الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى مجرد نظرها وآرائها، وهو يعلِّمُهم كلَّ شيء، حتى التَّخَلِّي وآدابه، ولقد بيَّنت السُّنَّةُ هذه المسألةَ بيانًا شافيًا، ولله الحمد.
وأما ما ذكرتم من النظر على تنجيسه؛ فنظرٌ أعْشى؛ لأنكم أخذتم حكمَ نجاسته من وجوب الاغتسال منه، ولا ارتباطَ بينهما، لا عقلًا ولا شرعًا ولا حِسًّا، وإنما الشارعُ حَكَم بوجوب الغسل على البَدَن كلِّه عند خروجه، كما حَكَم به عند إيلاج الحَشَفَة في الفَرْج، ولا نجاسةَ هناك ولا خارج، وهذه الريحُ توجب غَسْل أعضاء الوضوء وليست نَجِسَةً، ولهذا لا يُسْتَنْجَى منها ولا يُغْسَلُ الإزار والثوبُ منها، فما كلُّ ما أوجب الطهارةَ يكون نجسًا، ولا كلُّ نجسٍ يوجِبُ الطهارةَ أيضًا، فقد ثبت عن الصحابة أنهم صلُّوا بعد خروج دمائهم في وقائعَ متعدِّدة، وهم أعلمُ بدين الله من أن يُصَلُّوا وهم محدِثون، فظهر أن النظرَ لا يوجِبُ نجاستَه، والآثار تدُلُّ على طهارته، وقد خلق الله تعالى الأعيان على أصل الطهارة، فلا ينجسُ منها إلا ما نجَّسه الشرعُ، وما لم يُعْلَم تنجيسُه من الشرع فهو على أصل الطهارة، والله أعلم.
فائدة
إذا علق الطلاق بأمر يعلمُ العقلُ استحالَتَهُ عادةً
، وأخبر من لا يعلمُ إلا من جهته بوقوعه، وليس خبره مما قام الدليلُ على صدقه، فقد قال كثير من الفقهاء بوقوع الطلاق عند خبره.
وقال محمد بن الحسن بعدم الوقوع، وهو الصَّوابُ، وهو اختيار ابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد.
وصورةُ المسألة إذا قال: إن كنتِ تُحِبِّينَ أن يُعَذِّبَكِ الله في النارِ فأنتِ طالقٌ، فقالت: أنا أحِبُّ ذلك.
قال الموقِّعون: المحبَّةُ أمرٌ لا يتوقَّفُ عليه، ولا يُعْلم إلا من جهتها، فإذا أخبرتْ به رُجِعَ إلى قولها.
اعترض على ذلك ابنُ عقيل فقال: الباطنُ إذا كان عليه دلالةٌ أمكن الاطلاِعُ عليه، ولا دلالةَ أكبرُ من العلم بأن طباعَ الحيوان لا تصبرُ على لَفَحَات النار ولا تُحِبُّها، وإذا عُلِم هذا طبعًا صار دعوى خلافه خَرْقًا للعادة، فهو كقوله: أنتَ طالِقٌ إن صَعِدْتِ السَّماءَ، فغابت ثم ادَّعَتِ الصُّعودَ، فإنه لا يقعُ لاستحالته طبعًا وعادة.
قالوا: النعامُ يميل إلى النار، فلا يمتنع أن تكون هذه صادقة لإخبارها عن نفسها، أو دخل عليها داخلٌ من برد استولى على جسدها، فتمنَّت معه دخول النار.
قال ابن عَقِيل: لا يستحيلُ الميلُ إلى النَّارِ من الحيوانِ الذي ذكرت، لكن ذلك خَرْقٌ للعادةِ في حقِّ غيرها
(1)
، فَلَئِنْ جاز أن يُصَدِّقَها في ذلك لكونِهِ لا يستحيلُ، وجب أن يُصَدِّقَها في صعود السماء، فقد صعِدَتْ إليها الملائكةُ والجنُّ والأنبياءُ، بل ينبني الأمرُ على العادة دون خَرْقها، وفي مسألتنا لم تَقُلْ: أُحِبُّ النّارَ، بل قالت: أُحِبُّ أن يُعَذِّبَني اللهُ بالنار، والنعامُ لا يتعذَّبُ، فقد صرحت بحب أعظم الألم، ولا يجتمع في حيوان حبٌّ وميلٌ إلى ما يُعَذَّبُ به، بل طبعُهُ النُّفورُ من كلِّ مؤلم، فأما تعلُّقهم بأنَّ ما في قلبها لا يُطَّلَعُ عليه إلا من إخبارها فهذا شيءٌ يرجعُ إلى ما يجوزُ أن يكونَ في قلبها من طريق العادة.
فأما المستحيلُ عادةً فإنَّهُ كالمستحيلِ في نفسِهِ، ولو أنه قال لها: إن كنتِ تعتقدينَ أن الجَمَلَ يدخل في خُرْم الإبرة فأنت طالِقٌ،
(1)
"في حق غيرها" سقطت من (ق).
فقالت: أعتقده لم يَقَعِ الطلاقُ، إذ لا عاقلَ يُجَوِّزُ ذلك، فضلًا عن أن يعتقدَهُ. انتهى كلامه، وهو كما ترى قُوَّةً وصحَّةً.
حادثة
* مسجد عليه وقوف، خَرِبَ، وليس في وقفِه ما يَفِي بعِمَارَتِهِ، هل يجوزُ نقلُ ذلك إلى عِمارة الجامع الذي لا غِنى للقرية عنه؟.
قال جماعةٌ: يجوز. وخالفهم ابنُ عَقِيل فقال: يَجِبُ صرفُ دخلِ وقف
(1)
المسجدِ إلى عمارَتِهِ بِحَسَبها، وقد كان سقَفُ مسجد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَعَفًا. انتهى.
والتحقيقُ في المسألة: أن المسجد إن تعطَّل بحيث انتقل أهلُه عنه وبقي في مكان لا يُصَلَّى فيه، فالصوابُ ما قاله الجماعةُ، وإن كالت جيرانه بحالهم وهو بصدَدِ أن يُصَلَّى فيه، فالصوابُ ما قاله
(2)
ابنُ عقيل. والله أعلم.
* وسئل عن رجل تَزَّوجَ ضريرةً ومعها جاريةٌ تخدمُها، فأنفق عليها مدَّةً ثم قَصَّرَ في نفقة المرأة وعلَّلَ ذلك بأنه في مقابلة ما كان أنفقَ على الجارية.
فقال: هذا جهل منه، فإن من تزوَّج ضريرةً فقد دخل على بَصيرةٍ أنه لابُدَّ لها من خادم، فتكونُ المؤونةُ عليه، كمن تزَّوَجَ امرأة ذات جلالة يلزمُهُ إخدامُها.
* وسئل عن رجل أدرك الناسَ ركوعًا في صلاة الجمعة، وسمع
(1)
ليست في (ق وظ).
(2)
من قوله: "الجماعة وإن
…
" إلى هنا ساقط من (ظ).
من المبلِّغين قول: سمع الله لمن حمده، فهل يُقَدِّرُ ما يكون به تابعًا للإمام أو يعتبرُ بمن يليه؟
فقال: بل يقدر ما يكون به تابعًا للإمام في حال ركوعه؛ لأنه قد يكونُ ركع والإمام قد رفع، ولكن لبعد ما بين المبلِّغين وبين الإمام قد يكون الأواخر رُكَّعًا، وذلك أن الشرعَ علَّق الإدراكَ بركوع الإمام، فالوسائط لا عِبْرَةَ بهم.
حادثة
* رجل قال لامرأته: أنْتِ طالِقٌ إنْ كلَّمْتُكِ، وأعاده. فقال بعض أصحاب أحمد: إن قَصَدَ إفهامَها بالثاني لم يَقَعْ، وإن قَصَدَ الابتداءَ وقع المعلَّقُ بالثاني.
