المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاتجاهات الجديدة في كتابة السيرة والتاريخ - الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي

[محمد مظهر صديقي]

الفصل: ‌الاتجاهات الجديدة في كتابة السيرة والتاريخ

‌الاتجاهات الجديدة في كتابة السيرة والتاريخ

لقد بدأ اتجاه جديد لكتابة السيرة والتاريخ الإسلامي في العصر الحاضر.

وهذا الاتجاه يقوم على مطالعة التاريخ الإسلامي طبقًا لنظرية التفسير الاجتماعي والاقتصادي للتاريخ، وهي نظرية حديثة. وهكذا بدأ العديد من المؤلفين والمؤرخين، من بينهم مسلمون، بتتبع العوامل والمحركات والدوافع الاجتماعية والاقتصادية أثناء مطالعاتهم لجوانب التاريخ الإسلامي، وقام البعض منهم يضع نصب عينيه -سلفًا- نظرية الصراع الطبقي والجدلي للاشتراكية، والنظرية القائلة بالتفسير المادي للتاريخ، وهكذا صاغوا التاريخ الإسلامي على أساس أنه تاريخ للصراع الطبقي، وهكذا يرى هؤلاء المؤرخون الاشتراكيون أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية هي المسئولة عن حركة التاريخ الإسلامي، وليس العوامل السياسية أو الدينية!!

وطبقًا لنظريتهم هذه فلا وجود لتأثير العوامل الدينية والأخلاقية في التاريخ، ويمكن أن نرى النتائج الخطيرة، والتأثير العميق للأفكار المتعلقة بالنظريات الاشتراكية والعوامل الاقتصادية لدى المستشرق الألماني هوبرت كرايم ( Hubert Crime) ود. س. مارغليوث D.S.Margoliatt والمستشرق برنس لون كتان ( Prince Leen Caetain) وبرنارد لويس ( Bernard Lewis) ومكسيم رودنسن ( Maxime Rodinson) . هذا بينما نرى (مونتجمري وات) يركز كثيرًا على وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية وذلك من خلال كتاباته التاريخية.

ومن بين المؤرخين المسلمين نرى عبد الحي شعبان الذي يمثل الأسلوب الاشتراكي في الكتابة ونرى الكاتب اليساري المصري أحمد عباس صالح،

ص: 18

ورصيفه محمود أمين العالم، وأخيرًا محمود إسماعيل وعبد المنعم ماجد بدرجة كبيرة هذا بينما يمثل وجهة النظر الجديدة أو الاتجاه الجديد المسمى بالاتجاه الطبي، أو اتجاه علم الأمراض Pathological كل من اسبرنجر Sprenger، وهنري لامنس Henry Lammens، وتور اندريه Tor Andre وطبقًا لنظرياتهم قام هؤلاء المستشرقون فجنوا ثمرات طيبة لخدمة الاستشراق في باب سيرة الرسول وفي التاريخ الإسلامي.

المؤرخون المغرضون والانتهازيون:

إلا أن أخطر طبقة من هؤلاء هم أولئك الذين يجرحون في التاريخ الإِسلامي ويطعنون فيه، وذلك بما لديهم من طبع سيىء، ومكر وخبث ودهاء، فأدعياء علم التاريخ من المؤرخين والمؤلفين، يقومون بالبحث في رواياتنا ومصادرنا، فينتقون من بينها الروايات والشروحات التي تخدم أهدافهم وأغراضهم الرامية إلى تصديق المزاعم والأفكار التي يعتقدونها سلفًا ويؤمنون بها مسبقًا، وبالتالي، وعلى بعض المواد والمعلومات المنتقاة والمخلخلة أقاموا بنيان كتاباتهم التاريخية الجاهلة من أولها إلى آخرها، من أول لبنةٍ فيها حتى آخر طابق فيها.

ومن الغريب أن هؤلاء الأدعياء الماسخين للتاريخ حين لا يجدون معلومات أو روايات تؤيد ادعاءاتهم، يقومون بإطلاق العنان لخيالاتهم. فيثبتون أحداثًا ووقائع تاريخية بعيدة كل البعد عن الواقع، وذلك من خلال مطالعاتهم لما بين السطور، وعلى كل حال فإن اتجاههم هذا لا يقوم فقط على الافتقار إلى التمييز بين الصحيح والخطأ من المصادر والمراجع، أو بين المسند والضعيف من الأخبار، بل هم يقبلون الروايات الخاطئة والضعيفة، ويصرفون النظر عن الروايات الصحيحة.

وهذه الطبقة من المؤرخين في معظمها إنما يقوم أصحابها بعرض الروايات

ص: 19

التاريخية بطريقة معوجة معكوسة ملتوية، ليخرجوا من وراء ذلك بنتائج تحقق هدفهم، رغم أنها من الناحية التاريخية خاطئة تمامًا.

وهناك جريمة أخرى يرتكبها هؤلاء يمكن أن نلاحظها في كتاباتهم وهي أنهم لا يوثقون بياناتهم وتفسيراتهم بذكر مصادر معتمدة لأية رواية. وذلك لأنها قائمة أساسًا على مزاعمهم وعلى أهوائهم وميولهم، ولا وجود ألبتة لمصادر تؤيد مزاعمهم وافتراءاتهم، وإذا ما ذكروا مصادر تؤيد مزاعمهم فهي في معظمها مصادر مشبوهة أو مرفوضة!!

ومن أمثال هؤلاء المؤرخين نذكر بالهند " المؤرخ " البروفيسر (خورشيد أحمد فاروق) فكتاباته ما هي إلا مجموعة من الروايات المخلوطة من هنا وهناك التي تنتهي بالضرورة إلى التفسيرات الخاطئة والنتائج الممسوخة.

