الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعَلامَة الْمُفْتِي شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس بن الشَّيْخ الإِمَام تَاج الدّين الْحلَبِي ثمَّ الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي مولده سنة سبعين وسِتمِائَة
سمع من الْفَخر عَليّ وَابْن الزين والفاروثي واشتغل على ابْن الْمَقْدِسِي وَابْن الْوَكِيل وَابْن)
النَّقِيب وَولي تدريس الصلاحية بالقدس مُدَّة وَأفْتى واشتغل ثمَّ تَركهَا وَسكن دمشق وَحج غير مرّة ثمَّ ولي مشيخة الظَّاهِرِيَّة وتدريس الباذرائية بعد الشَّيْخ برهَان الدّين وَله محَاسِن وَمَكَارِم وفضائل وَخير وَعبد وبسطة فِي الْفُرُوع وَتُوفِّي رَحمَه الله تَعَالَى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة
3 -
(القَاضِي شهَاب الدّين ابْن فضل الله)
أَحْمد بن يحين بن فضل الله بن المجلي دعجان بن خلف ابْن أبي الْفضل نصر بن مَنْصُور بن عبيد الله بن عدي بن مُحَمَّد ابْن أبي بكر عبد الله بن عبيد الله ابْن أبي بكر بن عبيد الله الصَّالح ابْن أبي سَلمَة عبد الله بن عبي الله بن عبد الله ابْن عمر بن الْخطاب القَاضِي شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس ابْن القَاضِي أبي الْمَعَالِي محيي الدّين الْقرشِي الْعَدوي الْعمريّ هُوَ الإِمَام الْفَاضِل البليغ المفوّه الْحَافِظ حجَّة الْكتاب إِمَام أهل الْآدَاب أحد رجالات الزَّمَان كِتَابَة وترسُّلاً وتوصُّلاً إِلَى غايات الْمَعَالِي وتوسُّلاً وإقداماً عل الْأسود فِي غابها وإرغاماً لأعاديه بِمَنْع رغابها يتوقد ذكاء وفطنة ويتلهب ويحدر سيله ذاكرة وحفظاً ويتصبب ويتدفَّق بحره بالجواهر كلَاما ويتألق إنشاؤه بالبوارق المتسرّعة نظاماً ويقطر كَلَام فصاحة وبلاغة وتندى عِبَارَته انسجاماً وصياغة وَينظر إِلَى غيب الْمعَانِي من ستر رَقِيق ويغوص فِي لجة الْبَيَان فيظفر بكبار الدُّرِّ من الْبَحْر العميق اسْتَوَت بديهته وارتجاله وَتَأَخر عَن فروسيته من هَذَا الْفَنّ رِجَاله يكْتب من رَأس قلمه بديهاً مَا يعجز تروِّي القَاضِي الْفَاضِل أَن يدانيه تَشْبِيها وينظم من الْمَقْطُوع وَالْقَصِيدَة جوهراً مَا يخجل الرَّوْض الَّذِي باكره الحيا مزهراً صرَّف الزَّمَان أمرا ونهياً ودبر الممالك تنفيذاً ورأياً وصل الأرزاق بقلمه وَرويت تواقيعه وَهِي إسجالات حكمه وَحكمه لَا أرى أَن اسْم الْكَاتِب يصدق على غَيره وَلَا يُطلق على سواهُ لَا يعْمل القَوْل المكرر مِنْهُ والرأي المردد ظن يُصِيب بِهِ الغيوب إِذا توخّى أَو تعمَّد مثل الحسام إِذا تألق والشهاب إِذا توقد كالسيف يقطع وَهُوَ مسلول ويرهب حِين يغمد وَلَا أعتقد أَن بَينه وَبَين القَاضِي الْفَاضِل من جَاءَ مثله على أَنه قد جَاءَ مثل تَاج الدّين ابْن الْأَثِير ومحيي الدّين ابْن عبد الظَّاهِر وشهاب الدّين مَحْمُود وَكَمَال الدّين ابْن العطّار وَغَيرهم)
هَذَا إِلَى مَا فِيهِ من لطف أَخْلَاق وسعة صدر وَبشر محيا رزقه الله أَرْبَعَة أَشْيَاء لم أرها اجْتمعت فِي
غَيره وَهِي الحافظة قلَّما طالع شَيْئا إِلَّا وَكَانَ مستحضراً لأكثره والذاكرة الَّتِي إِذا أَرَادَ ذكرى شَيْء من زمن مُتَقَدم كَانَ ذَلِك حَاضرا كَأَنَّهُ إِنَّمَا مرَّ بِهِ بالْأَمْس والذكاء الَّذِي تسلط لَهُ على مَا أَرَادَ وَحسن القريحة فِي النّظم والنثر أمّا نثره فلعلّه فِي ذروةٍ كَانَ أوج الْفَاضِل لَهَا حضيضاً وَلَا أرى أحدا فِيهِ جودة وَسُرْعَة عمل لما يحاوله فِي أَي معنى أَرَادَ وَأي مقَام توخاه وَأما نظمه فلعلّه لَا يلْحقهُ فِيهِ إلاّ الْأَفْرَاد
وأضاف الله تَعَالَى لَهُ إِلَى ذَلِك كُله حسن الذَّوْق الَّذِي هُوَ الْعُمْدَة فِي كل فن وَهُوَ أحد الأدباء الكملة الَّذين رَأَيْتهمْ وأعني بالكملة الَّذين رَأَيْتهمْ وأعني بالكملة الَّذين يقومُونَ بالأدب علما وَعَملا فِي النّظم والنثر وَمَعْرِفَة بتراجم أهل عصرهم وَمن تقدمهم على اخْتِلَاف طَبَقَات لناس وبخطوط الأفاضل وأشياخ الْكِتَابَة ثمَّ إِنَّه يُشَارك من رَأَيْته من الكملة فِي أَشْيَاء وينفرد عَنهُ بأَشْيَاء بلغ فِيهَا الْغَايَة وقصَّر ذَلِك عَن شأوه لِأَنَّهُ جوَّد فنَّ الْإِنْشَاء النثر وَهُوَ فِيهِ آيَة وَالنّظم وساير فنونه والترسل البارع عَن الْمُلُوك وَلم أر من يعرف تواريخ مُلُوك