المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البعثة النبوية (رمضان 13 قبل الهجرة/ 610 م) - الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي

[محمد مظهر صديقي]

الفصل: ‌البعثة النبوية (رمضان 13 قبل الهجرة/ 610 م)

‌البعثة النبوية (رمضان 13 قبل الهجرة/ 610 م)

إن أكبر اعتراض أثاره المستشرقون هو اعتراضهم على الوحي الإلهي الذي أنزله الله تبارك وتعالى عن طريق الروح القدس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أسباب اعتراضهم عدم درايتهم بالمصادر الإسلامية وجهلهم بحقيقة الوحي الرباني، وأكثر من هذا تعصبهم الديني وعداوتهم للإسلام؛ لأن أكثر المستشرقين إما أنهم مسيحيون وإما أنهم يهود. ولهذا فهم يدركون أنهم إن اعترفوا بنزول الوحي الرباني فإن هذا يعني اعترافهم بالرسالة المحمدية، وهذا يعني عندهم إنكار نبوة موسى وعيسى عليهما السلام. وهذا ما لم يكونوا على استعداد له أبدًا. ومنذ البداية وحتى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. شاع في الغرب أن الوحي الذي نزل على محمد (خداع) Imposter، واتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه خدع الناس بإيهامهم بتلقي الوحي الرباني وذلك حتى ينال لنفسه أهدافًا سياسية واجتماعية واقتصادية.

وبعد ذلك بفترة ظهرت قصة اليمامة، وكانت من خرافات العقل الأوربي، وطبقًا لهذه الأسطورة فإن يمامة كانت تجلس على كتف الرسول وكانت تلتقط من أذنه الحب وهكذا كان يوهم الناس أنها تخبره بالكلام الإلهي. ولا نرى ضرورة للحديث عن هذه القصة الخرافية التي لا معنى لها. فجانبها الخرافي واضح وأظهر من الشمس أما " لامانس " فهو يقرر أن الوحي الإلهي كان نتيجة أضغاث أحلام ونتيجة لحدس ذاتي ( Outo - Suggestion) هذا بينما يرى البعض أن نزول الوحي كان نتيجة غيبوبة طارئة أو نتيجة لخداع حسّي أو هلوسة أو هذيان hallu cination، بينما كان عند البعض الآخر شيئًا ملازمًا لحالات الهستيريا.

ص: 38

و " نولدكه " الذي نال في الغرب اليوم درجة جعلته يعرف هناك كمفسر للقرآن يرى أن الوحي كان نتيجة لحالات عصبية حين تنتهي يحدث الوهم، ويحدث ما يتبع ذلك من إلهام.

أما " وليم ميور " -الذي يعد مؤرخ الإسلام- فيكتب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد انتابته الشكوك والشبهات فيما يصله من إلهام وفي هدفه النبوى، ولهذا ظل لفترة طويلة حائرًا وبعد فترة طويلة أخرى، وحين تأكد عن طريق عامل من العوامل الخارجية أنه نبي بدأ مهمته في تبليغ ونشر الإسلام، وقد خرج هذا المستشرق سابق الذكر نتيجة لتفسيره الخاطىء لبعض الروايات وعجزه عن فهمها فهمًا صحيحًا بالقول بأن السبب في ذلك كان " الطعام " الذي يأكله الرسول.

وقد كشف عدد من المؤرخين المسلمين وكتاب السيرة الستار عن حقيقة ما ادعاه هذا المستشرق المذكور من مهارة بالعربية - فقد كان ضعيفًا، وكان يتمتع بالخبث والتفكير الفج المعوج وكان أصيلاً في عداوته وحقده على الإسلام.

وعلى الرغم من هذا فقد قام بعض مستشرقي القرنين التاسع عشر والعشرين برفض جميع الأفكار والنظريات الفجة - والتي تقول بأن الوحي كان مجرد وهم وادعاء كاذب. أو أنه كان حالة من حالات الغيبوبة الطارئة أو هزة من هزات الأعصاب إلى غير ذلك.

والسبب في رفضهم لها هو عدم إمكانية إثباتها عن طريق مصادر التاريخ الإسلامي، كما أنها لا تبدو معقولة في ضوء العقل والمنهج العلمي ونمو المعرفة الصحيحة.

وقد اعترف كثير من المستشرقين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول

ص: 39

صادق مثله مثل الأنبياء السابقين، وأن الوحي كان ينزل عليه من عند الله القدوس. ومع ذلك فما زالت العقيدة المسيطرة على الغالبية العظمى من هؤلاء المستشرقين هي أن الوحي الرباني الذي نشاهده اليوم في صورة القرآن الكريم المكتوب هو في الحقيقة من صنع ذهن محمد ومهارة عقله. وأنه قد استفاد في ذلك بالتأثيرات المسيحية في منطقة الشام، واستفاد بتعليمات الإنجيل والتوراة.