ونذكر من المؤرخين العرب (جورجي زيدان وفيليب حتى) وآخرين يندرجون تحت هذه الطبقة، ومع أنهم لا يندرجون تحت تصنيف المؤرخين المستشرقين إلا أنه لا فرق بينهم وبين من يدعون التاريخ والتأليف من المستشرقين من ناحية المحركات والوسائل والأهداف، فهم يشتركون معًا فيها للوصول إلى هدف واحد، وهو تشويه حقيقة التاريخ الإسلامي. ولا بد -لكى تتحقق الأهداف- من أن تأخذ طريقة كتابة هذه الطبقة وأسلوب استدلالها الطابع الذي يميز طريقة كتابة العلماء، مما يُرهب القارىء، ويؤثر فيه بحيث لا يتمكن من إدراك ما وراء كتاباتهم هذه، ولا يتمكن من فهم بياناتهم الخاطئة وتفسيراتهم المسقطة على الوقائع والموجهة لأهداف محددة.

المؤرخون المنحازون

يندرج تحت طبقة المؤرخين المنحازين بعض العلماء والمفكرين المسلمين الجدد ممن قاموا ببحث فترة ما من فترات التاريخ الإِسلامي، أو عصر حكم

ص: 20

من التاريخ الإسلامي بحثًا تاريخيًّا تفصيليًّا، وهؤلاء ممتازون وبارعون فيما يتعلق بتبحرهم العلمى، وصلابتهم الدينية وفكرهم العالي ومطالعتهم الواسعة، ومعلوماتهم الوفيرة وقدرتهم على النقد والتحليل. كما أن دوافعهم ونواياهم ليست خالصة لوجه الله. وهؤلاء أمامهم مشكلتان يعجزون حقيقة عن علاجهما، المشكلة الأولى هي أنهم رغم ما لديهم من علم وفضل يفتقرون إلى الإدراك التاريخي السليم. وذلك لأن تربيتهم ونشأتهم العلمية لم تكن لتؤهلهم ليكونوا مؤرخين.

والمشكلة الثانية هي أن هؤلاء افتقروا إلى أصالة المنهج وعمق التفكير فى كتاباتهم التاريخية من ناحية، ومن ناحية أخرى فهم يقيمون بعض نظرياتهم بناء على أفكارهم وميولهم ومزاعمهم التي اعتنقوها وآمنوا بها قبلاً، ولم يتمكن هؤلاء من التخلص من هذه الأمور حتى وقت كتاباتهم لكتبهم وأبحاثهم. بل اعتبروا كتاباتهم القائمة على الأفكار والمزاعم التي يعتنقونها هي التفسير الصحيح للقيم الإسلامية والتاريخ الإسلامي.

وكانت النتيجة المنطقية لهذا الأمر، أنهم يشاهدون مجرد جانب واحد من الصورة، فيعرضون هذا الجانب الواحد فقط للآخرين، ومن الواضح أن يجد هؤلاء من يميل إلى نظرياتهم تلك، وقد أدى بهم سلوكهم المنحاز هذا إلى قبولهم للأخبار والروايات التي تتفق مع نظرياتهم وأفكارهم، ثم يغفلون أو يتغافلون تمامًا عن جميع الروايات والأخبار التي تتعارض مع خططهم المحددة أو يمرون عليها مرورًا سريعًا. إلا أن السبب الأهم لسلوكهم هذا هو جهلهم بالمعلومات الحديثة، مما نتج عنه ورود تفسيراتهم وشروحاتهم الخاصة بالتاريخ الإسلامي منحازة وتعالج جانبًا واحدًا، كما جاءت ناقصة غير مكتملة، وهناك أمثلة على هؤلاء المؤرخين ممن كتبوا بالأردية في شبه القارة الهندية الباكستانية ْوممن كتبوا بالعربية في مصر ولبنان. وكنموذج لقد بحث بعضهم موضوع

ص: 21

تطور وسقوط نظام الخلافة الإسلامية، وقدم نظريته التي يؤمن بها، ودافع عنها دون عرض لوجهات النظر الأخرى.

اتجاه خطير

وهناك اتجاه فكرى خاطىء غير إسلامي ترك آثارًا سلبية خطيرة على التاريخ الإسلامي، وهو الاتجاه المتمثل في نظرية التفريق بين الدنيا والدين، أو بين الدين والدولة، ومن المسلم به أنه لا مجال -أىّ مجال- لهذه النظرية في المبادىء الإسلامية، فهذه النظرية من نتاج الرهبانية النصرانية، وقد دخلت الإسلام عن طريق التصوف الذي خضع بدوره إلى تأثره بالفلسفات المسيحية والبوذية والهندوكية، فطريقة الزهد والتنسك في الحياة في القرون الأولى إنما كانت ردّ فعل للمادية الشديدة وحب الدنيا الذي طغى وسيطر بشدة على بعض طبقات المجتمع الإسلامي.

