الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الردة، أما العرب الوسطى فقد ارتد منها منطقة أسد وطيىء فقط، وهناك حقيقة هامة أن من بين القبائل المرتدة عددًا كبيرًا جدًا من المسلمين المخلصين الذين حافظوا على عقيدتهم بدمائهم وقت المحنة وأعلنوا الجهاد ضد المرتدين من قبيلتهم بعد قدوم جيوش الإسلام، ولهذا فمن الخطأ أن نقول بأن الردة أو الارتداد أو العصيان شمل العرب كلهم. والنظرية الأكثر خطأ هي تلك التي تقول بأن الخليفة الأول قد نشر الإسلام بحد السيف حتى أدخل العرب في الإسلام. وإنه ليثبت من خلال دائرة الإجراءات العسكرية والنطاق الذي تناولته العمليات العسكرية أنه لا يمكن إجبار العرب عن طريق القوة بقبول الإسلام، وتثبت الوقائع التاريخية أن عددًا من العصاة والمرتدين قد دخلوا دائرة الإسلام باقتناع ثم إن الإسلام لا يقول أبدًا بإجبار الناس بالقوة على اعتناق الدين. ومن هنا فإن التحليل التاريخي الذي يحاول المستشرقون والمؤرخون الجدد نشره بين الناس إنما بني على روايات خاطئة وأدلة ممسوخة واستنتاجات فاسدة.
الفتوحات الإسلامية
الدوافع والأهداف
كما قام المستشرقون والمؤرخون الجدد بالبحث عن الدوافع والأهداف الاقتصادية للفتوحات الإسلامية في العهد النبوي، فإنهم يقومون أيضًا بالإشارة إلى الأسباب والعوامل الاقتصادية والعسكرية والعوامل الأخرى التي أدت إلى الفتوحات الإسلامية للبلاد المجاورة كالعراق والشام ومصر وإيران وغيرها في عهد الخلافة الرشيدة، إلا أن الحكاية الأعجب هي التي نسمعها منهم، وهي بداية الفتوحات الإسلامية بعد حروب الردة.
يرى أكثر المؤلفين أنه في زمان حروب الردة تحولت الدولة الإِسلامية كلها إلى معسكر للجيش، لأنه كان من الضروري إخضاع الجزيرة العربية كلها من جديد لسيطرة المدينة المنورة، ولهذا استلزم الأمر إجراءً عسكريًا قويًا.
وعلى نطاق واسع حتى يمكن أن يجعل الجزيرة العربية كلها تابعة للحكم الإسلامي. وكان من اللازم توجيه المسلمين بل القوى العسكرية للقبائل العربية التي تفوقت بما لها من أسباب مختلفة إلى خارج الجزيرة العربية، وأصبح البحث عن سبيل أمرًا ضروريًا، وإلا عادوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام من حروب داخلية، ولهذا فكر الخليفة الأول في أن تستفيد الأمة الإسلامية من هذه القوة العسكرية الفائضة، وبدلاً من أن تستخدم في أمور غير نافعة رأى توجيهها إلى حدود العراق ثم الشام وفتح جبهات قتالية هناك.
ويرى " فيليب حتى " ومن يوافقه في رأيه من المؤلفين أن الخليفة الأول لم تكن لديه في البداية أية خطة محددة مدروسة لفتح المناطق المجاورة، والخطة تتلخص في القيام -عن طريق مهمات بسيطة تتركز على النهب والسلب والاغارة- باستنفاذ القوة العسكرية للعرب من ناحية والحصول على أموال الغنائم من ناحية أخرى، وبعد فتح تلك المناطق ثم ضمها إلى الدولة الإسلامية، وهو ما لم يكن متصورًا لذاته من تلك المهام، ولكن حين انتشرت هذه الارساليات العسكرية بسرعة كبيرة، خرج زمام المحاربين من يده، وحين بدأت الفتوحات فجأة تم وضع خطة منظمة لها، وهو ما نتج عنه قيام الدولة العربية.