وما أعجب هذا الأمر، وما أغرب أن يقول المؤرخون النصارى: إن القرآن مأخوذ عن تعليمات عيسى عليه السلام، بينما يرى المؤرخون والمفكرون اليهود أنه استفاد من تعاليم موسى، إلا أن الأعجب من هذا وذاك أن المؤرخين والمفكرين المسيحيين واليهود يغضون أنظارهم تمامًا عن أن يعلنوا أو يظهروا هذه الحقيقة فيما يتعلق بالقرآن الكريم وهي أن القرآن الكريم جاء مصدقًا ومكملاً للتعليمات الإلهية الصحيحة الموجودة في التوراة والإنجيل والصحف السماوية الأخرى فهو لم يرفضها ولم ينسخها ابتداءً. وإذا كان للمستشرقين وأتباعهم أن يفهموا ويقروا الحقيقة القائلة بأن الإسلام دين أزلي وأبدى نزل من عند الله الرحيم لهداية البشرية منذ زمان آدم عليه السلام.

وقد ارتقى الدين مع رقي العقل والفهم الإنساني، في أزمنة مختلفة حيث أرسل الله أنبياءه ورسله. واكتمل الدين من عند الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ليصبح الإسلام هو الدين الإلهي الوحيد إلى يوم القيامة

لو آمنوا بهذا الأمر بعد فهمهم له لما ظهرت الشكوك، ولا الشبهات، ولا المشكلات، ولا الألغاز التي أثاروها، والتي تظهر أن رؤيتهم للإسلام، لا تقوم على أي أساس موضوعى نابع من فقه بالإسلام نفسه.

ويجب هنا أن نفهم نقطة أخرى، وهي أن الشرائع التي تنزلت على جميع الأنبياء السابقين. إنما كانت مناسبة لزمانهم ومتماشية مع ظروف مستواهم الحضاري.

ص: 40

إلا أن الشريعة المحمدية قد اكتملت الآن وهي القانون الإلهي الذي لا يتغير ولا يتبدل في جميع الأزمنة. رغم أن العقائد والأصول الدينية لدين محمد هي التي كانت في زمان الأنبياء الكرام السابقين. فعقائد التوحيد الإلهي والرسالة ونبوة الرسل، والآخرة كانت نفسها تمثل الأصول الشاملة للديانات السابقة، وهذا هو السبب في أن المنصفين والمحققين والمعاصرين الذين عرفوا للرسول حقه، حين سمعوا عن الرسالة الإلهية اعتبروها على الفور ميراثًا لأنبيائهم الكرام، فقبلوها وآمنوا بها. وتصرح المصادر الإسلامية أن ورقة بن نوفل -وهو يمت بصلة قرابة إلى السيدة خديجة وكان عالمًا مسيحيًا- هذا العالم حين سمع تفصيلات نزول الوحي على رسول الله صاح قائلاً: والله إن هذا لهو الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام!!

والنجاشى إمبراطور الحبشة المسيحي حين سمع خطاب جعفر بن أبي طالب ممثل المهاجرين المسلمين لم يصدق فقط برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بل إنه حين سمع الآيات القرآنية التي نزلت في سورة مريم في حق عيسى عليه السلام قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجان من مشكاة واحدة. وعالم المدينة المنورة اليهودي عبد الله بن سلام اعترف بنبوة الرسول الأكرم من أول لقاء به، وقرر أن رسالته إنما هي تكملة ومتممة لنبوة وشريعة موسى.

وخلال مراحل التاريخ الإسلامي المختلفة يمكن تقديم الأدلة والشواهد التي لا تعد ولا تحصى، والتي تثبت أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هو آخر حلقة من حلقات سلسلة الأنبياء الكرام وهو خاتمهم.!!

ومع أن الأغلبية العظمى من المستشرقين في العصر الحديث جعلوا من نزول الوحي الإلهي على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم موضع شك في نظرهم، إذ لا يمكن بحكم ارتباطاتهم - أن يقولوا شيئًا يؤيدها علانية، إلا أنهم راحوا يستفيدون من أصول التأريخ الحديثة فقالوا بأن الوحي والنبوة والرسالة أمور ميتافيزيقية

ص: 41

أي أمور غيبية، لهذا فهي خارجة عن تجربة الإنسان ومشاهداته ومن هنا فهي تخرج عن دائرة المؤرخ؛ لأن المؤرخ يصدق أو يرفض الروايات والأخبار المتعلقة بالوقائع الحسية والتجارب الواقعية، أما نزول الوحي فهو تجربة يمر بها النبي فقط، ولهذا فلا يمكن لشخص آخر أن يصدقها أو يرفضها، ولهذا يجب على المؤرخين أن يتوقفوا عندها.!!

ويرى المستشرق المعاصر المشهور بميوله الإِسلامية وهو " مونتجمري وات " أن المؤرخ لا يستطيع أن يقول إنه كان وحيًا إلهيًا بحق؛ إذ إن الوحى أمر يخرج عن دائرة بحث المؤرخ.