فقد قام الزهاد والنساك المسلمون بخوض معركة الدفاع عن الدين حتى يقيموا التوازن بين الدين والدنيا، وهو الأمر الذي يمثل أساس الإسلام. وكان هذا الأمر بذاته هو هدف التصوف الإسلامي في البداية إلا أنه حين بدأت عناصر غير إسلامية تدخل فيه كانت النتيجة التي لمسناها هي التفريق بين الدين والدنيا، فانكمش الدين ليصبح مجموعة من الرسوم قائمة على بعض العبادات، وأصبحت السياسة والتجارة والزراعة والحكم والخدمات العسكرية كلها من أمور الدنيا التي يصبح الارتباط بها ضروريًا للنجاة الأخروية والفلاح الدنيوى. ولقد قام بعض الخلفاء المسلمين والسلاطين وبعض الولاة والحكام فأوضحوا أن السياسات الخاطئة، والأعمال غير الصحيحة ليست من الإسلام، وأدوا بلا شك فريضة النهي عن المنكر وأقاموا الأصول الإسلامية، إلا أنهم من جانب آخر لم يحاولوا محاولة جادة الوقوف في وجه الاتجاهات اللا إسلامية، فلم يؤدوا مبدأ " الأمر بالمعروف " بل اتجهوا بدلاً من هذا إلى

ص: 22

الخانقاهات والتكايا، ولم يكتفوا بهذا بل نصحوا الآخرين أيضًا بالابتعاد عن الحكم والسياسة، مما نتج عنه تكاثر عدد الأشرار ورجال السوء داخل ديوان الحكم، ويومًا بعد يوم أصبحت مناصب السياسة والسلطة غير إسلامية.

ومن ناحية أخرى فإن النزوع إلى السلبية وعدم التعاون مع الحكومة لم ينتشر فقط بين الناس، بل أصبحت فكرة تقويم الحكومة فكرة تتعارض مع الإسلام. وكذلك أصبح التعاون والاشتراك مع الحكومة اتجاهًا غير إسلامى.

وهكذا لم يعد علماؤنا والرجال الصالحون فينا والغالبية العظمى من عامة الناس معارضين فقط لحكومة زمانهم أو على الأقل غير متعاونين معها، بل أصبحوا أدوات لمحاولة إضعاف هيئات الحكومة الإسلامية وسياستها، وكان أكثرهم السبب في الضعف السياسي، وتطور الهيئات السياسية بطريقة غير طبيعية، أو زوالها من البلاد الإسلامية.

وليس من سبب حقيقي لهذا السلوك سوى هذه السلبية لهؤلاء العلماء والمتصوفة وعامة الناس الرافضين للإسهام في صناعة التقدم، وللأسف فقد أخذ هذا الاتجاه الخطير المتحيز له المؤرخون اتجاهًا وسلوكًا عامًّا، بعد أن مسح بجرة قلم جميع خدمات الخلفاء والحكام المسلمين.

وقد ظهر هذا السلوك وهذا الاتجاه بوضوح تام في التاريخ الإسلامي بعيد النصف الثاني من القرن الأول، ولم يكن هناك فرق في هذا بين مؤرخينا وبين المؤرخين الآخرين من غير أهلنا، وهكذا جاءت جهود العلماء الانتهازيين ونظائرهم من المفكرين والمؤرخين ناقصة وخاطئة.

وقد استغلوا الحيل الشرعية والخدع الفقهية، واستفادوا منها لتحقيق أهدافهم، فجعلوا يشْرحُونها بطرق عكسية أحيانًا وملتوية أحيانًا أخرى، وهكذا أخطأوا أيضًا في كتابة التاريخ، وبناء على مجموعة من الأعمال أو

ص: 23

الإجراءات اللا إسلامية أو اللا أخلاقية جعلوا جميع إدارات الحكومة وإدارات الحاكم كلها غير إسلامية. وكان الواجب عليهم أن يتبعوا الأسلوب الصحيح، فيثبتوا خطأ ما هو خطأ، وينقدوه بموضوعية، ثم يبرزوا ويؤيدوا ما هو صحيح، وذلك لأن عمل المؤرخ في الحقيقة إنما هو تنقيح الروايات وتحليل الأحداث والوقائع التاريخية، وعليه فإن إصدار الفتاوى والأحكام الإجمالية العامة يخرج تمامًا وبأي حال من الأحوال عن دائرة عمله!!

ونحن في الصفحات المختصرة التالية سنقوم بتحليل معظم الهجمات المغرضة والحملات الفاسدة التي عممها أصحابها على مختلف عصور التاريخ الإسلامي وهنا يظهر سؤال هام وهو: ما هى عصور التاريخ الإسلامي؟

إن عصور التاريخ الإسلامي تتضمن بلا شك العهد النبوي حين كان الإسلام في أوج قوته وعظمته الدينية والدنيوية. ولا شك أنه يتضمن أيضًا زمان الخلافة الرشيدة، حين كانت أمور الخلافة تمضي طبقًا للقرآن الكريم والسنة النبوية، ولكن هل يتضمن التاريخ الإسلامي أيضًا عصور الخلافة الأموية والعباسية، حين تسربت بعض العناصر اللا إسلامية في الحكومة والسياسة؟ وما هو الاسم الذي يطلق على مختلف عهود الحكومات الإسلامية في زمان انحطاط الخلافة العباسية؟

إننا سوف نجيب على هذا السؤال بعد التحليل التاريخي لكل حكومة وخلافة، وبطريقة أصولية، ولا شك أنه يمكن الإجابة على هذا السؤال بطريقة أصولية، وهو أنه لا يوجد شكل خاص أو إدارة معينة للحكومة والسياسة في الإسلام. والحكومة والسلطة التي مضت طبقًا للأصول الإسلامية هى حكومة إسلامية وسلطة إسلامية. وتتصف بإسلاميتها طبقًا للقدر الذي مضت عليه طبقًا لهذه الأصول، وبقدر ما تتعارض سياستها مع هذه الأصول بقدر ما

ص: 24

تكون غير إسلامية، ولقد قام علماؤنا ومفكرونا ومؤرخونا بوضع الحكومات الإسلامية منذ زمان العهد النبوي وحتى زماننا على محك تلك الأصول، فأصدروا قراراتهم بإسلامية هذه الحكومة وعدم إسلامية تلك الحكومة. ولم يستطع واحد من المؤرخين المنصفين أن ينفي إسلامية الدولة الأموية أو الدولة العباسية أو الدولة الأيوبية؟ أو المملوكية أو دولة العثمانيين -على الأقل من ناحية الأصول- فضلاً عن خضوع خلايا كثيرة في الحياة للنظام الإسلامي في هذه الدول العظمى .. وبالتالي فهي داخلة -بكل المقاييس- في عصور التاريخ الإسلامي .. حتى وإن اختلفنا مع بعض صور التطبيق فيها كما هي سنة الله في الحياة البشرية!!

