المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل(1)قولهم: "ظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث"(2)ليس على إطلاقه - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المسلك الأول:

- ‌المسلك الثاني:

- ‌المسلك الثالث:

- ‌المسلك الرابع:

- ‌المسلك الخامس:

- ‌المسلك السادس:

- ‌المسلك الثامن:

- ‌المسلك التاسع:

- ‌المسلك العاشر:

- ‌المسلك الحادي عشر:

- ‌المسلك الثاني عشر:

- ‌فصل(1)قولهم: "ظروفُ الزمان لا تكون أخبارًا عن الجثث"(2)ليس على إطلاقه

- ‌المثال الأول:

- ‌المثال الثاني:

- ‌المثال الثالث:

- ‌المثال الرابع:

- ‌المثال الخامس:

- ‌المثال السادس:

- ‌المثال السابع:

- ‌المثال الثامن:

- ‌المثال التاسع:

- ‌المثال العاشر:

- ‌المثال الحادي عشر:

- ‌المثال الثانى عشر:

- ‌المثال الثالث عشر:

- ‌المثال الرابع عشر:

- ‌المثال الخامس عشر:

- ‌المثال السادس عشر:

- ‌ في صفة وضع اليد على اليد

- ‌اختلف قوله في الصلاة بغير الفاتحة

- ‌ومن خط القاضي مما قال: انتقيتُه من "كتاب الصيام" لأبي حفص

- ‌ومن خط القاضي أيضًا مما ذَكَر أنه انتقاه من كتاب "حكم الوالدين في مال ولدهما" جَمْع أبى حفص البرمكي

- ‌ عِتْق الأب جاريةَ ابِنهِ

- ‌ إذا وهب لابنه جاريةً فأراد أن يشترِيَها

- ‌ومما انتقاه من خط أبي حفص البرمكي

- ‌ومن خط القاضي أيضًا

- ‌ومن خطه أيضًا من تعاليقه

- ‌ عذاب القبر

- ‌ومن خط القاضي من جزء فيه تفسير آيات من القرآن عن الإمام أحمد

- ‌فوائد شتى من كلام ابن عقيل وفتاويه

- ‌ذِكْر مناظرةٍ بين فقيهين في طهارة المنيِّ ونجاستِهِ

- ‌فائدةإذا علق الطلاق بأمر يعلمُ العقلُ استحالَتَهُ عادةً

- ‌فائدةإذا جَبَّ عبدَه ليزيدَ ثمنُه

- ‌فائدة(2)الخلافُ في كون عائشة أفضلَ من فاطمة

- ‌مسائل في المخنّث واللوطي وشارب الخمر في رمضان

- ‌فائدةالدليلُ على حَشْرْ الوحوش

- ‌فائدة

- ‌فائدة

- ‌فائدة

- ‌فائدة(2)قولهم: الأعمُ لا يستلزمُ الأخصَّ عينًا

- ‌فائدةارتفاع الواقع شرعًا مُحال

- ‌فائدة(2)الأسبابُ الفعلية أقوى من الأسباب القولية

- ‌قاعدةالحائض إذا انقطع دمُها فهي كالجُنُب

- ‌من مسائل إسحاق بن منصور الكوسج لأحمد

الفصل: ‌فصل(1)قولهم: "ظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث"(2)ليس على إطلاقه

لكانت مفردةً، وكان يُقَالُ:"أو مُخْرِجيْ هُم"؟ بالتخفيف، كما تقول:"أَضَاربِي إِخْوَتُكَ"؟ ولو جعلتَه مبتدأً وخَبرًا لقلت: "أَضَارِبيَّ" بالتشديد، والله أعلم.

فإن قلت: "ما هُم بمُخْرِجيَّ" تعيَّن التشديد ليس إلا؛ لأن الفاعل لا يتقدَّمُ، فلو خفَّفْتَ لكانت المسألة في باب الفعل والفاعل. والفاعلُ لا يتقدَّمُ عاملَه، كان أخَّرْتَ الضميرَ جاز لك الوجهانِ كما تقدم.

‌فصل

(1)

قولهم: "ظروفُ الزمان لا تكون أخبارًا عن الجثث"

(2)

ليس على إطلاقه

، بل فيه تفصيل يُعْرَف من العلة في منع ذلك، والعلَّةُ: أن الزمان لما كان عبارة عن أوقات الحوادث، وكانوا محتاجينَ إلى تقييد حوادثهم وتأريخها بأزمنة تقارنُها معلومة عند المتكلِّم والمخاطب، كما يقدرونها بالأماكن التي تقعُ فيها، جعل

(3)

اللهُ سبحانه وتعالى حَرَكات الشَّمس والقمر، وما يحدثُ بسببهما من الليل والنَّهار والشهور والأعوام، معيارًا يَعْلَم به العِبَادُ مقاديرَ حوادثِ أفعالها وتأريخها ومعيارها، لشدَّة حاجتهم إلى ذلك في الآجال، كالعِدَد والإجارات والسَّلَم والديون المؤجَّلة، ومعرفة مواقيت الحجِّ والصِّيام وغيرها، فصارت حركةُ الشمس والقمر تأريخًا وتقييدًا ومعيارًا للأفعال والحياة والموت والمولد، وغير ذلك.

فالزمانُ إذًا عبارةٌ عن مقارنة حادثٍ لحادث، مقارنة الحادث

(1)

ليست في (ظ)، و (ق):"فائدة". وانظر: "نتائج الفكر": (ص/426 - 428).

(2)

انظر "الجمل": (ص/ 50)، و"اللمع":(1/ 28)، و"الإنصاف":(1/ 61).

(3)

(ظ وع): "جعله".

ص: 902

(ق/222 أ) من الحركة العُلْوية

(1)

للحادث من حركات العباد ومعيارًا له

(2)

، ولهذا سمَّاه النُّحاة ظرفًا؛ لأنه مكيالٌ ومِعْيَارٌ يعلم به مقدار الحركة

(3)

والفعل وتقدُّمه وتأخره، وقربه وبعده، وطوله وقصره، وانقطاعه ودوامه.

فإذا أخبرتَ أن فعلَكَ قارَنَ ذلك الحادثَ المعلومَ من حركة الشمس والقمر، يُوَقَّتُ له ويُقَيَّدُ به فسمِّي وقتًا، وهو في الأصل مصدرُ: وقَّتُّ الشَّيءَ أُوَقِّتُهُ

(4)

: إذا حدَّدته وقَدَّرْته، حتى لو أمكن أن يقيَّدَ ويؤرَّخ بما يقارنُ الفعل من (ظ / 161 ب)، الحوادث غير الزمان استَغْنى عن الزمان، نحو:"قُمْتُ عِنْدَ خُرُوجِ الأَمِيرِ"، و"عِنْدَ قُدُوْمِ الحَاجِّ"، و"عنْدَ مَوْتِ فُلانٍ"، لكن ذلك لا يشتركُ علمه ومعرفته كالاشتراك في معرفة يوم الجمعة وشهر رمضانَ ونحوه، ولا يطَّرد مع أنه أيضًا توقيتٌ وتاريخ بالزمان في الحقيقة، فإن قولك:"عِنْدَ خُرُوج الأَمِيرِ وقُدُومِ الحَاجِّ" إنما تريدُ يه هذه الأوقاتَ والأزمنةَ، ولكن المعلوم عند جميع المخاطبين

(5)

إنما هى أجزاءُ الزمان كالشهر والسنة واليوم وأبعاض ذلك.

وإذا عُرِف هذا فلا معنى لقولك: "زَيْدٌ اليَوْمَ وعَمْروٌ غَدًا"؛ لأن

(1)

(ق): "المعلومة"!.

(2)

وانظر في تعريفه: "بيان تلبيس الجهمية": (1/ 562)، و"مدارج السالكين":(3/ 133).

(3)

من قوله: "العلوية للحادث

" إلى هنا ساقط من (ظ).

(4)

يقال: وقَّتَ الشيءَ يُوَقِّته، ووَقَتَه تَقِتُه، من باب وعَدَ يَعِد، انظر:"اللسان": (2/ 107).

(5)

(ع): "المتخاطبين".

ص: 903

الجُثَثَ ليست بأحداث فتحتاجَ إلى تقييدها بما يقارنُها وإلى تأريخها بما يحدث معها، فما ليس بَحَدَث فلا معنى لتقييده بالحَدَث الذي هو الزمان.

وعلى هذا فإذا أردتَ حدوثَ الجثة ووجودها، فهو أيضًا حادثٌ، فيجوزُ أن يخبرَ عنه بالزمان إذا كان الزمانُ يَسَعُ مُدَّتَها، تقول:"نحن في المائة الثامنة"، و"كان الأَوْزاعي في المائة الثانية"، و"الإمام أحمد في المائة الثالثة"، ونحو هذا.

وعلى هذا فإذا قلت: "اللَّيْلَةَ الهِلالُ" صَحَّ، ولا حاجة بك إلى تكلُّف إضمار "الليلة طلوع الهلال"، فإن المرادَ حدوثُ هلال ذلك الشهر، فَجَرى مَجْرى الأحداث، وكذلك تقول:"الوَرْدُ في أَيَّارَ" وتقول: "الرُّطَبُ في شَهْرِ كَذَا وكَذَا" ومنه قول الشاعر

(1)

:

أَكُلَّ عَامٍ نَعَمٌ تَخوُونَهُ

يُلْقِحُه قَوْمُ وتَنْتِجُونَهُ

ومثله قولك: "البَدْرُ لَيْلَةُ أرْبَعَ عَشْرَةَ" ولا حاجةَ إلى تكلُّف: "طلوع البدر"، بل لا يصِحُّ هذا التقدير؛ لأن السائل إذا سألك:"أَيُّ وَقْتٍ البَدْرُ" فإنه لم يسألْك عن الطُّلوع، إذ هو لا يجهلُه، وإنما يسألُك عن ذات البدر ونفسه، فقولك:"هو لَيْلَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ" تريد به، أن ليلة أربع عشرة هي ليلة كونه بدرًا لا ليلةَ طلوعه، فتأمَّلْه.

وعلى هذا فلا يسوغُ هذا الاستعمالُ حتى يكونَ الزَّمانُ يسَعُ ما قيَّدْتَهُ به من الحَدَث (ق/222 ب) والجثة التي في معناه، فلو كان الزَّمانُ أضيقَ من ذلك لم يَجُزِ التقييدُ به؛ لأن الوقت لا يكون أقلَّ من

(1)

نسبه البغدادي في "الخزانة": (1/ 407) لقيس بن حُصين الحارثي، وهو من شواهد سيبويه:(1/ 65)، وأنشده ابن الأنباري في "الإنصاف":(1/ 62).