وطبقًا لأصول البحث التاريخي الحديثة، فليس من عمل المؤرخ أن ينكر نزول الوحي الإلهي أو أن يقره، وليس من شأنه أن يصدقه أو يرفضه، لأن هذا يخرج عن دائرة عمله، ولكن يجب -مع ذلك- أن نسلم أيضًا بهذه الحقيقة وهي أن التصديق بنبوة رسول ورسالته إنما يكون قائمًا على مطالعة شخصية الرسول وسلوكه بعد إعلانه النبوة والرسالة، وبناء على تحليل أو نقد للرسالة التي يقدمها. وعلى هذه الأسس يقوم المؤمنون بهؤلاء الرسل أو الأنبياء دائمًا بالاعتراف بنبوة ورسالة أنبيائهم. وصحيح أيضًا أن هذه التجربة الميتافيزيقية التي يطلق عليها الوحي لا يمر بها أحد آخر سوى النبي. ولكن لو أن هناك شهادات على مروره بهذه التجربة، ولو شهد من شاهدوا هذه التجربة بعيونهم، حينئذ يصبح الأمر واقعة تاريخية على المؤرخ واجب الاعتراف بها، ولو قام عدد من الأفراد أو جماعة من جماعته بتصديقه تصديقًا كاملاً، فإن هذه أيضًا تعد واقعة تاريخية تؤيدها التجربة الروحانية التي سبقت التأييد وعلى المؤرخ أيضًا أن يعترف بها.

وطبقًا لأصول البحث يمكن أن نرى شهادات المعاصرين فيما يتعلق بنزول الوحي الإلهي على محمد صلى الله عليه وسلم ونرى كم وصلت درجة اعترافهم بعظمة

ص: 42

شخصيته، وكم صدقوا بكل يقين جوانب رسالته. ويفهم من تحليلنا للمصادر أن هذا الأمر تجاوز الحد تواترًا من ناحية الشهادة التاريخية، فهناك جم غفير من المعاصرين يشهدون بكل الحق على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه، وعظمة شخصيته.

وإذا ما تركنا هؤلاء وتركنا مؤيديه جانبًا فإن معارضيه أيضًا قد اعترفوا برسالته صلى الله عليه وسلم رغم أنهم " يؤمنون به بقلوبهم وينكرونه بألسنتهم ". ثم هناك حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها، وهي أنه بعد تبليغه لدين الله لمدة 23 سنة عرف جميع أهل شبه الجزيرة العربية تقريبًا حق الرسالة التي قدمها لهم، واعترفوا وفهموا وآمنوا بالكلام المنزل من عند الله على رسوله، وآمنوا تمامًا بأنه رسول الله وأن القرآن كلام من عند الله وأنه وحي أوحي إليه. وهذه أكبر حقيقة تاريخية على نبوته وعلى رسالته، وهي شهادة خالصة على ذلك يجب على كل مؤرخ أن يعترف بها، ولا يمكن لأحد أن يُنكرها إلا إذا كان متعصبًا بعيدًا عن الأصول والأخلاق الإنسانية والمنهج العلمي المحايد.

تعاليم القرآن الكريم:

وكما يقوم المستشرقون وأتباعهم من المؤرخين الجدد بتوجيه النقد المغرض البعيد عن أصول التأريخ إلى الوحي الإلهي ونزوله - يقومون أيضًا بتوجيه اعتراضات وإلصاق شبهات بتعاليم القرآن الكريم وتدوينه، ومن أهم الاعتراضات التي يوجهونها إلى تعاليم القرآن الكريم. بعض الاعتراضات التي يمكن أن تلتبس عليهم والتي تتعلق بالظروف المكية التي نزل الوحي يعالجها مواكبًا ظروف البيئة مثل تعليمات الإنفاق والسخاء والنجدة وغيرها (1)، إلا أن البعض الآخر من اعتراضاتهم مما يتعلق بالأحكام السياسية فهي بلا شك

(1) فكأنهم يرون أن القرآن استجابة للبيئة العربية وتحدياتها فقط!!

ص: 43

اعتراضات لا محل لها على الإِطلاق، وترجع هذه الاعتراضات إلى قصور في فهم هؤلاء المعترضين أساسًا وعدم إدراكهم للسور والآيات المكية والمدنية وعدم فهم أحكامها.

إن مطالعة القرآن الكريم والأحاديث النبوية والتفاسير والتاريخ الإسلامي توضح أن أحكام القرآن الكريم كانت تنزل طبقًا لمستلزمات الوقت الحاضر، وضرورات المجتمع المسلم، وقد امتدت هذه السلسلة عبر فترة طويلة وصلت إلى ربع القرن تقريبًا.

ونزول الوحي تدريجيًا كما هو معروف من القرآن الكريم إنما كان لحكمة خفية، فقد كان القرآن هاديًا للأمة الإِسلامية آنذاك، ولم يكن لينزل مرة واحدة. فلا تستطيع الأمة أن تحمله. وكان هذا التقدير الإلهي قاضيًا بأن تتطور جميع الهيئات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية طبقًا لمستلزمات العصر، وهذا الأمر في حد ذاته يحمل بين طياته إثبات صدق الرسالة والنبوة المحمدية، ولو أنزل القرآن الكريم دفعة واحدة لكان من الممكن ألا يكون هناك من يشهد على نزوله، وإن وجدوا فإنهم سيكونون قلة، فخلال ربع القرن المذكور شاهد الآلاف من الناس بعيونهم وسمعوا بآذانهم القرآن ينزل على رسول الله، وليس هذا فقط بل إن نزول الأحكام الإلهية طبقًا لمستلزمات الوقت والزمان كان أمرًا مُشاهدًا. وما أورده المستشرقون حول عدم موافقتهم على ظروف بعض تعاليم القرآن، إنما هو أمر يرجع أصلاً لقلة مطالعاتهم وقصور فهمهم، وإلا فإن القرآن الكريم، كان مطابقًا تمامًا لظروف حياة المسلمين، وهو بالإضافة إلى ذلك يوضح طريق الهداية للبشرية كلها حتى يوم القيامة.

