المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسائل في المخنث واللوطي وشارب الخمر في رمضان - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المسلك الأول:

- ‌المسلك الثاني:

- ‌المسلك الثالث:

- ‌المسلك الرابع:

- ‌المسلك الخامس:

- ‌المسلك السادس:

- ‌المسلك الثامن:

- ‌المسلك التاسع:

- ‌المسلك العاشر:

- ‌المسلك الحادي عشر:

- ‌المسلك الثاني عشر:

- ‌فصل(1)قولهم: "ظروفُ الزمان لا تكون أخبارًا عن الجثث"(2)ليس على إطلاقه

- ‌المثال الأول:

- ‌المثال الثاني:

- ‌المثال الثالث:

- ‌المثال الرابع:

- ‌المثال الخامس:

- ‌المثال السادس:

- ‌المثال السابع:

- ‌المثال الثامن:

- ‌المثال التاسع:

- ‌المثال العاشر:

- ‌المثال الحادي عشر:

- ‌المثال الثانى عشر:

- ‌المثال الثالث عشر:

- ‌المثال الرابع عشر:

- ‌المثال الخامس عشر:

- ‌المثال السادس عشر:

- ‌ في صفة وضع اليد على اليد

- ‌اختلف قوله في الصلاة بغير الفاتحة

- ‌ومن خط القاضي مما قال: انتقيتُه من "كتاب الصيام" لأبي حفص

- ‌ومن خط القاضي أيضًا مما ذَكَر أنه انتقاه من كتاب "حكم الوالدين في مال ولدهما" جَمْع أبى حفص البرمكي

- ‌ عِتْق الأب جاريةَ ابِنهِ

- ‌ إذا وهب لابنه جاريةً فأراد أن يشترِيَها

- ‌ومما انتقاه من خط أبي حفص البرمكي

- ‌ومن خط القاضي أيضًا

- ‌ومن خطه أيضًا من تعاليقه

- ‌ عذاب القبر

- ‌ومن خط القاضي من جزء فيه تفسير آيات من القرآن عن الإمام أحمد

- ‌فوائد شتى من كلام ابن عقيل وفتاويه

- ‌ذِكْر مناظرةٍ بين فقيهين في طهارة المنيِّ ونجاستِهِ

- ‌فائدةإذا علق الطلاق بأمر يعلمُ العقلُ استحالَتَهُ عادةً

- ‌فائدةإذا جَبَّ عبدَه ليزيدَ ثمنُه

- ‌فائدة(2)الخلافُ في كون عائشة أفضلَ من فاطمة

- ‌مسائل في المخنّث واللوطي وشارب الخمر في رمضان

- ‌فائدةالدليلُ على حَشْرْ الوحوش

- ‌فائدة

- ‌فائدة

- ‌فائدة

- ‌فائدة(2)قولهم: الأعمُ لا يستلزمُ الأخصَّ عينًا

- ‌فائدةارتفاع الواقع شرعًا مُحال

- ‌فائدة(2)الأسبابُ الفعلية أقوى من الأسباب القولية

- ‌قاعدةالحائض إذا انقطع دمُها فهي كالجُنُب

- ‌من مسائل إسحاق بن منصور الكوسج لأحمد

الفصل: ‌مسائل في المخنث واللوطي وشارب الخمر في رمضان

فيها، وبُسُوق النخل والرِّزق، وذكر القوم، وحقوق الوعيد، ولو لم يكن إلا تكرارُ القول والمُحَاورة.

وسرُّ آخر: وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلوِّ والانفتاح.

وإذا أردت زيادةَ إيضاح هذا فتأمَّل ما اشتملت عليه سورة (ص) من الخصومات المتعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصُم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفَّارات، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانيًا في شأن بَنيه وحَلِفه ليُغْوِيَنَّهم أجمعين، إلا أهلَ الإخلاص منهم، فليتأمل اللبيبُ الفَطِن: هل يليق بهذه السورة غير (ص)، وبسورة (ق) غير حَرْفها، وهذه قطرةٌ من بحر من بعض أسرار هذه الحروف، والله أعلم.