ص: 904

المؤقَّت، فلا تقول:"نَحْنُ في يَوْم السَّبْتِ" وإن صحَّ أن تقول: "نحن في المِائَةِ الثَّامِنَةِ" ولا تقول: "الَحجَّاجُ في يوم الخَمِيسِ" وتقول: "الحجَّاجُ في زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ" والله أعلم.

فصلٌ

(1)

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6]، وقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، وقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 193] مما أشكل إعرابُه على فحول العربية، واختلفت أقوالهم في ذلك.

فقال صاحب "الكشاف"

(2)

: "سواء اسم بمعنى الاستواء، وُصِف به كما يوصفُ بالمصادر، ومنه قوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكم} [آل عمران: 64]، وقوله تعالى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} [فصلت: 10] بمعنى: مُسْتَوِيَةٌ، وارتفاعُه على أنه خبرٌ لـ "إِنَّ" و"أَنْذَرْتَهُمْ أم لم تُنْذِرْهُم" في موضع رفع

(3)

على الفاعلية، كأنَّه قيل:"إنَّ الذين كفروا مُسْتَوٍ عليهم إنذارُك وعَدَمُهُ"، كما تقول:"إنَّ زيْدًا مُخْتَصِمٌ أخُوهُ وابنُ عَمِّهِ"، أو

(4)

يكون: "أنْذَرْتَهم أم لم تُنْذِرْهم" في موضع الابتداء، و"سواءٌ" خبرًا مقدَّمًا، بمعنى:"سواء عليهم إنذارك وعدمه"، والجملةُ خبر لـ"إنَّ".

(1)

ليست في (ظ)، و (ق):"فائدة" بدلًا من "قوله عز وجل"، وانظر:"نتائج الفكر": (ص/ 428 - وما بعدها).

(2)

(1/ 25 - 26).

(3)

في "الكشاف": "المرتفع به".

(4)

في الأصول: "و" والمثبت من "الكشاف".

ص: 905

قال: "فإن قلتَ: الفعلُ أبدًا خبرٌ لا مخبَرٌ عنه، فكيف صحَّ الإخبارُ عنه في هذا الكلام؟.

قلتُ: هو من جنس الكلامِ المهجورِ فيه جانبُ اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلَونَ في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلًا بيِّنًا، من ذلك قولهم:"لا تَأْكُلِ السَّمَكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ" معناه: لا يكنْ منكَ أكلُ السمكِ وشربُ اللَبن، وإن كان ظاهرُ اللفظ على ما لا يَصحُّ من عَطْفِ الاسم على الفعل، و"الهمزة وأَمْ" مجردتان بمعنى

(1)

الاستواء، وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسًا.

قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام، كما جرى على حرف النِّداء في قولك:"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَة"، يعني: أن هذا جرى على صُورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذاك جرى على سورة النِّداء ولا نداء، ومعنى الاستواء: استواؤهما في علم المُستفهم عنهما؛ لأنه قد عَلِمَ أن أحد (ظ / 162 أ) الأمرين كائنٌ؛ إما الإنذارُ وإما عدمُهُ، ولكن لا بعينه، وكلاهما معلومٌ بعلم غير معيَّن.

قلت: هذا قولُه وقولُ طائفة من النحاة، وقد اعْتُرِض على ما ذكره بأنه يلزمُ القائل به أن يجيز:"سَوَاءٌ أَقُمْتَ أم قَعَدْتَ" دون أن تقول: "عَلَيَّ أو عَلَيْكَ"، وأنه يجيزُ:"سِيَّانِ أَذَهَبَ زَيْدٌ أمْ جَلَسَ" و"متفقان أقَامَ زَيْدٌ أم (ق/223 أ)، قَعَدَ"، وما كان نَحْوَ هذا مما لا يجوزُ في الكلام ولا روي عن أحد؛ لأن التقدير الذي قدَّروه منطبقٌ على هذا.

وقالت طائفةٌ أخرى

(2)

: "سَوَاءٌ" هاهنا مبتدأ، والجملة الاستفهامية

(1)

"الكشاف": "لمعنى".

(2)

انظر: "الحجة": (1/ 200) لأبي علي الفارسي.

ص: 906

في موضع الخبر، وإنما قالوا هذا، وإن كان "سواء" نَكِرةً؛ لأن الجُمَل لا تكون في موضع المبتدإ أبدًا، ولا في موضع الفاعلِ، وأُوْرِد عليهم: أن الجملةَ إذا وقعتْ خبرًا فلابُدَّ فيها من ضَمير يعودُ على المبتدأ، فأين الضمير العائد على "سواء" هاهنا؟ فأجابوا عن هذا: بأنَّ "سَوَاءٌ" وإن كان مبتدأً في اللّفظِ فهو في المعنى خبرٌ؛ لأن المعنى: "سَوَاءٌ عَلَيْهم الإنْذَار وتركُهُ"، قالوا: ولا يلزمُ أن يعودَ من المبتدأ ضميرٌ على الخبر، فلما كان "سواءٌ" خبرًا في المعنى دون اللفظ رُوْعي المعنى.

ونظير هذا قولهم: "ضَرْبي زَيْدًا قائِمًا"، فإنه لم يعُدْ على "ضربي" ضميرٌ من الحال التي سدَّت مَسَدَّ الخبر؛ لأنّ معناه:"أَضْرِبُ زَيْدًا أو ضَرَبْتُ زَيْدًا" والفعلُ لا يعودُ عليه ضميرٌ، فكذلك ما هو في معناه وقوَّته.

ونظيره أيضًا: "أقائم أَخُوكَ"؛ لأن: "أخوك" وإن سدَّ مسَدَّ الخبر، فإنه فاعلٌ في المعنى، و"قائِمٌ" معناه معنى الفعل الرافع للفاعل

(1)

، فرُوْعيت هذه المعانى في هذه المواضع وهُجِر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وبقي حكم الابتداء مقتضيًا للرَّفع لفظًا، والمبتدأ متضمِّنٌ لمعنى يخالف معنى الابتداء، فحُكم لذلك المعنى فلم يعُدْ على اللفظ ضمير، وحُكِم للفظ المبتدأ بحكم الابتداء فارتفع.

فهذا قول هذه الطائفة الأخرى، واعترض عليه -بعد الاعتراف بحُسْنه وقوَّته-: بأن العرب لم تَنْطِقْ بمثل هذا في "سواء" حتى قَرَنَتْهُ بالضمير المجرور بـ "على" نحو: "سَوَاءٌ علَيْهم وسَوَاءٌ عليكم وسواء

(1)

(ع وق): "للفعل".

ص: 907

عَلَيَّ" فإن طَرَدوا ما أصَّلوه في "سَوَاء"، سواء

(1)

قُرِن بـ "على" أم لم يُقْرَن فليس كذلك، وإن خصُّوه بالمقرون بـ "على" فلم يُبَيِّنُوا سِرَّ اختصاصه بذلك.

وقالت طائفةٌ ثالثةٌ -منهم السُّهَيْليُّ

(2)

وهذا لفظُه-: "لما كانتِ العربُ لا تقول: "سِيَّانِ أَقُمْتَ أمْ قَعَدْتَ" ولا: "مِثْلانِ" ولا "شِبْهَان"، ولا يقولون ذلك إلا في "سواء" مع المجرور بـ"عَلَى" وجبَ البحثُ عن السِّرِّ في ذلك وعن مقصد القوم في هذا الكلام، وعن المُساواة بَيْنَ أيِّ شيءٍ هي؟ وفي أيِّ الصِّفات هي من الاسمين الموصوفين بالتَّساوي؟ فوجدنا معنى الكلام ومقصودَهُ إنما هو تَسَاوٍ في عدم المبالاة بقيامٍ أو قعود إو إنذار أو ترك إنذار، ولو أرادوا المساواةَ في صِفَة موجودةً في الذات لقالوا: "سَوَاءٌ الإقَامَة والشُّخُوصُ" كما يقولون: "سَوَاءٌ زَيْدٌ وعَمْرٌو"، و"سِيَّانِ" و"مِثْلانِ" يعني (ق/223 ب) استهواءَهما في صفة لذاتهما، فإذا أردتَ أن تسوِّيَ بين أمرين في عدم المبالاة وترك الالتفات لهما، وأنهما قد هانا عليك، وخفَّا عليك

(3)

، قلت:"سَوَاءٌ عَلَيَّ أَفَعَلَ أمْ لم يَفْعَلْ"، كما تقول:"لا أُبَالِي أَفَعَلَ أمْ لم يَفْعَلْ"؛ لأن المبالاة فعل من أفعال القلب، وأفعال القلب تُلْغَى إذا وقعتْ بعدها الجملُ المستفْهَم عنها أو المؤكَّدة باللام، تقول:"لا أَدْرِي أَقَامَ زَيْدٌ أمْ قَعَد"، و"قَدْ عَلِمْتُ لَيَقُومَنَّ زيْدٌ"، ولكن لا تُلْغى هذه الأفعال القلبية حتى يُذْكَر فاعلها في اللفظ أو في المعنى، فتكون حينئذٍ في موضع المفعول بالعلم.

(1)

من (ظ).

(2)

في "نتائج الفكر" كما تقدم.

(3)

"وخفا عليك" سقطت من (ق).

ص: 908

ثم قال:

فصل

(1)

فإذا ثَبَتَ هذا فـ "سواء" مبتدأ في اللفظ، و"عَلَيَّ وعَلَيْكُمْ أو عَلَيْهِمْ" مجرورٌ في اللفظ، وهو فاعل في المعنى المضمون من

(2)

مقصود الكلام، إذْ قولك:"سَوَاءٌ عَلَيَّ" في معنى: "لا أُبَالِي"، وفي "أُبَالي" فاعل، وذلك الضمير الفاعلُ هو المجرورُ بـ "على" في المعنى؛ لأن الأمرينِ إنما استويا عليك في عدم المبالاة، فإذا لم تبالٍ بهما لم تَلْتَفِتْ بقلبك إليهما، (ظ/162 ب)، وإذا لم تلتفتْ فكأنك قلت:"لا أَدْرِي أَقُمْتَ أمْ قَعَدْتَ".