تدوين القرآن:

فيما يتعلق بتدوين القرآن الكريم، فطبقًا للروايات الإسلامية، تم ذلك بطريقتين طبقتا في العهد النبوى.

ص: 44

الأول بعد نزول الوحي، إذ لم تحفظ الآيات المنزلة بتمامها في قلب النبي فقط، بل قام صلى الله عليه وسلم بتعليم صحابته ما أنزل عليه، وتلاوته، وتحفيظه لهم، وهناك حقيقة مهمة وشيقة وهي أنه -علاوة على المسلمين والمؤمنين- فإن أعداء الإسلام أيضًا قد حفظوا الكثير من آيات القرآن، ويُعرف من الروايات أن مشركي مكة كانوا يذهبون خفية فيستمعون إلى تلاوة الرسول للقرآن في الصلوات، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن الكريم أثناء تبليغه للدين الحنيف في أوقات عديدة مستشهدًا بها في المواضع المناسبة، وكان هذا هو الحال بالنسبة للصحابة أيضًا، إذ تصادفنا في كتب التاريخ أكثر من واقعة تأثر بها الكفار بعد سماعهم لتلاوة أبي بكر الصديق وغيره للقرآن الكريم.

والطريقة الثانية أنه منذ العصر المكي الأول قام صلى الله عليه وسلم بمهمة حفظ القرآن الكريم مكتوبًا. ويفهم من روايات التاريخ الإسلامي المتعددة أن عددًا من الصحابة الكرام في مكة المكرمة قد كلفوا بمهمة كتابة القرآن الكريم. وهذا صحيح وتعترف به المصادر والمراجع الإسلامية، وتوضح أيضًا أن القرآن الكريم لم يكن مرتبًا في صورة كتاب في العهد النبوي، بل وُجد مكتوبًا على أشياء. متعددة ومختلفة إلا أن الحقيقة التاريخية التي لا يمكن لأحد أن ينكرها هي أن القرآن الكريم قد حفظ مكتوبًا داخل فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى أنه حفظ في فؤاد وعقل مئات بل آلاف من الحفاظ. وهذه أيضًا حقيقة أو مسلمة تاريخية. إذ إن عددًا من كتاب الصحابة كان كل منهم قد أعد صحيفة في العهد النبوي كتب فيها معظم السور وهكذا، وبالنسبة لقضية تدوين القرآن الكريم نقول بأن القرآن كله من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، كما هو موجود اليوم في شكل المصحف المتداول هو بذاته ما حفظ في ذاكرة الصحابة، وما كتب في صحائفهم، وعلى أشياء متعددة ومتنوعة.

ص: 45

ويثير المستشرقون عامة، والمعاندون الجدد خاصة هذا الاتهام القائل بأن تدوين القرآن كان في العهد العثماني (أى على عهد عثمان بن عفان) رغم أن جميع هؤلاء المؤرخين والمؤلفين لا ينكرون الشواهد التاريخية المذكورة سابقًا، والتي تشهد على تدوين القرآن الكريم في العهد النبوي، بل إنهم ينكرون أيضًا الحقيقة القائلة بأنه في العهد الصديقي كان القرآن الكريم قد رُتب في شكل مصحف.

وقد ثبت ثبوتًا متواترًا أنه بناء على طلب عمر بن الخطاب فإن الخليفة الأول أبا بكر الصديق كوّن جماعة ومجلسًا من الصحابة الكرام، كان على رأسهم حافظ القرآن وكاتبه الشهيد زيد بن ثابت الخزرجي، وقام هذا المجلس بجمع جميع السور المكتوبة لدى الصحابة الكرام ودوّنها في شكل كتاب، وكان هذا هو أول مصحف، وهو الذي عُرف باسم المصحف الصديقي أو المصحف الأعظم، وبعد استشهاد عمر الفاروق كان هذا المصحف محفوظًا لدى أم المؤمنين السيدة حفصة، وقام عثمان رضى الله عنه بإعداد نسخ من هذا المصحف الصديقي، وأرسلها إلى أمصار وديار الدولة الإسلامية حتى تكون كتابة القرآن ونطقه وقراءته ماضية على نسق واحد ومستوى واحد، وألا يوجد فيها أي نوع من أنواع الاختلافات، أما ماسخو التاريخ الإِسلامي فقد أنكروا جميع هذه الحقائق البديهية وقاموا بترويج أفكار لا أساس لها من الصحة لمجرد أنهم من القائلين بالتحليل والنقد التاريخي في هذا الموضوع، وهدفهم المسبق بالطبع هنا هو أساسًا صد الناس عن كتاب الله، فإذا لم ينجحوا في هدفهم هذا فليعملوا بعد ذلك على ابتلاء الناس -على الأقل- بسوء الفهم، وبلبلة الأفكار، وغرس الشك والشبهات في أذهان المسلمين الأميين أو قليلي التعليم وإقناعهم بأن الكلام الإِلهي لم يكن محفوظًا ليصدوا الناس بذلك عن قبول الحق.