فوائد من السِّياسة الشرعية

(1)

نص عليها الإمام أحمد

* قال في رواية المرُّوْذي وابن منصور: المُخَنَّثُ يُنفى لأنه لا يقعُ منه إلا الفسادُ والتَّعَرُّض له، وللإمام نفيُهُ إلى بلدٍ يأمنُ فسادَ أهله، وإن خاف عليهم حَبَسَهُ.

*ونقل حنبلٌ عنه فيمن شَرِب خمرًا في نهار رمضان، أو أتى شيئًا نحوَ هذا أُقيم عليه الحدُّ وغلظ عليه، مثل الذي قتل في الحَرَم: دِيَةٌ وثُلُثٌ.

(1)

(ق): "‌

‌مسائل في المخنّث واللوطي وشارب الخمر في رمضان

".

ص: 1121

* ونقل حرب عنه: إذا أتت المرأةُ المرأةَ تُعاقبانِ وتؤَدَّبانِ.

وقال أصحاب أحمد: إذا رأى الإمامُ تحريقَ اللُّوطِيِّ بالنَّار فله ذلك (ظ/ 192 أ)؛ لأن خالد بن الوليد كتبَ إلى أبى بكر: أنه وَجَدَ في بعض ضواحي العرب رجلاً يُنْكَحُ كما تُنْكَحُ المرأةُ، فاستشار أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم وفيهمِ عليُّ بن أبي طالب -وكان أشدَّهم قولاً- فقال: إنَّ هذا الذنبَ لم تعْصِ به أمَّةٌ من الأمم إلا واحدة صنع الله بهم ما قد عَلِمْتم، أرى أن يُحْرَقُوا بالنار، فأجمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنْ يُحْرَقوا بالنار

(1)

، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يُحْرَقوا

(2)

. ثم حَرَّقَهُمْ ابنُ الزبير، ثم حَرَّقَهُمْ هشام بن عبد الملك.

* ونص أحمدُ فيمن طعن على الصحابة أنه قد وجبَ على السلطان عقوبتُهُ. وليس للسلطان أن يعفوَ عنه، بل يعاقبُهُ ويستتيبُهُ، فإن تاب وإلا (ق/175 أ) أعاد عليه العقوبةَ.

فائدة

قال ابنُ عقيل: شاهدتُ شيخَنا ومعلِّمَنا المناظرةَ: أبا إسحاق الفيروزابادي

(3)

لا يُخرج شيئًا إلى فقير إلا أحضر النية، ولا يتكلَّمُ في مسألة إلا قَدَّمَ الاستعانةَ بالله وإخلاصَ القصدِ في نُصْرَةِ الحقِّ دونَ التَّزين والتَّحسين للخَلْق، ولا صنَّفَ مسألةً إلاّ بعد أن صلَّى رَكَعَاتٍ، فلا جَرَمَ شاع اسمُه، واشتهرت تصانيفُه شرقًا وغربًا، هذه بركاتُ الإخلاصِ.

(1)

من قوله: "فأجمع

" إلى هنا ساقط من (ق).

(2)

أخرجه البيهقي: (8/ 232).

(3)

هو: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي الشيرازي الشافعى، صاحب اللمع، ت (476). "السير":(18/ 452 - 464).

ص: 1122

فائدة

عُوتب ابنُ عقِيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه، فقال: أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلت يَدَه أكان خطأ أو واقعًا موقِعَه؟ قالوا: بلى، قال: فالأب يَرُبُّ ولدَه مربَّةً خاصَّةً، والسلطان يَرُبُّ العالم مربَّة عامَّةَ، فهو بالإكرام أولى، ثم قال: وللحال الحاضرة حكمُ من لابَسَها، وكيف يُطْلَب من المُبتلَى بحالٍ ما يُطْلَب من الخالي عنها.