الْمغل من لدن جنكزخان وهلم وجرّاً مَعْرفَته وَكَذَلِكَ مُلُوك الْهِنْد الأتراك وأمّا معرفَة الممالك والمسالك وخطوط الأقاليم ومواقع الْبلدَانِ وخواصها فَإِنَّهُ فِيهَا إِمَام وقته وَكَذَلِكَ معرفَة الاسطرلاب وَحل التَّقْوِيم وصور الْكَوَاكِب وَقد أذن لَهُ العالمة الشَّيْخ شمس الدّين الْأَصْبَهَانِيّ فِي الْإِفْتَاء على مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي رضي الله عنه فَهُوَ حِينَئِذٍ أكمل الَّذين رَأَيْتهمْ وَلَقَد استطرد الْكَلَام يَوْمًا إِلَى ذكر الْقُضَاة فسرد الْقُضَاة الْأَرْبَعَة الَّذين عاصرهم شاماً ومصراً وألقابهم وأسماءهم وعلامة كلِّ قَاض مِنْهُم حَتَّى إِنِّي مَا كدت أَقْْضِي الْعجب مِمَّا رَأَيْت مِنْهُ وَاتفقَ يَوْمًا آخر أَنه احتجت إِلَى كِتَابَة صدَاق لبِنْت شمس الدّين ابْن الشِّيرَازِيّ فَذكر على الْفَوْر اسْمهَا وَاسم أَبِيهَا وسرد نسبه فَجئْت إِلَى الْبَيْت وراجعت تعاليقي ومسوَّداتي فَكَانَ الْأَمر كَمَا ذكر لم يخلّ باسم وَلَا لقب وَلَا كنية ولد بِدِمَشْق ثَالِث شَوَّال سنة سَبْعمِائة وَتُوفِّي رَحمَه الله تَعَالَى يَوْم عَرَفَة سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قَرَأَ الْعَرَبيَّة أَولا على الشَّيْخ كَمَال الدّين ابْن قَاضِي شُهْبَة ثمَّ قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين ابْن مُسلم وَالْفِقْه على قَاضِي الْقُضَاة شهَاب الدّين ابْن الْمجد عبد الله وعَلى الشَّيْخ برهَان الدّين قَلِيلا وَقَرَأَ الْأَحْكَام الصُّغْرَى على الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية وَالْعرُوض وَالْأَدب على الشَّيْخ شمس الدّين الصايغ وعلاء الدّين الوداعي وَقَرَأَ جملَة من الْمعَانِي وَالْبَيَان)
على الْعَلامَة شَاب الدّين مَحْمُود وَقَرَأَ عَلَيْهِ جملَة من الدَّوَاوِين وَكتب الْأَدَب
وَقَرَأَ بعض شَيْء من الْعرُوض على الشَّيْخ كَمَال الدّين ابْن الزملكاني وَالْأُصُول على الشَّيْخ شمس الدّين الْأَصْبَهَانِيّ وَأخذ اللُّغَة عَن الشَّيْخ أثير الدّين سمع عَلَيْهِ الفصيح والأشعار السِّتَّة والدريديَّة وَأكْثر ديوَان أبي تَمام وَغير ذَلِك وَسمع بِدِمَشْق من الحجار وست الوزراء وَابْن أبي الْفَتْح والحجاز ومصر والإسكندرية وبلاد الشَّام وَأَجَازَ لَهُ جمَاعَة وصنف فواضل السّمر فِي فَضَائِل آل عمر أَربع مجلدات وَكتاب مسالك الْأَبْصَار فِي عشرَة كبار وَهُوَ كتاب حافل مَا أعلم أَن لأحد مثله والدعوة المستجابة مُجَلد وصبابة
المشتاق ديوَان كَامِل فِي المدائح النَّبَوِيَّة
وسفرة السفرة ودمعة الباكي ويقظة الساهر وقرأتهما عَلَيْهِ ونفخة الرَّوْض وَغير ذَلِك ونظم كثيرا من القصائد والأراجيز والمقطعات والدوبيت والموشح والبلّيق والزجل وَأَنْشَأَ كثيرا من التقاليد والمناشير والتواقيع ومكاتبات الْمُلُوك وَغير ذَلِك وَسمعت من لَفظه غَالب مَا أنشاه وَكتب قدامي كثيرا من التواقيع الحفلة من رَأس الْقَلَم وترسلّ كثيرا وَأَنا أرَاهُ من رَأس الْقَلَم عَن الدولة وَعَن نَفسه إِلَى إخونه فَيَأْتِي بِمَا يبهر الْعُقُول لم أر لأحد قدرته على ذَلِك كتبت إِلَيْهِ ملغزاً فِي نجمٍ
(يَا سيداً أقلامه لم تزل
…
تهدي لآلي النّظم والنثر)
(قل لي مَا اسْم لم يزل قلبه
…
معذّباً بالبيض والسّمر)
(وَكله فِي الأَرْض أَو فِي السما
…
وَثلثه يسبح فِي الْبَحْر)
فَكتب الْجَواب عَن ذَلِك
(دمت خليلي سَائِر الذّكر
…
مثل الَّذِي ألغزت فِي الْقدر)
(بعثتها نجميّةً قد حلت
…
لَكِنَّهَا من سكّر الشُّكْر)
(تطلع بِالنَّجْمِ فَأَما الَّذِي
…
فِي مطمح الزهر أَو الزّهر)
(عجبت مِنْهُ كَيفَ شقّ الدجى
…
وَمَا أَتَى إِلَّا مَعَ الْفجْر)
(من صَنْعَة البرّ ولكنّه
…
قد جَاءَنِي رَاحَة الْبَحْر)
(أأقسمت مِنْهُ قسما بَالغا
…
بِالْفَجْرِ وَاللَّيْل إِذا يسر)
(لقد أغرت الغيد إِذْ لم تَجِد
…
شبيهه فِي الْجيد والثغر)
(بِعقد درٍ مَا لَهُ قيمةٌ
…
يَا حسنه للكوكب الدرّي)
)
(مسهّدٌ تذكى لَهُ مقلة
…
مَقْلُوبَة كالنظر الشّزر)
(وَهُوَ إِذا حققت تَعْرِيفه
…
عرفت مِنْهُ منزل الْبَدْر)
(بِوَاحِد عدّوا لَهُ سَبْعَة
…
تقيس ذيل اللَّيْل بالشّبر)
(فاعذر أخي الْيَوْم إِن قصّرت
…
بديهتي وَاقْبَلْ لَهَا عُذْري)
(فَلَيْسَ بالألغاز لي عَادَة
…