إن دوافع الفتوحات الإسلامية أو نظرية بدايتها تلك وعرضها بهذا الشكل إنما هو خليط من الصحة والخطأ، فصحيح تمامًا أن الدولة الإسلامية في البداية لم تضع خطة منظمة للفتوحات، كما أنها لم تكن ترغب في مَدِّ حكمها ونشر سلطانها على البلاد المجاورة، إلاّ أن تحليل أسباب بدايتها هو تحليل خاطىء.
لقد وضح من التحليل السابق لحروب الردة أن الدولة الإِسلامية لم تتحول إلى معسكر أو مخزن للسلاح. وتحليل قوتها العسكرية يوضح أن عدد الجيش الإِسلامي كان لا يزيد عن 15 أو 20 ألفًا، ثم إن من بينهم جنود معظم المهمات، وهو ما أضاف إلى القوة العسكرية. فمثلاً إن الزيادة في عدد جيوش خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وشرحبيل بن حسنة كانت نتيجة لاشتراك جند المهمات، وبعدها فإن جنود القائدين الأخيرين قد زادوا في القوة العددية للمهمات والمرسلة إلى العرب الجنوبيين، وقد تجاهل المستشرقون هذه الحقيقة، وهي أنه في العهد النبوي لم يكن هناك جيش مستقل منظم، هذا بالإِضافة إلى أن أكثر المجاهدين المشاركين في المهمات كانوا قد عادوا إلى مناطقهم أو إلى قبائلهم بعد انتهاء تلك المهمات.
وتوضح بعض الروايات والمراجع والمصادر أنه في الدور الأول للخلافة الرشيدة على وجه خاص، وفي الفترات التالية بوجه عام، ظهرت قضية نقص عدد الجنود، وقد تعرضت بعض الجبهات لأزمات شديدة نتيجة هذا النقص. وقائد بني بكر بن وائل المثنى بن حارثة الذي يتهمه المؤرخون بتهمة قيامه بالهجوم العسكري على جبهة العراق، اضطر إلى أن يكتب عدة مرات إلى المدينة بسبب نقص الجنود، وفي النهاية اضطر إلى أن يأتي إلى المدينة. ولو سلمنا بنظرية الإِرساليات الحربية، واستنفاد الطاقة العسكرية الزائدة، فإن النتيجة المنطقية التي نستخلصها هي ألا يجب أن تكون هناك شكوى من قلة عدد القوة العسكرية، وكان يمكن السيطرة على هذه المشكلة بسهولة. ثم إذا كان الهدف هو استنفاد الطاقة العسكرية الزائدة، فقد كان يكفي فتح جبهة واحدة، إلا أن فتح جبهتين في وقت واحد، ومواجهة مشكلة قلة عدد الجند لا يمكن أن يكون دليلاً على بعد النظرة العسكرية، وهكذا فهذه النظرية بأكملها فريسة للتضارب، ولا تؤيدها الوقائع التاريخية أبدًا. صحيح أن بداية
الفتوحات الإسلامية كانت مع حروب الردة، غير أن لها صورة أخرى غير تلك الصورة.
لقد قام العديد من المرتدين والمتمردين باللجوء فقط إلى المناطق الخاضعة للعراق وإيران، بل بدأوا أيضًا في الإغارة على المناطق الإِسلامية، وكانت الحكومات هناك تعضدهم وتساندهم مساندة واضحة، وتقوم بحمايتهم، وفي تلك الحالة أصبحت جبهة العراق أشد خطرًا. ومن الواضح أن القبائل الموالية للمدينة كانت ترد على الغارات الموجهة ضد حدودها. وقد طلب المثنى بن حارثة الشيباني الإذن له بالهجوم على المناطق المغيرة، وذلك للوقوف في وجه تلك العمليات العدوانية على حدود الدولة الإِسلامية، ولم يسمح له في البداية، وفي النهاية وحين عرف الخليفة الأول بخطورة الموقف سمح له باتخاذ الإجراءات المناسبة، وقد وجد خالد بن الوليد فرصة في حروب ردة اليمامة، فصار في ركابه في العودة، وصدر الحكم بالتقدم ناحية الحدود العراقية لمساعدة المثنى ومن معه من المجاهدين، وهكذا بدأت الفتوحات على الجبهة العراقية.