وعلى كل حال فنحن -من ناحية الهجمات المغرضة- سوف نقتصر في عرضنا هذا على تحليل العهد النبوي وعهد الخلافة الرشيدة، إذ إن الغارات الفكرية المغرضة على التاريخ الإسلامي بأكمله أمر يحتاج إلى مجلد ضخم!!

ص: 25

العهد النبوي (571 - 632/ - 11 هـ)

على الرغم من أن كتابة السيرة تعد طبقًا للأصول الحديثة جزءًا من التاريخ إلا أنها لا تمثل بحد ذاتها تاريخًا، فالسيرة النبوية تستثنى من هذه الكلية؛ ذلك لأن السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي لازم وملزوم، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما الآخر

يمكن أن يكتب شىء عن الجزء الخاص بالفترة السابقة للبعثة في السيرة النبوية، إلا أنه من ناحية أخرى يعد جزءًا من التاريخ الإسلامي، ذلك لأن هذا الجزء من السيرة لا يمكن فصله عن شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، رغم أنه يتضمن السنوات الأربعين الأولى قبل بعثته صلى الله عليه وسلم تلك التي تتضمن خلفية هامة وضرورة للكتابة عن الإسلام، وتجب مطالعتها لفهم التاريخ الإسلامي. هذا بالإضافة إلى أن عددًا من الكتاب المغرضين قد حاولوا النيل من هذا الجزء من السيرة النبوية لتحقيق أهدافهم الذميمة، ومن هنا وجب الرد عليهم، حتى يمكن كشف وجوه الحق حول سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يمكن الوقوف على حقيقة الدوافع والمحركات الكامنة وراء هذه الهجمات التي تركت آثارها على التاريخ الإسلامي، فيتم تداركها بطريقة صحيحة.

الاسم والنسب:

تتفق جميع مصادر التاريخ الإسلامي تقريبًا أن مولده صلى الله عليه وسلم كان في عام الفيل، وأنه سُمي بمحمد وأحمد، وطبقًا لقول ابن إسحاق فإن آمنة تلقت الإلهام بتسميته بالاسمين بنداء من هاتف غيبي، ورغم أن المؤرخين لا يعترفون بهذه الرواية الغيبية. لأنها ليست رواية تاريخية ثابتة، إلا أن الجميع يعترف بأن هذين الاسمين قد أطلقا عليه في النهاية، وتشهد الأحاديث النبوية والمصادر التاريخية بصحة هذه الحقيقة شهادة كاملة. ولم يكن إنكار المستشرقين وبعض

ص: 26

المؤرخين المحدثين الاعتراف بالسند التاريخي لهذين الاسمين راجعا لمجرد جهلهم وعداوتهم الشديدة، بل قاموا بتحوير اسمه الكريم مرة بعد مرة، وتجنبوا عمدًا وقصدًا ذكر اسمه صحيحًا على ألسنتهم.

وفي النهاية وفي العصر الحديث اضطر الجميع إلى الاعتراف بالحقيقة التاريخية؛ لأن إنكار هذه الحقيقة سوف يمزق ستار علميتهم وموضوعيتهم.

لقد ظل المستشرقون ومن مضوا في ركابهم من المؤرخين الآخرين يطعنون في حسب ونسب الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم فراحوا يحطون من قدر نسبه، ويقللون من قدر حسبه ويقولون بأنه من أسرة اجتماعية متواضعة، وقد قام مرجليوث ومن تبعه بوضع افتراضهم على هذا الزعم الباطل بأن والده المحترم (عبد الله) توفي قبل مولده صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كانت حالته المالية عليه الصلاة والسلام بعد يتمه غير طيبة، وبناء عليه اتجه صلى الله عليه وسلم في طفولته إلى احتراف رعى أغنام أهل مكة، وبخاصة عمه أبي طالب، وهذا في رأيهم دليل على تدني المستوى الاجتماعي، وقد أغفل جميع هؤلاء المؤلفين والمؤرخين الشواهد التاريخية التي تثبت أنه أحد أفراد أسرة بني هاشم، وهي من الأسر التي تتمتع بأشرف نسب، وكان لها شرف السيادة في الأشهر الحرم على قريش مكة طبقًا للأصول آنذاك، ومن هنا كان ينظر إليها نظرة إعزاز واحترام في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، وكان لبني هاشم شرف تحمل مسئولية السقاية بين أشراف قريش، وكل هذا لا يدل أبدًا على تدني المستوى الاجتماعي ولا على الضعف المالى كما زعم المؤرخون والمستشرقون. هذا بالإضافة إلى أنه قد اشتهر في العرب آنذاك أن يقوم أبناء الشرفاء والأحرار برعي ماشية الأسرة؛ لأن الرعي كان حرفتهم، وكان دليلاً على ثراء العديد من القبائل.