وَلَا غزا فِي جيشها فكري)
وكتبت إِلَيْهِ مَعَ ضحايا
(أيا سيداً أَرْجُو دوَام ظلاله
…
علينا وَأَن يُمْسِي بخيرٍ كَمَا يُضحي)
(وحقك مَا هذي ضحايا بعثتها
…
ولكنني سقت الأعادي إِلَى الذّبْح)
فَكتب الْجَواب عَن ذَلِك
(أَتَتْنِي ضحاياك الَّتِي قد بعثتها
…
لتصبح كالأعداء فِي بكرَة الْأَضْحَى)
(وحقّك أعدانا كلاب جَمِيعهم
…
وحاشاك لَا تجزي الْكلاب لمن ضحّى)
وَكتب إلّي ملغزاً فِي زبيدة
(أَيهَا الْفَاضِل الَّذِي حَاز فضلا
…
مَا عَلَيْهِ لمثله من مزِيد)
(قد تدانى عبد الرَّحِيم إِلَيْهِ
…
وتناءى لَدَيْهِ عبد الحميد)
(أيُّ شَيْء سمي بِهِ ذَات خدر
…
تائهٍ بالإماء أَو بالعبيد)
(هُوَ وصف لذات سترٍ مصونٍ
…
وَهِي لم تخف فِي جَمِيع الْوُجُود)
(مذ مضى حينها بهَا لَيْسَ تَأتي
…
وَهِي تَأتي مَعَ الرّبيع الْجَدِيد)
(وَهُوَ مِمَّا يبشر النَّاس طرا
…
مِنْهُ مأتى وَكَثْرَة فِي العديد)
(وحليم أَرَادَهُ لَا لذاتٍ
…
بل لشيءٍ سواهُ فِي الْمَقْصُود)
(ذَاك شيءٌ من ارتجاه سيفهٌ
…
وَهُوَ شيءٌ مخصّصٌ بالرشيد)
فَكتبت الْجَواب إِلَيْهِ
(يَا فريداً أَلْفَاظه كالفريد
…
ومجيداً قد فاق عبد الْمجِيد)
(وَإِمَام الْأَنَام فِي كل علمٍ
…
وشريكاً فِي الْفضل للتوحيدي)
علم الْعَالمُونَ فضلك بِالْعلمِ وَقَالَ الْجُهَّال بالتقليد
(من تمنى بِأَن يرى لَك شبها
…
رام نقضا بِالْجَهْلِ حكم الْوُجُود)
)
(طَال قدري على السماكين لما
…
جَاءَنِي مِنْك عقد دُرٍّ نضيد)
(شابه الدّرّ فِي النظام وَلما
…
شابه السحر شَاب رَأس الْوَلِيد)
(هُوَ لغزٌ فِي ذَات خدرٍ منيع
…
نزلت فِي العلى بقصر مشيد)
(هِيَ أم الْأمين ذَات الْمَعَالِي
…
من بني هَاشم ذَوي التأييد)
(أَنْت كنت الْهَادِي لمعناه حَقًا
…
حِين لوحت لي بِذكر الرشيد)
(دمت تهدي إِلَيّ كل عجيبٍ
…
مَا عَلَيْهِ فِي حسنه من مزِيد)
وَقَالَ يَوْمًا وَنحن بَين يَدَيْهِ جمَاعَة أجيزوا المصراع الثَّانِي من الْبَيْت الأول
(وخدًّ فَوْقه صدغ
…
فمحمرٌّ ومخضر)
(ومبيضٌّ ومسودٌّ
…
فمحمر ومخضر)
فَقلت أَنا فِي الْحَال وَفرق زانه جعد فأعجبه ذَلِك كثيرا وَكتب إِلَيّ وَقد تَوَاتَرَتْ الأمطار والثلوج والرعود والبروق ودام ذَلِك أَيَّامًا مَا عهد النَّاس مثلهَا كَيفَ أصبح مَوْلَانَا هَذَا الشتَاء الَّذِي أقبل يرعب مقدمه ويرهب
تقدمه ويريب اللبيب من برقه المومض تبسمه وَكَيف حَاله مَعَ رعوده الصارخة ورياحه النافخة ووجوه أَيَّامه الكالحة وسرر لياليه الَّتِي لَا تبيت بليلةٍ مِنْهَا صَالِحَة وسحابه وأمواجه وجليده وَالْمَشْي فَوق زجاجه وتراكم مطره الأنيث وتطاول فرع ليله الأثيث ومواقده الممقوتة وذوائب جمره وأهوان بِهِ وَلَو ان كلّ حَمْرَاء ياقوتة وتحدر نوئه المتصبب وتحير نجمه المتصيب وَكَيف هُوَ مَعَ جَيْشه الَّذِي مَا أطل حَتَّى مدّ مضَارب غمامه وظلّل الجو بِمثل أَجْنِحَة الفواخت من أَعْلَامه هَذَا على أَنه عرى الْأَبْنِيَة وحلّل مِمَّا تلف فِي دَمه سالف الأستية فَلَقَد جَاءَ من الْبرد بِمَا رضّ الْعِظَام وأنخرها ودقّ فخّارات الْأَجْسَام وفخّرها وجمد فِي الْفَم الرِّيق وَعقد اللِّسَان إِلَّا أَنه لِسَان المنطيق ويبّس الْأَصَابِع حَتَّى كَادَت أَغْصَانهَا توقد حطبا وَقيد الأرجل فَلَا تمشي إلاّ تتَوَقَّع عطبا وأتى الزَّمْهَرِير بِجُنُود مَا للقوي بهَا قبل وحمّل الْأَجْسَام من ثقل الثِّيَاب مَا لَا يعْصم مِنْهُ من قَالَ سآوي إِلَى جبلٍ ومدّ من السَّيْل مَا استبكى الْعُيُون إِذا جرى واجتحف مَا أَتَى وَأول مَا بَدَأَ الدمع بالكرى فَكيف أَنْت يَا سَيِّدي فِي هَذِه الْأَحْوَال وَكَيف أَنْت فِي مقاساة هَذِه الْأَهْوَال وَكَيف ترأيت مِنْهَا مَا شيّب بثلجه نواصي الْجبَال وَجَاء بالبحر فتلقف ثعبانه مَا ألقته هراوات البروق من عصّيٍ وخيوط السحب من حبال أما نَحن فَبين أمواج من السحب تزدحم وَفِي)
رَأس جبل لَا يعْصم فِيهِ من المَاء إِلَّا من رحم وَكَيف سيدنَا مَعَ مجامر كانون وشرار برقها القادح وهمّ وقدها الفادح وقوس قزحها التلون ردّ الله عَلَيْهِ صوائب سهامه وبدّل مِنْهُ بوشائع حلل الرّبيع ونضارة أَيَّامه وَجعل حظّ مَوْلَانَا من لوافحه مَا يذكيه ذهنه من ضرامه وَمن سوافحه مَا يؤكده فكره من نوامه وعوضنا وإياه بالصيف وَالله يتَقَبَّل وأراحنا من هَذَا الشتَاء ومشي غمامه المتبختر بكمّه المسبل
