الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تشكيل الدولة الإسلامية:
عرض بعض المستشرقين وعلى رأسهم (مونتجمري وات) نظرية فحواها أن النظام السياسي الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة قد قام على أسس قبلية، وطبقًا لرأيه، فقد كان هناك وفاق بين مختلف القبائل والبطون في المدينة المنورة، وكان هذا الوفاق يضم تقريبًا تسع قبائل كبيرة، ويمكن القول بأنها كانت تمثل تسع وحدات سياسية من بينها وحدة تضم المهاجرين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيسًا للمهاجرين فقط، وبالإضافة إليه كان هناك ثمانية رؤساء سياسيين للقبائل كانوا في جميع الأشكال متساويين معه في الرتبة والمكانة، ولم يكن له عليهم أي أفضلية.
ويحاول هؤلاء المستشرقون في النهاية أن يثبتوا أنه لم يكن حاكمًا للمدينة، كما أنه لم تكن هناك دولة إسلامية بالمدينة تحكم جميع القبائل الأخرى.
وهذه نظرية خاطئة من الناحية التاريخية ودلائلها باطلة، ففي بيعة العقبة الثانية اعترف مسلمو المدينة برسول الله زعيمًا وقائدًا مثلما اعترف به مسلمو مكة بعد الهجرة، ولم تنته سيادته صلى الله عليه وسلم إلى حد السيادة على المهاجرين فقط، بل امتدت لتشمل قبيلتي الأنصار أيضًا، ويمكن القول بأنه بعد الهجرة مباشرة كان صلى الله عليه وسلم هو شيخ ورئيس جميع طبقات المسلمين بلا استثناء وبعد دستور المدينة أصبح عليه الصلاة والسلام هو القائد السياسي للمدينة بأكملها بما فيها من يهود وغيرهم من غير المسلمين، ورغم أن اليهود لم يعترفوا به كرسول فإنهم بانضمامهم إلى المعاهدة النبوية أو الصحيفة النبوية سلموا بزعامته السياسية، تلك الزعامة التي جعلتهم يعترفون بالحيثية القانونية للإجراءات العسكرية التي اتخذت ضدهم.
لقد كان صلى الله عليه وسلم هو الحاكم الأعلى للمدينة والقائد الديني والسياسي للجميع.
اعترف به الجميع بعد الهجرة مباشرة وحتى غزوة الخندق كانت القبائل
الموجودة في أطراف ونواحي المدينة قد اعترفت بسيادته، وقد كان منبع سيادته وقيادته رسالته ونبوته، والمستشرقون أساسًا لا يريدون التسليم في كتاباتهم بهذه المكانة الأساسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها مكانة دينية.
يهود خيبر:
كان يهود خيبر من بين القاطنين خارج المدينة يحيكون المؤامرات ضد الدولة الإسلامية، وكان من أهم العناصر المتآمرة يهود بني نضير الذين نفوا من ديارهم، وخاصة شيوخهم ورؤساءهم الذين كانت نيران الانتقام والحسد تعتلج في داخلهم، فقد لعبت أيديهم دورًا في غزوة الأحزاب، وفي تأليب القبائل العربية على المدينة، وفي دفع بني قريظة إلى الغدر، وبعد صلح الحديبية وحين اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب قريش في مكة رأي أن أول عمل يجب أن يقوم به هو أن يسد باب مؤامرات يهود خيبر، وقام جيش المسلمين الذى ضم مجاهدي غزوة الحديبية بمحاصرة خيبر وكان بها عدة قلاع، تم حصار بعضها ولم تصمد للحصار، فسقطت واحدة بعد الأخرى وحين وضح لليهود أنهم سيهزمون عرضوا الصلح فقبله الرسول، وتم على أن يُقدِّم زراع اليهود نصف نتاج أراضيهم كل موسم بمثابة خراج، وبعدها تم عقد معاهدات أخرى مع يهود خيبر الآخرين الذين يعيشون في قرى فدك وتيماء ووادي القرى على نفس الشروط.
وصفحات التاريخ الإسلامي شاهد عدل وحكم فصل على أن المسلمين لم يغدروا وصانوا شروط معاهداتهم بكل أمانة وإنصاف وخوف من الله، ويشهد على ذلك الأعداء الذين هزموا، يشهدون على أصول العدل والإنصاف الإسلامي، وعلى سلوك المسلمين السامي، وما اتبعه المسلمون مع أهل خيبر ونواحيها من القرى إنما يثبت بذاته أن الإجراءات العسكرية التي نفذت ضد هذه المناطق لم تكن وراءها أية عوامل أو محركات اقتصادية بل كان هدفها
الأساسي الجهاد الإِسلامي الذي تم به رفع كلمة الله وتقوية الإِسلام وصيانة الأمة الإِسلامية والحفاظ على الدولة الإِسلامية.
