الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: شعر الجاهلية وصدر الإسلام روايته، وأصالته
يبدو أن تيودور نولدكه كان أول متخصص فى الدراسات العربية قام ببحث قضية أصالة الشعر العربى القديم بشئ من التفصيل (74)، ولقد صدر نولدكه فى بحثه عن تصور أن تدوين الأدب العربى لم يبدأ قبل نهاية القرن الأول الهجرى (75)، ويرى أن الشعر الذى وصل إلينا فى تدوينات مبكرة وبعضها تدوينات متأخرة، قد سمع «من عالم أو رواية محترف، أو من أحد البدو» ثم دوّن بعد سماعه (76)، / وبرغم ما نتج عن ذلك من اختلافات فى النص الشعرى، فإنه من الممكن بتطبيق منهج مناسب «أن نصل فى حالات كثيرة إلى نتائج مؤكدة أو مرجّحة بالنسبة للشكل الأصلى لنصوص الشعر التى وصل إلينا» ، وقد يكون قسم كبير من هذه النتائج مجرد نفى، وأن ننتهى إلى أقوال مثل:
«هذا لا يمكن أن يكون شعرا أصيلا» أو «لا يمكن أن تكون عبارة الشاعر على هذا النحو» (77).
وبعد نولدكه بعدة سنوات شغل آلورد بنفس القضية وعلى نحو أعمق، (78) وكان موقفه مرتبطا- ولو أنه أيضا يضع اعتبارات أخرى- برأيه القائل أن استخدام الكتابة
(74) كتب نولدكه دراسات للتعرف على شعر العرب القدماء:
Th. Noldeke، Beitragezur Kenntnisder Poesiederalten Araber. Hannover 1864، Hildesheim 1967.
(75)
تحديد الزمن يقوم على ذكر اسمى جرير والفرزدق.
(انظر ص 2 من الدراسات السابقة)
(76)
المرجع السابق، ص 6.
(77)
المرجع السابق، ص 12.
(78)
كتب آلورد ملاحظات عن أصالة الشعر العربى القديم، مع اهتمام خاص بالشعراء الستة الجاهليين:
W. Ahlwardt، Bemerkungenuberd ie Aechtheitderalte narabischen Gedichtemitbeson derer Beziehung aufdie Dichter
…
Greifswald 1872.
فى تدوين قصائد طوال فى تلك العصور (الجاهلية) لم يكن بالتأكيد قد حدث بعد، وبأن المدى الزمنى بين عصر الشعراء وعصر جمع أشعارهم وتدوينها قد يصل إلى 150 عاما أو أكثر، وأن رواية الشعر كانت على مدى الأجيال شفاها، فتعرض الشعر لخطأ غير مقصود، أو لتزييف متعمد» (79). وقد أشار آلورد إلى دور الرواة أثناء شرحه لكيفية حفظ الشعر القديم خلال أربعة أو ستة أجيال، فالرواة هم «الحملة الأساسيون لعيون الشعر، شأنهم شأن القصاص المحترفين فى روايتهم للأخبار التاريخية، وكان الرواة يروون الشعر وما ارتبط به من ظروف، وينقلون ذلك عن طريق تلاميذهم إلى الأجيال التالية، ولولا روايتهم الشفوية لضاع الشعر المبكر غير المدون، باستثناء البقايا القليلة التى تدور على الألسنة» (80). ولذا فقد ظهر «فى منتصف القرن الثانى الهجرى نشاط متزايد لإنقاذ هذه البقايا النفيسة من تراث الماضى، وجمعها وتدوينها» (81).
وفى سياق تفصيلاته الأخرى عبّر آلورد عن رأيه فى صيغة سؤال واضح الإجابة بقوله: «إذا كانت إزاء هذا الضرب من رواية الأشعار تتنازع الحقيقة والكذب، الصحيح والزائف، أيهما يكون له الغلبة على الآخر؟ فلا بد أن يكون من الأحرى أن نتساءل كيف تكون الحال إذا كانت قصائد الشعر قد تناقلتها أفواه العامة، تلك التى- على كل حال- لا تراعى الاهتمام بالتفاصيل أو توخى الدقة، وذلك خلال أجيال متعددة؟ » (82).
يتضح مما قيل أن رأى كل من نولدكه وآلورد كان فى قضية أصالة شعر الجاهلية وصدر الإسلام متأثرا إلى حد كبير بفكرة أنه قد روى شفاها حتى القرن الثانى الهجرى.
وبعد أن قام شبرنجر ببحوث كثيرة منذ سنة 1856 معترضا على فكرة أن الحديث النبوى لم يتناقل إلا عن طريق الرواية الشفوية (83)، فإن الباحث موير قد استطاع أن يجمع من المصادر العربية شواهد دالة على استخدام الكتابة فى مجال الشعر (84).
(79) المرجع السابق ص 1 - 2.
(80)
المرجع السابق، ص 8
(81)
المرجع السابق، ص 10.
(82)
Ahlwardt ،a.a.O.S.12
(83)
انظر: سزگين: تاريخ التراث العربى، المجلد الأول ص 53 وما بعدها. وقارن بذلك بروكلمان ملحق. I ،32.