فلما صارتِ الجملةُ الاستفهاميةُ في معنى المفعول لفعل

(3)

من أفعال القَلْب، لم يلزمْ أن يكونَ فيها ضميرٌ يعود على ما قبلَها؛ إذ ليس قبلَها في الحقيقة إلا معنى فعل يعملُ فيها، وكيف يعودُ من المفعول ضميرٌ على عامله؟! ولولا قولك:"عَلَيَّ وعَلَيْكُمْ" ما قَوِي ذلك المعنى، ولا عمل في الجملة، ولكن لما تعلَّقَ الجارُّ به صار في حكم المنطوق به، وصار المجرورُ هو الفاعلَ في المعنى، كالفاعل في:"عَلِمْتُ، ودَرَيْتُ، وبَالَيْتُ".

ألا ترى كيف صار المجرورُ في قولهم: "له صَوْتٌ صَوْتَ غُرَابٍ" بمنزلة الفاعل في يصوت، حتى كأنك نطقت بـ:"يُصَوِّتُ" فنصبت "صوتَ غراب لذلك".

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 430). و (ق): "فائدة".

(2)

"النتائج": "المتضمن في".

(3)

"النتائج": "بفعل".

ص: 909

وإذ قلت: "عليهِ نَوْحٌ نوحَ الحَمَامِ" رفعت: "نوحَ الحَمَام"؛ لأن الضمير المخفوض بـ "على" ليس هو الفاعل الذي ينوحُ، كما كان في قولك:"له صَوْتٌ صَوْتَ غُرَابٍ"، وكذلك المجرور في "سَوَاءٌ عَلَيْهِم" هو الفاعل الذي في قولك:"لا يُبَالُون ولا يَلْتَفِتُونَ"، إذ المساواةُ إنما هي في عدم المبالاة والالتفات، والمتكلِّمُ لا يريدُ غيرَ هذا بوجه، فصار الفاعلُ مذكورًا والمبالاةُ مفعولةً مقصودةً

(1)

، فوقعت الجملةُ الاستفهاميةُ مفعولًا لها".

قال: "ونظير هذه المسألة -حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ- قوله تعالى.

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] فـ "بدا": فعل ماض، فلابُدَّ له من فاعل، والجملةُ المؤكَّدةُ باللام لا تكونُ في موضع فاعل أبدًا، وإنما تكونُ في موضع المفعول بـ"علمت"[أو "علموا" فهي هاهنا في موضع المفعول،]

(2)

وإن لم يكن (ق / 224 أ) في اللفظ: "علموا" ففي اللَّفظ ما هو في معناه؛ لأن قوله: "بَدَا": ظَهرَ للقلب لا للعين.

وإذا ظهر الشيءُ للقلب وقد عُلِمَ، والمجرور من قوله:"لهم" هو الفاعلُ، فلما حصل معنى العلم وفاعله مقدَّمًا على الجملة المؤكَّدة باللام، صارت الجملة مفعولًا لذلك العلم، كما تقول:"عَلِمْتُ لَيَقُومَنَّ زَيْدٌ"، ولام الابتداء وألف الاستفهام يكون قبلهما أفعال القلب ملغاةً، فكذلك:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} ، وقعت

(3)

الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من أفعال القلب وبعد فاعله، كما تقدَّم بيانُ ذلك

(1)

"النتائج": "معقولة متصوَّرة".

(2)

ما بينهما من "النتائج".

(3)

(ظ): "رفعت".

ص: 910

حين قدرناه بقولك: "لا يُبَالُونَ" فالواو في: "يُبَالُونَ" هو الفاعل، والضمير في "عليهم" هو الفاعل في المعنى.

ألا ترى كيف اخْتُصَّ بـ "على" من بين حروف الجر؛ لأن المعنى إذا كان يرجعُ إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمرانِ، وصارا أخفَّ شيء على من لا يُبَاليهما ويلتفتُ إليهما، فتأملْه تجدْ المعانيَ صحيحةً، والفوائدَ كثيرةً مزدحمةً تحتَ هذا اللَّفظ الوجيز.

فلذلك نبَتْ عنه كثيرٌ من الأفهام حتى تناقضتْ عليهم الأصولُ التي أَصَّلوها، واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التي أُلْزِمُوها

(1)

، مع ما غابَ عنهم من فوائدِ هذه الآيات وإعجازها وسَمَانة

(2)

هذه الكلمات على إيجازها.

ثم قال:

"فصل

(3)

فإن قيل: ما بالُ الاستفهامٍ في هذه الجملة والكلام خبرٌ محضٌ؟.

قلنا: الاستفهامُ مع "أمْ" يُعطي معنى التَّسوية، فإذا قلت:"أَقَامَ زَيْدٌ أمْ قَعَدَ"؟ فقد سوَّيت بينهما في علمك. فهذا جوابٌ فيه مَقْنَعٌ.

وأما التحقيق في الجواب فأَن تقول: ألفُ الاستفهام لم يُخْلَعْ منها ما وُضعت له، ولا عزلت عنه، وإنما معناه:"عَلِمْتُ أقَامُ زَيْدٌ أم قَعَدَ"، أي: علمتُ ما كنتُ أقول فيه هذا القول، وأستفهم عنه بهذا

(1)

(ع وظ): "التزموها".

(2)

(ع): "وسمات".

(3)

بياض في (ق)، وانظر:"النتائج": (ص/432).

ص: 911

اللفظ، فحكيت الكلام كما كان، ليعلم المخاطب أنّ ما كان مستفهَمًا عنه معلومٌ، كما تقول:"قَامَ زَيْدٌ" فترفعه لأنه فاعل، ثم تقول:"ما قَامَ زَيْدٌ" فيبقى الكلامُ كما كان

(1)

، وتبقى الجملة محكيَّةً على لفظها لتدُلَّ على أنَّ

(2)

ما كان خبرًا متوهَّمًا عند المخاطب فهو الذي نفي بحرف النفي، ولهذا نظائرُ يطولُ ذكرُها.

فكذلك قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]، لما لم يُبالوا بالإنذار ولا نفعهم، ولا دخل في قلوبهم منه شيءٌ صار في حكم المستفهَمْ عنه، أكان أم لم يكن، فلا تسمَّى الألفُ ألفَ التَّسوية كما فعل بعضُهم، ولكن ألف الاستفهام، بالمعنى الذي وضعتْ له ولم تَزُل عنه".

ثم قال

(3)

"فإن قيل: فلمَ جاء بلفظ الماضي (ق/224 ب) أعني {أَأَنْذَرْتَهُمْ} وكذلك {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 193]، و"أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ"؟ ولم يجيءْ بلفظ الحال ولا المستقبل؟.

فالجوابُ من وجهين:

أحدهما: أن في الكلام معنى الشرط، والشرطُ يقعُ [بعده]

(4)

.

المستقبل بلفظ الماضي، تقول:"إنْ قَامَ زَيْدٌ غَدًا قُمْتُ"، وها هنا يتقدَّر ذلك المعنى، كأنك قلت:"إنْ قَامَ زيدٌ أو قعدَ لم أبالِهِ"

(1)

من قوله: "ليعلم المخاطب

" إلى هنا ساقط من (ظ).

(2)

في الأصول: "أنه" والتصويب من "النتائج".

(3)

في "النتائج" هنا: "فصلٌ".

(4)

الأصول: "بعد".

ص: 912

و"لا ينتفعُ القوم إنْ أنذرتَهم أم لم تُنْذِرْهم" فلذلك جاءَ بلفظ الماضي.

وقد قال الفارسيُّ قولًا غير هذا

(1)

؛ ولكنه قريبٌ منه في اللَّفظ، قال: إن ألف الاستفهام تضارعُ "إن" التي للجزاء؛ لأن الاستفهامَ غيرُ واجب، كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عُدِمَ المشروطُ، وهذه العبارة فاسدةٌ من وجوه يطولُ ذكرها، ولو رأى المعنى الذي قدمناه لكان أشبَهَ.

على أنه عندي مدخول أيضًا؛ لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال خاصَّة دونَ الحال والماضي، وقوله:{سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهمْ} ، و {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} لا تختصُّ بالاستقبال، بل المساواة في عدم المبالاة موجودةٌ في كلِّ حال، بل هي أظهرُ في فعل الحال، ولا يقعُ بعد حرف الشرط فعل حالٍ بوجه.

والتحقيقُ في الجواب أن نقولَ: قد أَصَّلنا في "نتائج الفكر"

(2)

أصلًا، وهو أن الفعل لم يُشْتَقَّ من المصدر مضافًا إلا ليدُلَّ على كون الاسم مخبَرًا عنه -أعني الفاعل الذي كان المصدرُ مضافًا إليه- ولم

(3)

تختلف أبنيتُه بعدما اشتقَّ عن المصدر إلا لاختلاف أحوال الحَدَث عن مُضِيٍّ أو استقبال، فإن كان قصدُ المتكلِّم أن لا يُقَيِّدُ الحَدَثَ بزمان دونَ زمان، ولا بحالِ استقبال دونَ حالِ مُضِي فليجعلُه

(4)

مطلقًا بلفظ الماضي الذي لا زوائدَ فيه، ليكونَ أخَفَّ على اللسان وأقربَ إلى لفظ الحَدَث المشتقِّ منه، ألا ترى أنهم يقولون:"لا أَفْعَلُهُ ما لاحَ بَرْقٌ وما طَارَ طَائِرٌ"، بلفظ الماضي خاصَّة لما أرادوا مدَّةً مطلقة غيرَ

(1)

انظر "الحجة": (1/ 202 - 203) للفارسي.

(2)

انظر المسألة رقم (10) في "النتائج": (ص/ 66).

(3)

في الأصول: "لم" بدون الواو، والمثبت عن "النتائج".

(4)

في الأصول: "بل يجعله" والمثبت من "النتائج".

ص: 913

مقيَّدة، وأنه لا يفعل هذا الشيء في مدة لوْح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك، فلم يجاوزوا لفظَ الماضي؛ لأنهم لا يريدون استقبالًا ولا حالًا على الخُصوص.

فإن قلت: ولا يُريدونَ أيضًا ماضيًا، فكيف جاء بلفظ الماضي؟.

