الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعلوم أن العثور مرةَ ثانيةَ إنما يكون بعد النجاة من الأولى، فوَألَت شرط في الشرط الثاني، وعلى هذا فإذا ذكرت الشرطينِ، وأتيت بالجواب كان جوابًا للأول خاصة، والثاني جرى معه مجرى الفَضْلة والتَّتِمة كَالحال وغيرها من الفَضَلات قاله ابن مالك
(1)
.
وأحسنُ من هذا أن يقال: ليس الكلامُ شرطين يستدعيان جوابَيْنِ؛ بل هو شرطٌ واحد وتعليق واحد، اعْتُبر في شرطه قيدٌ خاصٌّ جعل شرطًا فيه، وصار الجواب للشرط المقيد، فهو جواب لهما معًا بهذا الاعتبارِ، وإيضاحه: أنك إذا قلت: "إن كَلَّمتِ زيْدًا إن رَأَيْتِهِ فأنتِ طَالِق" جعلت الطلاق جزاء على كلامٍ مقيد بالرُّؤية لا على كلام مطلق، فكأنه قال:"إن كلمتِهِ ناظِرَةً إليه فأنتِ طالِقٌ"، وهذا يبينُ لك حرف المسألة ويزيلُ عنك إشكالَها جملةً، وبالله التوفيق.
فائدة
(2)
قولهم: الأعمُ لا يستلزمُ الأخصَّ عينًا
، وإنما يستلزم مطلقَ الأخصِّ ضَرُورَةَ وقوعه في الوجود، ولابدَّ في هذا من تفصيل: وهو أن الحقيقةَ العامة تارةَ تقعُ في رْتب متساوية، فهذه تستلزمُ الأخص عينًا ولابدَّ، كما إذا قال:"افْعَلْ كَذا"، فإنه أعمُّ مِنْ مَرَّة ومرات، وهو يستلزمُ المرَّة الواحدة عينًا، و"أَنْفِق مالًا" يستلزم أقَل القليل عينًا، وتارة يقع في رتبَ غير متساوية كالحيوان والعدد، فإنهما لا يستلزمان أحدَ أنواعهما عينًا، والله أعلم.
(1)
قاله في شرح الخلاصة، كما صرح بذلك القرافي، ونقله عنه في "الفروق":(1/ 83) وعنه ينقل المؤلف.
(2)
"الفروق": (2/ 13 - 15)، وأطال القرافي في تقرير ذلك وضرب الأمثلة، وانظر تعقب سراج الدين ابن الشاط عليه في ذلك في حاشيته "إدرار الشروق
…
".
فائدة
(1)
حمل المطلق على المقيد في الكلِّي شيءٌ، وحمل المطلق على المقيد في الكلية شيء آخر.
فالأول: كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقيدها بالإيمان في مكان آخر، فهذا إذا حُمل المطلقُ على المقيَّد فيه، لم يكن متضمِّنًا لمخالفة أحدهما، بل هو عمل بهما وتوفيَة بمقتضاهما، ولو (ق/ 301 أ)، عُمِل بالمطلق دود المقيد لخالف ولابد.
وأما الثاني: فكما إذا كان الإطلاقُ في العام كقوله: "في كلِّ أرْبَعِينَ شَاةً شاةٌ"
(2)
، فإذا قيل: "في الغَنَم السائمةِ في كل أربعينَ شاةً شاةٌ
(3)
فليس هذا من باب حَمل المطلق على المقيد، فإن اللفظ عام متناول لجميع أفراده، فحَمْله على التخصيص إخراج لبعض مدلوله، والفرق بين إخراج بعض مدلول اللفظ وبين تقييدٍ سُلِبَ عنه اللَّفظُ؛ الأوَّل: رافعٌ لموجب الخطاب.
والثاني: رافع لموجب الاستصحاب، وإنما يرجعُ هذا إلى أصل آخرَ، وهو تخصيصُ العموم بالمفهوم، فتَأمَّلْه.
فائدة
(4)
وعلى هذا فلا ينبغي أن يقال: يُحْمَل المطلق على المقيَّد مطلقًا، بل يفرق بين الأمر والنهي، فإن المطلقَ إذا كان في الأمر لم يكن
(1)
"الفروق": (1/ 190 - 191).