قال ابن عقيل: هذا خطأ؛ لأن الثاني هو كلامٌ لها على كلِّ حال، سواء قصد الإفهامَ أو الابتداءَ، وإنما اشتبهتْ بمسألة إذا قال: إن حلفتُ بطلاقِكِ فأنتِ طالقٌ، وأعادَه، فإن التفصيل كما ذكرت، فأما الكلامُ فهو على الإطلاق يتناولُ كلَّ كلام مخصوص بخلاف الحلف، فإنه لا يكون حَلِفًا إلا بقصد، وإذا كان قصدُه بالثاني إفهامَها لما حَلَف به أولًا لم يكن حلفًا.
قلت: والصواب القول الأول، وهذا الفرقُ خياليُّ، فإنه إذا قصد إفهامَها فلم يُرِد إلا اليمينَ الأولى ولم يُرِدْ به الكلامَ المحلوف عليه، فتحْنيثُهُ به تحنيثٌ بما لم يُرِدْه ألبتةَ، وبساط الكلام ونيته إنما يدلان على أنه أراد: لا كَلَّمْتُكِ بعد اليمين، مفردةً كانت أو مكررةً، فما كلمها الكلام الذي حلف عليه، وإنما أفهمها يمينه، فلا فرق بينها وبين مسألة الحَلِف.
وأما قوله: إن الحَلِفَ لا يكونُ حَلِفًا إلا بقَصْد، فيقال: إن كان القصدُ شرطًا في اعتبار المحلوف عليه لم يَحْنَثْ في الموضِعينِ، وإن لم يكنْ شرطًا فيه، فينبغي أن يحنَثَ في الموضعين، فأما أن يُجعلَ القصدُ شرطًا في أحدهما دونَ الآخر فلا وجهَ له، والله أعلم.
فائدة
استدل شيعيٌّ على الوصية لأهل البيت بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].
فأجيب بأن قيل: هذه وصيَّةٌ بهم لا وصيةٌ إليهم
(1)
، فهي حجَّةٌ على خلاف قول الشيعة؛ لأن الأمر لو كانَ إليهم لأوصاهم ولم يُوصِ بهم، ونظير هذا الاحتجاج على أن الأمرَ في قريشٍ لا في الأنصار بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أُوصِيكُمْ بالأنصَارِ"
(2)
فدلَّ على أن الأمرَ في غيرهم.
قلت: وهذا كلُّه خروج عن معنى الآية وما أُريدَ بها، ولا دلالةَ فيها لواحدة من الطائفتين، فإن معنى الآية
(3)
: لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن تَصِلُوا ما بيني وبينَكم من القَرَابة، فإنه لم يكن بطنٌ من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قَرَابَةٌ، فقال: لا أسألُكم على تبليغ الرسالة أجرًا، ولكن صِلُوا ما بيني وبينَكم من القرابة، وليست هذه الصِّلَةُ أجرًا، فالاستثناء منقطع، فإن الصِّلة من موجبات الرَّحِم، فهي واجبة
(1)
(ق): "لهم".
(2)
أخرجه البخاري رقم (3799)، ومسلم رقم (2510) من حديث أنسٍ- رضي الله عنه.
(3)
من قوله: "وما أُريد بها
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
على كلِّ أحد، وهذا هو تفسير ابن عباس الذي ذكره البخاريُّ عنه في صحيحه
(1)
.
فائدة
(2)
من العجب إنكارُ كونِ القرْعة طريقًا لإثبات الأحكام، مع ورود السُّنَّة بها، وإثباتُ حِلِّ الوطء بشهادة شاهدي زُور، يعلمُ الزوج الثاني أنهما شاهدا زُور، ومع هذا فيثبت الحِلُّ له بشهادتهما، فمن يقولُ هذا في باب حِلِّ الأبْضاع والفروج كيف يمنعُ القرْعَةَ؟!
ومن العجب قولهم: إذا مَنَعَ الذِّمِّيُ دينارًا من الجِزيَةِ انتقضَ عهدُه، ولو جاهرَ بسبِّ الله ورسوله ودينه، أو حَرَقَ
(3)
بيوتَ الله لم ينتقضْ عهدُه!.
ومن العجب: إباحتُهم القرآنَ بالعجميَّة، ومنعُ رواية الحديثِ بالمعنى!.
ومن العجب قولُهم: الإيمانُ نفسُ التَّصديق وهو لا يتفاضلُ، والأعمالُ ليست منه، وتكفيرُهم من يقول: مُسَيْجِد وفُقَيِّه، ومن يلتدُّ بالسَّماع، ويصلِّي بلا وضوء، ونحو ذلك.
ومن العجب: إسقاطُهم الحَدَّ عمن استأجرَ امرأةً لرَضاع ولده فَزَنا بها، أو استأجرها لِيَزْنِيَ بها، وإيجابُهم الحَدَّ على مَنْ وطِئَ امرأةً في الظُّلْمة يظنُّها امرأتَه، فبانت أجنبيةً.
(1)
رقم (4818).
(2)
هذه العجائب ذكرها ابن القيم في "إعلام الموقعين": (3/ 326 - 328) بنحوها، عند كلامه على الحِيَل وإبطالها، وأكثر هذه الأقوال قال بها فقهاء الحنفية.
(3)
(ع): "وأحرق".
ومن العجب: تشدُّدهم في المياه أعظمَ التَّشديد حتى يُنَجِّسوا القناطيرَ المقنطرةَ من الماء بمثل رأس الإبرة من البول، ويُجَوِّزون الصلاة في ثوب رُبُعه متضمِّخ بالنَّجاسة.
ومن العجب: منعهم إلحاق النَّسَب بالقيافة التي هي من أظهر الأَدِلَّة، وقد اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، وعمل بها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب
(2)
، وإلحاقهم: النَّسَبَ برجل
(3)
تزوَّج امرأة بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب، وبينهما ما لا يقطعه البَشَرُ، أو قال: تزوجت فلانة وهي طالِقٌ ثلاثًا عقِبَ القبول ثم جاءت بولدٍ فقالتْ: هو منه.
ومن العجب: إلحاقُهم الولد في هذه الصُّورة، وزعمُهم أن الرجل إذا كانت له سُرِّيَّةٌ وهو يطأُها دائمًا فأتت بولد على فراشه لم يَلْحَقْهُ إلا أن يستلحِقَهُ.
ومن العجب: أنهم يقولون
(4)
: إذا شهد عليه أربعة بالزنا، فقال: صَدَقوا في شهادتهم وقد فعلتُ، سَقَط عنه الحدُّ، وإن اتَّهمهم وقال: كذبوا عَلّيَّ، حُدَّ.
ومن العجب قولهم: لا يصِحُّ استئجارُ دارٍ لتُجْعَلَ مسجدًا يُصَلِّي فيه المسلمونَ، ويصِحُّ استئجارها كنيسةً يُعبدُ فيها الصليبُ، وبيتًا تُعبدُ فيه النار.
(1)
فيما رواه البخاري رقم (3731)، ومسلم رقم (1459) من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة مجزز المدلجي.
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ": (2/ 740).
(3)
(ع): "فيما رجل".
(4)
(ع): "بقولهم".
ومن العجب قولهم: إنه إذا قهقَهُ في صلاته انتقضَ وضوؤُه، ولو غنَّى في صلاته، وَقَذَفَ المحصَنَاتِ، وأتى بأقبح السَّبِّ والفُحش؛ فوضوؤه بحاله لم يَنْتَقِضْ.
ومن العجب قولهم: إذا وقع في البئرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَ منها أدْلَاءٌ معيَّنة، فإذا حصل الدَّلْوُ الأوَّلُ فى البئر تنجَّس وغرف الماء نجسًا، فما أصاب حيطانَ البئر منه نَجَّسَها، وكذلك ما بعدَهُ من الدِّلاء إلا الدَّلْو الأخير فإنه ينزلُ نَجِسًا ثم يصعدُ طاهرًا يقشقِشُ النَّجَاسَةَ من البئرِ!!
قال الجاحظ
(1)
: ما يكون أكرمَ أو أعقلَ من هذا الدَّلو.
[ومن العجب قولُهم: لو حَلَفَ لا يأكلُ فاكهةً حَنَثَ بأكلِ الجَوْزِ، ولو كان يابسًا منذُ سنين، ولا يحنَثُ بأكلِ الرُّطَبِ والعِنَب والرُمَّان
(2)
.