وكانت هذه تقريبًا هي الظروف التي ظهرت على جبهة الشام، وكرد فعل لمهمة أسامة قامت الحكومة البيزنطية بالإِعداد للهجوم على الدولة الإِسلامية، ثم نتيجة لحروب الردة قام عمرو بن العاص وخالد بن سعيد بسلسلة من الإجراءات التأديبية ضد المرتدين والبغاة من قبائل قضاعة وكلب وغيرها، ونتيجة لذلك بدأ الاصطدام مع القبائل الموالية للإِمبراطورية البيزنطية. وبناء على المخاطر المتوقعة من جانب الروم قام أبو بكر الصديق بالتشاور مع الصحابة الكرام بإرسال أربع مهمات صغيرة لدرء أبواب هذه المخاطر بقيادة يزيد بن أبي سفيان الأموي، وأبي عبيدة بن الجراح الفهري، وشرحبيل بن حسنة الكندي، وعمرو بن العاص السهمي، ولم يزد عدد جندهم مجتمعين على 27 ألفًا، ولم يكد هؤلاء يبدأون مهماتهم حتى قام هرقل إمبراطور
البيزنطيين -وكان في مدينة حمص آنذاك- بإرسال جيش جرار لمواجهة المسلمين، وأصبح الوضع على جبهة الشام دقيقًا للغاية، فأمر أبو بكر خالد ابن الوليد بالتوجه إلى جبهة الشام على الفور، لأنه لم يكن لديه جيش بالمدينة المنورة من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تتخذ الإمبراطورية الإيرانية أية إجراءات عسكرية بصورة منظمة حتى ذلك الوقت، ونتج عن ذلك فتح باب الحرب بصورة كاملة على مصراعيه على جبهة الشام، وقد قامت الحكومة الإيرانية بإعلان الحرب بصورة منظمة، ففتحت بذلك جبهة ثانية، وهكذا بدأت الفتوحات الإسلامية.
وهناك عدة أسباب تفسر ما مضت عليه الفتوحات الإسلامية من سرعة، وما كانت عليه من اتساع وفتوحات في وقت واحد. من بين هذه الأسباب، الحالة السياسية للإمبراطوريتين الإيرانية والبيزنطية المتدهورة، بالإضافة إلى سوء وفساد الوضع الاقتصادي والتمزق والتفتت الاجتماعي والديني، فقد بدأت عظمة هاتين الإمبراطوريتين في الزوال، وهي العظمة التي كانتا عليها في زمان قسطنطين وخسرو برويز، ونتيجة لما أصابهما من انحطاط وتدهور أصبحتا عاجزتين عن مواجهة الإمبراطوريات القوية، ولكن على الرغم من كل هذا فقد كانتا أقوى إمبراطوريات العالم حينذاك، وكانتا أفضل من العرب من ناحية المهارة الحربية والعسكرية وكثرة الجند والسهولة والانسياب في ميدان الحرب، وكذلك من ناحية إعداد وتجهيز الجند بالأسلحة والعدة والعتاد، وكذلك في جميع الإدارات والأقسام الأخرى المتعلقة بالجيوش، ومع هذا فيرى بعض المؤرخين أن التكتيك الحربي للعرب تفوق على ما لدى الروم والإيرانيين، فقد استخدم العرب الأسلوب الحربي المؤثر في ميدان غرب آسيا وشمال أفريقيا، وكانت لهم براعة ومهارة في ركوب الخيل والجمال، وهو ما لم يتوفر أبدًا لدى الروم.