(2)
أخرجه أحمد: (33/ 220 رقم 20016)، وأبو داود رقم (1575)، والنسائي:(5/ 25) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وسنده حسن.
(3)
أخرجه البخاري رقم (1454).
(4)
"الفروق": (1/ 191 - 192).
عامًّا، فحَمْله على المقيد لا يكون مخالفة لظاهره ولا تخصيصًا.
وإذا كان الإطلاقُ في النهي، فإنه يعم ضرورة عموم النكرة في سياق النهي، فإذا حُمل عليه
(1)
مقيَّد آخرُ كان تخصيصًا.
ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمْسِكَنَّ أحَدكم ذَكرَه بيَمِينِه"
(2)
فهذا عامّ في الإمساك وقتَ البول ووَقت الجِماع، وغيرهما، وقال:"لا يمْسِكَن أحدكم ذَكره بيَمِينِهِ وهو يَبوُل"
(3)
فهذا مقيد بحالة البول، فحَمْل الأول عليه تخصيص محض.
فائدة
(4)
حملُ المطلق على المقيَّد مشروط بأن لا يقيدَ بقيدَيْنِ متنافيين، فإن قيِّدَ بقيدينِ متنافيينِ أمتنع الحمل وبقي على إطلاقه، وعلم أن القيدينِ تمثيل لا تقييدٌ، مثاله قوله صلى الله عليه وسلم في ولوغ الكلب:"فَلْيَغْسِلْهُ سَبعَ مَرَّات إحْدَاهن بالتراب"
(5)
مطلق، وفي لفظ:"أولاهنّ"
(6)
وهذا مقيد بالأول.
َ وفي لفظ "أخْرَاهُن"
(7)
وهذا مقيد بالآخرة، فلا يحمل على
(1)
(ع وظ): "على".
(2)
أخرجه البخاري رقم (154)، ومسلم رقم (267) من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه.
(3)
لحديث السالف، وهذا لفظ مسلم.
(4)
"الفروق": (1/ 192).
(5)
أخرجه البخاري رقم (172)، ومسلم رقم (279) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
هذا اللفظ في مسلم.
(7)
أخرجه الترمذي رقم (91)، والبيهقي:(1/ 241).
أحدهما، بل يبقى على إطلاقه
(1)
.
فائدة
إنما يحمل المطلق على المقيد إذا لم يستلزمْ حملُه تأخيرَ البيان عن وقت الحاجةِ، فإن استلزمَهُ حُمل على إطلاقه، وله مثالان:
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم بعرفات: "مَنْ لم يَجِدْ نعْلَيْنِ، فَلْيلْبس خُفَّيْنِ"
(2)
ولم يشترط قطعًا، وقال بالمدينة على المِنبَر لمَنْ سأله ما يَلبسُ المحرم؛: "مَنْ لم يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيلْبس خفَّيْنِ
(3)
، ولْيقْطَعْهمَا أسفَلَ مِنْ كعْبَيهِ"
(4)
.
فهذا مقيَّد ولا يحمَلُ عليه ذلك المطلقُ؛ لأن الحاضرين معه بعرفات من أهل اليمن ومكة والبوادي، لم يشهدوا خُطبته بالمدينة، فلو كان القطع شرطًا لبيَّنَه لهم، لعدم علمهم به، ولا يمكن اكتفاؤهم بما تقدَّم من خطبته بالمدينة.
ومن هنا قال أحمد ومَن تَابَعَهُ: إن القطع منسوخٌ بإطلاقِهِ بعرفات اللُّبْس، ولم يأمر بقطع في أعظم أوقات الحاجة.
المثال الثاني: قول لمن سألته عن دم الحيض: "حُتِّيهِ ثم اغْسِلِيهِ"
(5)
(1)
انظر "فتح الباري": (1/ 331 - 333).
(2)
أخرجه البخاري رقم (1841)، ومسلم رقم (1178) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(3)
من قوله: "ولم يشترط
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
(4)
أخرجه البخاري رقم (307)، ومسلم رقم (1177) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري رقم (307)، ومسلم رقم (291) من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وروي من حديث جماعة من الصحابة.