فائدة

أورد إلكِيا

(1)

الهَرَّاسِي سؤالاً على القول بكفر تارك الصلاة، وزعم أنه لا جوابَ عنه، فقال: إذا أراد هذا الرجل معاودةَ الإسلامِ فبماذا يُسلم فإنه لم يَتْرُك كلمة الإسلام؟.

فأجابه ابنُ عَقيل بأن قال: إنما كان كفرُهُ بترك الصلاة لا بترك الكلمة، فهو إذا عاود فِعْل الصلاة صارت معاودَتُهُ للصلاة إسلامًا، فإن الدَّالَّ على إسلام الكافر الكلمةُ أو الصلاةُ.

قلت: وهذا الذي ذكره كِيا

(2)

يرد عليه في كلِّ مَنْ كَفَرَ بشيء من

(1)

(ظ): "شيخنا" وفيه بُعْد؛ لأن إلكيا من أقران ابن عقيل على أحسن الأحوال، وإلا فابن عقيل أكبر منه بعشرين عامًا، وقد نقل ابن عقيل عن إلكيا في "الفنون" ولم يطلق عليه "شيخنا" أنظر "الفنون":(1/ 162، 166، 170، 171).

قال ابن خلكان في "الوفيات": (3/ 389): "وفي اللغة العجمية إلكيا هو الكبير القدر المقدَّم بين الناس، وهو بكسر الكاف وفتح الباء المثنَّاة من تحتها وبعدها ألف" اهـ.

(2)

كذا في (ع وق) وكذا في "الفنون" لابن عقيل، ووقع في (ظ) والمطبوعات:"شيخنا" وانظر ما سبق.

ص: 1123

الأشياء

(1)

، مع إتيانه بالشهادتين، وتلك صور عديدة.

فائدة

(2)

سأل سائل فقال: إذا كانت الجنَّةُ لا موتَ فيها فكيف يأكلون فيها: لحمَ الطير وهو حيوان قد فارقته الروح؟

فأجيبَ: بأنه يجوزُ أن لا يكون ميتًا، وهذا جواب في غاية الغَثَاثَة!.

قال ابنُ عقيل: وما الذي أحوجه إلى هذا والجنَّة دارٌ لا يُخْلَقُ فيها أذىً ولا نَصَبٌ، لا مطلقًا، بل لا يدخل الداخل إليها ذلك على طريق الإكرام كما قال تعالى:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118 - 119] وذلك مشروطٌ بالطاعة، فإذا جاز ذلك في حق آدَمَ عُلِم أنه ليس بواجب في حق الطير، ولا يمتنع: في قدرة اللهُ تعالى أن يكون هذا الطائر مشويًّا لا عن روُح خرجت منه، أو عن روح خرجتْ خارجَ الجنة، وولَجَ الجنة وهو لحمٌ مشويٌّ.

قلت: وما الذي أوجبَ هذا التَّكَلُّفَ كُلَّه، فالجنةُ دارُ الخلود لأهلها: وسكانها، وأما الطيرُ (ق/ 275 ب) فهو نوعٌ من أنواع الأطعمة التي يحدِثُها: اللهُ لهم شيئًا بعد شيء، فهو دائمُ النوع، وإن كانتْ آحادُهُ

(3)

مُتصَرِّمَة كالفاكهة وغيرها، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنَّ المُؤْمِنينَ يُنْحَرُ: لهم يَوْمَ القيامَةِ ثَوْرُ الجَنَّةِ الذي كان يَأْكُلُ منها، فَيَكُونُ نُزُلَهُمْ"

(4)

، فهذا حيوانٌ قد كان يأكلُ من الجنة فَيُنْحَرُ نُزُلاً لأهلها، والله أعلم.

(1)

(ظ): "الأسباب".

(2)

(ق): "مسألة".

(3)

تحرفت في النسخ إلى أنحاء شتى.