ومن الممكن أن يكون " التكتيك " العسكري للعرب قد تفوق في جهة
ما، أو في مرحلة ما من مراحل الحرب، إلا أنه لم يثبت بأي حال من الأحوال تفوق العرب في المجالات الحربية التي سبقت الإِشارة إليها، وعلى الأقل فإن مصادرنا التاريخية تثبت وتؤكد تمامًا تفوق التكتيك العسكري للجيوش المعادية. وهناك سبب آخر يقول بأن نهاية إمارات لخم وغسان، وهي الإمارات التي كانت تقوم بدور Buffer States، أي الدول المصدة أو التي تتلقى الصدمات الأولى بين العرب والإِمبراطوريات المجاورة، مما سهل للعرب إحكام السيطرة على المناطق التي دارت فيها المعارك. والقول بأن العرب كانوا ينظرون بطمع إلى تلك المناطق يتعارض مع الحقائق التاريخية، وهو قول يزيد عليه قول آخر بأنهم تفوقوا في تلك المناطق لأنها مناطق صحراوية، مع أن الجيوش الإِسلامية خاضت معارك شرسة جدًا على الجهتين العراقية والشامية، وتحملت أحيانًا جراح الهزيمة، والضغط المستمر من قبل الجيوش المعادية، ثم هذه حقيقة أن جوًا عسكريًا وسياسيًا لم يكن قد بدا على الجبهتين.
وهناك سبب من أسباب الفتح، وهو أن أهل البلاد المفتوحة كانوا يئنون تحت ثقل المتاعب الاقتصادية والسياسية وغيرها، فقد اعتبروا الفاتحين المسلمين منقذيهم مما هم فيه، فرحبوا بالإِجراءات العربية، وتعاونوا مع الجيوش العربية، وهناك سبب آخر مكمل لجملة هذه الأسباب، فقد قيل لقد ذاقت القبائل العربية ذاتها حلاوة النصر الذي تحقق من خلال الفتوحات العربية، وهي القبائل التي كانت تعيش في المناطق الحدودية، ولهذا تعاونت مع العرب الفاتحين من أجل العصبية القبلية والعرقية والفوائد المادية.
وليس بالمصادر التاريخية ما يؤيد هذين السببين أيضًا تأييدًا كاملاً، فقل أن تجد في مصادرنا أمثلة وشهادات تؤيد هذا الأمر، بل لا يوجد أبدًا في بعض الأماكن ما يؤكد أن السكان المحليين قد أيدوا الجيوش الإِسلامية، بل هناك شهادات واقعية فعلية تدل على عكس ذلك، وهو وصول طلبات عديدة
من الجبهات للمدينة المنورة طلبًا للمدد والعون، وفي معظم الأوقات كان هذا العون مجرد عدة مئات أو ألف جندي، وفيما يتعلق بمسألة الترحيب العام بالفاتحين المسلمين من جانب السكان فهذا أمر صحيح، إلا أنه من الطبيعي بل من الشائع ألاّ يشترك السكان المدنيون في القتال، وبلا شك أمد هؤلاء السكان المسلمين بالعون المعنوي، وهو ما حُرمه القادة والجنود الرومان والإيرانيون. ومن الواضح أنهم تأثروا كثيرًا بالأخلاق الإسلامية.
لقد حاول فيليب حتى أن يستطلع ويحلل الفتوحات الإسلامية وكأنها صدام بين الشرق والغرب، ويكتب ناصحًا بوجوب تحليل الفتوحات الإسلامية بتلك الخلفية، إِذ إن الشرق الأوسط القديم كان توّاقًا إلى استرجاع مناطقه المحتلة، والمشرق تحت تأثير الإسلام بدأ يرى حلمه القديم من جديد، فأراد أن ينزع عن نفسه رداء التسلط الغربي الذي استمر لآلاف السنوات.