قلنا: قد قرن معه: لا أُكَلِّمُهُ ولا أفعلُه، فدلَّ على أن قوله:"ما لاحَ بَرْقٌ" لا يريدُ به لَوْحًا قد انقضى وانقطع، إنما يريدُ مقارنة الفعل المنفي (ق/225 أ) للفعل الآخر في المدَّة على الإطلاق والدوام، فليس في قوله:"ما لاحَ بَرْقٌ" إلا معنى اللَّوْح خاصَّة، غير أنه تُرك لفظ المصدر ليكون البرقُ مخبرًا عنه كما تقدم، فمتى أردت هذا ولم تُرِدْ تقييدًا بزمان فلفظ الماضي أحقُّ

(1)

وأولى.

وكذلك قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه به، فاشتقَّ من الإنذار الفعل ليدلَّ على أن المخاطَب فاعلُ الإنذار، وترك الفعل بلفظ الماضي؛ لأنه مطلقٌ في الزمان كُلِّه، وأن القومَ لم يُبالوا بهذا ولا يبالون ولا هم في حال مبالاة، فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع معنى، إذ ليس المرادُ تقييدَ الفعل بوقت ولا تخصيصَه بحال.

فإن قلت: لفظ الماضي يخصِّصُه بالانقطاع.

قطنا: "حَدِّثْ حديثينِ امرأةً"

(2)

، وفيما قدمناه ما يغني عن الجواب مع ما في قوله:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} من ثبوت هذه الصِّفة فيهم وحصولها في الحال وفي المال، فلا تقول:"سَوَاءٌ ثَوْبَاكَ أو غُلامَاكَ"،

(1)

(ق) و"النتائج": "أخف".

(2)

انظر "مجمع الأمثال": (1/ 192).

ص: 914

إذا كان الاستواءُ فيما مضى، وهما الآن مختلفان، فهذه القرينةُ تنفي الانقطاعَ الذي يُتَوَهَّمُ في لفظ المُضِيِّ، كما كان لفظ الحال في قولك:"لا أُكَلِّمُهُ ما دَامَتِ السَّمواتُ والأرْضُ"، ينفي الانقطاعَ المتوهَّمَ في "دام"، وإذا انتفى الانقطاعُ، وانتفتِ الزوائدُ الأربعُ، بقي الحَدَيث

(1)

مطلقًا غيْرَ مقيّد في المسألتين جميعًا، فتأمَّلْ هذا تَجِدْه صحيحًا.

فصل

(2)

الكلام على واو الثمانية

قولهم: إن الواوَ تأتي للثَّمانية، ليس عليه دليلٌ مستقيمٌ، وقد ذكروا ذلك في مواضعَ فَلْنَتَكَلَّمْ عليها واحدًا واحدًا:

الموضع الأول: قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112] فقيل الواو في "والناهون" واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة، وذُكِر في الآية وجوهًا أُخَرَ:

منها: أن هذا من التَّفَنُّنِ في الكلام أن

(3)

يُعْطَفَ بعضُه، ويتركَ عطفُ بعضٍ.

ومنها: أن الصَّفات التي قبل هاتين (ظ / 163 ب)، الصفتين صفاتٌ لازمةٌ متعلِّقَةٌ بالعامل، وهاتان الصفتان مُتَعَدِّيتان متعلِّقتان بالغير فَقُطِعَتا عما قبلَهما بالعطف.

(1)

الأصول: "الحدث" والمثبت من "النتائج".

(2)

انظر ما تقدم في الكتاب (2/ 664)، وإحالة المؤلف في استيفاء الكلام على واو الثمانية على كتابه "الفتح المكيّ"، وانظر "حادي الأرواح":(ص/ 49).

(3)

ليست في (ع).

ص: 915

ومنها: أن المُرَادَ التنبيهُ على أن الموصوفين بالصِّفات المتقدِّمة هم (الآمرون بالمعروف والناهونَ عن المنكر).

وكلُّ هذه الأجوبة غيرُ سديدة، وأحسنُ ما يقال فيها:(ق / 225 ب) إن الصِّفاتِ إذا ذُكِرتْ في مَقامِ التَّعداد، فتارة يتوسَّطُ بينها حرفُ العطف لتغايُرها في نفسها، وللإيذان بأن المُرادَ ذكرُ كُلِّ صفة بمفردها، وتارةً لا يتوسَّطُها العاطفُ لاتحاد موصوفها وتلازُمِها في نفسها، وللإيذان بأنها فى تلازُمها كالصفة الواحدة، وتارةً يتوسَّطُ العاطفُ بين بعضها ويُحذفُ مع بعض ٍبحسْب هذين المقامين.

فإذا كان المقامُ مقامَ تَعداد الصِّفات، من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسُنَ إسقاطُ حرف العطف، وإن أريدَ الجمعُ بين الصِّفاتْ أو التَّنبيه على تغايُرها حسُنَ إدخالُ حرف العطف.

فمثال الأول: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} وقول: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ} [التحريم: 5].

ومثال الثاني: قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]، وتأمَّل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى:{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 1 - 3] فأتى بالواو في الوصفين الأولَين، وحذفها في الوصفين الأخيرين؛ لأن غفرانَ الذنب وقبولَ التَّوْب قد يُظَنُّ أنهما مجريانِ مجرى الوصف الواحد لتلازُمِهِما، فمَنْ غفر الذنبَ قبِلَ التوب، فكان في عطف أحدهما على الآخر ما يدلُّ على أنهما صفتانِ وفِعلانِ مُتغايرانِ ومفهومانِ مختلفانِ لكلِّ منهما حُكْمُهُ:

أحدهما: يتعلَّق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة.

ص: 916

والثاني: يتعلَّقُ بالإحسان والإقبال على الله تعالى والرُّجوع إليه، وهو التوبة، فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة.

وحَسَّنَ العطفَ هاهنا هذا التَّغايُرُ الظاهرُ، وكلَّما كان التغايرُ أَبْيَنَ كان العطفُ أحسنَ؛ ولهذا جاء العطفُ في قوله:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] وترك في وقوله: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر 23] وقوله: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] وأما: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] فترك العطف بينهما لنكتة بديعة، وهي الدلالة على اجتماع هذينِ الأمرينِ في ذاته سبحانه، وأنه حال كونِه شديدَ العقاب، فهو ذو الطَّوْل، فطَوْله لا يُنافي شدَّةَ عقابه بل هما مجتمعانِ له، بخلاف الأول والآخر، فإن الأوَّليَّة لا تجامعُ الآخريَّة، ولهذا فسَّرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"أنتَ الأوَّلُ فَلَيْسَ قبلَكَ شَيءٌ، وأنتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ"

(1)

فأوَّلِيَّتُهُ أزليَّتُهُ، وآخريَّتُهُ أبَدِيَّتُهُ.

فإن قلت: فما تصنعُ بقوله: (ق/226 أ){وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} فإن ظهوره تعالى ثابتٌ مع بطونه، فيجتمع في حقه الظهور والبطون، والنبي صلى الله عليه وسلم فسَّر الظاهرَ بأنه الذي ليس فوقَه شيء، والباطنَ بأنه الذي ليس دونَه شيء، وهذا العُلُوُّ والفوقيَّةُ مجامع لهذا القرب والدُّنُوِّ والإحاطة.

قلت: هذا سؤالٌ حَسَن، والذي حسَّنَ دخولَ "الواو" هاهنا: أن هذه الصِّفات متقابلةٌ مُتَضَادَّةٌ، وقد عُطِف الثانى منهما على الأول للمقابلة التي بينهما، والصِّفَتَانِ الأخْرَيَانِ كالُأولَيَيْنِ في المُقابلة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأوَّلِ، فكما حَسُن العطفُ

(1)

أخرجه مسلم رقم (2713) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 917

بين الأوليين حسن بين الأخريين.

فإذا عُرِفَ

(1)

هذا؛ فالآيةُ التي نحن فيها يَتَّضِحُ بما ذكرناه معنى العطف وتركُه فيها؛ لأن كلَّ صفةٍ لم تُعْطفْ على ما قبلَها فيها كان فيه تنبيهٌ على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد فلم يحتجْ إلى عطف، فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما متلازمانِ مستمدَّانِ من مادَّةٍ واحدة، حسُنَ العطفُ ليَبِيْنَ أنَّ كلَّ وصف منهما قائمٌ على حِدَتِهِ مطلوبٌ بتعيينه، لا يُكتفى فيه بحصول الوصفِ الآخر، بل لابدَّ أن يظهر أمرُه بالمعروف بصريحه، ونهيه عن المنكر بصريحه، (ظ / 164 أ) وأيضًا فحَسَّنَ العطفَ هاهنا ما تقدَّمَ من التَّضَادِّ، فلما كان الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر ضِدَّيْنِ؛ أحدُهما طلب الإيجاد، والآخرُ طلبُ الإعدام كانا كالنَّوْعين المُتَغَايِرَيْنِ المُتَضَادَّيْنِ، فحَسُن لذلك العطف.

الموضع الثاني: قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5]، إلى قوله {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} ، فقيل: هذه واو الثمانية لمجيئِها بعد الوصف السابع. وليس كذلك، ودخولُ "الواو" هاهنا متعيِّنٌ؛ لأن الأوصاف التي قبلَها المرادُ اجتماعُها في النساء، وأما وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكنُ اجتماعُهما، فتعيَّنَ العطف؛ لأن المقصودَ أنه يُزَوِّجُهُ بالنَّوعينِ: الثَّيِّباتِ والأبكار.

الموضع الثالث: قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] قيل: إدخال "الواو" هاهنا لأجل الثمانية، وهذا يحتملُ

(1)

(ق): "عطف".

ص: 918

أمرين؛ أحدهما هذا، والثاني أن يكون دخول "الواو" هاهنا إيذانًا بتمام كلامهم عند قولهم:(سَبْعَة) ثم ابتدأ قوله: (ق/226 ب){وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ، وذلك يتضمَّن تقريرَ قولهم:(سَبْعَةٌ) كما إذا قال لك "زَيْدٌ فَقِيهٌ"، فقلت:"ونَحْوِيٌّ" وهذا اختيار السهيلي

(1)

.

وقد تقدَّم الكلام عليه

(2)

، وأن هذا إنما يَتِمُّ إذا كان قوله:{وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ليس داخلًا في المحكيِّ بالقول، والظاهر خلافه، والله أعلم.