فَكتبت إِلَيْهِ الْجَواب عَن ذَلِك وَهُوَ وَيُنْهِي وُرُود هَذِه الرقعة الَّتِي هِيَ طراز فِي حلَّة الدَّهْر وحديقة ذكّرت بِزَمن الرّبيع وَمَا تهديه أَيَّامه من الزهر فَوقف مِنْهَا على الرَّوْض الَّذِي تهدلت فروع غصونه بالأثمار وَنظر مِنْهَا إِلَى الْأُفق الَّذِي كواكبه شموس وأقمار فأنشأت لَهُ أطرابه وأعلمته أَن قلم مَوْلَانَا يفعل بالألباب مَا لَا تَفْعَلهُ نَغمَة الشبّابة وأرشفته سلافاً كئوسها الْحُرُوف وكل نقطة حبابة وَشَاهد أَوْصَاف هَذِه الْأَيَّام الْمُبَارَكَة الْقدوم الْمُتَّصِلَة الظلام فَلَا أوحش الله من طلعة الشَّمْس وحاجب الْهلَال وعيون النُّجُوم فَمَا لنا ولهذه السحائب السحّابة والغمائم السكابة والرعود الصخابة والبروق اللهابة والثلوج الَّتِي أَصبَحت بحصبائها حصّابة وَالْبرد الَّذِي أمست إبرة لغصون الْجُلُود قطابة والزميتا الَّتِي لَا تروى عَن أبي ذَر إلاّ ويروى الْغَيْب عَن أبي قلَابَة كلما أَقبلت فَحْمَة ظلام قدحت فِيهَا البوارق جمرتها وَكلما جَاءَت سَحَابَة كحلاء الجفون رجعت مدها لما أسبلت من عبرتها فَمَا هَذَا شهر طوبة إِن هَذَا إِلَّا جبل ثهلان وَمَا هَذَا كانون إِن إِلَّا تنور الطوفان فَإلَى مَتى قطن هَذِه الثلوج يطْرَح على جباب الْجبَال وَإِلَى مَتى تفاض دلاص الْأَنْهَار وترشقها قَوس قزَح بالنبال وَإِلَى مَتى يشق السَّحَاب مَا لَهَا من الْحلَل والحبر وَإِلَى مَتى ترسل خيوط المزن من الجو وَفِي أطرافها على الغدران إبر وَإِلَى مَتى تجمد عُيُون الْغَمَام وتكحلها البروق بالنَّار وَإِلَى مَتى نثار هَذِه الْفضة وَمَا يرى من النُّجُوم دِينَار وَإِلَى مَتى نَحن على
النَّار حنوّ المرضعات على الفطيم وَإِلَى مَتى تبْكي المزاريب بكاء الْأَوْلِيَاء بِغَيْر حزن إِذا استولوا على مَال الْيَتِيم وَإِلَى مَتى هَذَا الْبَرْق تتلوى بطُون حَيَاته وتنقلب حماليق الْعُيُون المحمرّة من أسود غاباته وَإِلَى مَتى يزمجر عتب هَذِه الرِّيَاح الْعَاصِفَة وَإِلَى مَتى يُرْسل الزَّمْهَرِير أعواناً تصبح حلاوة الْوُجُوه بهَا تالفة أَتَرَى هَذِه الأمطار تقلب بالأزيار أم هَذِه المواليد تَنْتَهِي فِيهَا الْأَعْمَار كم من جليد يذوب لَهُ قلب الجليد وَيرى زجاجه الشفاف أَصْلَب من الْحَدِيد ووحل لَا تمشي هُرَيْرَة فِيهِ الوحى وبردٍ لَا)
تنتطق فِيهِ نؤوم الضُّحَى اللهّم حوالينا وَلَا علينا لقد أضجرنا تراكم الثِّيَاب ومقاساة مَا لهَذِهِ الرَّحْمَة من الْعَذَاب وانجماع كلٍّ عَن إلفه واغلاق بَاب القباب وتخلّل الصباب زَوَايَا الْبيُوت فالأطفال ضباب الضّباب كل ضبًّ مِنْهُم قد ألف بَاطِن نافقائه وَقدم بَين يَدَيْهِ الْمَوْت بداية بدائه قد حسد على النَّار من أَمْسَى مذنباً وَأصْبح عَاصِيا وَتمنى أَن يرى من فواكه الجنات عناباً وقراصيا فَإِن كَانَت هَذِه الأمطار تكاثر فَضَائِل مَوْلَانَا فيا طول مَا تسفح وَإِن كَانَت العواصف تتشبه ببأسه فيا طول مَا تلفح وَإِن كَانَت البروق تحاكي ذهنه المتسرع فيا طول مَا تتألق وَإِن كَانَت الرعود تحاكي جوانح أعدائه فيا طول مَا تشهق وتفهق وَإِن كَانَت السُّيُول تجْرِي وَرَاء جوده فَإِنَّهَا تجْرِي طول المدى وَمَا تلْحق وَالْأولَى بِهَذَا النوء الباكي أَن لَا يحاكي والأليق بِهَذَا الْفَصْل الْمُبْغض أَن لَا يتَعَرَّض فرحم الله من عرف قدره وَتحقّق أَن مَوْلَانَا فِي الْجُود ندره
فَأَجَابَنِي عَن هَذِه الرسَالَة برسالة أُخْرَى وَهِي ووقف عَلَيْهِ وتيمن بِمُجَرَّد إقباله عَلَيْهِ وقبّله لقرب عَهده بيدَيْهِ وعدّه لجلاء المره وأمرّه على عَيْنَيْهِ وشكره وَإِن لم تزل حقائب الشُّكْر محطوطة لَدَيْهِ لَا برح السهد من جنى رِيقه المعلّل والطرب بكأس رحيقه المحلّل والتيه وحاشاه مِنْهُ فِي سلوك طَرِيقه الْمُذَلل والسحاب لَا يطير إِلَّا بجناح نعمائه المبلّل وَالرَّوْض لَا يبرز إِلَّا فِي ثوب تزخرفه المجلل والبرق لَا يَهْتَز فِي مُسبل رِدَائه المسلل والجهد وَلَو كلّف لَا يَجِيء بِمثل سيره المذلّل والنّصر يقْضِي لمواضيه على حدّ حسامه المفلّل وَالْفَجْر لَوْلَا بَيَانه الوضاح لما أرشد ليله المضلّل وَالْبَحْر لَوْلَا مَا عرف من عباب كرمه الزاخر لما ذمّ على عرر الْمَادَّة نواله المقلل وَالْفَخْر وَإِن شمخ أَنفه لَا ينافس عقده الموشح وَلَا