وأعجب من ذلك: تعليلُهم بأن هذه الثلاثة خيارُ الفاكهة، فلا تدخلُ في الاسم المطلق، ذكرَ الحكمَ والدليلَ [الإسبِيْجَابي]
(3)
في "شرح الطَّحَاوي"
(4)
.
(1)
في (ع وظ): "الحافظ"، والمثبت من (ق)، ويؤيده ما في "إعلام الموقعين":(3/ 327): "قال بعض المتكلمين" والجاحظ منهم، وقد نسب هذا القول له أبو الخطاب في "الانتصار":(1/ 234)، وابن العربي في "العارضة":(1/ 86)، ولعله ذكره في كتاب "الحيوان".
(2)
انظر: "بدائع الصنائع": (3/ 61).
(3)
تحرف فى المطبوعات إلى: "الأسماقي"! و (ق): "الاستجا"! وهو: أحمد بن منصور أبو نصر الإسْبِيْجابي -نسبةً إلى إسْبِيْجاب بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الباء الفَارسية وسكون الياء المثنَّاة التحتية وفتح الجيم بعده ألف بعده باء- ت (نحو 480) له "شرح مختصر الطحاوي". انظر "تاج التراجم": (ص/ 126)، و"الفوائد البهية":(ص/ 42).
(4)
له نسخة فى الظاهرية، وعنها فلم في جامعة الملك سعود رقم 1128/ 6 ف.
ومن العجب قولهم: لو حَلَفَ لا يشرَبُ من النيل أو الفرات أو دجْلَةَ، فشرب بكفِّه لم يحنث، ولا يحنثُ حتى ينكَبَّ ويكرَعَ بفيه مثلَ البهائم]
(1)
.
فائدة
قال جماعة من الناس: إذا ماتت نصرانيةٌ في بطنها جَنينٌ مُسلم، نَزَل ذلك القَبْرَ نعيمٌ وعذابٌ، فالنَّعيم للابن والعذاب للأم، ولا بُعْدَ فيما قاله، كما لو دُفِنَ في قبر واحدٍ مؤمنٌ وفاجرٌ، فإنه يجتمعُ في القبر النعيمُ والعذابُ.
فائدة.
قالت الإماميةُ: إن العتق لا يَنْفُذُ إلا إذا قُصِدَ به القُرْبة؛ لأنهم جعلوه عبادةً، والعبادةُ لا تصِحُّ إلا بالنية.
قال ابنُ عَقِيل: ولا بأس بهذا القول لاسيَّما
(2)
وهم يقولون: الطلاق لا يقعُ إلا إذا كان مصادفًا للسُّنَّة، مطابقًا للأمر، وليس بقُرْبة، فكيف بالعتق الذي هو قُرْبَةٌ؟
قلت: وقد ذكر البخاري في "صحيحه"
(3)
عن ابن عباس أنه قال: "الطلاقُ ما كان عن وَطَرٍ، والعِتْقُ ما ابتُغِيَ به وجهُ الله تعالى".
فائدة نافعة
(4)
كثير من الناس يطلب من صاحبه بعد نيله درجةَ الرياسة الأخلاقَ
(1)
ما بين المعكوفين من (ق) فقط، وهو في "إعلام الموقعين":(3/ 327 - 328).
(2)
(ق): "لأنهم".
(3)
"الفتح": (9/ 300) كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره.
(4)
"نافعة" ليست في (ق).
التي كان يعامِلُه بها قبلَ الرِّياسة، فلا يصادفُها، فينتقضُ ما بينهما من المودَّة، وهذا من جهل الصاحب الطالب للعادة، وهو بمنزلة من يطلبُ من صاحبه إذا سَكِرَ أخلاقَ الصَّاحي، وذلك غلطٌ؛ فإن للرِّياسة سَكْرةً كسكرة الخمر أو أشدَّ، ولو لم يكنْ للرِّياسة سَكْرة لما اختارَها صاحبُها على الآخرة الدائمة الباقية، فسكرتُها فوق سكرة القهوة
(1)
بكثير، ومُحَالٌ أن يُرى من السكران أخلاقُ الصاحي وطبعه، ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيسِ القبط بالخِطَاب اللَّيِّن، فمخاطبةُ الرؤساء بالقول اللَّيِّن أمرٌ مطلوب شرعًا وعقلًا وعرفًا، ولذلك تجدُ الناسَ كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخاطِبُ رؤساء العشائر والقبائل.
وتأمل امتثالَ موسى لما أمر به كيف قال لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)} [النازعات: 18 - 19]، فأخرَجَ الكلام معه مخرجَ السؤال والعَرْض لا مخرجَ الأمر، وقال:{إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)} ولم يقل: إلى أن أُزَكِّيَكَ، فنسبَ الفعلَ إليه هو، وذكر لفظ التَّزَكِّي
(2)
دونَ غيره؛ لما فيه من البركة والخير والنماء، ثم قال:{وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أكونُ كالدليل بين يديك الذي يسيرُ أمامَك، وقال:{إِلَى رَبِّكَ} ، استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه وربَّاه بنعمه صغيرًا ويافعًا وكبيرًا.
وكذلك قول إبراهيم الخليل لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم: 42] فابتدأ خطابَه بذكر أبوَّته الدَّالَّة على توقيره ولم يُسَمِّه باسمه، ثم أَخْرج الكلامَ معه مخرجَ السؤال فقال:{لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} ولم يقل: لا
(1)
كذا في (ع) والقهوة من أسماء الخمر، وفي (ق وظ):"الشهوة".
(2)
(ع): "التزكية".
تعبدُ، ثم قال:{يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 43] فلم يقل له: إنك جاهلٌ لا علمَ عندَك، بل عَدلَ عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدُلُّ على هذا المعنى، فقال:{جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} ، ثم قال:{فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)} .
وهذا مثل قول موسى لفرعون: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} [النازعات: 19]، ثم قال:{يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}
(1)
[مريم: 45] فنسب الخوفَ إلى نفسِه دون أبيه، كما يفعلُ الشفيقُ الخائفُ على من يُشفِقُ عليه.
وقال: {يَمَسَّكَ} فذكر لفظ المَسِّ الذي هو ألطفُ من غيره، ثم نكَّرَ العذابَ، ثم ذكر الرحمن، ولم يقل: الجبَّارُ ولا القهار، فأيُّ خطابٍ ألطفُ وألْيَنُ من هذا؟!.
ونظيرُ هذا خطابُ صاحب {يس (1)} لقومه حيث قال: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} [يس: 20 - 22].
ونظير هذا قول نوح لقومه: {يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 2 - 4]، وكذلك سائر خطاب الأنبياء، لأُمَمِهم قي القرآن، إذا تأمَّلْتَهُ وجدتَه ألْيَنَ خطابٍ وألطفَهُ، بل خطابُ الله لعباده هو ألطفُ خطاب وألينُه، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] الآيات، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ
(1)
الآية في (ع وظ) غير تامة.
اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ لْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5].
وتأمل ما في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] من اللطف الذي سلب القلوب
(1)
.
وقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] على أحد التأويلين، أي: نتركُكُم فلا نستصلحكم ولا ندعوكم، ونعرضُ عنكم إذا أعرضتم أنتم وأسرفتم.
وتأمل لطفَ خطاب نُذُر الجنِّ لقومهم وقولهم: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31].
فائدة
* سئل ابن عَقِيل عن: رجل له ماء يجري على سطح جاره، فَعَلا دارَه هل يسقط حق الجري؟
فقال: لا، لكنه إذا سلط الماء على عادته، حفر سطح جاره لموضع العُلُوِّ، فينبغي أن يجعل جريَهُ بحدته إلى ملكه، ثم يخرجُه بسهولة إلى سطح جاره.
فائدة
(2)
* وسُئل عن رجل قالت له زوجتُه: طلِّقْني، فقال: إن الله قد طَلَّقَكِ؟
(1)
(ظ): "العقول".