ص: 46

وهذا هو الواقع يشهد أنهم لم يستطيعوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فكل من يقرأ القرآن الكريم بذهن متفتح يرى نفسه مجبرًا على الاعتراف بأنه كلام من عند الله سواء اعترف بذلك أو لم يعترف.

تطور الدعوة الإسلامية في العهد المكي:

قدم ابن إسحاق وغيره من كتاب السيرة تحليلاً لتطور انتشار الإسلام في مكة المكرمة، وطبقًا لما أورده فإن المسلمين الأربعة الأوائل كانوا: السيدة خديجة بنت خويلد الأسدى، وأبا بكر الصديق التيمي، وزيد بن حارثة الكلبي، وعلي بن أبي طالب الهاشمي، وقد أثبت ابن إسحاق بعد ذلك قائمة تضمنت أسماء الخمسين الذين أسلموا في الدور الأول بالترتيب، وهم الذين شرفوا بالإسلام في بداية الدعوة الإسلامية، وطبقًا لما أوردته المصادر، فقد انتشر الإسلام خارج مكة نتيجة لجهوده صلى الله عليه وسلم وصحابته من المبلغين، وبدأت القبائل وأفرادها الذين يقيمون قريبًا من مكة تفد عليها، كما بدأ نشر الإِسلام في المناطق المختلفة بفضل جهود المبلغين الذين ينتمون إلى تلك المناطق ذاتها وهكذا قام المبلغون المحليون بنشاط مشهود داخل مناطقهم في سبيل نشر الإسلام.

ولو قمنا بتحليل الوضع القبلي والأسرى والاجتماعي وبخاصة للسابقين الأولين من مسلمي مكة لوجدنا أنفسنا أمام حقيقة واضحة تجلت في أنه كان من بينهم أناس من جميع طبقات المجتمع المكي، ومن بينهم أفراد ينتمون إلى أغنياء مكة المكرمة ورؤسائها، ومع أن عددهم كان قليلاً نسبيًا فإن أكثرهم كان من شباب قريش الذين كانوا ينتمون إلى أشراف بطون قريش. وفي مقابل هذا دخل في الإسلام بعض الفقراء وكان معظمهم من الموالي والغلمان.

ومن العجيب أن ينادي بعض المؤرخين المغرضين بأن جميع المسلمين الأوائل كانوا ينتمون إلى طبقات فقيرة معوزة.

ص: 47

ومن العجيب أيضًا أن يقبل بعض المؤرخين المسلمين هذا الرأي القائم على التحليل الوهمي والبعيد كل البعد عن الواقع التاريخي، بل بدأوا يضيفون قولهم: إن من قبلوا دعوة الأنبياء وفي البداية كانوا هم الضعفاء الفقراء وهذا يصدق على الأنبياء السابقين إلى حد ما كما يتضح من بعض آيات القرآن الكريم، مثلَما يصدق أيضًا من خلال مصادرنا حين تشير بعض الروايات والتعليقات العامة إلى أن المسلمين الأوائل كانوا ينتمون إلى طبقات ضعيفة، ولكن هذا التحليل غير صحيح على إطلاقه.

والحقيقة أن الذين قدموا نظرية أن المسلمين الأوائل كانوا ينتمون إلى طبقات ضعيفة معدمة، كانوا يرمون من وراء ذلك إلى هدف آخر، وكانوا يريدون الخروج بنتيجة منطقية عن طريق هذا الهدف البعيد، وقد وصلوا إلى مرامهم فيما بعد وتمثل هذا في أنه لما كان مسلمو العهد المكي فقراء معدمين من هنا اضطروا إلى الهجرة من عالم الفقر هذا إلى المدينة المنورة، حيث كانت الحالة الاقتصادية هناك تختلف عما كانوا عليه قبلاً في مكة، ولهذا تحمل المهاجرون المسلمون مشقة الهجرة الشديدة وقد حاول هؤلاء المؤرخون أن يثبتوا في الأذهان أن نظرة هؤلاء المسلمين الأوائل كانت مُنْصَبّة على الوصول إلى حالة من الرخاء الاقتصادي تخرجهم مما كانوا فيه من فقر وعسر. وهكذا قالوا بأن المسلمين، طبقًا لعادات العرب ودستورهم، بدأوا سلسلة من الإغارة والهجوم على القوافل التجارية والقرى القريبة ونتيجة لهذا الهجوم وهذه الإِغارة بدأت سلسلة الغزوات والسرايا بين المسلمين وغير المسلمين.

ولم يفهم المؤرخون المسلمون ما تضمره هذه الخطط والأهداف الخطرة بعيدة المدى للمؤرخين أعداء الإسلام والكائدين له، ولهذا أخذوا يحللون ويدرسون أقوال هؤلاء المؤرخين ثم كان من المستلزمات الحتمية لدخول تأثيرات غير إسلامية على المسلمين، أن اعتبر المسلمون الفقر والفاقة أمورًا

ص: 48

قريبة من الروح الإسلامية، بينما الغنى والثروة، إن لم يكونا ضد الإسلام، إلا أنهما منافيان للتقوى والورع -على الأقل- ومن هنا قبلوا هذه النظرية التي روجها المؤرخون المغرضون بينما هي نظرية خاطئة تمامًا من الناحية التاريخية. فالإسلام ليس ضد الغنى، والحضارة الإسلامية ليست حضارة الفقر والفقراء!!!