ولم يشترط عددًا مع أنه وقت حاجة، فلو كان العددُ شرطًا لبيَّنَه لها، ولم يُحِلْها على غَسْل ولوغ الكلب، فإنها ربَّما لم تسمعه، ولعله لم يكنْ شُرعَ الأمر بغسل ولوغه.
فائدة
(1)
نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (ق/301 ب) عن بيع الطَّعام قبل قبْضِهِ
(2)
، ونهى عن بيع ما لم يُقْبَض في حديث حكيم بن حزامِ وزيد بن ثابَت
(3)
. فقال أصحابُ مالك: النهيُ مخصوصٌ بالطَّعام دون غيره؛ فمنهم من قال: هو من باب حَمْل المطلَق على المقيَّد، وهو فاسد كما تقدم، فإنه عام وخاص، ولفظه:"إذا اشْتَرَيْتَ شيئًا، فلا تَبِعْه حتى تَقْبِضَهُ".
ومنهم من قال: خاصٌّ وعامّ تعارضا، فقدَّم الخاصَّ وهو أفسدُ من الأول، إذ لا تعارض بين ذِكْر الشيءِ بحكيم، وذكرِ بعضه به بعينه.
ومنهم (ظ / 211 أ) من قال: هو من باب تخصيص العموم بالمفهوم، وهذا المأْخَذ أقرب، لكنه ضعيف هنا؛ لأنَّ الطعام هنا وإن كان مشتقًا فاللَّقبيَّةُ أغلبُ عليه، حيث لم يَلحْ معنى يقتضي اختصاصَ النهي به دونَ الشراب واللباس والأمتعة، فالصواب التعميم
(4)
.
(1)
نظر "الفروق": (1/ 193).
(2)
أخرجه البخاري رقم (2132)، ومسلم رقم (1525) من حديث ابن عباسٍ، وأخرجاه -أيضًا- من حديث ابن عمر رضي الله عنهم.
(3)
حديث حكيم بن حزام أخرجه أبو داود رقم (3503)، والترمذي رقم (1232)، والنسائي:(7/ 289) وغيرهم.
وحديث زيد بن ثابت أخرجه أبو داود رقم (3499).
(4)
وهذا الأخير تعليل المصنف، ردَّ به على القرافى في جعل المسألة من باب تخصيص العموم بالمفهوم.
فائدة
(1)
قوله صلى الله عليه وسلم: "جعِلَتْ لى الأرْضُ مسجدًا وطهورًا"
(2)
، وفي لفظ:"وتُرابها طَهورٌ"
(3)
فقيل: يحْتص الطهور بالتُّراب حملًا للمطلق على المقيد، وهو ضعيف؛ لأنه من باب الخاص والعامِّ.
وقل: هو من باب التَّخصيص بالمفهوم.
وأعترض عليه بثلاثة أمور:
أحدها: أن دلالةَ العُمومِ أقوى؛ لأنها لفظية متَفقٌ عليها.
الثاني: أنه مفهومُ لقبِ وهو أضعف المفهومات.
الثالث: أن التَّخصيص بالتربة خرجَ لكونها غالب أجزاءِ الأرض، والتخصيص إذا كان له سبب لم يعتبرْ مفهومه.
وأجيب: بأن ذكر التربة الخاصَّة بعد ذكر لفظ الأرض عامًا في مقام بيان ما أختصَّ به وأمتنَ الله عليه وعلى الأمَّة به = دليلٌ ظاهر على اختصاص الحكم باللفظ الخاص، فإن عدولَه عن عطفه على اللفظ العام إلى اسم خاص بعدَه يتضمن زيادةَ اللَّفظِ والتفريق بين الحُكْمين، وأن الطهور متعلِّق بالتربة، وكونها مسجدًا متعلقٌ بمسمَّى الأرض، مُفْهم تقييدَ كلِّ حكم بما نُسِبَ إليه، وتخصيصه بما جعل خبرًا عنه، وهذا واضح.
(1)
"الفروق": (1/ 194).
(2)
أخرجه البخاري رقم (335) ومسلم رقم (521)، من حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما.
(3)
رواية مسلم رقم (522) من حديث حذيفة رضي الله عنه-
فائدة
(1)
استشكل جمهور الفقهاء مذهبَ مالكٍ فيمن قال لنسائه: "إحداكن طالق"، فإن الجميعَ يحرمْنَ عليه بالطَّلاق.
