المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ويذكر المستشرق " مونتجمري وات " ومن على شاكلته هذه - الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي

[محمد مظهر صديقي]

الفصل: ويذكر المستشرق " مونتجمري وات " ومن على شاكلته هذه

ويذكر المستشرق " مونتجمري وات " ومن على شاكلته هذه المؤاخاة بطريقة عارضة بلا دليل أو شهادة. وهم يعتبرونها تدبيرًا عسكريًا أراد به صلى الله عليه وسلم أن يوجد بين المهاجرين والأنصار انسجامًا عسكريًا في ميدان القتال.

ولرفض هذه النظرية نسوق دليلاً واحدًا ملخصه أنه لما كان هناك اختلاف في العدد بين مجاهدي المهاجرين ومجاهدي الأنصار، فكيف قام هذا الانسجام العسكري؟. في المهمات الأول وطبقًا للروايات المشهورة فإن المهاجرين فقط دون غيرهم هم الذين اشتركوا فيها. فكيف يمكن أن نقبل هذه النظرية التي يروجها المستشرقون، بينما المؤاخاة قد حدثت قبل ذلك بكثير، ثم إنه في الوقت الذي تمت فيه المؤاخاة لم تكن فكرة الحرب وميدان القتال قد ظهرت إلى الوجود.

وعلاوة على ذلك يفهم من الروايات أن المؤاخاة مع المهاجرين القادمين حتى فتح مكة، ظلت قائمة مع الأنصار، بل يمكن أن نجد لها أمثلة بعد فتح مكة.

وعلى كل حال يتضح من المصادر أن المؤاخاة كانت محاولة لإيجاد مجتمع مستقل متجانس كانت فيه قضية حق الوراثة قضية عرضية، أما بقية النظام فقد ظل موجودًا حتى النهاية، وهو النظام الذي بُني عليه المجتمع الإِسلامي وتطور وارتقى بل وكان وجوده منحصرًا عليه تمامًا.

‌الصحيفة النبوية:

عن طريق المؤاخاة، وبعد أن حدث تناسق وتجانس وانسجام بين طبقتي المسلمين داخل المجتمع، كان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية هامة هي توثيق العلاقات بين طبقات المجتمع الأخرى غير المسلمة وبخاصة قبائل اليهود. فهذه الطبقات بصفتها غير مسلمة لم تكن تمثل ركنا من أركان المجتمع الإسلامي

ص: 68

الذى يقوم أساسه على الدين الإسلامي.

ولهذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد معاهدة تعاون وصداقة مع كل قبيلة على حدة، وبعدها وعن طريق معاهدة جماعية -ذكر متنها ابن إسحاق في سيرته الشهيرة- أوجد الرسول بين مسلمي المدينة كلهم وغيرهم من الطبقات الأخرى غير المسلمة وحدة سياسية مشتركة، وتعاونا وانسجما، وهذا الأمر أوجد بدوره انسجامًا واتحادًا سياسيًا بين طبقات المسلمين وغير المسلمين في المدينة كلها.

وقد عرفت هذه المعاهدة في المصادر باسم " صحيفة الرسول " وأطلق عليها المستشرقون اسم " دستور المدينة " وطبقًا لقول " فينسنك " و " وات " وأشباههما من المستشرقين فإن هذه المعاهدة النبوية شملت 470 مادة يلقي بعضها الضوء على العلاقات بين المسلمين واليهود كما أن بعضها يتعلق بالروابط بين اليهود والدولة الإسلامية، ففي المادة الأولى والثانية إعلان بأن المسلمين أمة واليهود أمة، وهذا استدلال عجيب جدًا أن يقدم " ولهاوزن " و" مونتجمري وات " وغيرهما باعتبار الدين والمذهب أساس المجتمع الإسلامي ومن ناحية أخرى يعتبرون أن اليهود [وليس فقط اليهود] بل الطبقات الأخرى غير المسلمة أعضاء داخل " الأمة الإسلامية "، وهو الأمر الذي لم تثبت أبدًا صحته بأي شكل من الأشكال خلال التاريخ الإسلامي، ثم يعترف المستشرقون أيضًا أنه طبقًا لدستور المدينة فإن اليهود وغيرهم من غير المسلمين لم يحصلوا على حقوق تتساوى مع حقوق المسلمين. وفي عدة مواد من مواد المعاهدة أُقرت الأصول القديمة التي كانت تتبعها كل قبيلة طبقًا لدستورها القديم، فيما يتعلق بالدية والدم، وتتحمل القبيلة كلها مسئولية أعمالها ومسئولية أعمال أفرادها، وكان ينبغي على جميع الفئات المشتركة في هذه الصحيفة أن تعتبر المدينة حرمًا، وعليها أن تتحمل مسئولية الدفاع عنها، ودفع