معارضة الإِسلام:

كما أن رصد سلوك القبائل والأسر المختلفة في مكة تجاه الإسلام كان رصدًا غير تاريخي وغير دقيق وخاليًا من العمق في أساس هذا الأمر، بل كان قائمًا على عنصر العصبية القبلية والفخر الذاتي، وقد ذكر المؤرخون المعارضون لبني أمية أن بني أمية كانوا أكثر الناس معارضة للإِسلام لأنهم كانوا المنافسين التقليديين لبني هاشم، وقد خدع بعض مؤرخينا المسلمين بهذه النظرية.

ومن ناحية أخرى عرض بعض المستشرقين لنظرية عجيبة شيقة لكنها مضللة، وتقول هذه النظرية إن بني هاشم كانوا من الناحية الاقتصادية ضعفاء ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قام بحركته الدينية ضد أكابر تجار مكة المكرمة فإن بني هاشم ساندته وعضدته، وهاتان النظريتان خاطئتان بصورة قاطعة، وقد رُوِّجتا من أجل تشويه التاريخ الإسلامي عن طريق خطط مقصودة متعمدة.

أما بالنسبة لقضية معارضة بني أمية للإسلام فهي من وجهة النظر التاريخية خطأ مؤكد، وذلك لأن من بين المسلمين السابقين الأوائل أفرادًا عديدين ينتمون إلى فروع بني أمية المختلفة، وفي العهد المكي قبل عدد من أفراد بني أمية الإسلام، من بينهم عثمان بن عفان الأموي، وخالد بن العاص وأخوه عمرو، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعدد آخر.

ص: 49

أما فيما يتعلق بمساندة بني هاشم للدعوة، فمن المعروف أن بعض الأفراد قاموا بالمساندة بينما البعض الآخر بالمعارضة، وأكثرهم أعرض عن قبول الإسلام، ويبرز من بين المعارضين أبو لهب بن عبد المطلب، وسفيان بن الحارث، ومن بين من قبل الإسلام علي بن أبي طالب وأخوه جعفر، فضلاً عن عدة أشخاص آخرين.

أما فيما يتعلق بمساندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان لمحبة أبي طالب والعصبية القبلية دورهما وأثرهما إذ إن أي قبيلة في المجتمع المكي لم تكن لتترك أحد أفرادها بدون حماية أو رعاية وإلا أصابها العار، ومنعت العزة والفخار. وهكذا فإن مساندة أبي طالب لم تكن مساندة للإسلام أو المسلمين وإنما كانت لأحد أفراد القبيلة أي محمد بن عبد الله

أي لمحض العصبية القبلية والحب الشخصي وليس لمبدأ الإسلام!!

ومن هذا المنطلق يجب أن نلاحظ أن معارضة الإسلام أو مساندته لم تكن قائمة على أسس قبلية، إذ إن أعظم نجاح حققته الحركة الإِسلامية أنها ضمَّت بداخلها جميع أفراد القبائل والأسر منذ بداية الدعوة، فمن ساند الإِسلام ودافع عنه دافع عنه لأنه هو الإِسلام، الدين الحق سواء كان قد فهمه بطريقة جيدة أو لم يفهم ما بداخل الدين من أمور عقدية أو اجتماعية أو سياسية، إلا أنه بالضرورة تأثر بتعليماته وعقائده الأساسية.

هذا بينما يقف الذي عارض الإِسلام إنما عارضه وخالفه لأن الإِسلام دين ومذهب سواء كان هذا في جانب مصلحته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أم لا.

ومن الممكن أن يكون البعض قد عارض الإِسلام بناء على عصبية قبلية، كما تصادفنا رواية في حق أبي جهل المخزومي، إلا أن أية قبيلة أو أسرة لم تخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجرد أنه كان بن بني هاشم أو من قريش. لأنه إن خالف

ص: 50

أخٌ محمدًا فإن أخًا آخر له يقوم بالدفاع عن محمد وحمايته بل وافتدائه. مثلما هو الحال بالنسبة لأخي أبي جهل المخزومي لأمه عياش بن أبي ربيعة المخزومى الذى أسلم، ومن بني مخزوم أيضًا أعلن الأرقم بن أبي الأرقم ومعه عدد آخر الإسلام وكان من بين المسلمين الأوائل.