هذا وتبالغ بعض الروايات من مصادرنا ومراجعنا في أن بني هاشم كانت لها السيادة الكاملة في مكة المكرمة وبخاصة حتى موت عبد المطلب، وكان

ص: 27

جميع زعماء القبائل والشيوخ تحت إمرتهم، ومن بين من بالغ في الأمر فوقع في الخطأ مولانا شبلي النعمان، وبعض المؤرخين المسلمين، وقد رأي أنه بعد وفاة عبد المطلب خرجت السيادة القومية والحكومة من بني هاشم وتحولت إلى بني أمية والدليل على هذا هو أن قائد جيوش قريش في حرب " الفجار " كان من بني أمية، بينما الحقيقة هي أن السياسة المكية كانت قائمة أصلاً على أسس وأصول تحدد المسئوليات وتحدد الإشراف عليها، وطبقًا لهذه الأسس فقد كانت جميع بطون قريش تنال كل منها مسئولية معينة بصورة تتساوي فيها البطون جميعها، فإذا كانت السقاية في بني هاشم، فقد كانت الرفادة في بني نوفل، والقيادة في بني أمية، والحجابة في بني عبد الدار، وهكذا كانت هناك عشر مسئوليات تم تقسيمها على مختلف الأسر في قبيلة قريش في زمان قصي بن كلاب جد قريش الأكبر.

وتتضح هذه الحقيقة في جميع مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي مثل تاريخ مكة المكرمة للأزرقي (المتوفى 244 هـ/ 858 م) والفاكهي (المتوفى 272 هـ/ 885 - 886 م) وغيرهما.

المنافسة بين بني هاشم وبني أمية:

أثيرت قضية المنافسة بين بني هاشم وبني أمية، وأرادت بعض الروايات في مصادرنا أن تثبت أن هذه المنافسة بين هاتين الأسرتين - اللتين تنتميان إلى عمومة واحدة من رجلين عظيمين من بطن بني عبد مناف بدأت منذ عهد الجاهلية، واستمرت حتى وصلت إلى زمان هاشم وحرب بن أمية، بل صدرت بعض الروايات -التي لا يمكن تصديقها أو قبولها بحال من الأحوال- عن هذين الاثنين، وطبقًا لهذه الروايات فإن أصحابها كما يظهر يحاولون إثبات أن المنافسة التي جرت بين الاثنين هي بذاتها نفس المنافسة التي استمرت بينهما طوال فترات العهد الإسلامي، والتي جعلت بني أمية يواجهون

ص: 28

ويعارضون بني هاشم، بل جعلتم أعداء يناصبونهم العداء على الدوام، وهكذا قام بنو أمية -كما يدعى هؤلاء زورًا- بمعارضة الإسلام ونصبوا المؤامرات ضد الحكومة الإسلامية، وبعد أن نجحوا في خططهم تلك استولوا غصبًا على الحكم، وحين أصبحت السلطة في أيديهم أوقعوا الظلم والقهر ببني هاشم. كل هذه الاتهامات التي لو نزلت على جبل لحطمته، ملأ بها الرواة المغرضون والمؤرخون الذين لا يمتون للتأريخ بصلة روايات مصادرنا التاريخية.

إن أساس قضية المنافسة بين بني هاشم وبني أمية يجب أن ننظر إليها أصلاً في ضوء خلفية اختلافات الفتنة الكبرى، وهي الفتنة التي أدت إلى الأمر المفجع الذي أدى بدوره إلى شهادة ثالث الخلفاء الراشدين، فلم تكن هناك منافسة بصورة أساسية بين هاتين الأسرتين، لا في زمان الجاهلية، ولا في عهد الرسالة، ولا في زمان الخلافة الرشيدة بطوله. فكلتاهما ليستا فقط من أهم أعضاء بني عبد مناف بل بينهما صلة قرابة متينة لا تنفصم عراها أبدًا، وبينهما صلة من المحبة والانسجام لا تنقطع أوصالها بأي حال من الأحوال. فابن عبد المطلب بن هاشم أبو لهب، وابنتاه أم الحكم بيضاء وصفية، هؤلاء كانوا ينتسبون إلى أسرة بني أمية. كما أن صلة المصاهرة هذه ظلت قائمة في أسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أسرة عمه أبي طالب بن عبد المطلب أيضًا.

وهكذا كان بين عقيل بن أبي طالب الهاشمي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم علاقة زواج مع الأمويين: السيدة زينب، والسيدة رقية والسيدة أم كلثوم، وبعدها قام رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بالزواج من ابنة أبي سفيان السيدة أم حبيبة وظلت سلسلة المصاهرة والزواج مستمرة بين هاتين الأسرتين بل توطدت العلاقات أكثر فأكثر في زمان العهد الأموي. كما أنه لا يندر أن نجد أمثلة للزواج والمصاهرة في العهد العباسي.

ص: 29

وبالاضافة إلى صلة المصاهرة فإن رابطة العلاقات التجارية والاجتماعية بين الأسرتين كانت قوية واستمرت على هذا المنوال سواء كان ذلك في العهد الجاهلي أو في العهد الإسلامي، وكانت العلاقة بين أبي سفيان الأموي والعباس الهاشمي تتسم بالمحبة والمودة؛ إذ كانت علاقاتهما وثيقة ومتينة. وتحليل الصلات والعلاقات التي ربطت بين الأسرتين تحليلاً يشمل جميع جوانبها يدل على أن ما قيل عن منافسة غير ودية بينهما لا أساس له. وما ذكر في المصادر التاريخية يدلنا أيضًا على أن هذه الروايات قد صيغت أو تم " تلفيقها " فبولغ فيها، وجاءت هكذا بما حملته من مبالغة في مصادرنا التاريخية.

