المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نشر الإسلام خارج مكة: - الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي

[محمد مظهر صديقي]

الفصل: ‌نشر الإسلام خارج مكة:

والغلمان، وهو ما يجعل النسبة المتوسطة للسكان في القرون الوسطى تزيد على ما هو مقرر حاليًا، ففي القرون الوسطى يجب أن يضرب عدد البالغين في (6) أو (7) كما ذكر (بركات) في كتابه عن الرسول الأكرم ويهود الحجاز. ومن هذه الناحية إذا أخذنا القائمة التي رتبها المستشرقون، فإن عدد مسلمي مكة التقريبي يصل إلى ما ذكرناه.

‌نشر الإسلام خارج مكة:

هناك خطأ شائع يتعلق بتاريخ نشر الإِسلام في العهد المكي إذ اعتقد البعض أن السكان المسلمين خارج مكة المكرمة كانوا إما صفرًا أو عددًا لا يذكر، بينما يتضح من الروايات التاريخية أن هذا التصور من أوله إلى آخره تصور خاطىء، فالجميع يعرف أن من غير أهل مكة وجد أبو ذر الغفاري وإخوته التسع عشرة، وهم من المسلمين الأوائل للعهد المكي، لكن الحقيقة أن هؤلاء الناس لا يعرفون أن أبا ذر قبل الهجرة إلى المدينة تمكن بجهوده -التي تدل بلا شك على شغفه بالإسلام، وعلى أن ذلك الشغف فاق كل حد- أن يدخل قبيلته كلها في كنف الإسلام، هذا بالإضافة إلى قبيلة أسلم وهي مجاورة لهم وحليفة لهم، فقد صارت في معظمها إن لم تكن بأكملها قبيلة مسلمة، وطبقًا لما تذكره الروايات فإن هاتين القبيلتين ضمتا على الأقل ألفي نسمة، هذا بالإضافة إلى أن من قبائل العرب التي تعرفت على الإِسلام فدخلت فيه في العهد المكي: خزاعة، أزد، شنوة، وأهم بطونها دوس، بنو أسد بن خزيمة، أشعر وعبد القيس وغيرها، وكان بعض هذه القبائل ينتمي إلى منطقة الجنوب، وبخاصة اليمن والجزء الشرقي.

ثم لا ينبغي أن ننسى أن معظم أهل المدينة المنورة ممن شرفوا بالإِسلام إنما شرفوا به في العهد المكي، وحتى زمان الهجرة النبوية كان معظم قبائل الأوس والخزرج بالمدينة من المسلمين الذين دخلوا في الإسلام نتيجة لجهود المبلغين

ص: 83

من مثل أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير العبدري، سفير رسول الله في المدينة قبل الهجرة وطبقًا لقول ابن إسحاق، فلم يكن هناك من قبيلة أوس من هم خارج دائرة الإِسلام سوى أوس مناة الذين ظلوا خارج دائرة الإِسلام حتى غزوة الخندق، وكان كل بيت مدني بيتًا للإِسلام على وجه التقريب.

وهناك حقيقة هامة خفيت بصفة خاصة عن الأنظار وهي أن تشكيل الأمة الإِسلامية في المدينة المنورة، وتوسيع الدولة الإسلامية، والنجاح والتوفيق العسكري والسياسي والاجتماعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان من ثمار الكفاح المجيد للعهد المكي، والحقيقة أن المستشرقين المغرضين والمؤرخين من أعداء الإِسلام يحاولون بخبثهم التآمر على هذا العهد المكي بالتقليل من الأثر الديني للحياة النبوية في العهد المكي، وهذه المؤامرة جزء من خططهم التي يريدون عن طريقها إثبات النظرية القائلة بأن الإِسلام لم ينشر تأثيراته الفكرية وتأثيراته الدينية بنفس القدر الذي نشر به قوته السياسية أو العسكرية، وهم يريدون أيضًا أن يوافقهم الناس على نظريتهم تلك.

ويرى بعض المؤرخين والمفكرين أن أفكار المساواة الاجتماعية في الإِسلام، وتصور الإِسلام للعدالة الاقتصادية كان سببًا في نشر الإِسلام، بينما الحقيقة هي أن نشر الإِسلام وبخاصة في مكة المكرمة إنما كان مرجعه إلى الجانب الديني، أما الجوانب الأخرى فكانت كلها جوانب ثانوية.