والأصل أن ما حدث بين الأسر من فرقة إنما كان سببه إعلان بعض الأفراد من الأسرة الواحدة لإِسلامهم، فكان الابن مسلما والأب كافرًا أو العكس، أو يصبح الزوج مسلمًا وتصر الزوجة على البقاء في الكفر أو العكس، وقد يكون السيد كافرًا وغلامه يعلن الإِسلام أو العكس، ولقد كانت شكاوى شيوخ وأكابر مكة -الذين عاشوا على التقاليد القديمة والمثل العتيقة- من الإسلام قائمة على أن الإسلام أظهر فيهم خللاً اجتماعيًا، فهو يفرق بين الدم والدم أي بين أفراد الأسرة الواحدة. ولهذا فالنظرية القائلة بأن بني أمية كانوا من أكثر الناس مخالفة للإِسلام قبل إسلامهم في النهاية نظرية لا تؤيدها أدلة قوية بل هي نظرية باطلة، ولئن كان أبو سفيان قد قاد كثيرًا من المعارك ضد الإِسلام -قبل إسلامه- فلم يكن ذلك لعصبية قبلية، بل كانت قيادة أبي سفيان لجيش مكة في جميع معارك قريش بعد غزوة بدر لأنه كان قائدًا كبيرًا لقريش عامة وليس كفرد من أفراد بني أمية، أو لأنه معارض للإِسلام بصفة قبلية.

لقد كان وضعا فرضه عليه منصبه؛ إذ كان يتولى مسئولية القيادة داخل أشراف قريش لكفاءته الشخصية وكان جيشه مكونًا من سائر قريش الذين لم يؤمنوا

!!

تعذيب المسلمين:

حاول المستشرقون من ناحية أخرى مسخ باب مضىء في التاريخ الإِسلامي يتعلق بالتعذيب الذي تعرض له مسلمو مكة وذلك حتى يروج هؤلاء

ص: 51

المستشرقون لمفاسدهم وخططهم الخبيثة الرامية إلى بلبلة أفكار المسلمين، فقد قام عدد منهم يدعي أن الإيذاء الذي وقع بالمسلمين من جانب قريش إنما كان قاصرًا على السخرية والتعريض والهجوم بالكلام والشتائم، وأن التعذيب الجسماني كان شيئًا لا يذكر، والروايات التي تصادفنا فيما يتعلق بتعذيب المسلمين في المصادر الإسلامية، توضح لنا مبالغة المؤرخين المسلمين، مما دفع المؤرخين الآخرين إلى رفض مثل هذه الروايات بسبب تلك المبالغة.

والحقيقة أن إيذاء مسلمي مكة على يد قريش يُعد بابًا مضيئًا في التاريخ الإسلامي، وهو دليل ثابت على غيرتنا وحميتنا الدينية، ويعرف من الروايات الموثقة أن عددًا من الصحابة وبخاصة الضعفاء منهم كانوا بلا حول ولا قوة وقد تعرضوا لظلم يحطم الصخر ويهز الجبال، وقد مرّ بمراحل التعذيب تلك صحابة كرام من مثل بلال بن رباح الحبشي، وخباب بن الأرت التيمي، وعمار بن ياسر، ووالديه ياسر وسمية، وعدد من الغلمان والإماء من مثل زنيرة، وأم عبيس وغيرهما تعرض بعضهم لحرّ الظهيرة. وقد وضعوا على صدورهم الأحجار كاللظى. وتعرض بعضهم للكي بالنار في مواضع عديدة في أجسامهم، وتعرض بعضهم للضرب على الرأس حتى تفجرت الدماء منها، هذا بالنسبة لأولئك الذين لم يكن لهم حول ولا قوة.

هذا كما تعرض رجال الأسر المعروفة للإيذاء والتعذيب على يد أقاربهم وذويهم. وممن تعرض للتعذيب عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعيد ابن يزيد العدوي، وعدد كبير من السادة والسيدات الذين مروا بمراحل عديدة من العذاب.

والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يسلم من أنواع الإيذاء والتعرض لشخصه الكريم وأكبر دليل على الظلم الذي حاق بمسلمي العهد المكي من مظالم قريش هو أن أكثر من مائة مسلم تركوا وطنهم وديارهم للنجاة من قهر قريش وظلمهم،

ص: 52

ولجأوا إلى الحبشة واتخذوها مهجرًا لهم.

ثم إن ما مرّ به الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من جراء محاصرة شعب بني هاشم ومقاطعتهم لهم مقاطعة اجتماعية إنما كانت مأساة استمرت مدة طويلة، وهى إن دلت فإنما تدل على قدرة المسلمين على الصبر وضبط النفس.

وفي سفر الطائف أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم قدرته على الصبر حين أخذ المشركون يقذفونه بالحجارة حتى نزل الدم من رأسه المبارك.

هذه التضحيات هي باب يضىء على درب الحركة الإسلامية، وهي مأثرة من التضحيات التي قدمها المسلمون الذين رفعوا لواء الإسلام، ولا يعرف حق هذه التضحيات غير خالق العالم جل وعلا قال الله تعالى في سورة التوبة آية 100:((وَالسَّابِقُونَ الْأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَبَّعَوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) صدق الله العظيم.

إلا أن أعداء الإِسلام من المؤرخين يحتمون داخل خيمة التحقيق والتحليل، فيحاولون الإقلال من قيمة هذه التضحيات التي لا مثيل لها، ويرجعونها إلى مجرد عصبية دينية أو قبلية والمؤرخون النصارى إنما يقللون -بطريقة شعورية أو غير شعورية- من تضحيات مسلمى العهد المكي عن قصد أو عن غير قصد حتى يمكنهم إيجاد مبرر لفرار بل وغدر حواريي المسيح عليه السلام وقت الشدة والمحنة، أما المؤلفون اليهود فهم عن طريق هذا يريدون توجيه الأنظار بعيدًا عما حدث من حركات غير أخلاقية في صحراء سيناء من المتآمرين ومثيري الفتن على سيدنا موسى عليه السلام.

