس من خيل هذا الميدان، وبين معرفته بفنه والدّربة بصناعة الإنشاء زحام، إلى أن كان بعض الأيام والأشرف جالس، وقدم الصاحب كريم الدين هذا، فلمّا رآه الأشرف من بعيد قال لمن حوله: هل رأيتم كاتب سرّ أحشم من هذا ولا أمثل؟ فقال له من حضر:
لا والله يا خوند، فعند ذلك تحقّقت خلاف ما كنت أظن وعلمت أن القوم فى واد والأمم السالفة فى واد.
ثم فى يوم الخميس ثالث عشر شوال المذكور ابتدأ السّلطان بالجلوس فى الإيوان بدار العدل من قلعة الجبل، وكان قد ترك الملوك الجلوس به بعد الملك الظاهر برقوق فى يومى الاثنين والخميس إلا فى النادر أيام خدمة الإيوان عند قدوم قصّاد ملوك الأقطار،
فتشعث الإيوان ونسيت عوائده ورسومه إلى أن اقتضى رأى السلطان فى هذه الأيّام بعمارته وتجديد عهده، فأزيل شعثه وتتبعت رسومه، وجلس الملك الأشرف به، وعمل الخدمة السلطانية فيه، وعزم على ملازمتة فى يومى الخدمة، ورسم بحضور القضاة وغيرهم ممّن كان له عادة بحضور خدمة دار العدل، فلم يتمّ ذلك وتركه كأنه لم يكن.
ثم فى ثانى عشرين شوّال هذا قدم الخبر من مكة المشرفة بأن عدة زنوك «1» قدمت من الصين إلى سواحل الهند، وأرسى منها اثنان بساحل عدن فلم تنفق بها بضائعهم من الصينى والحرير والمسك وغير ذلك لاختلال حال اليمن، فكتب كبير هذين المركبين الزنكيين إلى الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة وإلى سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدّة يستأذن فى قدومهم إلى جدّة، فكتبا إلى السلطان فى ذلك ورغّباه فى كثرة ما يتحصّل فى قدومهم من المال، فكتب لهم السلطان بالقدوم إلى جدّة وإكرامهم.
ثم فى يوم الاثنين أوّل ذى القعدة استدعى السلطان القضاة الأربعة بجميع نوّابهم فى الحكم بالقاهرة ومصر [إلى القلعة]«2» لتعرض نوابهم على السلطان، وقد ساعت القالة فيهم عند السلطان، فدخل القضاة الأربعة إلى مجلس السلطان وعوّق نوّابهم عن العبور إلى السلطان، فلما جلسوا خاشنهم السلطان فى اللفظ بسبب كثرة نوّابهم، وانفضّ المجلس على أن يقتصر الشافعىّ على خمسة عشر نائبا بمصر والقاهرة، والحنفى على عشرة نوّاب، والمالكىّ على سبعة، والحنبلىّ على خمسة، ونزلوا على ذلك، فلم يزل عبد الباسط وغيره بالسلطان حتى زادهم شيئا بعد شىء إلى أن عادت عدّتهم إلى ما كانت عليه، والسلطان لا يعلم بذلك.