(4)

أخرجه مسلم رقم (315) من حديث ثوبان رضي الله عنه.

ص: 1124

فائدة

"الدُّنيا سِجْنُ المُؤْمِنِ"

(1)

فيه تفسيرانِ صحيحانِ:

أحدهما: أن المؤمنَ قَيَّدَهُ إيمانُهُ عن المحظورات، والكافر مطلقُ التَّصَرُّف.

الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب، فالمؤمنُ لو كان أنعمَ النَّاس، فذلك بالإضافة إلى مآله في الجنة كالسِّجن، والكافرُ عكْسُه، فإنه لو كان أشدَّ النَّاس (ظ/192 ب) بؤسًا فذلك بالنسبة إلى النار جَنَّتُه

(2)

.

فائدة

سأل تلميذٌ أستاذَهُ أن يمدحَهُ في رقعة إلى رجل، ويبالغَ في مدحه بما هو فوقَ رُتبته، فقال: لو فعلتُ ذلك لكنتُ عند المكتوبِ إليه إما مقصِّرًا في الفهم؛ حيث أعطيتُكَ فوق حَقِّكَ، أو متَّهمًا في الإخبار فأكون كذابًا، وكلا الأمرينِ يضرُّك؛ لأني شاهِدُك، وإذا قُدِح في الشاهد بطل حَقُّ المشهود له

(3)

.

فائدة

قال قائل: أراني

(4)

إذا دُعيتُ باسمي دون لَقَبي شقَّ ذلك عَلَيَّ

(1)

أخرجه مسلم رقم (2956) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

وانظر جواب الصُّعْلوكي على سؤال عبدٍ يهودي عن هذا الحديث مع ما هو عليه -أي اليهودي- من المهانة والذل، والشيخ الصعلوكي من الجاه والمنزلة؛ فقال على البديهة:"إذا صرتَ غدًا إلى عذاب الله كانت هذه جنتك، وإذا صِرت أنا إلى نعيم الله ورضوانه، كان هذا سجني". "الطبقات السنية": (4/ 60) للتميمي.

(3)

بنحوها في "البصائر والذخائر" للتوحيدي.

(4)

(ق): "إني".

ص: 1125

جدًّا بخلاف السَّلَف، فإنهم كانوا يُدْعَوْن بأسمائهم.

فقيل له: هذا لمخالفة العادات؛ لأن أُنسَ النفوس بالعادة طبيعةٌ ثابتةٌ؛ ولأن الاسم عند

(1)

السَّلَف لم يكن

(2)

دالاً على قِلَّة رُتْبة المدعوِّ، واليوم صارت المنازلُ في القلوب تُعلم بأمارة الاستدعاء، فإذا قصَّر دَلَّ على تقصير رُتبته فيقع السخطُ لما وراء الاستدعاء. فلما صار المخاطباتُ موازينَ المقادير، شقَّ على المخطوط من رتبته قولاً، كما شق

(3)

عليه فعلاً.

فائدة

(4)

سمع بعض أهل العلم رجلاً يدعو بالعافية، فقال له: يا هذا استعملِ الأدويةَ وادعُ بالعافية، فإن الله تعالى إذا كان قد جعل إلى العافية طريقًا. وهو التَّدَاوي ودعوتَهُ بالعافية، ربما كان جوابُهُ: قد عافيتُكَ بما جعلتهُ ووضعتُهُ سببًا للعافية، وما هذا إلا بمثابة من بينَ زرعِهِ وبينَ الماء ثُلْمَةٌ يدخلُ منها الماء يسقي زرعه، فجعل يُصلِّي ويستسقي لزَرْعه، ويطلبُ المطر مع قدرته على فَتْح تلك الثُّلْمة لسقي زَرْعه، فإن ذلك لا يحسُنُ منه شرعًا ولا عقلاً، ولم يكن ذلك إلا لأنه سبق بإعطاء الأسباب، فهو إعطاء بأحد الطريقين، وله أن يُعطي بسبب وبغير سبب، وبالسبب ليُبَيَّنَ به ما أفاض صنعه، وما أودع (ق/ 276 أ) في مخلوقاته من القُوَى والطبائع والمنافع، وإعطاؤه لغير سبب ليُبيَّنَ للعباد أن القُدرة غيرُ مفتَقِرة إلى واسطة في فعله، فإذا

(1)

(ق): "عن".