الموضع الرابع: قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] فأتى بـ"الواو" لما كانتْ أبوابُ الجنَّة ثمانيةً، وقال في النار:{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، لما كانتْ سبعةً، وهذا في غاية البُعد، ولا دلالةَ في اللَّفظ على الثمانية حتى تدخل "الواو" لأجلِها، بل هذا من باب حذف الجوابِ لنكتة بديعة، وهي: أن تَفتيحَ أبواب النار كان حالَ موافاة أهلها، ففتحتْ في وجوههم؛ لأنه أبلغ في مفاجَأة المكروه.

وأما الجنَّةُ فلما كانت دارَ الكرامة وهي مأدبةُ

(3)

الله، وكان الكريمُ إذا دعا أضيافَهُ إلى داره شرع لهم أبوابَها ثم استدعاهم إليها مُفَتَّحَةَ الأبوابِ، أتى بـ "الواو" العاطفة هاهنا الدَّالَّة على أنهم جاءوها بعدما فُتحتْ أبوابُها

(4)

، وحَذَفَ الجوابَ تفخيمًا لشأنه وتعظيمًا لقدْره، كعادتهم في حذف الأجوبة وقد أشْبَعْنا الكلامَ على هذا فيما تقدَّمَ والله أعلم.

(1)

كما في "نتائج الفكر": (ص/ 264).

(2)

2/ 666.

(3)

(ق وظ): "مائدة".

(4)

انظر: "الفصول المفيدة في الواو المزيدة": (ص/ 158 - 159).

ص: 919

فصل

(1)

مذهب سيبويه أن (لولا) إذا اتصل بها الضمير المتصل نحو: "لَوْلاهُ" و"لَوْلاكَ" كان مجرورًا

(2)

، وخالفه الأخفش، وقال الأخفشُ والكوفيُّونَ: هذه الضمائر مما وقع المضمَرُ المتَّصِلُ موقعَ المنفصل، كما وقع المنفصل موقعَ المُتَّصِلِ في قولهم:"ما أنَا كأنْتَ ولا أَنْتَ كأَنا" وقد وقع المتَّصِلُ موقعَ المنفصل في قوله:

وما نُبَالي إذا ما كُنْتِ جارتَنَا

أنْ لا يُجَاوِرَنا إلَاّكِ دَيَّارُ

(3)

وقال المُبَرِّد يقول الكوفيين:

فأما حجَّةُ سيبويهْ فهي الاستعمال، قال الشاعر

(4)

:

وكم مَوْطِنٍ لَوْلايَ طِحْت كَمَا هَوَى

بأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيْقِ مُنْهَوِي

وقال الآخر

(5)

:

* لوْلاكِ في ذا العَامِ لَمْ أَحْجُجِ *

(1)

انظر للمسألة: "الإنصاف في مسائل الخلاف": (2/ 687 - 695) لابن الأنباري.

(2)

"الكتاب": (1/ 388).

(3)

لا يُعرف قائله، وأنشده ابن جني في "الخصائص":(1/ 307)، وابن هشام في "المعني":(1/ 577). و"الأوضح": (1/ 83).

(4)

هو: يزيد بن الحكم الثقفي، من قصيدة له، والبيت من شواهد سيبويه في "الكتاب":(1/ 388)، وابن جني في "الخصائص":(2/ 259)، وابن الأنباري في "الإنصاف":(2/ 691).

(5)

هو: عمر بن أبي ربيعة، "ديوانه - الملحقات":(ص/487). والبيت في "المفصَّل": (ص/ 175)، و"الإنصاف":(ص/ 693) وصدره:

* أوْمَت بِعَيْنيها من الهَوْدَجِ *

ص: 920

وقال آخر

(1)

:

* ولَوْلاكَ لَمْ يَعْرِضْ لأحْسَابِنَا حَسَنْ *

واحتجَّ سيبويه على أن الضميرَ هنا مجرور بأَنَّ هذه الضمائر التي هي (الهاء والكاف والياء) إما أن تكونَ ضمائرَ نصب أو ضمائرَ جرٍّ، ومُحالٌ أن تكونَ ضمائرَ رَفع، ولا يجوز أن تكون ضمائر نصب؛ لأن الحروف إذا اتَّصَلَ بها ياء المُتكلم وكانت في موضع نصب اتَّصَلَ بها نون الوقاية، نحو:"إنى وإنني وكأَنى وكأنني" فإن أدَّى ذلك إلى اجتماع مِثْلين جاز حذف نون الوقاية، فيقال:"إنى وكأنِّي ولكنِّي "، فلو كانت "الياءُ" ضميرَ نصب لقالوا:"لولانى" كما قالوا. "ليتني" ولم يأتِ ذلك، فتعيَّنَ أن تكود ضميرَ جرٍّ، فإذا ثبتَ هذا في (الياء) فكذلك في (الكاف والهاء).

وأما الكوفيون فاحتجُّوا بأن الظاهرَ لا يقعُ بعد هذه الحروف إلاّ مرفوعًا، فكذلك المضمَرُ، وقد وُجد ذلك في المنفصل، فيكون المُتَّصِلُ كذلك، ولكن هذه الضمائرَ المتَّصِلة وقعتْ موقعَ الضمائر المنفصلة، كما يقعُ المنفصل موقعَ المتَّصل، فهما يتعاقبانِ ويتعاوَضانِ، فقالوا:"ما أنا كَأنْتَ "، فأوقعوا ضميرَ الرفع موقعَ ضمير الجر، فلذلك قالوا:"لَوْلاك " فأوقعوا ضميرَ الجرِّ موقعَ ضميرِ الرَّفع، فالتغيير وقع فى الصِّفة، لا في الإعراب، قالوا: وقد ثبت أنَّ (لولا) لا تعملُ في الظّاهر، فكيف تعمل في المضمَر؟.

(1)

هو -فيما قيل-: عَمرو بن العاص رضي الله عنه والبيت في "الإنصاف ": (2/ 693)، و"شرح ابن عقيل ":(3/ 7) وصدره:

* أنُطمع فينا من أراق دِمَاءَنا *

ص: 921

وأجاب البصريون عن هذا: بأنَّ الأصلَ أن الضمائرَ لا يقعُ بعضُها موقعَ بعض ألا للضَّرورة في الشِّعر، وبأنه يستلزمُ مخالفةَ الأصل من وجهينِ:

أحدهما: إيقاعُ المتَّصل موقع

(1)

المنفصلِ.

والثاني: إيقاعُ المجرور موقعَ المرفوع، وهذا تغييرٌ مرتين، فالتغييرُ في (لولا)

(2)

بكونها حرف جرٍّ في هذا الموضع أسهلُ، قالوا: وأما عملُها في المضْمَر خاصَّةً فليس بمستنْكَرٍ عملُ العامل في بعض الأسماء دون بعض، فهذه "لَدُنْ" لا تعمل إلا في "غُدْوَةٍ" وحدها، فإذا كان العاملُ يعملُ في بعض الظاهرات دونَ بعض، وهي جنسٌ واحد، فَلأَنْ يعملَ في المضمَر دونَ الظاهر وهما جنسانِ أولى، وقد ردَّ بعضُ النحاة هذا الاستعمالَ جملةً وقال: هو لحنٌ، واختلف على المُبَرِّد، فقيل: إن هذا مذهبُهُ، وقيل: إن مذهبَهُ قولُ الكوفيين. والله أعلم.

فصل

(3)

اختلف في المستثنى، من أيِّ شيءٍ هو مخرَجٌ؟.

فذهب الكسائىُّ إلى أنه مخرَجٌ من المستثنى منه، وهو المحكومُ عليه فقط. فإذا قلت:"جَاءَ القَوْمُ إلاّ زَيْدًا" فزيد مخرَجٌ من القوم، فكأنك أخبرتَ عن القومِ الذين ليس فيهم

(4)

بالمجيء، وأما هو فلم تخبرْ عنه بشيء، بل سَلَبْتَ الإخبارَ عنه، لا أنك أخبرتَ عنه بسلب

(1)

(ع): "موضع ".

(2)

"في لولا" ليست في (ع).

(3)

من (ع) وحدها.

(4)

(ظ) زيادة: "زيد".

ص: 922

المجيء؛ والفرقُ بين الأمرين واضحٌ، وعلى قوله فالإسناد

(1)

وقعَ بعدَ الإخراج.

وذهب الفَرَّاء إلى أنه مخرَجٌ من الحُكم نفسِهِ.

وذهب الأكثرون إلى أنه مخرَج منهما معًا، فله اعتباران؛ أحدُهما: كونُه مستثنى، وبهذا الاعتبار هو مخرَجٌ من الاسم المستثنى منه، والثاني: كونه محكومًا عليه بضِدِّ حكم المستثنى منه، وبهذا الاعتبار هو مخرَج من

(2)

حكمه.

والتحقيقُ في ذلك أنه مخرَجٌ من الاسم المقيَّد بالحكم، فهو خرَج من اسم مقيَّد لا مطلَق.

ونذكرُ ما احْتَجَّ به لهذه المذاهب، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة: 34] ووجهُ الاستدلال: أن الاستثناءَ لو كان مخرَجًا من الحكم لكان قوله: "أبَى" تكرارًا؛ لأنه قد علم بالاستثناء، وأجيبَ عن هذا بأنه تأكيدٌ، واعْتُرِض على هذا الجواب بأن المعانيَ المستفادةَ من الحروف لا تُؤَكَّدُ، فلا يقال:"مَا قَامَ زَيْدٌ نفيًا" و"هلْ قَامَ عَمروٌ استفهامًا" و"لكن قَامَ زَيْدٌ استدراكًا" ونحوه؛ لأن الحرف وُضِعَ على الاختصار، ولهذا عُدِلَ عن الفعل إليه، فتأكيدُه بالفعل ينافي المقصودَ بوضعه.

والتحقيقُ في الجواب: أن "أَبَى" أفاد معنىً زائدًا وهو: أن عدم

(1)

(ق): "فالاستثناء".

(2)

من قوله: "الاسم المستثنى

" إلى هنا ساقط من (ق).

ص: 923

سجوده استند إلى إبائه، وهو أمرٌ وُجُودي اتَّصف به ، نشأ عنه الذنبُ، فلم يكن تركُ سجوده لعَجْزٍ ولا لسَهْوٍ ولا لغفلةٍ، بل كان إباءً واستكبارًا.

ومعلومٌ أن هذا لا يُفْهَم من مجرَّد الاستثناء، وإنما المفهوم منه عدم سجوده، وأما الحاملُ على عدم السجود فلا يدلُّ الاستثناء عليه فصرَّح بذكره.