يَتَطَاوَل إِلَى تاجه المكلّل وفهمه فهام واقتبسه فجلا الأوهام وَنظر فِيهِ فَزَاد صقال الأفهام وَقصر عَن إِدْرَاكه فَمَا شكّ أَنه إلهام وانْتهى فِيهِ إِلَى الْجَواب فِي وصف أنواء تِلْكَ اللَّيْلَة الماطرة وَمَا موّهت بِهِ السحب من ذهب برقها وفتلته الأنواء من خيوطٍ ودقها ونفخت فِيهِ الرِّيَاح من جمر كانونها وأظهرته حَقِيقَة الرعود من سرّ مكنونها وَمَا ينبته عَارضه ذَلِك الْعَارِض الممطر الَّذِي هُوَ أقوى من شآبيبها وأوقى مِمَّا أرقّته السَّمَاء من جلابيبها وَأسرى من برقها المومض فِي غرابيبها وأسرع من سرى رياحها وَقد جمعت أطواق السحب وَأخذت بتلابيبها
وسبّح الْمَمْلُوك من عجب لهَذِهِ البلاغة الَّتِي كملت الْفَضَائِل وفصلت عَن الْعلم وَفِي الرعيل)
الأول علم الْأَوَائِل وفضلت مبدعها وَحقّ لَهُ التَّفْضِيل وآتته جملَة الْفضل وَفِي ضمنهَا التَّفْصِيل وأنطقت لِسَان بَيَانه وأخرست كل لِسَان
وأجرت قلم كرمه وأحرزت كل إِحْسَان ونشرت علم علمه وأدخلت تَحْتَهُ كل فَاضل وأرهف شبا حدّه وَقطعت بِهِ كل مناظر وكلّ مناضل وَقَالَت للسحاب وَقد طبّق إِلَيْك فَإِن الْبَحْر قد جال وللنوء وَقد أغدق تنحّ فَإِن الطوفان قد حصر أرجال وللرعد وَقد صرخَ اسْكُتْ فقد آن لهَذِهِ الشقائق أَن تسلّت وللبرق وَقد نسخ آيَة اللَّيْل استدرك غلطك لئلاّ تبكّت أما ترى هَذِه الْعُلُوم الجمة وَقد زخر بحرها وَأثر فِي الْأَلْبَاب سحرها وَهَذِه الْفَضَائِل وَكَيف تفننت فنونها عيونها وتهدلت بالثمرات أفنانها وزخرفت بالمحاسن جنانها وَهَذِه الألمعية وَكَيف ذهّبت الأصائل وَهَذِه اللوذعية وَمَا أبقت مقَالا لقَائِل وَهَذِه الْفَاضِل وَقد ذبالها وتقدد بهَا أَدِيم الظّلم وتشقق سربالها وَهَذِه البراعة الَّتِي فاضت فَكل مِنْهَا سَكرَان طافح وَهَذِه الفصائح وَمَا غادرت بَين الجوانح وَهَذِه البلاغة وَقد سَالَتْ بأعناق الْمطِي بهَا الأباطح وَهَذِه الصِّنَاعَة وَقد استعين إِلَّا رابح وَهَذِه الحكم البوالغ وَهَذِه النعم السوابغ وَهَذِه الديم الَّتِي لَا يمْلَأ حَوْضهَا من إِنَاء فارغ وَهَذِه الشيم الَّتِي لَو تنكرت ثمَّ مزجت بالفرات لما سرت لسائغ وَهَذِه الهمم الَّتِي برقتْ بتوجهه فكسفت عناية عارضها وكفت غواية الْبَرْق وَقد ولع وَخط مشيبه بخطّ عارضها حَتَّى جلاها وأضحاها وأغطش لَيْلهَا وَأخرج ضحاها
وَنفخ رماد سحابها المنجلي عَن اللهب وصفّح جوها الفضي وسمرته الشَّمْس بِالذَّهَب وجلا صدأ تِلْكَ اللَّيْلَة عَن صفيحة ذَلِك الْيَوْم المشمس وبدّل بذلك الضَّوْء المطمع من ذَلِك الْغَيْم المؤيس ونقى لازورد السَّمَاء من تِلْكَ الشوائب وَوقى عرض ذَلِك النَّهَار اليقق من المعايب وأترع غَدِير ذَلِك الصَّباح خَالِصا من الرنق وضوّع عنبر ذَلِك الثرى خَالِيا من اللثق وأطلع شمس ذَلِك الْيَوْم يوشّع جَانب مشرقها ويوشّي بذائب اللهب رِدَاء أفقها فَقلت
(كَأَنَّمَا الْيَوْم وَقد موّهت
…
مشرقها الشَّمْس وَلَا جَاحد)
(ثوب من الشّرب ولكنّه
…
طرّز مِنْهُ كمه الْوَاحِد)
أسْتَغْفر الله بل بشر ذَلِك البشير بل الْملك الْكَرِيم وصفيحة وَجهه المتهلل الوسيم بل صحيفَة عمله وصبيحة عمله وصبيحة أمله وأنموذج إيثاره وصنو يَده الْبَيْضَاء وآثاره وشبيه مَا بفضّة لؤلؤه من نثاره وَغير هَذَا من ندى أياديه الْبيض على لإقلال العدّ أَو أكاره لله تِلْكَ الْيَد)
المقبّلة وَللَّه تِلْكَ الْيَد المؤملة وَللَّه تِلْكَ الْمَوَاهِب المجزلة وَللَّه تِلْكَ الرَّاحَة الَّتِي لَا يُقَاس بهَا الثريا وَلَا تَجِيء الجوزاء أُنْمُلَة وَللَّه ذَلِك الْبَين السَّاحر وَذَلِكَ البنان الساخر وَذَلِكَ اللِّسَان المذرّب وَالْبَحْر الزاخر وَذَلِكَ إِلَّا لِسَان الَّذِي طَال بَاعَ علمه وطار فَأوقد ضرام الْيَوْم المشمس شُعَاع فهمه وطاب جنى ثمره وجناب حلمه وَطَاف الأَرْض صيته ونفق كاسد الْفَضَائِل باسمه وَللَّه لله لسيدٍ جَاءَ بِالْفَضْلِ كلّه وألّى بالمر على جلّه واقتبس من نوره وَأَوَى إِلَى ظله لقد ألبس الْمَمْلُوك رِدَاء الفخار وعرفه العوم وَكَانَ لَا يطْمع أَن يشق بحره الزخار ومحا عَنهُ صبغ دجنّة تِلْكَ اللَّيْلَة وَقصر من ذيلها وقهقر من سيلها وَأخذ بعقيصتها وغرّق فِي تيار النَّهَار لَيْلهَا