(2)

(ظ) زيادة: "عندهم".

(3)

(ع): "شق".

(4)

انظر: "الفروق": (4/ 221 - 224) للقرافي.

ص: 1126

دعوتَهُ بالعافية فاستنقِذْ ما أعطاك من العَتَائد والأرزاق، فإن وصلتَ بها، وإلا فاطلبْ طلبَ مَنْ أفلسَ مِن مطلوبه، فرغب إلى المعدِن، كما قال سيِّدُ الخلائق:"اللَّهُمَّ هَذا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ"

(1)

.

قلت: هذا كلامٌ حسن، وأكملُ منه أن يبذُلَ الأسبابَ ويسأل سؤال من لم يُدْلِ بشيءٍ ألبتَّةَ، والناس في هذا المقام أربعة أقسام:

فأعجزهم: من لم يبذلِ السَّبَبَ ولم يُكْثِرِ الطلبَ، فذاك أمهنُ الخلق.

والثاني: مقابِلُهُ، وهو أحزمُ الناس: من أَدْلى بالأسباب التي نصَبَها اللهُ تعالى مُفضيةً إلى المطلوب، وسأله سؤالَ من

(2)

لم يُدْلِ بسببٍ أصلاً، بل سؤالَ مفلسٍ بائس ليس له حيلةٌ ولا وسيلة.

والثالث: من اشتغل بالأسبابَ وصرف همَّتَهُ إليها، وقصَرَ نَظَرَهُ عليها، فهذا وإن كاد له حظٌّ مما رتَّبه اللهُ عليها؛ لكنه منقوصٌ منقطعٌ، نُصْبَ الآفاتِ والمعارضات، لا يحصلُ له إلا بعد جُهْد، فإذا حصل فهو وشيكُ الزَّوال، سريعُ الانتقال، غير مُعْقِبٍ له توحيدًا ولا معرفة، ولا كان سببًا لفتح الباب بينَهُ وبينَ معبودِهِ.

الرابع: مقابله، وهو رجلٌ نبَذَ الأسبابَ وراءَ ظهره، وأقبل على

(1)

أخرجه أبو داود رقم (2134)، والترمذي رقم (1140)، وابن ماجه رقم (1971)، والنسائي:(7/ 64)، وابن حبان "الإحسان":(10/ 5)، والحاكم:(2/ 187) من حديث عائشة رضي الله عنها ورجاله ثقات إلا أن الصواب فيه أنه مرسل، أعله بالإرسال الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم في "العلل":(1/ 425).

(2)

(ق): "وسؤاله من"، و (ظ):"وسؤاله سؤال من".

ص: 1127

الطَّلَبْ والدُّعاء. والابتهال، فهذا يُحْمَد في موضع، ويذَمُّ في موضع، ويَشْتبه الأمرُ في موضع.

فيُحمد عند كون تلك الأسباب غيْرَ مأمور بها أو فيها مضرَّةٌ عليه في دينه، فإذا تركها وأقبل على السُّؤال والابتهال والتَّضَرُّع لله؛ كان محمودًا.

ويُذمُّ حيث كانتِ الأسبابُ مأمورًا بها فتَرَكها وأقبلَ على الدُّعاء، كمن حَصَره العدوُّ وأُمِر بجهاده فترك جهادَهُ، وأقبل على الدُّعاء والتَّضَرُّع أن يصرفَه الله عنه، وكمن جَهَده العطشُ وهو قادر على تناول الماء، فتَرَكه وأقبل يسأل اللهَ أن يرويَهُ. وكمن أمكنه التَّداوي الشرعي فتركه وأقبل يسأل العافية، ونظائر هذا.