وهذه المحاولات ما هي أصلاً إلا صدى للميول العدائية لبني أمية، التي جعلت الرواة من أعداء بني أمية يسلكون هذا السبيل من أجل مسخ هذا العهد الأموي العظيم في التاريخ الإسلامي، بالإضافة إلى أن المؤرخين الجدد (من الماركسيين وغيرهم) ممن حاولوا تفسير التاريخ على أساس فكرة الصراع بين الطبقات وجدوا في تلك الروايات مأربهم فراحوا يصبغون التاريخ الإسلامي على أساس وجهة نظرهم الشيوعية ليجعلوه تاريخ صراع بين الطبقات!!

حياة الرسول - المرحلة الأولى:

قام بعض المؤرخين المسلمين المحدثين بتحوير بعض الوقائع البديهية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا يفسرونها تفسيرات حديثة ويشرحونها شرحًا جديدًا، هذا بينما اعتبر المستشرقون جميع أحداث سيرة الرسول قبل بعثته روايات غير تاريخية أو مجرد حكايات.

وهكذا لم توضع جميع وقائع ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطفولته وفترة شبابه الأولى على محك التاريخ الموضوعي عند المستشرقين وطبقًا لتحليل فيليب حتى، رغم أنه- أي محمدًا صلى الله عليه وسلم ظهر في نور التاريخ الكامل، إلا أننا نجد عدة

ص: 30

روايات صحيحة فقط تتعلق بحياته في مراحلها الأول، وفي كسبه للعيش وسعيه وجهده في محاولاته لبناء شخصيته وتطويرها، وإعداد نفسه للمهمة العظمى التي تولاها فيما بعد.

ونرى الفكرة نفسها لدى أعظم المستشرقين في العهد الحديث " مونتجمري وات " الذي يعترف تمامًا بتاريخ ولادته عليه الصلاة والسلام وتاريخ وفاة والدته وتربية جده عبد المطلب ورعايته له، ووفاته، ويعترف بعد ذلك بإشراف عمه أبي طالب عليه وتربيته ورعايته له وبكل ما رافق ذلك من وقائع، إلا أنه من ناحية أخرى يقر بأن جميع الوقائع والحقائق الأخرى، ما هي إلا روايات تتعلق بالعقيدة وهي حكايات أسطورية.

وبصفة عامة يكذب المستشرقون رواية تربيته ورعايته في بيت حليمة السعدية في مضارب بني سعد بن بكر وهذا هو رأي بعض المؤرخين المسلمين المحدثين أيضًا، فهم يزعمون أن هذه الرواية لا وجود لها في التاريخ الإسلامي كله، ولا في عهد الجاهلية، والرواية المقبولة لدى هؤلاء أنه عليه الصلاة والسلام أرسل إلى مكان ما بالبادية ليتدرج في التربية تحت إشراف مرضعته، وهذه دعوى بلا شك غير صحيحة، فمثل هذه الوقائع العديدة نجد لها شواهد وعلامات في الحديث والسيرة وكتب أسماء الرجال. ويروي البخاري أنه بعد ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمه آمنة أرضعته أولا، وبعد ثلائة أيام أرضعته ثويبة أمة أبي لهب وطبقًا للرواية فإن حمزة أيضًا قد أرضع عن هذه الأمة لعدة أيام، وعليه فهو بالإِضافة إلى أنه كان عمه في النسب فهو أخوه في الرضاعة وقد ذكرت عدة روايات موثوق بها هذه الصلة. إلا أن المؤرخين المسلمين المحدثين أنكروا واقعة إرضاع ثويبة للنبي لمجرد أن هذا الأمر لا يليق بالنبوة، أو أنه قد يعدّ دليلاً لدى من يريدون الطعن في النبوة، ويعطون دليلاً فحواه أن الله تعالى -طبقًا لما جاء في القرآن الكريم- قد حرم على موسى عليه السلام

ص: 31

أن يرضع لبن أية امرأة أخرى غير أمه، هذا بينما لم تكن علة التحريم في موسى أن يحفظ من رضاعة امرأة غير محترمة بل كان الهدف الأساسي -وهو ما ذكره القرآن الكريم- هو العودة إلى أحضان الأم مرة أخرى، فكيف يفهم بعضهم، وعلى أي أساس - أن إرضاعه من امرأة أخرى يقدح في عظمة كونه رسولاً؟!! وقد ارتبطت واقعة إرضاع حليمة السعدية للنبي صلى الله عليه وسلم ببعض المعجزات والكرامات، وبعض هذه الروايات ضعيف وغير مسند، ولكن هذا لا يعني بدوره رفض الواقعة كلها - وهو ما لا يتماشى مع الصدق التاريخي، ولا شك أن مسلك المؤرخين المسلمين المحدثين غير صحيح بالمرة.

وهكذا كذبت هذه الطبقة من المؤرخين المسلمين الروايات الخاصة برعاية أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويريدون أن ينال عمه الأكبر الزبير بن عبد المطلب شرف تربيته رسول الله، وقد أقاموا هذا القياس المجرد طبقًا للرواية القائلة بأن الزبير خلف والده، كما كان ثريًا أيضًا، ولهذا فهو الأليق بتربية ابن أخيه، ودليلهم على ذلك أيضًا هو أن أبا طالب لم يتمكن لضيق ذات يده أن يقوم بتربية ورعاية عقيل وعلي، ولهذا أودع الاثنين -على الترتيب- تحت رعاية العباس بن عبد المطلب والنبى صلى الله عليه وسلم.