ص: 69

النفقات الدفاعية طبقًا للحصة المقررة عليها، إذا ما تعرضت المدينة للهجوم، وإذا ما وقع خلاف أو نزاع في أي معاملة من المعاملات، فيلزم الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الجميع إطاعة وتنفيذ حكمه وقراره، ويجب ألا يخرج أحد بدون إذنه إلى حرب أو جدال، وألا يلجأ أحد إلى أعداء الإسلام، وبخاصة قريش، وألا يرتكب أحد أي عمل من شأنه أن يكون معاديًا للمسلمين، وأن يكون الجميع أوفياء بأي حال من الأحوال للدولة الإِسلامية.

المعارك مع يهود المدينة:

يجب تحليل العلاقات السياسية بين الدولة الإِسلامية ويهود المدينة على ضوء الصحيفة النبوية.

فبعد غزوة بدر قام يهود بني قينقاع فلم يطعنوا في حق رسول الله والمسلمين فقط، بل أثاروا القتال والنزاع والفتن، وهو ما يتنافي صراحة والمعاهدة، وفي زمانهم اعتدى أحد اليهود على امرأة مسلمة في سوق الصرافة الذي كانوا يمتلكونه ويعملون به، فقام مسلم غيور فضرب المجرم، فقام اليهود على الفور وقتلوا هذا الشاب المسلم، وحاول رسول الله صلى الله عليه وسلم رد بني قينقاع عن غيِّهم هذا، وعن أفعالهم الشائنة تلك، وذكّرهم بشروط المعاهدة، إلا أنهم لم يُظهروا فقط استعدادهم للقتال بل قاموا بنقض المعاهدة تمامًا، وكانت النتيجة القيام بعمل عسكري ضدهم. فقاموا باللجوء إلى حصونهم وحوصروا فيها، وحين دبَّ اليأس في قلوبهم، وبعد خمسة عشر يومًا، أعلنوا الاستسلام دون شرط، فتم إجلاؤهم عن وطنهم، وحملوا معهم جميع أمتعتهم وأموالهم وأجناس الطعام والمواشي، دون الممتلكات غير المنقولة والسلاح، وبعد جلائهم عن الوطن قامت عدة قبائل يهودية بتجديد المعاهدة مرة أخرى، إلا أنه بعد غزوة أحد عمد بنو النضير إلى مساعدة قادة جند وغزاة قريش أعداء المسلمين

ص: 70

ودفعهم غرورهم إلى التآمر على الدولة الإِسلامية الناشئة، تلك التي تعاهدوا على أن يكونوا أوفياء لها، وأن يتحملوا مسئولية الدفاع عنها، وطبقًا للمعاهدة، وحين ذهب الرسول إليهم للحصول على النصيب الواجب دفعه في دية قتل بني عامر، تآمر اليهود عليه وحاولوا قتله صلى الله عليه وسلم، وتم عقابهم عن غدرهم هذا بنفيهم، وحصلوا على جميع التسهيلات التي حصل عليها من قبلهم بنو قينقاع، حتى إنه سمح لهم بالحصول على فوائد قروضهم التي كانت لدى المسلمين، وحصلوا عليها كاملة، وطبقًا لأقوال المؤرخين خرج هؤلاء اليهود من ديارهم معززين مكرمين لدرجة أن نساءهم قمن بوضع ما يمتلكن من ذهب للزينة على أجسادهن.