ونظير هذا الاحتجاج والاعتراض والتقدير سواء قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)} [الأعراف: 11] فإنَّ نفىَ كونه من السَّاجدين أخصُّ من نفي السُّجود عنه؛ لأن نفي الكون يقتضي نفى الأهليَّةِ والاستعداد، فهو أبلغُ في الذَّمِّ من أن يقال:"لم يَسْجُدْ".

ثم الذي يدلُّ على بُطلان هذا المذهب وجوهٌ:

منها: أنه لو كان ما بعدَ "إلاّ" مسكوتًا عن حكمِهِ لم يكن قولُنا: لا إله إلاّ الله توحيدًا واللازم باطلُ، فالملزومُ مثلُه، والمقدِّمتانِ ظاهرتان.

ومنها: أن الاستثناء المنقطع لا يُتَصور الإخراجُ فيه من الاسم لعدم دخولِه فيه ، فكذلك المتَّصلُ.

ومنها: أنه لو كان الإخراجُ من الاسم وحده لما صحَّ الاستثناء من مضمون الجملة كقولك: "زَيْدٌ أَخوكَ إلاّ أنَّهُ ناءٍ عَنْكَ"، و"عَمْرٌو صّديقُكَ إلَاّ أنَّهُ يُوادُّ عَدُوَّكَ" ونحو هذا.

ومنها: أنه لا يوجدُ في كلام العرب: "قامَ القومُ إلاّ زَيدًا فإنَّهُ قَامَ" ولو كان الإخراجُ من الاسم وحدَه والمستثنى مسكوتٌ عنه لجاز

ص: 924

إثباتُ القيام له؛ كما جاز نفيُهُ عنه، فإن السكوتَ عن حكمه لا يفيدُ نفيَ القيام عنه ولا إثباته، فلا يكونُ واحدٌ منهما مناقضًا للاستثناء.

واحتجَّ الفَرَّاءُ بأن المُنقطعَ مخرَجٌ من الحُكم لا من الاسمِ، وكذلك البابُ كلُّه، وأجيبَ عن ذلك بأن المستثنى داخلٌ مع الاسمِ المحكوم عليه تقديرًا، إذ يقدَّرُ الأوَّلُ شاملاً بوجه ليصِحَّ الاستثناءُ، ولمن نصر قول الكسائي أيضًا أن يُجِيبَ له بهذا الجواب.

وإذا تبين بطلانُ المذهبين صحَّ مذهبُ الجمهور: أن الإخراج من الاسم والحكم معًا، فالاسم المستثنى مخرَجٌ من المستثنى منه، وحكمُه مخرَجٌ من حكمه، ومن الممتنع إخراجُ الاسم المستثنى من المستثنى منه مع دخوله تحتَهُ في الحكم، فإنه لا يُعقل الإخراجُ حينئذٍ ألْبتةَ، فإنه لو شاركه في حكمه لدخلَ معه في الحكم والاسم جميعًا، فكان استثناؤُه غيرَ معقول، ولا يقالُ، إن معنى الاستثناء أن المتكلِّمَ تاركٌ للإخبار عنه بنفىٍ أو إثباتٍ، مع احتمال كلِّ واحدٍ منهما، لأنَّا نقولُ: هذا باطلٌ من وجوه عديدة:

منها: أنَّكَ إذا قلتَ: "ما قَامَ إلا زَيْدٌ""مَا ضَرَبْتُ إلاّ عَمْرًا" و"مَا مَرَرْتُ إلاّ بِزَيْدٍ"، ونحوه من الاستثناءات المفرَغات لم يَشُكَّ أحدٌ في أنك أثبتَّ هذه الأحكامَ لما بعد "إلاّ" كما أنك سلبتها عن غيره، بل إثباتُها للمستثنى أقوى من سلبها عن غيره

(1)

.

ويلزمُ من قال: إن حكم المستثنى مسكوتٌ عنه، أن لا يفهمَ من هذا إثباتَ القيام والضَّرب والمرور لزيدٍ، وهو باطلٌ قطعًا.

ومنها: أنه لو كان مسكوتًا عنه لم يدخلِ الرجلُ في الإسلام

(1)

من قوله: " بل إثباتها

" إلى هنا ساقط من (ق).

ص: 925

بقوله: "لا إلهَ إلاّ الله"، لأنه على هذا التقدير الباطل لم يُثبِت الإلهيَّةَ لله، وهذه أعظمُ كلمةٍ تضمَّنت بالوضع نفيَ الإلهيَّة عما سوى الله، وإثباتها له بوصف الاختصاصِ، فدلالتها على إثبات إلاهيَّته أعظمُ من دلالة قولنا:"الله إلهٌ"، ولا يستريبُ أحدٌ في هذا ألْبتَّة.

ومنها: أنه لو ادُّعِيَ عليه بمائَةِ دِرهَمٍ، فقال:"له عِنْدي مِائَةٌ إلاّ ثلاثَة دَراهِمَ "، فإنه نافٍ لثبوت المستثنى في ذِمَّته، ولو كان ساكتًا عنه لكان قد أقرَّ بالبعض ونكل عن الجواب عن البعض، وهذا لم يقلْهُ عاقلٌ، ولو كان حكم المستثنى السُّكوتَ لكان هذا ناكلاً

(1)

.

ومنها: أن المفهوم من هذا عندَ أهل التخَاطُب نَفيُ الحكم عن المستثنى وإثباته للمستثنى منه، ولا فرقَ عندَهم بين فهم هذا النَّفي وذلك الإثبات ألْبتة، وذلك جارٍ عندَهم مجرى فهم الأمر والنهي والنَّفي والاستفهام وسائر معانى الكلام، فلا يفهمُ سامعٌ من قول الله عز وجل:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] أنه أخبر عن لبْثِهِ تسع مائة عام وخمسين عامًا، وسَكَتَ عن خمسين فلم يُخْبِرْ عنها بشيء، ولا يفهمُ أحدٌ قطّ إلا أن الخمسينَ لم يَلْبَثْها فيهم.

وكذلك قوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83] لا يفهم منها إلا أن المخْلَصينَ لا يتمَكَّنُ من إغوائهم، وكذلك سائر الاستثناءات.

ومنها: أن القائل إذا قال: "قَامَ القَوْمُ إلاّ زَيْدًا" لم يكن كلامه صدقًا إلا بقيامِهم وعدم قيام زيد، ولهذا من أراد تكذيبه قال له:"كَذَبْتَ بلْ قامَ زَيْدٌ"، ولو كان زيدٌ مسكوتًا عنه لم يكن هذا تكذيبًا

(1)

(ق وظ): "باطلاً".

ص: 926

له، والعقلاءُ قاطبةً يعدونه تكذيبًا، ويعدُّون خبَرَهُ كاذبًا، حيث يعدُّون الإخبار بخلاف ما الشيء عليه كَذِبًا

(1)

.

إذا عُرِفَ هذا؛ فَبِهِ يَنْحَلُّ الإشكال الذي أورده بعضُ المتأخرين على الاستثناء، وقال: الاستثناء مشْكِل التَّعَقُّلِ، قال: لأنك إذا قلت: "جاءَ القَوْم إلا زيْدًا" فإما أن يكون زيدٌ داخلاً في القوم أو لا، فإن كان غيرَ داخل لم يستقمِ الاستثناءُ لأنه إخراجٌ، وإخراجُ ما لم يدخلْ غير معقول، وإن كان داخلاً فيهم لم يستقمْ إخراجه للتناقض، لأنك تحكمُ عليه بحكمين متناقضين.

ولهذه الشبهة قال القاضي

(2)

وموافقوه: "إن عشرة إلا ثلاثة" مرادفٌ لسبعة، فهما اسمان رُكِّبا مع الحرف وجُعِلا بإزاء هذا العدد، فإن أراد القاضي أن المفهومَ منهما واحدٌ فصحيحٌ، وإن أراد التركيبَ النَّحْوِيَّ فباطلٌ.

والجواب عن هذا الإشكال: أنه لا يُحكم بالنِّسب إلا بعد كمال ذكر المفردات، فالإسناد إنما وقع بعد الإخراج، فالقائلُ إذا قال:"قامَ القَوْمُ إلا زيْدًا" فهاهنا خمسة أمور:

أحدها: القيامُ بمفرده.

الثاني: القَوْمُ بمفرده.

الثالث: زَيْدٌ بمفرده.

الرابع: النسبة بين المفردَين.

(1)

هذه الجملة ساقطة من (ق) ومكانها: "وإن كان قبل الحكم عليه "!.

(2)

لعله: أبو يعلى ابن الفرَّاء الحنبلي.

ص: 927

الخامس: الأدلة الدَّالَّة على سلب النسبة عن زيد. فـ "زيدٌ" دخل في القوم على تقدير عدم الإسناد، وخرج منهم على تقدير الإسناد، ثم أُسْندَ بعد إخراجِه، فدخولُه وخروجُه باعتبارين غير متنافيين، فإنه دخلَ باعتبار الإفراد وخرج باعتبار النسبة، فهو من القوم غيرِ المحكوم عليهم، وليس من القوم المقيَّدين بالحُكم عليهم، هذا إيضاحُ هذا الإشكال وحَلُّه، واللهُ الموفِّقُ.

فصل

المستثنى إذا جُعِل تابعًا لما قبلَه، فمذهب البصريين أنه بَدَلٌ، وقد نصَّ عليه سيبويه

(1)

، ومذهب الكوفيين أنه عطفٌ، فأما القول بالبَدَلِ فعليه إشكالان

(2)

:

أحدهما: أنه لو كان بَدَلاً لكان بَدَلَ بعضٍ، إذ يمتنع أن يكون بَدَلَ كُلٍّ من كُل، وبدل البعض لابُدَّ فيه من ضمير يعود على المبدَل منه، نحو:"قَبَضتُ المَالَ نصفهُ".

الثاني: أن حكمَ البَدَل حكمُ المبدَل منه؛ لأنه تابع يشارك متبوعَه في حكمه، وحكم المستثنى هاهنا مخالفٌ لحكم المستثنى منه، فكيف يكون بَدَلاً.

وأجيب عن الأوَّل بأن "إلَاّ" وما بعدَها من تمام الكلام: الأوَّل، و"إلَاّ" قرينةٌ مُفْهمة أن الثاني قد كان تناولَهُ

(3)

الأوَّلُ، فمعلوم أنه بعضُ الأول، فلا يحتاجُ فيه إلى رابط بخلاف:"قَبَضْتُ المَالَ نِصْفَهُ".