والجيش الإِسلامي لم يكن كغيره من الجيوش يعمد إلى السلب أو النهب أو القتل أو الدمار، فلم يكن ليتعرض إلا للسلاح ولأموال الغنيمة التي يحصل عليها في ميدان القتال.
إن القبائل اليهودية التي سلكت مع الدولة الإِسلامية سلوكًا طيبًا سليمًا، ولم تلجأ إلى أسلوب التآمر أو الخداع ولم ترفع في وجه الدولة الإِسلامية السلاح، هؤلاء لم يتخذ المسلمون ضدهم أي إجراء عسكري، ولقد كان الإِجراء العسكري الذي اتخذه المسلمون ضد خيبر والقرى المجاورة لها إجراء اضطر إليه المسلمون حتى يقتلعوا جذور المؤامرات والفتنة والفساد.
الخطّ السياسي للعلاقات مع غير المسلمين:
يتضح من تحليل الخط السياسي للدولة الإِسلامية مع الفئات غير المسلمة أن الخط السياسي الذي اتخذه الرسول بعد الهجرة كان يهدف إلى دعوة القبائل والبطون غير المسلمة إلى الإِسلام، فإن امتنعوا عن قبول الإِسلام عقد معهم معاهدة صلح وتعاون أو على الأقل عدم انحياز.
وهكذا تم عقد معاهدات من هذا القبيل مع القبائل المجاورة للمدينة المنورة، وبخاصة القبائل الغربية مثل مزينة، جهينة، كنانة وغيرها، وبالتدرج وفي فترة بسيطة دخلت هذه القبائل في الإِسلام.
وقبل أن تنجح هذه التدابير والخطط التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم نجاحًا كاملاً بدأت سلسلة الغزوات مع قريش مكة، وكان من نتيجة ذلك أن بعض القبائل التي ناصبت الإِسلام العداء انتهجت نهجًا يهدف إلى التآمر على الدولة الإِسلامية وقتالها واضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعلن الجهاد ضد جميع هذه العناصر المعادية، وأخضع كثيرًا من تلك القبائل بهزيمتها، إلا أن الأسلوب
الذى اتبعه معها كان قائمًا على العدل والإنصاف، فالقبيلة أو الجماعة التي طلبت الصلح، أجيبت إلى طلبها، ولكن حين كان الأمر يقتضي إقامة وحدة سياسية للجزيرة العربية كلها؛ لأنه بدون هذه الوحدة لا يمكن للدولة الإسلامية أن تبقى، ولا يمكن أن تكتمل الفريضة الإلهية الرامية إلى إعلاء كلمة الله، حينئذ أصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطالب جميع السكان العرب بالموافقة على أحد مطلبين: إما أن يقبلوا الإسلام، ويصبحوا بذلك من مواطنى الدولة الإسلامية بصورة كاملة فيؤدون الفرائض الإسلامية كاملة بما فيها الأحكام التي تخص المال أي الزكاة والصدقات، وإما أن يعترفوا بالتفوق السياسي للدولة الإسلامية إن أرادوا البقاء على دينهم، وعليهم أن يخضعوا لها، ويكون ضمان هذا الوفاء هو دفع الجزية السنوية وفي مقابل دفع الجزية تكون على الدولة الإِسلامية مسئولية حماية أرواحهم وأموالهم وعزتهم وكرامتهم، ويحصلون بذلك على مكانتهم في المجتمع بصفتهم من " أهل الذمة " ويكون لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم التي حددها الإسلام، ومن خلال هذه الخلفية، ومن خلال تحليلنا لجميع الغزوات والسرايا النبوية تحليلاً كاملاً نعرف أن المسلمين قد رفعوا السيف في وجوه تلك العناصر التي أثارت الفتنة والفساد أو كانت عاملاً من عوامل إثارة الفتنة والفساد، وكانت تهدف إلى القضاء على الدولة الإسلامية، على أن الدولة الإسلامية قد اتخذت من المصالحة أسلوبًا لها مع جميع الفئات التي كانت تدعو للمصالحة، وتريد الحياة في أمن وسلام.
وفيما يتعلق بالحصول على الفوائد الاقتصادية وأموال الغنيمة فإن التاريخ يثبت أنها لم تكن هي الدافع، ولم تكن هي المحرك، ولم تكن هي الهدف بل كان كل هذا من ثمار الجهاد الإسلامي، وإذا ما حللنا جميع أموال الغنيمة التي تم الحصول عليها أثناء الغزوات والسرايا النبوية فإن نصيب حياة المسلمين الاقتصادية في المدينة كان اثنين بالمائة (2%) فقط، أما الباقي فقد كان من نصيب الدولة للحفاظ على الأمن، لقد كان الهدف الأساسي لجميع تلك الغزوات والسرايا هو الجهاد الإِسلامي وهو ما يمكن أن تجد له مئات الأمثلة التي قدمها لنا القرآن الكريم وقدمتها لنا الأحاديث النبوية، وقدمها لنا التاريخ الإسلامي.!!