ومن الملاحظ أن قضية بني قريظة كانت مختلفة إلى حد ما، فقد نقضوا المعاهدة في وقت حرج ودقيق، كان المسلمون فيه بين الحياة والموت وهو ما حدث في الأوقات الحرجة من غزوة الخندق حين أرادوا مساعدة الأعداء بكشف جناح المسلمين، ولم تنجح مؤامرتهم بتوفيق من الله، وبعد عودة جيوش الأحزاب، اتخذت ضدهم إجراءات عسكرية، وفي النهاية اضطروا إلى إلقاء السلاح والتسليم دون شروط، وأصدر حكمًا ضدهم رجل انتخبوه هم هو سعد بن معاذ الأوسي، الذي حكم عليهم طبقًا لما جاء في التوراة، وهو قتل جميع الرجال العاقلين البالغين، وأن تصبح زوجاتهم إماءً وأطفالهم غلمانًا، وقد أثبت باحثان مسلمان هما (و. ن. عرفات) و (بركات أحمد) أن جميع بني قريظة لم يقتلوا، كما أن أولادهم ونساءهم لم يصبحوا غلمانًا وإماءً، بل إن رؤساءهم فقط اعتبروا مجرمي حرب فقتلوا، وتم العفو عن بقيتهم، وردت إليهم أموالهم، كما توضح مصادرنا القديمة أيضًا أن عددًا من أسر بني قريظة وأفرادها تم العفو عنهم بوساطة بعض المسلمين، على شرط أن يتبع اليهود سلوكًا يتسم بالوفاء، وردت إليهم أملاكهم وممتلكاتهم جميعًا.

ص: 71

ويتضح من تحليل جميع الروايات أن الدولة الإِسلامية قامت باتخاذ إجراءات عسكرية ضد هذه القبائل اليهودية الثلاث نظرًا لأسباب سياسية كانت مسئوليتها كاملة تقع على كاهل القبائل المذكورة، فقد قاموا بمعارضة المعاهدة ونقضها قصدًا وعمدًا والعمل خلافًا لما جاء في موادها، وخلافًا لما وقّعوا عليه وأقروه، كما قاموا بارتكاب غدر واضح فاضح ضد الدولة التي تعهدوا رسميًا بمسئولية الدفاع عنها وحمايتها، وقد عوقبوا طبقًا لجرائمهم التي ارتكبوها وليس لأنهم يدينون باليهودية، ويتضح من المصادر -وهو ما يعترف به أيضًا مونتجمري وات ومن على شاكلته من المستشرقين- أنه رغم هذه الإجراءات فقد بقيت في المدينة المنورة أكثر من عشرين أسرة يهودية، ولم يثبت أبدًا ضدها أي إجراء سياسي في العهد النبوي، وفي عهد الخلافة بطولها، فلم تُسلب أموالهم ولا ثرواتهم، ولم يُستول على أملاكهم ولا على ممتلكاتهم، ولو كان هدف الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحصول على الأموال والغنائم لما سمح رسول الله بأن تأخذ القبائل التي نفاها أموالها ومنقولاتها وأمتعتها معها، ولما أعاد لهم قروضهم التي كانت لدى المسلمين.

وصحيح أن الأهمية الاقتصادية للممتلكات غير المنقولة أكثر، وفائدتها أعم، إلا أن الحقيقة أيضًا هي أن الأموال والأمتعة والأجناس التي حملها اليهود معهم كان من الممكن أن تمثل من ناحية أخرى عونًا ومددًا عظيمًا للمسلمين داخل دولتهم.

إن المستشرقين عمدوا إلى تضخيم الإجراءات العسكرية للدولة الإسلامية ضد اليهود إلا أن بعضهم بدأ الآن تدريجيًا في الاعتراف بالحق، رغم أن هذا الاعتراف يحمل بين طياته السمّ إلى حد ما.

يجب أن ننظر دائمًا إلى علاقات يهود المدينة في ضوء خلفية تشكيل الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، وإلا فلن نحللها وننقدها بطريقة صحيحة.

ص: 72