ويشتبه الأمرُ (ظ/193 أ) في الأسباب التي لا يتبيَّنُ له عواقبها، وفيها بعض الاشتباه، ولها لوازمُ قد يعجز عنها، وقد يتولَّدُ عنها ما يعودُ بنقصان دينه؛ فهذا موضعُ اشتباهٍ وخَطَر، والحاكم في ذلك كلِّه الأمرُ، فإن خفيَ فالاستخارةُ، وأمر الله وراء ذلك.

فائدة

قال أحمد: إذا تزوَّج العبدُ حرَّة عَتَقَ نصفه، ومعنى هذا: أن أولاده يكونون أحرارًا، وهم فَرْعُهُ، فالأصل عبد، وفرعُهُ حرٌّ، والفرعُ (ق/276 ب) جزء منم الأصل.

فائدة

حذارِ حذارِ مم أمرينِ لهما عواقبُ سوءٍ:

أحدهما: ردُّ الحقِّ لمخالفته هواك، فإنك تعاقَبُ بتقليب القلب،

ص: 1128

وردّ ما يَرِدُ عليك من الحق رأسًا، ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك، قال تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] فعاقبهم على ردِّ الحق أول مرة بأن قلَّب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك.

والثانى: التهاون بالأمر إذا حضر وقتُه، فإنك إن

(1)

تهاونت به ثَبَّطك الله وأقعدَك عن مراضيه وأوامره عقوبةً لك. قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)} [التوبة: 83] فمن سلِمَ من هاتينِ الآفتينِ والبليَّتين

(2)

العظيمتينِ فَلْتَهْنِهِ السَّلامةُ.

فائدة

وقعت حادثة في زمن ابن جرير

(3)

، وهي: أن رجلاً تزوَّجَ امرأةً فأحبَّها حبًّا شديدًا، وأبغضته بغضًا شديدًا، فكانت تواجهُهُ بالشَّتم والدُّعاء عليه، فقال لها يومًا: أنت طالقٌ ثلاثًا لا خاطبتني بشيءٍ إلا خاطبتُكِ بمثله، فقالت له في الحال: أنتَ طالقٌ ثلاثًا بتاتًا، فأبلس

(4)

الرجلُ ولم يَدْرِ ما يصنع، فاستفتى جماعةً من الفقهاء. فكلُّهم قال: لابُدَّ أن تُطَلَّقَ، فإنه إن أجابها بمثل كلامها طلقت، وإن لم يُجِبْها حنث فطلقت، فإن بَرَّ طلقت، وإن حنث طلقت.

فأُرْشد إلى ابن جرير، فقال له: امضِ ولا تُعَاوِدِ الأيْمان، وأقمْ

(1)

(ع): "إذا".

(2)

(ظ): "النكبتين".

(3)

(ظ): "أيام ابن جرير"، وذكر الحادثة الذهبي في "تاريخه":(23/ 183).

(4)

(ع): "فأفلس"، و (ظ):"فأنكس".

ص: 1129

على زوجتك بعد أن تقولَ لها: أنت طالقٌ ثلاثًا إن أنا طلَّقْتُكِ، فتكون قد خاطبتَها بمثل خطابها لك، فوفَّيْتَ بيمينك ولم تُطَلَّقْ منك، لِمَا وصلْتَ به الطَّلاقَ في الشرط.

فذُكِر ذلك، بن كيل فاستحسنه. وقال: وفيه وجه آخر لم يذكره ابن جرير، وهو أنها قالت له:"أنْتَ طالقٌ ثلاثًا" بفتح التاء، وهو خطابُ تذكيرٍ، فإذا قال لها:"أنتَ" بفتح التاء لم يقعْ به طلاقٌ

(1)

.