وَأطلق لِسَانه من الاعتقال وأنطق بَيَانه فَقَالَ ووفقه فِي الْبَيَان وَلَوْلَا توفيقه مَا نطق وَوَقفه وَلَوْلَا إيقافه لغبّر على آثاره فِي وَجه من سبق وَقَامَ وَأقَام الْحجَّة على البلغاء حَيْثُ لَا يجد من يَقُول إِلَّا صدق تمت
فَلَمَّا رَأَيْت مَا هالني وغلّ عَقْلِي وغالني عدلت عَن النثر فِرَارًا ألوذ بالنظم وَقلت جَوَابا
(جَاءَ الْجَواب يزفّ مِنْك فواضلا
…
ويرف فِي روض النَّبَات خمائلا)
(أغرقت غرّ السّحب حِين وصفتها
…
يَا من غَدا بحراً يموج فضائلا)
(لَو لم تكن يمناك بجراً زاخراً
…
مَا أرْسلت تِلْكَ السطور جداولا)
(ضربٌ من السحر الْحَلَال مَتى تشا
…
أخرجته فَيَعُود ضربا دَاخِلا)
(مَا إِن جلا رَاوِيه حور بَيَانه
…
إِلَّا وزان مشاهداً ومحافلا)
(فَمَتَى يروم بِهِ اللحاق مقصرٌ
…
والنجم أقرب من مداه تناولا)
(أبرزته أفقاً فكلّ قرينَة
…
برج حوى مَعْنَاهُ بَدْرًا كَامِلا)
(فَكَأَنَّمَا تِلْكَ الْحُرُوف حدائق
…
أمست مَعَانِيهَا تصيح بلابلا)
(وَكَأن ذَاك الطّرس خدٌّ رائق
…
والسطر فِيهِ غَدا سَائِلًا)
(مهلا أَبَا الْعَبَّاس قد أفحمتني
…
وتركتني بعد التحلي عاطلا)
(بِاللَّه قل لي عِنْدَمَا سطّرته
…
هَل كنت تزْعم أَن تجيب الفاضلا)
(أَقْسَمت لَو باراك فِي إنشائه
…
مَا كَانَ ضمّ على اليراع أناملا)
(حرّكت مِنْك حميّةً عدويّةً
…
مَلَأت فضاء الطرس مِنْك جحافلا)
(كم فِيهِ من لامٍ كلأمة فارسٍ
…
قد هزّ من ألفات قدّك ذابلا)
)
(هَل شِئْت أَن تنشي الْجَواب سَحَابَة
…
تندى فَجَاءَت مِنْك سيلاً سَائِلًا)
(يَا فَارس الْإِنْشَاء رفقا بِالَّذِي
…
نازلته يَوْم الترسل رَاجِلا)
(لَو رام أَن يجْرِي وَرَاءَك خطْوَة
…
نصبت لَهُ تِلْكَ الْحُرُوف حبائلا)
(فاحبس عنانك قد تجاوزت المدى
…
وَتركت سحبان الفصاحة باقلا)
(والفاضل الْمِسْكِين أصبح فنّه
…
من بعد مَا قد راج فِينَا خاملا)
(فَاسْلَمْ لتبليغ النُّفُوس مرامها
…
فالدهر فِي أَثوَاب فضلك مائلا)
(كم فِيك من أملٍ يروق لأنني
…
أَدْرِي بأنك لَا تخّيب آملا)
فَأجَاب
(وافى الكميّ بهَا يهزّ مناصلا
…
ويروم صبغاً للشبيبة ناصلا)
(سبق الظلام بهَا بزينة ليله
…
وَلَو انه فِي الْفَخر حلّى العاطلا)
(حَمْرَاء قانية يذوب شعاعها
…
وَيرى حَصى الْيَاقُوت مِنْهَا سَائِلًا)
(حَمْرَاء قانية يحبّ كئوسها
…
وَقع الصوارم والوشيج الذابلا)
(ذهبية مَا عرق عانة كرمها
…
لكنه كفّ الْكَرِيم شمائلا)
(كفٌّ لمنبجس النوال كَأَنَّمَا
…
دفع السُّيُول تمدّ مِنْهُ نائلا)
(كرم خليليّ يمدّ سماطه
…
ويشب نَارا للقرى وفواضلا)
(ولهيب فكرٍ لَو تطير شرارة
…
مِنْهُ لما بل السَّحَاب الوابلا)
(يذكي بِهِ فِي كل صبحه قرةٍ
…
فهما لنيران القرائح آكلا)
(عجبا لَهُ من سَابق مُتَأَخّر
…
فَاتَ الْأَوَاخِر ثمَّ فَاتَ أوائلا)
(دانوه فِي شبه وَمَا قيسوا بِهِ
…
من ذَا ترَاهُ للغمام مساجلا)
(ماثل بِهِ الْبَحْر الخصمّ فَإِنَّهُ
…
لَا يرتضي خلقا سواهُ مماثلا)
(وافت عقيلته وَلَو بذل امْرُؤ
…
فِيهَا اسْتَقل من البروج معاقلا)
(جَاءَت شَبيه الخود فِي حللٍ لَهَا
…
حمرٍ كنوّار الشَّقِيق مواثلا)
(قد خضّبت بِدَم الحسود أما ترى
…
أثر السوَاد بهَا عَلَيْهِ دلائلا)
(حلل على سحبان تسحب ذيلها
…
وتجرّ من طرف الذيول الفاضلا)
(حكت الْهلَال يلوح طلع نقابها
…
حَتَّى نضت فَرَأَيْت بَدْرًا كَامِلا)
)
(بنت القريحة مَا ونت فِي خدرها
…
حسن المليحة أَن تواصل عَاجلا)
(جَاءَت تضوع من العناق أساوراً
…
لَا بل تخوض من السُّيُول خلاخلا)
(قبّلتها وأعدت تفبيلي لَهَا
…
إِن المتيم لَا يخَاف العاذلا)
(وَأَتَتْ وجيش النوء مرهوب السّطا
…
مَلأ الْوُجُود لَهُ فَنًّا وقبائلا)
(والبرق مشبوب الضرام لِأَنَّهُ
…
صَاد الغزالة حَيْثُ مدّ حبائلا)
(وافت وَرَأس الطود يشكو لمةً
…
قد عمّمت بالثلج شيباً شَامِلًا)
(مَلَأت بِهِ كلّ الفضاء فَلَا يرى
…
إلاّ لجيناً جَامِدا أَو سَائِلًا)
(وكأنما نثرت قراضة فضةٍ
…
أَيدي البروق وَقد حرقن أناملا)
(والأفق كالكأس المفضض ملؤه
…
صهباء قد عقدت حباباً جائلا)
(أثْنَاء يومٍ قد تقهقر ضوءه
…
وبدا ذبالاً فِي الأصائل ناحلا)
(والجوّ منخرق الْقَمِيص كَأَنَّهُ
…
حنق يقدّ من السَّحَاب غلائلا)
(والسيل منحدر يسلّ مهنداً
…
إفرنده ذهب يمدّ سلاسلا)
(لله أَنْت أَبَا الصفاء فإنني
…
ألْقى خَلِيلًا مِنْك لي ومخاللا)
(أَنْت الَّذِي حلّقت صقراً أجدلا
…
وضممت فِي برديك ليثاً باسلا)