وطبقًا للروايات الإِسلامية، وطبقًا للترتيب والتطور التاريخي للأحداث فإنه يثبت أيضًا أن قريشًا في مكة قاموا بتضييق الخناق، وحصار المسلمين فضيقوا على المسلمين سبل الحياة حتى اضطروا في النهاية إلى الهجرة من أرضهم

ص: 53

التي أَلِفوها ومن وطنهم الذي عاشوا فيه ليهاجروا بلا متاع إلى أرض أخرى ومدينة أخرى لم يألفوا العيش فيها.

وأهم أسباب هجرة المسلمين إلى المدينة إنما تتلخص في إيذاء قريش. هذا بينما ترى طبقة من المستشرقين أن الهجرة كانت للظلم الذي تعرض له المسلمون ويريد هؤلاء المستشرقون أن يثبتوا أن معارضة قريش لرسول الله وخلافها معه إنما كان نتيجة للأسباب الاقتصادية أكثر من كونه خلافًا لأسباب دينية.

وتهدف هذه الطبقة من المستشرقين إلى أن تجعل الحركة الإِسلامية حركة قائمة على ردود فعل اقتصادية ومعاشية، وأن تطعن في مكانة الحركة الدينية أو تجعل العامل الديني عاملاً ثانويًا.

إلا أن الظلم الأكثر من هذا قام به أولئك الناس الذين قالوا في نفس واحد، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قائدًا وزعيمًا دينيًا وأقروا أن الحركة الإِسلامية كانت حركة اقتصادية واجتماعية أكثر من كونها حركة دينية، وصحيح أن حركته حملت بداخلها عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية. وكان هذا أمرًا ضروريًا، إلا أنها كانت ذات توعية دينية مذهبية بالمقام الأول. أما الجوانب الأخرى كلها فتندرج تحت هذه النوعية وتتفرع منها. وبدون الدين الإِسلامي لم تكن لها مكانة تذكر، ولنقل إنها كانت ثمارًا للحركة الدينية فالأساس كان في الدين وفي الدين فقط.

قصة إله.!!

راج بين المستشرقين موضوع عجيب، ويتعلق بقصه إله. وقد وردت قصة إله هذه في المصادر الإِسلامية كما يلي:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في حرم الكعبة الآيات (19/ 20)(1) من

(1) يقول تبارك وتعالى: ((أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الْثَّالِثَةَ الأُخْرَى)). المترجم

ص: 54

سورة النجم. ثم قام وسجد لله تعالى سجدة شكر فقام شيطان وقرأ معه فقرة شيطانية خلطها هكذا " تلك الغرانيق وإن شفاعتهن لترجى " وتأثر بها الكفار فسجدوا إذ وجدوا أن هذا يعني وجود سبيل للمصالحة بين الإِسلام وبين مذاهبهم القديمة. وحين انتشر هذا الخبر بين المسلمين، بل في نواحي مكة، أعلن أشراف مكة قبولهم الإِسلام.

ويتضح أن المحدثين وناقدي الروايات يرون أن هذا الأمر وبخاصة الفقرة الشيطانية وقصة المزج في الآيات القرآنية. كلها روايات غير صحيحة وموضوعة لا أساس لها من الصحة إلا أن المستشرقين بما لهم من طباع ظالمة ونظرة تحليلية خبيثة يقولون إن الفقرتين لم يأت بهما أىّ شيطان بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بمزجهما عمدًا وقصدًا حتى يضع شياطينهم في مكانة قياسية، فأضافهم على نظام العبادة الإِسلامي فقد ضاق بمعارضتهم له. وأصبح على استعداد لأن يجرى معهم مصالحة دينية (نعوذ بالله)!!

إن أي شخص طالع الإِسلام مطالعة صحيحة وهو يحمل حِسًّا وشعورًا تاريخيًا سليمًا يعرف جيدًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أبدًا على استعداد لإِجراء أية مصالحة من أدنى درجة مع أحد على أساس أي من العقائد أو الأصول.

فما بالنا بعقيدة التوحيد التي هي أصل الأصول في الإِسلام والتي هي الأساس الرئيسي لدعوته وحركته. وإذا افترضنا -وهو محال- التسليم بدعوى المستشرقين هذه فإن هذا يعني إجراء مصالحة وصداقة مع الشرك الصريح، فأية ضرورة تبْقى الآن للإِسلام؟!!

لقد كانت عداوة قريش مكة والمشركين الآخرين من العرب للإِسلام قائمة على هذا الأمر، وهو أن الإِسلام لا يدعهم يشركون مع الله أحدًا غيره، وأن يعترفوا بربوبية واحدة هي ربوبية أحكم الحاكمين وحاكميته المطلقة، وأن ينفذوا ويطيعوا أحكامه جلت قدرته.

ص: 55