وقالوا: هذا إلزام بالطَّلاق لمن لم يُطَلِّقْها وهو باطلٌ. قالوا: ويلزمُ من هذا خلافُ الإجماع ولابدَّ؛ لأن الله تعالى أوجبَ إحدى خصال الكفَّارة، فإضافة الحكم لأحد الأمور إن اقتضى التعميمَ وجبَ أن يوجبوا جميعَ الخصال، وهو خلاف الإجماع، وإن لم يقتض العمومَ وجبَ أن لا يقتضيَهُ في قوله:"إحداكنَّ طالِقٌ"؛ لأنه لو عمَّ لعم بغير مقتضٍ، وهو باطلٌ (ق/ 302 أ) بالإجماع.
ولكن لقوله رضي الله عنه غَوْرٌ، وهو الفرق بين إيجاب القَدْر المشترك وتحريم القَدْر المشترك، فالإيجابُ في الكفارة إيجاب لقدْر مشترك
(2)
، وهو مسمَّى أحد الخصال، وذلك لا يقتضي العمومَ، كما إذا أوجب عتقَ رقية، وهي مشتركةٌ بين الرّقاب لم يَعمَّ سائرها.
وأما تحريم القَدْرِ المشترك فيلزمُ منه العموم؛ لأن التحريم من باب النهي، وإذا نهى عن القَدْر المشترك كان نهيًا عن كلِّ فرد من أفراده بطريق العموم، وإذا ثبتَ هذا؛ فالطلاق تحريمٌ لأنه رافع لحل النِّكاح، فإذا وقع في القَدْر المشترك -وهو إحدى نسائِهِ- عمَّ جميعَهُنَّ، كما لو قال: واللهِ لا قَرِبْت إحداكُن شهرًا.
وأما أصحاب أحمد فإنهم قالوا: إذا قال: "عَبْدي حرٌّ وامرأتي
(1)
"الفروق": (1/ 157 - 158).
(2)
قوله: "وتحريم القدر
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
طالقٌ"، عتقَ عليه جميعُ عبيده وطلقَ جميع نسائه، ولكن ليس بناء منهم علي هذا المأْخَذ؛ بل لأن عندهم المفرد المضاف يَعُمُّ كالجمع المُضاف.
وأما أصحاب أبي حنيفة والشافعي فلم يقولوا بالعموم في واحدة من الصُّورتين.
وقال أصحابُ مالك
(1)
: إذا قال لعبيده: "أحدكم حرٌّ"، كان له أن يختارَ من شاء منهم فيعَيِّنهُ للعتق، ولا يعتق الجميع، قالوا: لأن العتق قربةٌ وطاعة لا تحريم، فهو إيجاب للقدْر المشترك، وإن لزم منه التحريمُ، ولهذا لو قال:"لله على أن أعتقَ أَحَدَكم"، لزمه عتق واحد دون الجميع.
فيقال
(2)
: لا فرق بين الطلاق والعتق في ذلك، وقول الجمهور أصحُّ، وقولكم: إن الطلاقَ تحريم ليس كذلك، بل هو كاسمه إطلاق وإرسال للمرأة، ويلزم منه التحريم، كما أن العتاق إرسال للأَمَة، ويلزم منه التحريم، فهما سواء.
ويدل عليه أنه لو قال: "إن كلَّمْتُ زيدًا فلله عليَّ أن أطلّقَ واحدة منكنَّ أو إحداكنَّ"، لم يلزمْه طلاقُ جميعهن (ظ / 211 ب) عندَ من يعَيِّنُ عليه الوفاء عينا دون الكفَّارة، ومعلوم قطعًا أن القائل لنسائه:"إحداكُنَّ طالق"، غيرُ مُطَلِّق لبقِيَتهن لا بلفظه ولا بقصده، فكيف يطلقْنَ جميعًا، فلو طلقْنَ لطلُقْنَ يغير مقتضٍ لطلاقهنَّ.
ويدكُ على أن الطلاقَ ليس بتحريم أن الله تعالى أباحَه، ولم
(1)
انظر "الفروق": (1/ 158 - 159).
(2)
هذا الجواب للمؤلف.