(2)
(ق): "أخرى". وعلق أحد المطالعين في هامش (ع): "ابن عقيل جعل دلالة الحال قائمة مقام النية، كما هو المذهب فى الكنايات".
فقال: يقع الطلاق لأنه كنايةٌ استندَتْ إلى دلالة الحال، وهي ذكرُ الطلاق وسؤالها إياه.
وأجاب بعض الشافعية: بأنه إنْ نَوَى وَقَعَ
(1)
الطَلاقُ، وإلا لم يقعْ.
قلت: وهذا هو الصَّوابُ؛ لأن قوله: إن الله قد طَلَّقَكِ، إن أراد به شَرَعَ طلاقَكِ وأباحَهُ؛ لم يقعْ، وإن أراد: أن الله أوقعَ عليك الطلاقَ وأراده وشاءَهُ، فهذا يكون طلاقًا؛ لأن ضَرورة صدقِه أن يكونَ الطلاقُ واقعًا، وإذا احتمل الأمرين فلا يقعُ إلا بالنِّيَّةِ.
فائدة
(2)
.
* وسُئل عن رجل وقفَ دابَّةً
(3)
في مكان، فجاء رجلٌ فضربها، فرفسته، فمات، هل يضمن صاحبُ الدَّابَّة؟
فقال: إذا لم يكن مُتَعَدِّيًا في إيقافِها بأن تكونَ في مُلك الضَّارب فلا ضَمانَ عليه، وإن كان مُتَعدِّيًا فالضَّمانُ عليه.
فائدة
حكى الطَّحَاويُّ: أنَ مذهبَ أبي يوسف جواز أخذ بني هاشم الفقراءِ الزَّكاةَ من بني هاشم الأغنياء
(4)
، قاله ابنُ عَقِيل، قال: وسألت قاضيَ القضاة عن ذلك، -يريد الدَّامَغاني
(5)
- فقال: نعم، هو مذهب أبي يوسف وهو مذهبُ الإمامِيَّة.
(1)
(ع): "وقع عليه".
(2)
ليست في (ع) وكذا الفوائد الخمس بعدها.
(3)
(ع): "دابته".
(4)
انظر: "أحكام القرآن": (4/ 335) للجصَّاص.
(5)
ترجمته في "السير": (18/ 485) توفي سنة (478) وغسَّله أبو الوفاء ابن عقيل.
قلت: وقد ذهب
(1)
بعضُ الفقهاء إلى أنهم يَجوْزُ لهم الأخذَ من الزَّكاة مطلقًا إذا مُنِعُوا حَقَّهُم من الخُمْس، وأفتى به بعضُ الشافعية.
فائدة
قال ابنُ عقيل: سألني سائل: أيُّما أفضلُ حُجرَةُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أو الكعبة؛ فقلت: إن أردتَ مجرَّدَ الحُجرة فالكعبةُ أفضل، وإن أردتَ وهو فيها فلا واللهِ، ولا العرشُ وحَمَلَتُهُ، ولا جَنَّةُ عَدْن، ولا الأفلاكُ الدائرة؛ لأنَّ بالحُجْرة جَسَدًا لو وزن بالكَوْنينِ لرَجَحَ.
* وسُئل عن حَبْس الطير لطيب نَغَمتها؟
فقال: سَفَهٌ وبَطَر، يكفينا أن نُقْدم على ذبحِها للأكل فحسب؛ لأن الهواتفَ من الحَمَام، ربما هتفتْ نياحةً على الطيران وذكر أفراخها، أفيحسُنُ بعاقل أن يُعَذِّبَ حيًّا لِيَتَرنَّمَ فيلْتَذَّ بنياحته؟! وقد منع من هذا بعضُ أصحابنا وسموه سَفَهًا.
فائدة
من دقيق الوَرعَ أن لا يُقْبَلَ المبذولُ حال هَيَجَان الطبع من حزن أو سرور، فذلك كبذل السَّكران، ومعلومٌ أن الرأي لا يتحقَّقُ إلا مع اعتدال المزاج، ومتى بذل باذلٌ
(2)
في تلك الحال يعقبُهُ نَدَمٌ، ومن هنا
(3)
: "لا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"
(4)
، وإذا أردت اختبارَ ذلك
(1)
"الإمامية. قلت: وقد ذهب" سقطت من (ع).
(2)
(ق): "ما بذل".
(3)
(ق) زيادة: "قال".
(4)
أخرجه البخاري رقم (7158)، ومسلم رقم (1717) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
فاختبرْ نفسَكَ في كل مواردِكَ من الخير والشر، فالبِدَارُ بالانتقام حالَ الغضبِ يُعْقِبُ ندمًا، وطالما ندم المسرورُ على مجَازفته في العطاءِ، وودَّ أن لو كان اقتصر، وقد نَدِمَ الحسنُ على تمثيله بابن مُلْجِم.
فائدة
(1)
في قول النبي صلى الله عليه وسلم للسائل عن مواقيت الصلاة: "صَلِّ مَعَنا"
(2)
، جوازُ البيان بالفعل، وجوازُ تأخيرِه إلى وقتِ الحاجةِ إليه. وجوازُ العُدول عن العمل الفاضلِ إلى المفضولِ لبيانِ الجَوازِ.
فائدة
قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، ومَنْ تَبِعَها حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ"
(3)
. سُئل أبو نصر بن الصَّبَّاغ
(4)
عن القيرَاطين هل هما غيرُ الأوَّلِ أو به؟ فقال: بل القيراطان الأوَّل وآخر معه، بدليل قوله تعالى:{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3].
قلت: ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فكأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، ومَنْ صَلَّى الفَجْرَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ اللَّيْلَ كُلَّه"
(5)
فهذا مع صلاة العشاء في جماعة، وقد جاء مصرَّحًا به في "جامع التِّرْمذي"
(6)
كذلك "مَنْ صَلَّى العِشاءَ والفجرَ في جماعة
(1)
(ق): "فصل".
(2)
أخرجه مسلم رقم (613) من حديث بريدة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري رقم (1325)، ومسلم رقم (945) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
هو: عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد شيخ الشافعية ت (477)"السير": (18/ 464).
(5)
أخرجه مسلم رقم (656) من حديث عثمان رضي الله عنه.
(6)
رقم (221).
فكأنما قامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ"
(1)
.
ونظيره -أيضًا- قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 9 - 10] فهي أربعةٌ باليومين الأولين، ولولا ذلك لكانت أيامُ التَّخليق ثمانية.
فائدة
لم أزل حريصًا على معرفة المراد بالقيراط في هذا الحديث، وإلى أيِّ شيءٍ نسبتُهُ، حتى رأيت لابن عَقِيل فيه كلامًا، قال: القيراطُ نصف سُدُس درهم مثلًا، أو نصفُ عُشر دينار، ولا يجوزُ أن يكون المُرادُ هاهنا جنسَ الأجر؛ لأن ذلك يدخلُ فيه ثوابُ الإيمان وأعماله كالصَّلاة والحج وغيره، وليس في صلاة الجنازة ما يبلُغ هذا، لم يبقَ إلا أن يرجِعَ إلى المعهود، وهو الأجرُ العائدُ إلى الميت، ويتعلَّق بالميت صبر على المُصَاب فيه وبه وتجهيزه
(2)
وغسله ودفنه والتَّعزية به، وحَمْل الطعام إلى أهله وتسليتهم، وهذا مجموعُ الأجر الذي يتعلَّقُ بالميِّت، فكان للمصلِّي والجالس إلى أن يُقْبَرَ سُدُسُ ذلك، أو نصفُ سُدُسِه إن صلَّى وانصرف
(3)
.
قلت: كأنَّ مجموعَ الأجرِ الحاصل على تجهيز الميت من حين الفراق إلى وضعه في لحدِهِ، وقضاء حقِّ أهله وأولاده وجبرهم دينار مثلًا، فللمصلِّي عليه فقط قيراطٌ من هذا الدينار، والذي يتعارفه
(1)
وانظر "فتح الباري": (3/ 235).
(2)
في المطبوعات: "بالميت أجر الصبر على المصاب فيه. وأجر تجهيزه".