وهو يقول: إن الفتوحات الإسلامية كانت أيضًا عاملاً من عوامل الاستغلال الإقليمي، وهذه النظرية الخاصة بالفتوحات الإسلامية هي بالمصطلح الحديث النظرية التفسيرية، إلا أن زمان الفتوحات الإِسلامية وهو القرن السابع الميلادي لم يشهد تصور الشرق والغرب كما يريد المؤرخ المذكور تفسيره، كما أن الفاتحين المسلمين والحكام المسلمين لم يَرد أبدًا على أذهانهم التصور القائل بتخلص الشرق من تسلط الغرب والاستقلال الإِقليمي واسترجاع السلطة الضائعة. والحقيقة أن السبب المجرد للضغط على أهمية هذه الأسباب والعوامل والتأكيد عليها مرة بعد مرة، إنما يهدف إلى إخفاء العامل الأساسي للفتوحات الإسلامية.
والواقع أن السبب الأساسي لسرعة الفتوحات الإسلامية وتماسكها، وهو ما لا يريد المعاندون والمخالفون من أعداء الإسلام الاعتراف به، هو الحماسة الدينية لدى حملة الإسلام، وما كان لذلك من نتائج، ويعترف مؤرخ غربي
بذلك فيقول: " بالإِضافة إلى العوامل والدوافع المساعدة السابقة، فإن سبب هذا النجاح الساحق والتوفيق الباهر يكمن في الإسلام الذي بدّل العرب البدو " المتوحشين " الذين لم يكن يجمعهم نظام إلى جيش وفىّ منظم: ملتزم بالضبط والربط، متمدن ومتحضر .. إنه الإسلام الذي ملأ قلوبهم، والإحساس الذي سيطر عليهم بأن القتال جهاد ينالون أجره رضا من الله ومغفرة، ومال الغنيمة هو إنعام مادي دنيوي دليل على مرضاة الله.
ومع أن هذا الاعتراف يضم فقرة كالسم في العسل وهي " القتال ضد أتباع الأديان الأخرى جهاد " ذلك لأن المسلمين قاموا بالجهاد للقضاء على الظلم والبربرية والإِفساد في الأرض، لا لمجرد قتال أتباع الأديان الأخرى، وهو ما يتضح حقيقة للعيان، وفيليب حتى، اضطر إلى الاعتراف بالحقيقة فقال:" وكأن العرب الذين حرموا من الكفاءة والديانة قد تحولوا بعد وفاة النبي بسحر ساحر إلى أبطال عسكريين ومثل هؤلاء الأبطال لم نكن لنفتقدهم في مكان واحد من ناحية العدد أو الكفاءة، فخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ممن قاموا بمهمة فتح إيران والعراق والشام هم أمثلة نادرة جدًا وعظيمة في تاريخ الحروب العالمية، وقد تفوقوا على ما قام به نابليون وهنى بال وحتى الإِسكندر الأكبر ".
وفي هذا الاعتراف وردت جملة بريئة في ظاهرها تحمل السم في باطنها وهي " بعد وفاة النبي ". والحقيقة أن المد الإِسلامي السريع كان نتيجة منطقية وضرورية لتعاليم رسول الله ولتربيته الحكيمة لصحابته وللمسلمين، ولما تم قبلاً من إخضاع الجزيرة العربية كلها للإسلام، ومن بعده قام الصحابة الكرام وبتأثير من أعمال رسول الله وتوجيهه فتحوا البلاد المجاورة لنشر كلمة الحق.
أهداف الفتوحات:
أكبر هجوم على الفتوحات الإسلامية هو الهجوم على سلسلة أهدافها، فقد
أقر " فيليب حتى " أن هدف الحملات الأول [الغزوات] على قبائل الحدود كان الغزو والإِغارة والرغبة في التمتع بالدعة واللذات، والمؤرخ المذكور في بحثه عن أهداف الفتوحات يقدم وجهة نظره في ثلاث نقاط:
الأولى: وجهة النظر التي تساير وجهة نظر علماء الإِسلام، والقائلة بأن الفتوحات الإِسلامية كانت دينية خالصة.
الثانية: وجهة النظر التي تساير وجهة النظر النصرانية، وهي أن المسلمين الفاتحين قاموا بتخيير الأمم المفتوحة بين الإِسلام أو السيف، أي أن وسيلة الإسلام في انتشاره هي السيف.