قلت: وفيه وجه آخر أحسن من الوجهين، وهو جارٍ على أصول المذهب، وهو تخصيصُ اللفظ العامِّ بالنِّيَّة، كما إذا حلف لا يتغدَّى ونيَّتُه غداءُ يومه قُصِر عليه. وإذا حلف لا يكلِّمُه ونيَّتُهُ تخْصيصُ الكلام بما يكرهُهُ، لم يحنَثْ إذا كلمه بما يحبُّه، ونظائره كثيرةٌ.

وعلى هذا فِبساط

(2)

الكلام صريح أو كالصريح في أنه إنما أراد أنها لا تكلمه بشتم أو سب أو دعاء، أو ما كان من هذا الباب

(3)

إلا كلّمها بمثله، ولم يُرِدْ أنها إذا قالت (ق/ 277 أ) له: اشترِ لي مَقْنَعَةً: أو ثوبًا أن يقول لها. اشتري لي ثوبًا أو مقنعه، وإذا قالت له: لا تشترِ لي كذا فإني لا أحبُّه، أن يقول لها مثلَه. هذا مما يقطعُ أن الحالفَ لم يُرِدْهُ، فإذا لم يخاطبها بمثله لم يحنَثْ. وهكذا يقطعُ بأن هذه الصورة المسؤول عنها لم يُرِدْها، ولا كان بِساط

(4)

الكلام يقتضيها ولا خطرت بباله، وإنما أراد ما كان من الكلام الذي هَيَّجَ يمينه وبعثه

(1)

في هامش (ق) ما نصه: "أما هذا الوجه الثاني فغير سائغ، أرأيت لو قالت: "أنتِ طالق" بكسر التاء، ماذا يكون الجواب"؟.

(2)

(ظ): "فليناط".

(3)

من (ظ).

(4)

انظر استعمال المؤلف لهذه الكلمة فيما سبق (3/ 872).

ص: 1130

على الحلف. ومثل هذا يعتبرُ عندنا في الأيْمان.

فائدة

قرأ قارئ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)} [التكوير: 1 - 3] وفي الحاضرين أبو الوفاء ابن عقيل، فقال له قائل: يا سيِّدي هبْ أنه أَنشر الموتى للبعث والحساب، وزَوَّج النفوسَ بقُرَنائِها للثوابِ والعقابِ، فلمَ هدم الأبنيةَ وسيَّر الجبالَ، ودكَّ الأرضَ وفطرَ السماءَ، ونثرَ الَنجوم وكوّر الشمس؟.

فقال: إنما بنى لهم الدار للسُّكْنى والتَّمَتُّعُ، وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتَّفَكُّر، والاستدلال عليه بحسن التأمُّل والتَّذَكُّر، فلما (ظ/193 ب) انقضت مُدَّةُ السُّكْنى وأجلاهم من الدَّار خرَّبها لانتقال الساكن منها

(1)

.

فأراد أن يعلِّمهم بأن الكونين كانت معمورة بهم، وفي إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وبيان القدرة بعد بيان العزة، وتكذيب لأهل الإلحاد وزنادقة المنجِّمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان، فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، فإذا رأوا أن منار آلهَتَهُم قد انهدم، وأن معبودِيْهم قد انتثرتْ وانفطرت، ومحالّها قد تشققت = ظهرت فضائحُهم، وتبيَّنَ كَذِبُهم، وظهر أن العالم مربوبٌ محدَث مدبَّر، له ربُّ يصرِّفه كيف يشاءُ تكذيبًا لملاحدة الفلاسفة القائلينَ بالقِدَم، فكم لله تعالى من حكمة في هدم هذه الدار، ودلالة على عِظم عِزَّته وقدرته وسلطانه وانفراده بالرُّبوبيَّة، وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره وإذعانها لمشيئته، فتبارك اللهُ ربُّ العالمينَ.

(1)

(ق): "للانتقال منها".

ص: 1131