(يَا من ينفّق سوق كلّ فضيلةٍ
…
أسئر فَمَا أبقيت بعْدك فَاضلا)
وَمن مدائحه النبويّة مَا أنشدنيه من لَفظه ونقلته من خطّه
(جنحت إليّ مَعَ الأَصْل الْمَذْهَب
…
والركب ممتدُّ الخطا فِي الْمَذْهَب)
(وَالْيَوْم مبيض الْإِزَار وإنّما
…
جنب الْإِزَار مطرّز بالغيهب)
(وَالشَّمْس قد همّت لتذهب رهبةً
…
لكنّها بقيت لنا لم تذْهب)
(وعَلى الأصائل رقة فَكَأَنَّمَا
…
لبست نحول العاشق المتلهّب)
(والجوّ حَيْثُ شممت ينْفخ عنبراً
…
ويذرّ مِنْهُ فَوق فرق الْمغرب)
(ومبشّر النّوّار جَاءَ مخلّقاً
…
لَا شكّ قد خطرت نوافح يثرب)
(وافى يبشّر بالحمى وبأهله
…
يهنيكم هذي الْمَدِينَة وَالنَّبِيّ)
(هذي الْمَدِينَة أشرقت أعلامها
…
يهنيكم فوتم بأشرف مطلب)
(هذي القباب كأنهن غرائس
…
مجلوّة سفرت وَلم تتنقّب)
)
(هذي الحائق والنخيل وماؤها
…
نم واستظل من الهواجر واشرب)
(هَذَا رَسُول الله جدّوا نَحوه
…
تَجدوا النوال الجمّ والخلق الأبي)
(هَذَا رَسُول الله هَذَا أحمدٌ
…
هَذَا النقي الجيب هَذَا مطلبي)
هَذَا صباح الْمُهْتَدي هَذَا ربيع المجتبي هَذَا شَفِيع المذنب
(هَذَا النَّبِي الهاشميّ الْمُجْتَبى
…
من نسل إِبْرَاهِيم أكْرم من أَب)
(هَذَا المصفّى من سلالة آدم
…
الطّيب ابْن الطّيب ابْن الطّيب)
(شرفت بِهِ آباؤه وَأَتَتْ بِهِ
…
أبناؤه والكلّ مثل الْكَوْكَب)
(وَاخْتَارَهُ الله الْمُهَيْمِن ربّه
…
وحباه بالقربى وعزّ المنصب)
(آتَاهُ فِي الْمِعْرَاج فضلا لم يكن
…
لسواه من دون البريّة قد حبي)
(يَا حبّذا فِيهِ مهاجمة الدجى
…
وَلَو انّه أَسد يصول بمخلب)
(ودوام إِيرَاد الركاب صوادياً
…
وَالْفَجْر مثل المَاء تَحت الطحلب)
(لتنيخ فِي بَاب النبّي محمدٍ
…
وتراح من طول الْمسير المتعب)
(يَا معشر العشاق هَذَا أَنْتُم
…
وحبيبكم وَاللَّيْل داجي الغيهب)
(قومُوا انْظُرُوا وتمتّعوا بجماله
…
وتأملو فجماله لم يحجب)
(وتزوّدوا قبل الرحيل فإنّه
…
لم يبْق غير هنيهةٍ لم تذْهب)
(قرب الْفِرَاق فليته لم يقترب
…
منّا وليت مطيّه لم تقرب)
(أَيَّام عمري مَا أَقمت بطيبةٍ
…
اما سواهُ فإنني لم أَحسب)
(لَيْت الزَّمَان يَدُوم لي بوصالها
…
أَو لم يجد فبطيفها المتأوّب)
وَمن شعره
(شادنٌ جدّد وجدي بعد مَا
…
صرت شَيخا لَيْسَ ترضاني الْعَجُوز)
(قلت جَاوز لي متاعي قَالَ قل
…
غير هَذَا ذَاك شيءٌ لَا يجوز)
وَقَالَ
(شربت مَعَ غادةٍ عَجُوز طلاً
…
فاستصحبت بعد منعهَا العاده)
(ليّنها السكر لي فحينئذٍ
…
سلّمت أنّ الْعَجُوز قوّاده)
وَقَالَ)
(سل شجيّاً عَن فؤادٍ نزحا
…
وخليّاً فيهم كَيفَ صَحا)
(ومحبّاً لم يذقْ بعدهمْ
…
غير تبريحٍ بهم مَا برحا)
(مزج الدمع بذكراه لَهُم
…
مثل خدّي من سقَاهُ القدحا)
(زَارَهُ الطيف وَهَذَا عجب
…
شبحٌ كَيفَ يلاقي شبحا)
وَقَالَ
(أأحبابنا والعذر منّا إِلَيْكُم
…
إِذا مَا شغلنا بالنوى أَن نودّعا)
(أبثّكم شوقاً أباري بِبَعْضِه
…
حمام العابا رنّةً وتوجّعا)
(أَبيت سمير الْبَرْق قلبِي مثله
…
أقضّي بِهِ اللَّيْل التَّمام مروّعا)
(وَمَا هُوَ شوق مُدَّة ثمَّ تَنْقَضِي
…
وَلَا أَنه يبكي محباً مفجّعا)
(وَلكنه شوق على الْقرب والنوى
…
أغصّ المآقي مدمعاً ثمَّ مدمعا)
(وَمن فَارق الأحباب فِي الْعُمر سَاعَة
…
كمن فَارق الأحباب فِي الْعُمر أجمعا)
وَقَالَ
(لَا تسل بعد بَينهم مَا جرى لي
…
من دموعٍ كأنهن الآلي)
(خففت وَطْأَة الغرام وَلَكِن
…
عرفت فِي الجفون طيف الخيال)
وَقَالَ
(يَقُول لي من شعره أسود
…
كالليل بل بَينهمَا فرق)
(قلت وَبِي من وَجهه أَبيض
…
فَقَالَ لي هَذَا هُوَ الْحق)
وَقَالَ
(وحقّ الَّذِي أبلى فُؤَادِي بحبكم
…
وصيّر قلبِي فِيكُم هائماً صبّا)
(محبكم المضنى على مَا عهدتم
…
وَلم يجن فعلا فِي الْفِرَاق وَلَا ذَنبا)
(ولكنّها الأقدار تجْرِي على الْفَتى
…
وَتحمل فِيهَا من أحبّته عتبا)
(أأحبابنا أَنْتُم بقلبي وناظري
…
لذَلِك لَا أَشْكُو بعاداً وَلَا قربا)
وَالظَّاهِر أَن مولده سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة أَو سنة سَبْعمِائة ولّما وَقع الطَّاعُون بِدِمَشْق سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قلق وهمع وزمع وتطاير كثيرا وراعى الْقَوَاعِد الطبية وانجمع عَن النَّاس وانعزل وعزم على الْحَج وَاشْترى الْجمال وَبَعض الْآلَات ثمَّ إنّه بَطل ذَلِك وَتوجه بِزَوْجَتِهِ ابْنة)