ووجهة النظر الثالثة يعرضها هو نفسه، وهي أن الجزية والخراج كانا أكثر محبة لدى المسلمين الفاتحين من غيرها.
وبعد أن يقدم استشهاده بالآية التاسعة من سورة التوبة (1) يكتب: " نتيجة لضغط الظروف، ثم وجود بديل ثالث، كان على الزردشتيين والبربر والترك اختياره (أي الإسلام) فلقد كوّن الإِسلام لديهم فكرة حربية جديدة، ووجهة نظر اجتماعية سهلة، ومع أن الإِسلام قام بدور لا مثيل له في توحيدهم، إلا أن هذا لا يكفي لتوضيح وشرح الفتوحات العربية بطريقة كاملة، وبدلاً من الحماس الديني فإن الضرورات الاقتصادية قد تفوقت لدى العرب على الحرب، فمشكلات الصحراء كانت سببًا في هجومهم على الهلال الخصيب، حتى ينالوا الراحة والدعة، ومن الممكن أن تكون فكرة الذهاب إلى الجنة قد ظلت تداعب قلوب بعض الناس، إلا أن الهدف الأساسي كان الثروة والحصول على الفوائد المادية.
(1)((اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون)) التوبة 9. المترجم.
ويدعى فيليب حتى أن بيانات وتصريحات ليون كيتاني، وبيكر وغيرهما من المؤرخين الجدد، وأن المؤرخين العرب القدامى قد أهملوا تمامًا هذا الجانب الاقتصادي للفتوحات الإِسلامية، وهكذا ينقل نص خطاب الخليفة الأول من فتوح البلدان للبلاذري، والذي كتبه لعرب مكة والطائف واليمن ونجد والحجاز، يدعوهم للمشاركة في الجهاد الإسلامي دافعًا إياهم مشجعًا لهم بما قد يحصلون عليه من أموال الغنيمة. " ولم يثبت سوى بيت من الشعر عن شجاعة القائد الإيراني رستم يخدم به مفاهيمه وأهدافه ". ولقد ترك بعض المؤرخين النظرية القائلة بالأهداف الاقتصادية الخالصة، ولا شك أن بعض المؤرخين المتصلبين لا يزالون يتعلقون بها، والسبب في ذلك هو أن هذه النظرية مبنية على مزاعم عديدة وغير مقبولة، لأنها أولاً تقرر أن الفتوحات الإِسلامية هي عبارة عن حلقة من سلسلة الهجرات السامية المغرقة في القدم، وبناء عليه وبعد الإسلام حدثت زيادة كبيرة بين السكان العرب وبسرعة هائلة مما مثّل بدوره ثقلاً اقتصاديًا، وجعل معيشتهم تواجه صعوبات متنوعة، وبسبب هذا اتخذت الهجرة العربية السامية الجديدة شكل الفتوحات. وقد أبطل المؤرخ فرانسسكو جبرائيل النظرية القائلة بالضغط السكاني الذي نتج عنه هجرة اقتصادية لأنه لا يوجد إثبات يدل على الزيادة في السكان منذ ذلك التاريخ، وبعد مجىء الإسلام، بل أكثر من هذا يقول إن العرب الفاتحين طوال فترات فتوحاتهم الطويلة لم يفرحوا أو يُسروا بالسكن بالمناطق كثيرة السكان، أو يفرحوا بالإِقامة في المناطق التي فتحوها، وكانوا بعد الفتح يفضلون في معظم الأحيان العودة إلى مناطقهم الصحراوية، ثم حتى زمان خلافة عمر ظلت سياسة الحكومة ألاّ تسمح للعرب بالإِقامة بالبلاد المفتوحة، وطبقًا لقول جبرائيل: إن بين الصحراء برمالها والعرب محبة قديمة، استمرت حتى مع العهد الأموي، لدرجة أن خلفاء بني أمية كانوا يفضلون بناء قصورهم في الصحراء والبادية وكانوا يقضون فيها كثيرًا من أوقاتهم.