رسول أو حاكم:

فيما يتعلق بهذا الاتهام وهو أن الرسول يبدو في مكة رسولاً بينما يبدو في المدينة حاكمًا وسياسيًا، فسببه أن المستشرقين وأذنابهم حبسوا أنفسهم داخل التصور الضيق للدين، هذا بالإِضافة إلى افتقارهم إلى الإِحساس والشعور التاريخي أو نقصه لدى البعض منهم -وكذلك راجع إلى تعصبهم أو جهالتهم- ولما كان أكثر موجهي هذه التهمة من اليهود والنصارى الذين يمثل الدين لديهم

ص: 84

دائرة محدودة قاصرة على رسوم العبادات، لهذا فقد نظروا إلى الإِسلام في نطاق نظرتهم إلى دينهم، بينما الإِسلام دين شامل يضم جميع جوانب الحياة سواء ما يتعلق فيها بالعقيدة أو ما يتعلق بالسياسة والمجتمع أو ما يتعلق بالجيش والحكومة أو ما يتعلق بالاقتصاد وغير ذلك، ولا يمكن لأي فرع من هذه الفروع أن تخرج عن دائرة الإِسلام الواسعة.

والأصل في الإِسلام أنه لا فرق بين الدين والدنيا، فكل ما يجعلنا نغفل عن الله ونعمل خلاف أحكامه هو الدنيا، وكل ما يدخل في دائرة أحكام الله ومرضاته هو الدين. ومن هنا وجب تحليل ودراسة الحياة المدنية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ضوء هذه الخلفية لتصور الدين في الإِسلام وهو تصور واسع وشامل.

ويُعرف من مطالعة الحياة المدنية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام بتشكيل الأمة الإِسلامية وتنظيم الحكومة الإِسلامية طبقًا لما جاء بالقرآن الكريم وطبقًا لأحكام الله، وكل هذا عمل ديني، وكل ما قام به وأنجزه من خلال الغزوات والسرايا كان في سبيل تقوية الإِسلام كما أن دحض الكفر وهزيمته إنما هو من الأعمال الدينية.

ورغم كل هذا فالحقيقة الواضحة أمام الجميع أنه صلى الله عليه وسلم خلال كفاحه العسكري، والسياسي لم يصرف النظر ولم يتقاعس عن بذل جهده في سبيل تبليغ الدين ونشره، ويعرف من الروايات أنه بعد الهجرة مباشرة قام بدعوة القبائل اليهودية وبقية فئات العرب من غير المسلمين على السواء، وأرسل جماعات لتبليغ الدين في مختلف المناطق، ومنها سرية مؤتة وسرية الرجيع وسرية ذات الملاح، وغيرها من السرايا التي تلخصت مهامها في نشر الدين.

لقد ارتكزت خطته صلى الله عليه وسلم في القيام أولاً بدعوة الفريق الذي يحاربه إلى الإِسلام، وكانت هذه هي السنة التي مضى عليها الصحابة الكرام، وكان

ص: 85

رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام أثناء الحرب والنزال، أو بعد الغزوات. وهناك أمثلة عديدة على ذلك، كما كان يدعو أسرى الحرب إلى الإسلام، وقد تأثر الكثير بحسن سلوك رسول الله ودعوته، فأعلنوا إسلامهم. كم دخل من أناس في الإسلام في فتح مكة، وفي غزوة حنين والطائف!! لقد أسلمت جميع القبائل الجنوبية الشرقية عن طريق الدعوة والتبليغ، وفي عام الوفود، حين قدم ممثلو القبائل من كل أركان الجزيرة العربية، ليعلنوا إسلامهم، وليصبحوا لا مسلمين فقط، بل مبلغين لدين الله، يدعون قبائلهم لدخول الإسلام. وطبقًا لإرشادات رسول الله كان جميع ولاة الحكومة الإسلامية، وقضاتها وعمالها وأعضائها أساسًا من المبلغين والمعلمين، وكان هذا أول فرض واجب على هؤلاء الولاة والحكام جميعًا.

والخلاصة أن النظام النبوي بأكمله سواء كان سياسيًا أو عسكريًا، اجتماعيًا أو اقتصاديًا، كان محوره ومركزه هو الإسلام وتبليغ الإسلام، وكان هذا هو السبب في أنه عند حجة الوداع كان في ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عرفات 140000 [مائة وأربعون ألفًا] مسلمًا، وهناك أضعافهم كانوا داخل بيوتهم مشغولين بذكر الله. والحقيقة أن خطة تبليغ دين الله وطريقة التبليغ قد تغيرت طبقًا للظروف الجديدة في المدينة المنورة. واتهام المستشرقين إنما يقوم فقط على أنهم لا يريدون أن يفهموا سواء عن عمد أو عن غير عمد هذه السياسة النبوية ومتغيراتها. واتهامهم الثاني يقوم على أن أكثر القبائل العربية، بالإضافة إلى يهود ونصارى المناطق المختلفة لم يقبلوا الإسلام ورفضوه، بل لم يعترفوا بالتفوق السياسي للإسلام، ولا شك في أن بعض القبائل في المناطق البعيدة والمناطق الساحلية ومناطق الحدود لم تدخل في الإسلام، ولكن لا يمكن أن يقال إن الإسلام لم يصل إليها أبدًا؛ ففي داخل مثل هذه القبائل جميعها كانت تدور معركة بين الإسلام والكفر، إذْ أسلم بعض بطونها وأسرها فيما كان البعض الآخر لا يزال قائمًا على مذهبه القديم، ولما كان معظم هذه القبائل من