(1)

في "الكتاب": (2/ 311).

(2)

(ع): "إشكالات".

(3)

(ع): "يتناوله "، و (ق):"تداوله".

ص: 928

وأُجيب عنه أيضًا: بأن البَدَل في الاستثناء قسم على حِدَتِهِ، ليس من تلك الأبدال التي تثبت

(1)

في غير الاستثناء.

وأُجيبَ عنه أيضًا: بأن البَدَل في الاستثناء إنما المُراعَى فيه وقوعُه مكان المبدَل منه، فإذا قلت:"ما قَامَ أَحَدٌ إِلَاّ زَيْدٌ" فـ "إِلَاّ زَيْدٌ" هو البَدَل، وهو الذي يقعُ موقعَ "أحدٍ"، فليس "زيدٌ" وحدَه بَدَلاً من "أحد"، فـ"إلا زيْد" هو الأحد الذي نَفَيْت عنه القيامَ، فقولُك:"إِلَاّ زَيْدٌ" هو بيان الأحد

(2)

الذي عَنَيْتَ، وعلى هذا فالبَدَلُ في الاستثناء أشبهُ ببَدَل الشيء من الشيء، من بَدَلِ البعضِ من الكلِّ.

وأما الإشكالُ الثاني فقال السِّيرافيُّ مجيبًا عنه: هو بَدَلٌ منه في عمل العامل فيه، وتخالفهما بالنفي والإيجاب لا يمنع البَدَلِيَّة؛ لأن مذهب البَدَل فيه أن يجعل الأوَّل كأنه لم يُذْكَر، والثاني في موضعه.

وقد تتخالفُ الصِّفةُ والموصوفُ نفيًا وإثباتًا، نحو:"مررتُ بِرَجُلٍ لا كَرِيمٍ ولا لَبيبِ ".

ومعنى هذا الجواب: أنه إنما يشترطُ في البَدَل أن يحلَّ محل الأوَّلِ في العامل خاصَّة، وأما أن يكون حكمُهما واحدًا فلا.

وأما القولُ الكوفيُّ: إنه عطف، فإنهم جعلوا "إلَاّ" من حروف العطف في هذا الباب خاصَّة، والحاملُ لهم على ذلك وجود المخالفة المذكورة.

قال ثعلب: كيف يكون بَدَلاً وهو موجبٌ ومتبوعه منفىٌّ، والعطفُ

(1)

غير بيّنة في (ظ)، وفي (ع):"تبينت" والمثبت من (ق).

(2)

كذا في (ق وظ)، وفي (ع): "مقويتان للأخذ

"!.

ص: 929

توجدُ فيه المخالفةُ فى المعنى كالمعطوف بـ "بَلْ" و"لكِنْ "، وهذا ممكنٌ خالٍ من التكَلُّف، ولا يقال: إنه يستلزم الاشتراك في الحروف، وهو مذهب ضعيفٌ؛ لأنا نقول: ليس هذا من الاشتراك في الحروف، فإن "إلَاّ" للإخراج على بابها، وإنما سمّوا هذا النوعَ من الإخراج عطفًا على نحو تسميتهم الإخراجَ بـ"بَلْ " و"لكن" عطفًا، والاشتراك المردود قول من يقول: إن "إلَاّ" تكون بمعنى الواو، لكن قد رُدَّ قولُهم بالعطف بأن "إلَاّ" لو كانت عاطفةً لم تباشر العاملَ في نحو:"مَا قَامَ إلَاّ زيْدٌ"؛ لأن حروف العطف لا تلي العواملَ، ويجابُ عن هذا بأن "إلا" التي باشرتِ العاملَ ليست هي العاطفة، فليس هاهنا عطفٌ ولا بدلٌ ألبَتَّةَ، وإنما الكلامُ فيما إذا كان ما بعد "إلَاّ" تابعًا لما قبلها.

قال ابن مالك

(1)

: ولمقوِّى العطف أن يقول: تخالفُ الصِّفة والموصوف كَلا تَخَالُف، لأنَّ نفي الصِّفتين إثباتٌ لضِدَّيهما، فإذا قلت:"مرَرْتُ بِرَجُلٍ لا كرِيم ولا شجاع" فكأنك قلت: "بَخيل جَبَان" وليس كذلك تخالف المستثنى والمستثنى منه، فإنَّ جَعْلَ "زيْدٍ" بدلاً من "أحد" إذا قيل:"ما فيها أحدٌ إلا زيدٌ" يلزمُ منه عدم النَّظير، إذ لا بَدَلَ في غير محل النّزاع إلا وتَعَلُّقُ العاملِ به مُسَاوٍ لتَعَلُّقِهِ بالمبْدَل منه، والأمرُ في "ما قَامَ أَحَدٌ إلاّ زَيْدٌ" بخلاف ذلك، فيضعفُ كونه بَدَلاً، إذ ليس في الأبدال ما يشبهه، وإن جُعِل معطوفًا لم يلزمْ من ذلك مخالفة المعطوفات، بل يكون نظيرَ المعطوف بـ"لا" و"بَلْ " و"لكِنْ " فكان جعلُه معطوفًا أولى من جعله بَدَلاً.

قلت: ويقوِّي العطفَ أيضًا أنك تقول: "لا أحَدَ في الدَّارِ إلاّ

(1)

لم أعثر على كلامه.

ص: 930

عَبْدُ الله "، فـ "عبدُ الله" لا يصحُّ أن يكون بدَلاً من "أحدٍ"، فإنه لا يَحِلُّ مَحَلَّة.

فإن قيل: هذا جائزٌ على توهُّم "ما فيها أحدٌ إلا عَبْدُ اللهِ" إذ المعنى واحدٌ، فأمكنَ أن يَحِلَّ أحدُهما محلَّ الآخرِ، قيل: هذا كاسمه وَهْم، والحقائقُ لا تُبنى على الأوهام.

وأجاب ابنُ عُصفور عن هذا بأن قال: لا يلزمُ أن يَحِلَّ "عبدُ الله" محِلَّ "أحدٍ" الواقع بعد "لا" لأنَّ المُبْدَلَ إنما يلزمُ أن يكونَ على نِيَّةِ تكْرار العاملِ، وقد حصل ذلك كلُّه

(1)

في هذه المسألة وأمثالها، ألا ترى أن "عبدَ الله" بَدَلٌ من موضع "لا أحَدَ"، فيلزمُ أن يكونَ العاملُ فيه الابتداءَ، كما أن العاملَ في موضع "لا أحَدَ" الابتداء، بلاشكٍّ أنَّك إذا أبدلْتَهُ منه كان مبتدأً في التقدير وخبرُه محذوف، وكذلك حرفُ النَّفيِ لدلالة ما قَبْلَه عليه، والتقدير:"لا أحَدَ فِيها لا فِيها إلاّ عَبْدُ اللهِ " ثم حذف واختص.

وهذا الجوابُ غيرُ قَوِيٍّ؛ إذ لو كان الأمرُ كما زعم لصحَّ البدل مع الإيجاب، نحو:"قَامَ القَوْمُ إلاّ زَيْدٌ" لصحَّة تقدير العامل في الثاني، وهم قد منعوا ذلك وعَلَّلوه بعدم صِحَّة حلول الثاني مَحَلَّ الأوَّل، فدلَّ على أنه مشترطٌ.

فصل

(2)

قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]

(1)

من (ق).

(2)

ليس في (ع).

ص: 931

قال الزمخشري

(1)

: هو استثناء منقطعٌ جاء على لغة تميم، لأن الله تعالى وإن صحَّ الإخبار عنه بأنه في السماوات والأرض، فإنما ذلك على المجاز؛ لأنه مقدَّس عن الكون في مكان بخلاف غيره، فإنَّ الإخبار عنه بأنه في السماء أو في الأرض ليس مجازًا، وإنما هو حقيقة، ولا يَصِحُّ حملُ اللَّفظِ فى حالٍ واحدٍ على الحقيقة والمجاز.

قلت: وقولُه "على لغة تميم" يريدُ أن من لغتهم: أن الاستثناءَ المنقطعَ يجوزُ إتباعُهُ كالمتَّصِل إن صحَّ الاستغناءُ به عن المستثنى منه، وقد صحَّ هاهنا، إذ يَصِحُّ أن يقالَ: لا يعلمُ الغيبَ إلا الله.

قال ابن مالك

(2)

: والصحيحُ عندي أن الاستثناءَ في الآية متَّصِلٌ، وفي متعلقه بفعل غير (استقر) من الأفعال المنسوبة حقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين كـ:"ذكَرَ ويذْكُرُ" ونحوه، فكأنه قيل:"لا يعلمُ مَنْ يُذكَرُ فى السَّماواتِ والأرض الغيبَ إلا الله".

قال: ويجوزُ تعليقُ "في" بـ "اسْتَقَرَّ" مستندًا

(3)

إلى مضاف حُذِف، وأقيمَ المضافُ إليه مقامَهُ، والأصل:"لا يعلمُ من استَقَرَّ ذكره في السَّماوات والأرضِ الغيبَ إلا الله" ثم حذف الفعل والمضاف واستتر المضمر

(4)

لكونه مرفوعًا. هذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حال واحد، وليس عندي ممتنعًا لقولهم:" القَلَم أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ" و" الخَالُ أَحَدُ الأبَوَيْنِ" وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأيْدِي ثَلاثَةٌ: يَدُ اللهِ، ويَدُ

(1)

انظر "الكشاف": (3/ 149).

(2)

انظر الصفحة السابقة.

(3)

(ق، ظ): "مسندًا".

(4)

(ق): "الضمير".

ص: 932

المُعْطِي، ويَدُ السَّائلِ"

(1)

" تم كلامُه.

فهذا كلام هذين الفاضلين في هذه الآية، وأنت ترى ما فيه من التكَلُّف الظاهر الذي لا حاجة بالآية إليه، بل الأمرُ فيها أوضحُ من ذلك

(2)

.

والصوابُ: أن الاستثناءَ مُتَّصِلٌ، وليس في الآية استعمالُ اللَّفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن "من في السَّماوات والأرض" هاهنا أبلغُ صيغ العمومِ، وليس المُراد بها مُعَيَّنًا، فهي في قوَّة "أحد" المنفي بقولك:"لا يَعْلمُ أَحَدٌ الغَيْبَ إلاّ الله"، وأتى في هذا بذكر السموات والأرض تحقيقًا لإرادة العموم والإحاطة فالكلام مُؤدٍّ معنى:"لا يَعْلَمُ أحَدٌ الغَيْبَ إلاّ الله"

(3)

.