(3)
وقد ذكر الحافظ هذا عن ابن عقيل في "الفتح": (3/ 231) وقوَّاه.
الناس من القيراط أنه: نصف سُدُس، فإن صلَّى عليه وتَبِعَهُ كان له قيراطانِ منه، وهُما سُدُسُه، وعلى هذا فيكون نسبةُ
(1)
القيراطِ إلى الأجرِ الكاملِ بحَسَبِ: عِظَمِ ذلك الأجر الكامل في نفسه، فكلما كان أعظمَ كان القيراطُ منه بحسبه، فهذا بَيِّنٌ هاهنا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَنى كَلْبًا إلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أو زَرْعٍ نَقَصَ مِنْ أجْرِهِ أو من عَمَلهِ كُلَّ يومٍ قِيرَاطٌ"
(2)
فيحتمل أن يُراد به هذا المعنى أيضًا بعينه، وهو نصفُ سدس أجر عمله ذلك اليوم، ويكون صِغَرُ هذا القيراط وكِبَرُهُ بحسب قِلَّة عمله وكثرته، فإذا كان له أربعةٌ وعشرون ألف حسنةٍ مثلًا، نقص منها كلَّ يوم ألفا حسنة. وعلى هذا الحساب، والله أعلم بمراد رسوله، وهذا مبلغُ الجَهد في فهم هذا الحديث.
فائدة
قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَزَّى مُصَابًا فله مِثْلُ أَجْرِهِ"
(3)
استشكله بعضُهم وقال: مشقَّةُ المصيبة أعظمُ بكثير من مساواة تعزية المُعَزِّي لها مع بَرْد قلبه.
فأجاب ابنُ عقيل بجواب بديعٍ جدًّا، فقال: ليس مرادُه صلى الله عليه وسلم قولَ
(1)
(ع): "صفة".
(2)
أخرجه البخاري رقم (5480) ومسلم رقم (1574) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه الترمذي رقم (1073)، وابن ماجه رقم (1602) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
والحديث ضعيف، قال الترمذي:"غريب" وأعلَّه بالوقف، وانظر "الإرواء" رقم (765).
بعضِهم لبعض: نَسَأَ الله في أجلِكَ، وتعيشُ أنت وتَبْقى، وأطالَ الله عُمُرَك، وما أشبَه ذلك، بل المقصودُ من عَمَد إلى قلبٍ قد أقلقه ألمُ المُصاب وأزعجه، وقد كان يساكنُ السخط، ويقول الهُجْرَ ويوقعُ الذَّنْبَ، فداوى ذلك القلبَ بآيِ الوعيد، وثوابِ الصبر، وذمِّ الجزع حتى يُزِيلَ ما به، أو يقلِّله
(1)
فيَتَعَزَّى، فيصير ثَواب المُسَلِّي كثواب المصاب؛ لأن كلًّا منهما دفع الجزع، فالمُصاب كابَدَهُ بالاستجابة، والمُعَزِّي عمل في أسباب المداواة لألم الكآبة.
فائدة
قوله صلى الله عليه وسلم: "أَقِيلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا الحُدُودَ"
(2)
قال ابنُ عَقِيل: المُرادُ بهم الذين دامت طاعاتُهم وعدالتُهم، فزلَّت في بعض الأحايينِ أقدامُهم بورطة
(3)
.
قلت: ليس ما ذكره بالبَيِّن، فإن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لا يُعَبِّر عن أهلِ التَّقوى والطَّاعة والعبادة بأنهم ذوو
(4)
الهَيْئَاتِ، ولا عهد بهذه العبارة في كلام الله ورسوله للمُطيعين المتَّقين، والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشَّرَف والسؤدد، فإن الله تعالى خَصَّهم بنوع
(1)
(ع): "يقلقه".
(2)
أخرجه أحمد: (6/ 181)، وأبو داود رقم (4375)، والبخاري في "الأدب المفرد":(ص/ 143) وابن حبان "الإحسان": (1/ 296)، والبيهقي:(8/ 334)، وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها.
والحديث صححه ابن حبان؛ وفي سنده من يُضعَّف.
(3)
في هامش (ع) ما نصه: "ما قاله ابنُ عقيل وقع في كلام الشافعي رضي الله عنه" أقول: انظر "الأم": (6/ 145) بنحوه.
(4)
في النسخ: "ذوي"، وما أثبته الصواب.
تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستورًا مشهورًا بالخير حتى كبا به جوادُه، ونبا عَضْبُ صبره، وأديل عليه شيطانه، فلا يتسارَعُ إلى تأنيبه وعقوبته، بل تُقالُ عَثْرَتُهُ
(1)
ما لم يكنْ حدًّا من حدود الله، فإنه يتعيَّنُ استيفاؤُه من الشَّريف، كما يتعيَّنُ أخذه من الوضيع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لوْ أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، وقال: "إنما هَلَكَ بنُو إسْرَائِيل أنَّهُمْ كانوا إذا سَرَقَ فيهم
(2)
الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعِيفُ أقاموا عليه الحَدَّ"
(3)
، وهذا بابٌ عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة وسياستها للعالمَ، وانتظامها لمصالح العباد في المعَاشِ والمَعَادِ.
فائدة
اعترض نفاة المعاني والحكم على مُثبتيها في الشَّريعة بأن قالوا: الشَّرْعُ قد فرَّق بين المتماثلات، فأوجبَ الحَدَّ بشربِ الخمر، ولم يحدَّ بشرب الدَّم والبول وأكل العَذِرة، وهَي أخبثُ من الخمر، وأوجبَ قطعَ اليدِ
(4)
في سرقة رُبُع دينار ومنَعَ قطعها في نُهْبَة ألف دينار، وأوجب الحَدَّ في رمي الرجل بالفاحشة، ولم يوجِبْه في رميه بالكفر وهو أعظمُ منه، ولم يرتِّبْ على الرِّبا حدًّا مع كوَنه من الكبائر، ورتَّبَ الحَدَّ على شرب الخمر والزِّنا وهما من الكبائر.
فأجاب المُثْبِتونَ: بأن قالوا: هذا مما يدُلُّ على اعتبار المعاني
(1)
"بل تقال عثرته" سقطت من (ع).
(2)
من (ظ).
(3)
أخرجه البخاري رقم (3475)، ومسلم رقم (1688) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
(ق): "القطع".
والحِكَم ونَصْب الشرع بحسب مصالح العباد، فإن الشارعَ ينظرُ إلى المحرَّم ومفسدته، ثم ينظر إلى وازِعِه وداعيه، فإذا عظُمَتْ مفسدتُه رتَّبَ عليه من العقوبة بحسب تلك المفسدةِ، ثم إن كان في الطِّباعِ التي ركَّبَها الله تعالى في بني
(1)
آدم وازعٌ عنه اكتفى بذلك الوازع عن الحَدِّ، فلم يُرَتِّب على شُرْب البول والدم والقيء وأكل العَذِرة: حدًّا، لما في طباع الناس من الامتناع عن هذه الأشياء، فلا تكثُرُ مواقَعتُها بحيث يدعو إلى الزجر
(2)
بالحَدِّ، بخلاف شرب الخمر والزنا والسَّرقة، فإن الباعثَ عليها قَوِيٌّ، فلولا ترتيبُ الحدود عليها لعمَّتْ مفاسدُها وعظُمتِ المصيبةُ بارتكابِها.
وأما النُهبة فلم يرتبْ عليها حدًّا، إما لأن بواعثَ الطِّباع لا تدعو إليها غالبًا؛ خوفَ الفضيحة والاشتهار وسرعة الأخذ، وإما لأن مفسدَتَها تندفعُ بإغاثة الناس، ومنعِهم المُنتهبَ، وأخذهم على يديه.
وأما الرِّبا فلم يرتَبْ عليه حَدًّا؛ فقيل: لأنه يقعُ في الأسواق وفي المَلأِ، فوكلتْ إزالتُهُ إلى إنكار الناس، بخلاف السرقة والفواحش وشرب الخمر؛ فإنها إنما تَقَعُ غالبًا سرًّا، فلو وكلت إزالتُها إلى الناس لم تُزَل.