وهذا استدلال سقيم من عدة وجوه. أولها أنه ليس من الضروري أن يكون الإنسان الثري بأقدر على الرعاية والتربية، فالمحبة والشفقة أكثر ضرورة للتربية والرعاية الصحيحة من المال والثروة وتلك هي التربية التي نالها النبى صلى الله عليه وسلم في بيت أبي طالب.

وحتى وفاة أبي طالب فقد كانت حياته كلها مرآة لشفقته التي لا حدود لها، ولحبه العظيم له. ثم إن أبا طالب حين كان يرعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في شبابه، كما لم يكن معدمًا أو فقيرًا كما يظهر، إذ إن واقعة رعي

ص: 32

رسول الله لماشيته إن دلت فإنما تدل على أنه لم يكن معوزًا أو معسرًا بل كان ميسور الحال، وطبقًا لدستور العرب كان امتلاك ماشية الرعي دليلاً على الثروة والغنى.

ومن ناحية النقد التاريخي، فإن هذا الاستدلال أيضًا غير صحيح؛ لأنه حين أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفالة أبي طالب، لم يكن عقيل ولا على قد ولدا بعد بل ربما لم يكن لأبي طالب آنذاك أولاد، ومن هنا فلم يكن ثمة عبء في كفالة أحد.

ومن الصحيح أن العباس والنبي الأكرم كانا تحت رعاية أبي طالب، لكن من المعروف أن الرسول وعمه أبا طالب صارا من تجار مكة المعترف بهما، بينما في وقت وفاة عبد المطلب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره وكان العباس في الثانية عشرة وحمزة في العاشرة.

وهكذا فإن جميع محاولات المؤرخين هؤلاء إنما ترجع إلى رغبتهم في أن يسلبوا أبا طالب وأسرته شرف كفالة النبى.

وفي النهاية نقول إن واقعة سفر أبي طالب إلى الشام ومقابلته لبحيرا الراهب إن لم تدل على ما كان لأبي طالب من ثروة فإنها تعبر بصدق عن أنه كان ميسور الحال؛ لأن أيًّا من تجار مكة لم تكن لديه القدرة آنذاك على إرسال قافلة أو المضي بقافلة إلى الشام دون أن يكون صاحب ثروة كبيرة أو معقولة على الأقل.

قصة بُحيرا الراهب:

رغم أن المستشرقين ومن حذا حذوهم من المؤرخين ينكرون جميع وقائع السيرة الأولى أو يعتبرونها مجرد أساطير لا تاريخًا، إلا أنهم يذكرون واقعة أو

ص: 33

قصة الراهب بُحيرا بطريقة أو بأخرى، حتى يتمكنوا من إثبات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تعلم جميع أصول وقوانين الإسلام وفلسفة الدين بأكملها من راهب مسيحي أثناء سفره (وعبوره!!) إلى الشام.

ومن الجدير بالاهتمام أن أكثر المؤرخين المسلمين المعتمدين ونقاد الحديث وعلماء الجرح والتعديل ينفون هذه القصة، ويعتبرونها من حيث أصول الرواية والدراية قصة موضوعة، إلا أن المستشرقين الذين ادّعوا تحليلها ونقدها لا يقولون فقط بصحة هذه القصة، بل يعتبرونها القصة الوحيدة التي تشير إلى نبوءة البعثة النبوية قبل وقوعها بحوالى 28 سنة تقريبًا، وهكذا يجعلون الإسلام في صورة المستفيد من المسيحية في تشكيل الدين!!

ولم تتبادر حقيقة هامة إلى أذهانهم: كيف أن صبيًّا عمره 12 سنة لم يتلق أي تعليم نظامي يمكن أن يفهم بعقليته البسيطة الأصول الفلسفية للدين وقواعد فكره العالمية وأصوله المعقدة؟ ثم أليس هناك تضاد ظاهر في هذا القول، فالمسيحية التي راجت آنذاك في الشام ومصر، كم كانت مختلفة عن الإسلام من ناحية العقائد والأصول. بل إن تصور الدين والعقيدة في المسيحية والإسلام تصور مختلف ومنفصل تمامًا كما اعترف بهذا " مونتجمري وات " والمستشرقون الآخرون. وهو ما سنوضحه في بحثنا بعد ذلك.

وعلى كل حال فسواء كانت رواية بحيرا الراهب صحيحة أو غير صحيحة مسندة أو ضعيفة، وسواء اعترف بها علماء المسلمين والمؤرخون أم لم يعترفوا، فإنها رواية صحيحة لدى معظم المستشرقين الذين لجئوا إلى التعصب الديني بدلاً من إعمال الإحساس والشعور التاريخي واستخدام الاستدلال التاريخي وأسلوب البحث الصحيح، مما جعلهم يقررون أن الإسلام مأخوذ من المسيحية.

رسول الله صلى الله عليه وسلم في شبابه:

والواقعة الثانية في جملة الوقائع الهامة التي حدثت قبل البعثة المحمدية كانت

ص: 34

عام 691 م وهي أن الرسول الأكرم قد اختار لنفسه حرفة التجارة، واشترك في حرب " الفجار " وفي سنة 695 م تزوج النبي من خديجة، وحين كان عمره 35 سنة اشترك في تعمير الكعبة وحلف الفضول. وقد حاول المستشرقون أن يمروا على هذه الأحداث في عمومها مرّ الكرام. بل غضوا أنظارهم تمامًا عن أمر احترافه صلى الله عليه وسلم للتجارة حتى يثبتوا أن ثروته إنما كانت نتيجة لزواجه من خديجة، وقد عبر " حتّى " عن هذا الزواج بقوله:" في زمان يصل بنا إلى دهاليز الفترة التاريخية المضيئة!! " أي أنه قبل ذلك كانت أحداث حياته صلى الله عليه وسلم أساطير وخرافات وهذا زعم مرجعه تعصب " فيليب حتِّى " الدينىّ، وإلا فالحقيقة أن حياته صلى الله عليه وسلم من المهد إلى اللحد كانت مرآة واضحة أمام تاريخ مضىء في بيت الزمان.