وإنما نشأ الوهمُ مِن ظَنِّهم أن الظرفَ هاهنا للتَّخصِيص والتَّقييد، وليس كذلك، بل هو لتحقيق الاستغراق والإحاطة، فهو نظيرُ الصِّفة في قوله تعالى:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] فإنها ليست للتخصيص والتَّقييد، بل لتحقيق الطَّيران المدلول عليه بـ"طائر"، فهكذا قوله:{مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لتحقيق الاستغراق المقصود بالنفي.

(1)

أخرجه أحمد: (7/ 295 رقم 4261)، وابن خزيمة رقم (2435) والحاكم:(1/ 408) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أحمد:(25/ 225 رقم 15890)، وأبو داود رقم (1649) والحاكم:(1/ 408) -كلاهما من طريق أحمد- من حديث مالك بن نضلة رضي الله عنه بنحوه.

والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.

(2)

وذكر كلامهما ابن هشام فى "المغني": (2/ 449 - 450) ثم قال: "وفى الآية وجه آخر، وهو أن يُقدِّر "من" مفعولاً به، و" الغيب" بدل اشتمال، و"الله" فاعل، والاستثناء مفرَّغ" اهـ.

(3)

من قوله: "وأتى في هذا

" إلى هنا ساقط من (ظ).

ص: 933

ومن تأمَّلَ الآية عَلِم أنه لم يقصدْ بها إلاّ ذلك، وقد قيل: إنه لا يمتنعُ أن يطلقَ عليه تعالى أنه في السموات كما أطلقَه على نفسه، وأطلقَه عليه رسولُهُ، قالوا: ولا يلزم أن يكون هذا الإطلاقُ مجازًا بل له منه الحقيقة التي تليقُ بجلاله ولا يشابهُهُ فيها شيءٌ من مخلوقاته، وهذا كما يطلق عليه أنه سميعٌ بصيرٌ عليمٌ قديرٌ حيٌّ مريدٌ حقيقةً، ويطلقُ ذلك على خلقِهِ حقيقةً، والحقيقَةُ المختصَّةُ به لا تُماثِلُ الحقيقةَ التي لخَلْقِهِ، فتناوُلُ الإطلاقِ بطريق الحقيقة لهما لا يستلزمُ تماثُلاً حتى يُفَرَّ من نفيه إلى المجاز.

وأما قوله: "إن الظرفَ متعلّقٌ بفعل غير "استقر"، من الأفعال المنسوبة إلى الله وإلى المخلوقين حقيقة كـ "ذَكَرَ ويَذْكُرُ" إلى آخره".

فيقال: حذف عامل الظَّرف لا يجوزُ إلا إذا كان كونًا عامًا أو استقرارًا عامًا، فإذا كان استقرارًا أو كَوْنًا خاصًّا مُقَيَّدًا لم يَجُز حذفُهُ، وعلى هذا جاء مصرَّحًا به في قوله تعالى:{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل: 40] لأن المُرَادَ به الاستقرارُ الذي هو الثبات واللُّزومُ، لا مطلق الحصول عنده، فكيف يسوغُ ادّعاء [حذفِ]

(1)

عامل الظرفِ في موضع ليس بمعهودٍ حذفُه فيه؟! وأبعدُ من هذا التقدير: ما ذكره في التقدير الثاني أن عاملَ الظرف استقرار مضاف إلى ذكر محذوف استغني به عن المُضاف إليه، والتقديرُ:"استقرَّ ذكرُه "، فإن هذا لا نظيرَ له، وهو حذفٌ لا دليلَ عليه، والمضافُ يجوز أن يُستغنى به عن المُضاف إليه

(2)

بشرطينِ: أن يكون مذكورًا، وأن يكونَ معلومَ الوضع مدلولاً عليه لئلا يلزمَ اللَّبْسُ.

(1)

من (ظ).

(2)

من قوله: "والتقدير: استقر

" إلى هنا ساقط من (ق)، وهو انتقال نظر.

ص: 934

وأما ادعاءُ إضافة شيءٍ محذوف إلى شيء محذوف، ثم يضافُ المُضاف إليه إلى شيءٍ آخر محذوف، من غير دلالة في اللَّفظ عليه، فهذا مما يُصَانُ عنه الكلام الفصيح فضلاً عن كلام ربِّ العالمينَ!.

وأما قولُه: "على أنه لا يمتنعُ إرادةُ الحقيقة والمجاز معًا" واستدلالُه على ذلك بقولهم: "القَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ "، فلا حُجَّةَ فيه! لأن اللَّسانينِ اسم مثنَّى، فهو قائمٌ مقامَ النُّطق باسمين أُريدَ بأحدهما الحقيقة وبالآخر المجاز، وكذلك:"الخَالُ أَحَدُ الأبَوَيْنِ" وكذلك "الأَيْدِي ثَلاثَةٌ".

وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] فالاستدلال به أبعدُ من هذا كلِّه، فإنَّ الصلاةَ على النبى صلى الله عليه وسلم من الله وملائكته حقيقةٌ بلا رَيْب، والحقيقةُ المضافة إلى الله من ذلك لا تُماثِلُ الحقيقةَ المُضافةَ إلى الملائكة، كما إذا قيل:"الله ورسولُهُ والمؤمنونَ يعلمونَ أن القرآنَ كلامُ الله "، لم يَجُزْ أن يُقَالَ: إن هذا استعمالُ اللَّفظ في حقيقته ومجازه، وإن كان العِلْمُ المضافُ إلى الله غيرَ مماثِل للعِلْم المُضافِ إلى الرسول والمؤمنين، فتأمَّلْ هذه النُّكَت البديعة. ولله الحمد والمنّة.

فصل

المعروفُ عند النُّحاة أن الاستثناءَ المنقطعَ هو: أن لا يكونَ المستثنى داخلاً في المُستثنى منه، وربما عبَّروا عنه بأن لا يكونَ المستثنى من جنس المستثنى منه، وهذا يحتمل شيئينِ:

أحدهما: أن لا يكون المستثنى فردًا من أفراد المستثنى منه.

والثاني: أن لا يكونَ داخلاً في ماهِيَّتِهِ ومُسَمَّاه، فنحو: "جَاءَ

ص: 935

القَوْمُ إلَاّ فَرَسًا" منقطعٌ اتفاقًا، و"جَاءوا إلَاّ زَيْدًا" متَّصل، و"رأَيْتُ زَيدًا إلَاّ وَجْهَهُ" منقطعٌ على الاعتبار الأوَّل؛ لأن الوجهَ ليس فردًا من أفراد المستثنى منه، ولكن لا أعلمُ أحدًا من النُّحاة يقولُ ذلك، ويلزمُ من ذلك أن يكون استثناءُ كلِّ جزءٍ من كُلٍّ منقطعًا. ونحو قوله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} منقطع على التفسير الأول لعدم دخولِ الموتة الأولى في المستثنى منه، ومتَّصل على التفسير الثانى؛ لأنها من جنس الموت في الجملة.

وفي الاستثناء المنقطع عبارةٌ أخرى، وهي: أن يكون منقطعًا مما قبلَه، إما في العمل، وإما في تناوله له، فالمنقطع تناولاً:"جَاءَ القَوْمُ إلا حِمَارًا" والمنقطع عملاً نحو قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} [الغاشية: 22 - 24] فهذا استثناء منقطِعٌ بجملة، كذا قاله ابن خروف

(1)

وغيره، وجعلوا "مَنْ" مبتدأ و"يُعَذِّبُه" خبره، ودخلت الفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط.

وجعل الفرَّاء من هذا قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 249] على قراءة الرَّفع

(2)

، وقدَّره:"إلا قليلٌ منهم لم يشربوا"، وقواه ابن خروف واستحسنه.

ومن هذا قولهم: "ما للشَّيَاطِين مِنْ سِلاحٍ أبْلَغَ في الصَّالحِينَ مِنَ ْالنِّسَاءِ إلَاّ المُتزوِّجون، أُولئكَ المطَهَّرُون المُبرَّؤونَ مِنَ الخَنَاء".

(1)

هو: أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن خروف الإشبيلي النحوي ت (610) انظر "السير": (22/ 26).

(2)

وهي قراءة أُبي والأعمش، "البحر المحيط":(2/ 275).

ص: 936

وقيل: إنّ من هذا قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81] في قراءة الرفع

(1)

، ويكون "امرأتُك" مبتدأ وخبره ما بعده.

وهذا التوجيهُ أولى من أن يجعلَ الاستثناء في قراءة من نَصَبَ من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} ، وفي قراءة من رفع من قوله:{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} ، ويكون الاستثناءُ على هذا من

(2)

: "فَأَسرِ بأهْلِكَ "، رفعًا ونصبًا، وإنما قلنا: إنه أوْلى؛ لأنَّ المعنى عليه، فإن الله تعالى أمرَه أن يَسْرِيَ بأهلِه إلا امرأته.

ولو كان الاستثناء من الالتفات؛ لكان قد نهى المُسْرَى بهم عن الالتفات وأذِنَ فيه لامرأته، وهذا ممتنعٌ لوجهين:

أحدُهما: أنه لم يأمرْه أن يَسْرِيَ بامرأتِهِ، ولا دخلت في أهله الذين وُعِد بنجاتهم.

والثاني: أنه لم يكَلِّفْهُمْ بعدم الالتفات، ويأذَنَ فيه للمرأة.

إذا عُرِفَ هذا؛ فاختلف النُّحاة: هل من شرط الاستثناء المنقطع تقدير دخوله في المستثنى منه بوجه أو ليس ذلك بشرط؟.

فكثيرٌ من النُّحاة لم يشترط فيه ذلك، واشترطه آخرون، قال ابن السَرَّاج

(3)

: "إذا كان الاستثناء منقطعًا فلابدَّ من أن يكونَ الكلامُ الذي قبل "إلَاّ" قد دلَّ على ما يُستثنى [منه] ". فعلى الأوَّل لا يُحتاج

(1)

وهى قراءة ابن كثير وأبى عَمرو، انظر:"المبسوط": لابن مِهران.

(2)

من قوله: "من قوله: فأسر

" إلى هنا ساقط من (ق)، و"من" سقطت من (ع).

(3)

في "الأصول": (1/ 291).

ص: 937