وأحسنُ من هذا أن يقالَ: لما كان المُرابي إنما يُقْضَى له برأس ماله فقط، فإن أخذَ الزيادةَ قُضِيَ عليه بردِّها إلى غريمه، وإنْ لم يأخذْها لم يُقْضَ له بها، كانت مفسدةُ الرِّبا منتفيةً بذلك، فإن غريمه لو شاء
(3)
لم يُعْطِهِ إلاّ رأسَ ماله، فحيث رضي بإعطائه الزِّيادة فقد رضي باستهلاكها وبذلها مجانًا، والآخذُ لها رضِيَ بأكل النَّارِ.
(1)
(ق وظ): "ابن".
(2)
(ق وظ): "الرد".
(3)
(ق): "سأله".
وأجودُ من هذين أن يقالَ: ذنبُ الرِّبا أكبرُ من أن يُطَهِّره الحَدُّ، فإنَّ المرابيَ محاربٌ للُّه ورسوله آكلٌ للجمر، والحَدُّ إنما شُرعَ طُهْرةً وكفارةً، والمرابي لا يزولُ عنه إثم الرِّبا بالحدِّ، لأن جُرمه أعظمُ من ذلك، فهو كَجُرم مفطر رمضانَ عمدًا من غير عُذْر، ومانعُ الزكاة بخلًا، وتاركُ صلاة العصر، وتارك الجمعة عمدًا، فإنَّ الحدود كفاراتٌ وطُهَرٌ، فلا تعملُ إلا قي ذنب يقبل (ق/262 ب) التكفيرَ والطُّهْرَ.
ومن هذا: عدمُ إيجاب الحَدِّ بأكل أموال اليتامى؛ لأنَّ آكِلَها قد وجبِتْ له النارُ، فلا يؤثِّرُ الحَدُّ في إسقاط ما وجب له من النار.
وكذلك تركُ الصلاة هو أعظمُ من أن يُرَتَّبَ عليه حَدٌّ، ونظير هذا اليمينُ الغموسُ هي أعظمْ إثمًا من أن يكون فيها حَدٌّ أو كفارة.
وإذا تأمَّلْتَ أسرار هذه الشريعةِ الكاملةِ وجدتَها في غاية الحكمة ورعاية المصالح، لا تفرِّقُ بين متماثلين ألبتَّةَ ولا تُسَوِّي بين مختلفين، ولا تحرِّمُ شيئًا لمفسدة، وتبيحُ ما مَفْسَدتُه مساويةٌ -لما حَرَّمَتْه- أو راجحةٌ عليه، ولا تُبيح شيئًا لمصلحة وتُحَرِّمُ ما مصلحته مُساويةٌ لما أباحَته ألبتة، ولا يوجدُ فيما جاء به الرسول شيءٌ من ذلك ألبتة.
ولا يلزمُه الأقوالُ المستندةُ إلى آراء الناس وظنونِهم واجتهاداتِهم، ففي تلك من التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات، وإباحةِ الشيء وتحريمِ نظيره -وأمثال ذلك- ما فيها.
فائدة
(1)
سُئل ابنُ عقيل عن كشف المرأة وجهَها في الإحرام مع كثرة
(1)
(ق): "مسألة". وانظر: "إعلام الموقَّعين": (1/ 222 - 223، و"تهذيب السنن": (2/ 350 - 352)
الفساد اليوم؛ أهو أولى أم التغطية مع الفدا؟ وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "لو عَلِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما أحْدَثَ النساءُ لمنعهنَّ المساجِدَ"
(1)
.
فأجاب: بأن الكشفَ شعارُ إحرامها، ورَفْع حكمٍ ثبتَ شرْعًا بحوادث (ظ/184 ب) البدَع لا يجوزُ؛ لأنه يكونُ نسخًا بالحوادث، ويُفضي إلى رفع الشَرْعَ رأسًا.
وأما قول عائشة؛ فإنها ردَّتِ الأمرَ إِلى صاحب الشرع
(2)
، ففالت: لو رأى لَمنَعَ، ولم تمنعْ هي، وقد جَبَذَ عمرُ السُّتْرَةَ عنِ الأَمَة وقال: لا تَشَبَّهي بالحَرائر
(3)
، ومعلوم أنّ فيهنَّ مَنْ تَفْتِنُ؛ لكنه لما وُضع كشف رأسها للفرق بين الحرائر والإماء جعله فَرْقًا، فما ظنُّك بكشفٍ وُضِع بين النسك والإحلال؟! وقد ندب الشَّرْعُ إلى النظر إلى المرأَة قبل النكاح، وأجاز للشهود النظرَ، فليس بِبدْعٍ أن يأمُرَها بالكشف، ويأمر الرجال بالغَضِّ ليكونَ أعظمَ للابتلاءَ، كما قَرَّبَ الصيْدَ إلى الأيدي في الإحرام ونهى عنه.
قلت: سببُ هذا السؤال والجواب خفاءُ بعض ما جاءت به السُّنَّةُ في حقِّ المرأة في الإحرام، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يشْرَعْ لها كشفَ الوجه في الإحرام ولا غيره، وإنما جاء النَّصُّ بالنهي عن النِّقاب خاصَّةً، كما جاء بالنهي عن القُفَّازيْن، وجاء بالنهي عغ لُبْس القميص والسراويل، ومعلومٌ أن نهيه عن لُبس هذه الأشياء لم يُرِدْ أنها تكونُ مكشوفةً لا تسترُ ألبتّةَ، بل قد أجمع الناسُ على أن المُحْرِمَةَ تسترُ (ق/263 أ) بَدَنَها
(1)
أخرجه البخاري رقم (869)، ومسلم رقم (445).
(2)
(ق): "صاحبه".
(3)
أخرجه عبد الرزاق: (3/ 136)، وابن أبي شيبة:(2/ 41).
وفي (ق): "لا تشبَّهن" وكذا في بعض الروايات.
بقميصها ودرعها، وأن الرجل يستُرُ بَدَنَه بالرداءْ وأسافِلَه بالإزار، مع أن مخرجَ النهي عن النِّقَاب والقَفَّازيْنِ والقميص والسَّراويل وأحدٌ، فكيف يرادُ على موجب النصَ؟! ويُفهم منه أنه شَرَع لها كشف وجهها بين الملأ جهارًا؛ فأيُّ نص اقتضى هذا أو مفهوم أو عموم أو قياس أو مصلحة؟! بل وجه المرأة كبَدَن الرجل يحرمُ سترُه بالمفصَّل على قَدْره كالنِّقَاب والبُرْقع، بل وكَيَدِها يحرم سترها بالمفصَّل على قَدْرْ اليد كالقفَّاز. وأما سترها بالكُمِّ، وسَتْر الوجه بالمُلاءةْ والخِمار والثوب؛ فلم ينهَ عنه ألبتة.
ومن قال: "إن وجهها كرأس المُحْرِم" فليس معه بذلك نصٌّ ولا عمومٌ، ولا يصِحُّ قياسهُ على رأس المحرم؛ لما جعل الله بينهما من الفرق.
وقول من قال من السَّلف: "إحرام المرأة في وجهها"، إنما أراد به هذا المعنى، أي: لا يلزمُها اجتنابُ اللباس كما يلزمُ الرجل، بل يلزمها اجتناب النِّقَاب فيكوم وجهُها كبَدَن الرجل.
ولو قُدِّر أنه أراد وجوبَ كشفه؛ فقولُه ليس بحُجَّة ما لم يثبتْ عن صاحب الشرع أنه قال ذلك، وأراد به وجوب كشف الوجه، ولا سبيلَ إلى واحد من الأمرين، وقد قالت أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رضي الله عنها:"كنا إذا مرَّ بنا الرُّكبانُ سَدَلَتْ إحدانا جلبابها على وجهها"
(1)
،
(1)
أخرجه ابن خزيمة رقم (2691)، وأحمد:(6/ 30)، وأبو داود رقم (1833) وأبن ماجه رقم (2935) والبيهقي:(5/ 48) وغيرهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن: عائشة به، وزياد فيه ضعف يسير.