ص: 86

المسيحيين لم يسمح تعصب المستشرقين لهم أن يعترفوا بتلك الحقيقة الدالة على أن أهل دينهم من المسيحيين قد قبلوا الإسلام بكل سرور وبكل إخلاص ورضا. والتحليل الكلي يخبرنا أن الأغلبية العظمى للقبائل العربية قد قبلت الإسلام ودخلت في كنفه، ولم يعد خارج هذه الدائرة سوى بعض الفئات والأفراد ممن كانوا يعيشون في المناطق الحدودية.

وبديهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مطالبًا من رب العزة آنذاك أن يُدخل أهل الدنيا كلهم في الإسلام، بل كان عليه آنذاك أن يُدخل مجموعة كبيرة من البشر في كنف الإسلام، لتقيم مثالاً عمليًا أمام الناس، وهو ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ رسالته إلى جميع أفراد البشرية. والآن فإن على هذه الأمة الإسلامية مجتمعة تقع فريضة نشر الإسلام وعليهم أن يبلغوا الناس جميعًا به!!

بناء الدولة الإسلامية:

أظهر المستشرقون والمؤرخون الجدد خطأين كبيرين فيما يتعلق بالدولة والحكومة الإسلامية: الأول هو أن الدولة الإسلامية لم تشمل جميع شبه الجزيرة العربية، وكانت محصورة في مركز أو وسط الجزيرة العربية، والخطأ الثاني هو أن الدولة الإسلامية كانت قائمة على النظام القبلي القديم للعرب، وفيه كانت تفتقد إلى المركزية.

وفيما يتعلق بالخطأ الأول، لو استعرضنا التاريخ الإِسلامي فسوف نعرف أنه في المجتمع المدني وبعد الهجرة، فإن الدولة الإِسلامية التي قامت ونشأت كانت منذ البداية دولة مدنية، ثم بعدها ونتيجة للمهمات الأولى التي أرسلها الرسول، ونتيجة لمعاهدات الصلح والتفاهم مع القبائل المختلفة والصحيفة النبوية والغزوات والسرايا، بدأت الدولة تتسع تدريجيًا في جميع الجهات، وبعد غزوة بدر انتشرت وتوسعت بسرعة جهة الحدود الغربية، وإن كان توسعها

ص: 87

وانتشارها قد قلّ قليلاً حتى أيام غزوة الخندق إلا أنه بعد غزوة الخندق، بدأت الدولة توسع حدودها بسرعة ونتيجة لغزوة خيبر، وصلت حدودها من ناحية الشمال إلى مدى بعيد، وبعد فتح مكة وفتح حنين وغزوة الطائف ضمت إليها المناطق الشرقية والقبائل الجنوبية، وبعد خضوع قبائل العرب أصبحت الدولة الإِسلامية تضم شبه الجزيرة العربية بأكملها، واعترفت جميع القبائل العربية والمناطق العربية بتفوق المدينة وسلطتها والدليل التاريخي الذي لا يقبل الاعتراض والشك، هو أن القبائل التي أسلمت قد قبلت مسئولية أداء الزكاة والصدقات، بينما قبلت الفئات غير المسلمة دفع الجزية والخراج، وظلوا بكل إخلاص وإيمان يحافظون على عهدهم في أدائها، هذا بالإضافة إلى أنه فيما يتعلق بجميع المعاملات السياسية والنظامية كانوا يطبقون أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكتفي هنا بذكر مثالين فقط:

كان بنو تغلب، ونصارى ويهود القرى الشمالية يؤدون الجزية والخراج، بل عرض هؤلاء دفع الزكاة مضاعفة بدلاً من الجزية، عرضوا هذا بأنفسهم، وهو ما لم يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأهم من ذلك أن نصارى نجران لم يسلموا فقط بأداء الجزية، بل واتفقوا على شرط التوبة من العمل بالربا، هذا بالإضافة إلى أنهم التزموا بالعمل طبقًا للأحكام النبوية الأخرى، وهذه دلالة عملية على ما كان للدولة الإِسلامية والحكومة الإِسلامية من عامل مؤثر.

يتأكد من البحث السابق أيضًا أن دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكومته كانت قائمة على أصول مركزية، بينما كان النظام والشكل السياسي للعرب قبل الإِسلام قائمًا على نظام قبلي خالص. ففي النظام الجاهلي كانت كل قبيلة، بل كان كل بطن يمثل بنفسه وحدة سياسية تقوم في داخلها وبطريقة مستقلة بتسيير جميع أمورها الداخلية والخارجية بطريقة حرة لا يتدخل فيها أحد، أما في دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له السيطرة وكان له الحكم على جميع القبائل

ص: 88