أما " مارجوليوث " فيتهم السيدة خديجة ورسول الله صلى الله عليه وسلم اتهامات باطلة، فيقول إنهما كانا وهما نائمان يقومان بعبادة صنم يدعى " عُزّى " وكان هدف المستشرق سابق الذكر أن يثبت فقط أن عبادة الأوثان التي شاعت في مكة قبل البعثة تركت أثرها عليه صلى الله عليه وسلم.

هذا بينما أراد " وليم ميور " أن يثبت من خلال قصة بُحيرا الراهب أن واقعة لقاء الرسول مع الراهب وما أخذه عنه من تعاليم كانت سببًا في كراهية الرسول الأكرم لعبادة الأوثان، وطبقًا لبيانات المستشرقين سابقي الذكر ومزاعمهم تلك، وللسبب نفسه نلاحظ التضاد الظاهر في بيانات كلٍّ منهما، بينما أساس أفكارهما لا يقوم على أية حقيقة صحيحة، بل يقوم على مجرد القياس والتخمين، ولهذا كان استدلالهما بأكمله استدلالاً مضللاً ويتعارض مع الحقائق التاريخية.

وقد خرج " مارجوليوث " من أسفار الرسول التجارية بنتائج محيرة وهى أن ما جاء ذكره في القرآن الكريم من السفن التي تمشي في البحر والطوفان

ص: 35

وغير ذلك من أمور إنما ترجع إلى التجارب والمشاهدات الذاتية للرسول صلى الله عليه وسلم (1) وعليه قام المؤرخ المذكور -بناء على قياسه وظنه- بالزعم بأن الرسول سافر إلى مصر أيضًا. مع أن جميع كتب التاريخ الإسلامي تخلو من هذه القياسات الضالة المضللة والنتائج العجيبة!!

والهدف الذي يرمي إليه المستشرق من ذلك هو أن يثبت عن طريق الاستدلال أن القرآن الكريم هو من كلام الرسول، وليس بالكلام الإلهي، بينما يثبت بالروايات التاريخية وبطريقة متواترة أن كلام القرآن الكريم هو كلام من عند الله، أنزله من اللوح المحفوظ نزل به جبريل الأمين على فؤاده صلى الله عليه وسلم.

ويحاول كثير من مؤرخينا المعاصرين بعامة والمستشرقين بخاصة أن يثبتوا أنه بعد زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة، تحسنت أحواله المادية ولهذا ترك العمل بالتجارة وبقية الأعمال الأخرى، وبدأ الانصراف إلى العبادة والرياضة الروحية وهذه النقطة تعطي دفعة لإثبات هدفين لهؤلاء.

الأول: هو أن ثروته كلها كانت بسبب اعتماده على ثروة السيدة خديجة.

والثاني: أنه بعد أن تحسنت أحواله المادية انصرف عن مشاغل الدنيا وأعمالها، وانصرف إلى العبادة والرياضة بينما يتضح من الروايات أنه صلى الله عليه وسلم ظل يعمل بالتجارة بعد الزواج، كما كان قبل الزواج إذ عمل بالتجارة وهو في العشرين، وعلى العموم لقد اعتمدت حياته التجارية على تجربته الطويلة لعشرين سنة نال خلالها تجارب متنوعة، وأضافت أيضًا إلى ثروته. كما يثبت من الروايات أن " التحنث "[الرياضة والعبادة] الذي كان يقوم به صلى الله عليه وسلم إنما كان لشهر واحد (رمضان) خلال السنة بأكملها، أما باقي السنة فكان

(1) قال لي أحد الأساتذة اليابانيين أنه يؤمن بمحمد رسولاً وبالقرآن كتابًا منزلاً من عند الله وسبب إيمانه بذلك ما ورد ذكره في القرآن عن الزلازل ومن المعروف -يقول الأستاذ- أن الجزيرة العربية منطقة خلت تمامًا من الزلازل، ودقة الوصف في القرآن لا يمكن أن يأتي بها بشر. (المترجم)

ص: 36

يقضيها في أداء واجباته الدنيوية ومنها التجارة أيضًا. واستمر هذا إلى آخر أيام حياته قبل البعثة وفي هذا الخصوص نرى روايات كثيرة جدًا في مصادر مختلفة، إلا أنها غير واردة بشهورها وسنواتها حتى يمكن تحديد التدرج التاريخي أو الترتيب التاريخي لحياته التجارية طبقًا لذلك.

وما جاء ذكره في القرآن الكريم في سورة الضحى عن ثروة النبي وغناه إنما يتعلق بزمان عمله بالتجارة، وطبقًا لروايات المفسرين الكبار فإن هذه السورة تتعلق بالفترة الأولى لما بعد البعثة مباشرة، وما ورد فيها من ثروة إنما يرجع إلى ثروته الشخصية التي لم تكن مرهونة بمنّة أحد غيره. ولهذا فما يريد المستشرقون إثباته من فكرة الرهبانية إنما هو أمر خاطىء، فحياته صلى الله عليه وسلم كانت كلها جهدًا وجدا وكفاحًا وعملاً متواصلين.

ص: 37