ويشهد له ما أخرجه ابن خزيمة رقم (2690) عن أسماء بنت أبي بكر -بسند صحيح- أنها قالت "كنا نغطي وجوهنا من الرجال
…
". =
ولم تكنْ إحداهُنَّ تَتَّخِذُ عودًا تجعلُه بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعضُ الفقهاء، ولا يعرفُ هذا عن امرأة من نساء الصَحابة، ولا أمَّهات المؤمنين ألبتةَ لا عملًا ولا فتوى
(1)
.
ومستحيلٌ أن يكونَ هذا من شعار الإحرام، ولا يكون ظاهرًا مشهورًا بينهنَّ يعرفه الخاصُّ والعامُّ. ومن آثَرَ الإنصافَ وسلك سبيلَ العلم والعدل تبيَّنَ له راجحُ المذاهب من مرجوحها، وفاسدُها من صحيحها، والله الموفق الهادي.
فائدة
قال ابنُ عقيل: يخرَّجُ من رواية إيجاب الزكاة في حُلِيِّ الكِراء والمواشط. أن يجب في العقار المُعَدِّ للكِرَاء وكلِّ سلعة تؤجَّرُ وتعَدُّ للإجارة، قال: وإنما خرَّجْتُ ذلك على الحُلِيِّ؛ لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحُلِيَّ لا يجبُ فيه الزكاة، فإذا أُعِدَّ للكراء وجبتْ، فإذا ثبتَ أن الإعداد للكِراء ينشىِءُ إيجابَ زكاةٍ في شيءٍ لا تجبُ فيه الزكاةُ، كان في جميع العروضِ التىِ لا تجِبُ فيها الزكاةُ ينشئ إيجاب الزكاة.
يوضحُهُ أن الذهبَ والفضَّةَ عينانِ تجبُ الزكاةُ بجنسهما وعينهما، ثم إن الصِّناعةَ والإعداد للباس والزينة والانتفاع غلبت (ق/263 ب) على إسقاط الزكاة في عينه، ثم جاء الإعدادُ للكِراء، فغلبَ على الاستعمالِ وأنشأَ إيجابَ الزكاة، فصار أقوى مما قوي على إسقاط
= وكذا ما صحَّ عن عائشة رضي الله عنها في لباس المحرمة أنها قالت: "تسدل الثوب على وجهها إن شاءت
…
" أخرجه البيهقي: (5/ 47).
(1)
انظر: "المغني": (5/ 155)، و"تهذيب السنن":(5/ 198).
الزكاة، فأولى أن يُوجَبَ الزكاةَ في العَقَار والأواني والحيوان التي لا زكاةَ في جنسها أن
(1)
يُنْشئَ فيها الإعدادُ للكِراء زكاةً.
فائدة
قال ابن (ظ/85 أ)، عقيل: جاءت فتوى أن حاكمًا قال بين يديه يهوديٌ: لا نُنْكِرُ أن محمدًا بُعِثَ
(2)
إلى العرب، فقال له: وتقولُ أنه جاء بالحَقِّ؛ فقال: نعم، فأفتى جماعة أنه قد أسلمَ.
وكتبتُ: لا شكَّ أن قوله: "إنه بعِثَ إلى العرب" قولُ طائفة منهم، وقولُه بعد هذا:"وأعتقد أنه جاء بالحق"، يرجعُ إلى ما أقرَّ به من أنه جاء رسولًا إلى العرب، فإذا احتملَ أن يعودَ كلامُه إلى هذا، لم يخرجْ من دينه بأمرٍ محتملٍ، وكتب بذلك إلْكِيا
(3)
والشاشيُّ
(4)
.
فائدة
قاْلْ ابن عقيل في مسألة (ما إذا أُلقِيَ في مركبهم نارٌ واستوى الأمرانِ عدهم) فيه روايتان. قال: وأعملوا أن التقسيمَ والتَّفصيل ما لم تَمَسَّ الناْرُ الجسد؛ فإن مسَّتْه فالإنسانْ بالطبعْ يتحرَّكُ إلى خارج منها؛ لأن طبعَ الحيوان الهربُ من المُحُسِّ، ويغلبُ الحسُّ على التأمّل والنظر في العاقبة، فتصير النارُ دافعةً له بالحِسِّ، والبحرُ ليس.
(1)
(ع): "إنما".
(2)
كذا في (ق). والمطبوعات، وفي (ع)"رسول"، و (ظ):"رسول الله".
(3)
إلْكِيا هو: علي بن محمد أبو الحسن الطبري الهرَّاسي، أحد أئمة الشافعية ت (504). "السير":(19/ 350).
(4)
الشاشي هو: محمد بن أحمد أبو بكر التركي، شيخ الشافعية ت (507). "السير":(19/ 393).
محسوسًا أذاهُ له، لكنَّ الغرقَ والمضرَّة معلومةٌ، والحسُّ يغلب على العلم.
يبيِّنُ هذا ما يُشَاهَدُ من الضرب والوَخْز للإنسان الذي قد نُصِبَتْ له خشبة ليصْلَبَ عليها، أو حُفِرَ له بئرٌ ليلْقَى فيها، فإنه يتقدَّمُ إلى الخَشَبة والبئر؛ لأن الضَّرَر فيها ليس بِمُحَسٍّ، والوخزُ بالسِّنان
(1)
والضرب مُحَسٌّ فهو إضرار ناجزٌ واقع، وإذا أردت أن تعلمَ ذلك فانظر إلى وقوف الحيِّ وجنوحه عن التحرّك، إذا تكافأ عنده الأمرانِ في الحِسِّ والعلم.
بيانُه: إنسانٌ هجم عليه سَبُعٌ على حرف نَهَرٍ جار عميقٍ، وهو لا يُحْسِنُ السِّباحةَ، فإنه لا محالةَ يتحرك نحو الماء راميًا نفسَهُ لأجل إلجاء السَّبُعِ له وهجومه عليه، فلو هجم عليه من قِبل وجهه سَبُعٌ، فالتفتَ فإذا وراءه سَبُعٌ آخرُ، وهما متساويان في الهجوم عليه، لم يَبْق للطبع مهربٌ، وتوازن
(2)
المكروهاتُ، فإنه يَقِف مستسلمًا صامدًا للبلاء، وكذلك تكافُؤ كفَّةِ الميزان.
قلت: هذا صحيح من جهة الوَهْم والدَّهَش، وإلا فلو كان عقلُه حاضرًا معه، لَتكَافَأ عندَهُ الأمران: المحسوس والمعلوم، وكثيرًا ما يحضرُ الرجل عقلَه إذ ذاك فيتكافأُ عنده
(3)
المحسوس والمعلوم، فيستسلمُ لما لا صُنْعَ له فيه، ولا يعِينُ على نفسه، (ق/264 أ) ويحكم عقله على حِسِّه، ويعلمُ أنه إن صبر كان له أجرُ مَنْ قُتِلَ، ولم يُعِنْ
(1)
(ظ): "بالإنسان".
(2)
(ق): "وتوارت"، والمطبوعة:"وتوازنت".
(3)
(ع) زيادة: "الأمران".
على نفسه، وإن ألقى نفسه في الهلاك، لم يكنْ من هذا الأجر على يقين، بل ولا يستلزمُ: ذلك الإيمان
(1)
بالثواب، بل إذا تصوَّرَ حمدَ الناس له على صبره وعدم جزعه بإلقاء نفسه في الهلاك هَرَبًا مما لابُدَّ له منه رأى الصبر أحمدَ عاقبةً، وأنفعِ له أجلًا، فمحكِّم العقل يقدِّمُ الصبَّر، ومحكِّم الحِسَّ يهربُ من التَّلف إلى التَّلَف، فليست الطباعُ في هذا متكافئة، واللهُ أعلمُ.
فائدة
يُذكر عن كعب الأحبار
(2)
قال: قرأت في بعض كتب الله تعالى: (الهديَّةُ تفقأُ عين الحَكَمِ)
(3)
، قال ابن عقيل: معناه: أن المحبَّة الحاصِلَةَ للمُهْدَى إليه، وفرحه بالظَّفَر بها، وميله إلى المُهْدِي، يمنعُهُ من تحديق النظر إلى معرفة باطل المهدِي وأفعاله الدَّالَّة على أنه مُبْطِلٌ، فلا ينظر في أفعاله بعينٍ ينظر بها إلى من لم يُهْدِ إليه، هذا معنى كلامه.