عَمه إِلَى الْقُدس الشريف وولديه وصاموا هُنَاكَ رَمَضَان فَمَاتَتْ زَوجته هُنَاكَ ودفنها بالقدس فِي شهر رَمَضَان وَحضر إِلَى دمشق وَهُوَ طَائِر الْعقل فَيوم وُصُوله برد وَحصل لَهُ حمّى ربع وأضعفته إِلَى أَن بحرنت بصرع وَتُوفِّي رحمه الله وسامحه يَوْم عَرَفَة سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَدفن عِنْد وَالِده وأخيه بدر الدّين مُحَمَّد بالصالحية
وكتبت أَنا إِلَى أَخِيه القَاضِي عَلَاء الدّين أعزيه فِيهِ بِكِتَاب هَذَا نسخته يقبل الأَرْض وَيُنْهِي مَا عِنْده من الْأَلَم الَّذِي برّح والسقم الَّذِي جرّ ذيول الدمع على الخدود وجرّح لما قدّره الله من وَفَاة القَاضِي شهَاب الدّين سقته بألطف أندائها وأغزرها ساريات الْغَمَام ف إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون قَول من غَابَ شهابه وآب التهابه وذاب قلبه فَصَارَ للدمع قليبا وشاب فوده لّما شبّ جمر فُؤَاده وَلَا غرو فيومه جعل الْولدَان شيبا فيا أسفا على ذَلِك الْوَجْه المليء بالملاحة وَاللِّسَان الَّذِي طالما سحر الْعُقُول ببيانه فصاحت يَا ملك الفصاحة وَالْيَد الَّتِي كم روّضت الطروس أقلامها وأنشأت أسجاعاً لم تذكر مَعهَا بانات الْحمى وَلَا حمامها فَكَأَن أَبَا الطّيب مَا عَنى سواهُ بقوله
(تعثّرت بك فِي الأفواه ألسنها
…
وَالْبرد فِي الطّرق والأقلام فِي الْكتب)
فرخم الله ذَلِك الْوَجْه وبلّغه مَا يرجوه وضوّأه بالمغفرة يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه لقد فقد الْمجد المؤثل مِنْهُ ركنا تتكثر بِهِ الْجبَال فَمَا تقله وَلَا تستقله وعدمت الْآدَاب مِنْهُ بارعاً لَو عاصره الجاحظ مَا كَانَ لَهُ جاحداً وَالْبيع علم أَن مَا فض لَهُ فَضله وَغَابَ عَن الْإِنْشَاء مِنْهُ كَاتب لَيْسَ بَينه وَبَين الْفَاضِل لَوْلَا أَخُوهُ مثله أَتَرَى ابْن المعتز عناه بقوله
(هَذَا أَبُو الْعَبَّاس فِي نعشه
…
قومُوا انْظُرُوا كَيفَ تَزُول الْجبَال)
وَمَا يَقُول الْمَمْلُوك فِي هَذَا الْبَيْت الْكَرِيم إِلَّا إِن كَانَ قد غَابَ بدره وأفل شهابه أَو غاض قطره وتقشّع سحابه فَإِن نيّره الْأَعْظَم بَاقٍ فِي أوجه وبحره الزاخر متلاطم فِي موجه وَفِي بَقَاء مَوْلَانَا خلف عَمَّن سلف وَعوض عَمَّا انْهَدم رُكْنه أَو نقض وجبر لمن عدم الْجلد وَالصَّبْر وَالله
يمتع الْوُجُود بحياته وَيجمع لَهُ بَين ثَوَابه وثباته لِأَنَّهُ قد عَاشَ الدّر المفديّ بِالذَّهَب وأضاءت شمس الْمَعَالِي إِن كَانَ قد خمد اللهب
(علم الله كَيفَ أَنْت فأعطا
…
ك المحلّ الْجَلِيل من سُلْطَانه)
جعل الدّين فِي ضمانك وَالدُّنْيَا فعش سالما لنا فِي ضَمَانه)
وَقد نظم الْمَمْلُوك قصيدةً مختصرة فِي رثاء الْمشَار إِلَيْهِ وَجعل ألفاظها تبكيه وقوافيها تنوح عَلَيْهِ وَهِي
(الله أكبر يَا ابْن فضل الله
…
شغلت وفاتك كلّ قلبٍ لاه)
(كلّ يَقُول وَقد عرته كآبة
…
واهاً لفقدك إِن صبري واه)
(فقدت بك الْأَمْلَاك بَحر ترسلٍ
…
متلاطم الأمواج بالأمواه)
(يَا وَحْشَة الْإِنْشَاء مِنْك لكاتبٍ
…
أَلْفَاظه زهر النُّجُوم تباهي)
(وتوجع الْأَشْعَار فِيك لناظمٍ
…
من لطفه لشذا النسيم يضاهي)
(كم أَمْسَكت يمناك طرساً أبيضاً
…
فأعدته فِي الْحَال طرزاً باهي)
(كم قد أدرت من القريض قوافياً
…
هِيَ نشوة الناشي وزهو الزاهي)
(ورسالة أنشأتها فِي حانة النّبا
…
ذِ حازت حَضْرَة الفكّاه)
(وَوضعت فِي الْآدَاب كلّ مصنّفٍ
…
قَالَت لَهُ البلغاء زاهٍ زاه)
(كم قد خطرت على المجرّة رافلاً
…
يَوْم الفخار بمعطفٍ تياه)
(شخصت لعلياك النُّجُوم تَعَجبا
…
وَلَك السّهى يرنو بطرفٍ ساه)
(مَا كنت إلاّ وَاحِد الدَّهْر الَّذِي
…
يسمو على الأنظار والأشباه)
(من بعْدك الْكتاب قد كتبُوا فَمَا
…
يَجدونَ منجاةً لَهُم من جاه)
(أقلامهم قد أملقت وَرمى الردى
…
أدواتهم ودواتهم بدواهي)
(وطروسهم لبست حداد مدادها
…
أسفا عَلَيْك مؤكداً بسفاه)
(أما الْقُلُوب فإنّها رهن الأسى
…
ترد الْقِيَامَة وَهِي فِيك كَمَا هِيَ)
(أبدا يخيّل لي بأنك حَاضر
…
تملي الْفُؤَاد لي وَأَنت تجاهي)
(فتعزّ فِيهِ واصطبر لمصابه
…
يَا خير مولّى آمرٍ أَو ناهي)
(فدوام ظلّك فِي الْبَريَّة نعْمَة
…
ولشكرها حتم على الأفواه)
(لَا زَالَ جدّك فِي المبادىء صاعداً
…
رتباً سعادتها بِغَيْر تناهي)
إِن شَاءَ الله تَعَالَى