قلت: وشاهده الحديثُ المرفوعُ الذي رواه أحمد في "مسنده "
(4)
.
"حُبُّك الشَّيءَ يعْمي ويُصِمُّ"
(5)
. فالهديَّةُ إذًا أوجبتْ له محبَّةَ المُهْدِي، ففقأتْ عينَ الحَق، وأصمَّت أذنَهُ.
(1)
(ظـ): "للإيمان".
(2)
من (ق).
(3)
انظر: "الفروع": (6/ 393)، و"المبدع":(10/ 40).
(4)
(5/ 194).
(5)
وأخرجه أبو داود رقم (5130)، والبخاري في "التاريخ":(3/ 157)، وابن عدي:(2/ 39) وغيرهم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه والحديث فيه ضعف. أنظر: "المقاصد الحسنة": (ص/ 181).
فائدة
قال ابن عَقِيل: الأموالُ التي يأخذها القضاة أربعة أقسام: (رِشوة وهديةٌ وأجرةٌ ورِزْقٌ).
فالرِّشْوَةٌ: حرامٌ، وهي ضربانِ: رشوةٌ ما ليميلَ إلى أحدهما بغير حقٍّ، فهذه حرامٌ عن فعل، حرام على الآخذ والمعطي، وهما آثمان. ورشوة يُعْطاها ليحكمَ بالحقِّ واستيفاءِ حقِّ المُعطي من دَيْن ونحوه، فهي حرامٌ على الحاكم دون المُعطي؛ لأنها للاستنقاذ، فهي كجُعْل الآبِقِ، وأجرة الوكالة
(1)
في الخصومة.
وأما الهدية: فضربان: هدية كانت قبل الولاية فلا تحرمُ استدامتها، وهديةٌ لم تكنْ إلا بعدَ الولاية، وهي ضربان: مكروهة وهي الهديَّة إليه ممن لا حكومةَ له، وهدية ممن قد اتجهت له حكومة، فهي حرامٌ على (ظ/ 185 ب) الحاكم والمُهْدِي.
وأما الأجرة: فإن كان للحاكم رزقٌ من الإمام من بيت المال، حَرُمَ عليه أخذُ الأجرة قولًا واحدًا؛ لأنه إنما أَجرى له الرِّزق لأجل الاشتغال بالحكم، فلا وجهَ لأخذ الأجرة من جهة الخصوم، وإن كان الحاكم لا رزقَ له؛ فعلى وجهين: أحدهما: الإباحة؛ لأنه عملٌ مباح فهو كما لو حكَّماه؛ ولأنه مع عدم الرزق لا يتعينُ عليه الحكمُ، فلا يمنعُ من أخذ الأجرة، كالوَصِى وأمين
(2)
الحاكم يأكلان من مال اليتيم بقدْر الحاجةِ.
وأما الرزق مِنْ بيت (ق / 264 ب) الحال: فإن كان غنيًّا لا حاجةَ له
(1)
(ظ): "الوكلاء".
(2)
(ظ): "وعامل".
إليه احْتُمل أن يُكْرَهَ لئلا يُضَيَّقَ على أهل المصالح، ويحتمل أن يباحَ؛ لأنه بذل نفسَه لذلك، فصار كالعامل في الزَّكاة والخَراج.
قلت: أصلُ هذه المسائل عاملُ الزكاة وقيِّمُ اليتيم، فإن الله تعالى أباحَ لعامل الزَّكاة جزءًا منها، فهو يأخذه مع الفقر والغنى، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم منعه من قبول الهدية، وقال:"هَلّا جَلَسَ في بَيْتِ أبيهِ وأُمِّهِ فَيَنْظُرَ هَلْ يُهْدَى إليْهِ أمْ لا؟ "
(1)
، وفي هذا دليلٌ على أن ما أُهَديَ إليه في بيته ولم يكن سببه العمل على الزَّكاة جاز له قبوله، فيدلُّ ذلك على أن الحاكمَ إذا أَهْدَىَ إليه من كان يُهْدي له قبل الحُكم ولم تكنْ ولايَتُهُ سببَ الهدية فله قَبُولُها.
وأما ناظرُ اليتيم؛ فاللهُ تعالى أَمَرَهُ بالاستعفاف مع الغِنَى، وأباح له الأكلَ بالمعروفِ مع الفقر، وهو إما اقتراضٌ أو
(2)
إباحة على الخلاف فيه، والحاكمُ فرعٌ متردِّدٌ بين أصلينِ: عامل الزكاة، وناظر اليتيم، فمن نظر إلى عموم الحاجة إليه وحصول المصلحة العامَّة به ألحقَهُ بعامل الزكاة، فيأخذُ الرِّزقَ مع الغِنى كما يأخذُه عاملُ الزَّكاة، ومن نظر إلى كونه راعيًا منتصِبًا لمعاملة الرعية بالأَحَظِّ لهم ألحقه بولي اليتيم، إن احتاج أخذَ، وإن استغنى ترك.
وهذا أفقه، وهو مذهب الخليفتين الراشدين، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"إني أنزلت نفسي مِنْ مال اللهِ منزلةَ وليِّ اليتيمِ إن احتاجَ أكَلَ بالمعروفِ، وإن استغنى تَرَكَ"
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري رقم (1500)، ومسلم رقم (1832) من حديث أبي حميد. الساعدي رضي الله عنه.
(2)
(ع): "وإما".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة: (6/ 460)، وابن سعد في "الطبقات":(3/ 276)، =
والفرقُ بينَه وبين عامل الزكاة: أنَّ عامل الزكاة مستأجرٌ من جهة الإمام لجباية أموال المستحقين لها وجمعها، فما يأخذه يأخذُهُ بعمله، كَمَن يستأجرُهُ الرجل لجباية أمواله، وأما الحاكمُ فإنه منتصبٌ لإلزام الناس بشرائع الرَّبِّ -تعالى- وأحكامه وتبليغها إليهم، فهو مبلغٌ عن الله بفُتياه، ويتميَّزُ عن المفتي بالإلزام بولايته وقدرته. والمبلِّغُ عن الله الملزمُ للأُمَّة بدينه، لا يستحقُّ عليهم شيئًا، فإن كان محتاجًا فله من الفيء ما يَسُدُّ حاجَتَهُ، فهذا لَوْن وعامل الزكاة لَوْن، فالحاكم مفْتٍ في خبره عن حكم الله ورسوله شاهدٌ فيما ثبت عنده، مُلْزم لمن توجَّهَ عليه الحقُّ، فيشترطُ له شروط المفتي والشاهد، ويتميَّزُ بالقُدْرة على التنفيذ فهو في منصب خلافةِ مَنْ قال:{لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، فهؤلاء هم الحَكَّامُ (ق/ 265 أ) المقدَّرُ وجودهم في الأذهان، المفقودون في الأعيان، الذين جعلهم الله ظلالًا، يأوي إليها اللَّهْفان، ومناهِلَ يَرِدُها الظمآنُ.
فائدة
إذا قال إنسان لآخر: "أَنْفِذْ لي كتابًا"، فحلف أنه قد أنفذَهُ أمسِ، فبان أنه قد أنفذَه قبلَه بيوم.
قال ابن عقيل: لا يحنَثُ، لا لأجل الخطأ والنسيان؛ بل لأنَّ قصدَهُ تصديقُ نفسِه في الإنفاذ الذي هو مقصودُ الطالب، وإذا بان أن المقصودَ قد حصل قبل أمس، فقد بان أنه قد حصل أوْفَى المقصود، كما لو حلف:"لقد أعطيتُك دينارًا"، فبان أنه أعطاه دينارين.
= والبيهقي: (6/ 4) عن عمر رضي الله عنه بسندٍ صحيح، صححه الحافظ ابن حجر في "الفتح":(13/ 161)، وابن كثير في "التفسير":(2/ 853).