(84)
in: JRAS 40 /1879 /72 - 93
وعرض فلهاوزن أيضا لقضية استخدام الكتابة فى حفظ الشعر الجاهلى (85)، وذكر- مشيرا فيما يبدو إلى نولدكه وآلورد- رأيه أنه من الصعوبة بمكان افتراض أن الشعر العربى قد دون فى ذلك الزمن المتأخر «كما يقول أولئك النقاد المبالغون فى التشدد» . وذكر فى ذلك بعض الشواهد من كتاب الأغانى، ومنها ما هو طريف مفيد (86). وقد يكون نقد يعقوب ((87) له سببا فى حذف تلك المواضع من الطبعة الثانية لكتابه سنة 1897 وما تضمنته من أقوال، وما ساقه من شواهد (ص 232 - 233).
إن الأخبار الواردة فى المصادر، وآراء المعاصرين لجولد تسيهر، قد أدت به فى تأليفه لأعماله الرئيسة فى العقود الأخيرة (88) من القرن الماضى، إلى القول «من المرجح أن مجموعات الشعر الجاهلى قد بدأت تتخذ طابعها بتأثير أمراء البيت الأموى» (89). واستنادا إلى بيت للشاعر الجاهلى تميم بن مقبل (انظر ص 248) وصل جولد تسيهر إلى رأى مفاده أن «الهجاء، وربما أيضا بعض الأشعار الأخرى من ذلك الوقت كانت منتشرة فى شكل مدون» (90) / وفى بحث له عن دواوين القبائل (انظر ص 32) أتى بشواهد جديدة على ما تم فى عهد الخلفاء الأمويين الأوائل فى جمع الشعر. وقد صاغ جولد تسيهر رأيه النهائى فى هذا فى عرضه الموجز الذى ألفه باللغة المجرية فى تاريخ الأدب العربى، وظهر سنة 1908 (91) قال جولد تسيهر: «لم يكن فى الأدب العربى كتاب قبل القرآن، فأغانى شعراء العرب الوثنيين لم تجمع فى عصرهم فى مختارات. صحيح أن فن الكتابة لم يكن مجهولا تماما فى جزيرة العرب، ومن المرجح أن كثيرا من القصائد القديمة قد دونت، إن لم يكن دائما بأقلام الشعراء أنفسهم، ففى أحوال كثيرة عن طريق الرواة الذين كانوا إلى جانبهم، وكان شغلهم إذاعة دواوين شعرائهم. إن القصائد لم تكن فى الغالب مدونة بالكتابة وإنما
(85)
J. Wellhausen، Restearabischen Heidentums 1887، S. 207، Anm. 2.
(86)
المرجع السابق، ص 201.
(87)
G. Jacob، Das Lebendervorislam ischen Boduinen، Berlin 1895، S. 3 Anm. 1.
(88)
I. Goldziher. Muhammedanische Studien II، 203 ff.، Der Diwandes Garwal. al- Hutej'a. in: ZDMG 46 ' 188218. 19: Some Notesonthe Diwansofthe Arabictribesin: JRAS 1897، S. 325 - 334.
(89)
Gesammelte Sehriften IV، 119 - 128 Muh.، Stud. II، 203.
(90)
ديوان الحطيئة، المرجع السابق ص 18.
(91)
1 Goldziher، Characteristicso f Arabic Literaturefromth e Beginingtotheend ofthe Umayyad Period.
كانت تحفظ بالرواية الشفوية، الأمر الذى يعلل قلة ما بقى من الشعر العربى قبل القرن السادس الميلادى وضياع أكثر شعر ذلك القرن، ولا يتصور أنه أمكن للقصائد الطويلة الفنية أن تحفظ على مدى زمنى طويل، اعتمادا على الرواية الشفوية وحدها، وأن تنقل إلى الأجيال اللاحقة» (92).
كان جولد تسيهر يعتبر التدوين المبكر للشعر، الذى كرره فى عدة مواضع، بالنظر إلى مجموع رواية الشعر أضعف الجوانب، ومطابقة رأيه هذا لنظريته فى رواية الحديث شئ ملفت للنظر.
أما يعقوب، الذى أوضحنا موقفه من رأى فلها وزن فى تدوين الشعر، فيعتقد أن جمع الشعر من أجل ذاته قد بدأ فى عصر بنى أمية (ص 2)، وهو يرى فى ذلك حقيقة واقعة.
وفى أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل العشرين، بدأ الموقف فى قضية الرواية التحريرية، على نحو يبدو منه التحرر من الموقف المبالغ فى الشك لنولدكه وآلورد، والذهاب إلى أنه فى عصر بنى أمية بدأ تدوين الشعر، مع أن الرواية الشفوية المحضة/ كانت لا تزال هى السائدة. وقد عبر بروكلمان عن محصلة هذه الآراء سنة 1898 على النحو الآتى:
ترجم الكتاب وفهارسه J.Somogyi.in: Isl.Cult.31 (1957) und 32 (1958) .: كما نشر الكتاب بعنوان آخر هو:
AShort Historyof Classical Arab Literature Hildesheim 1966 ..
(92)
فصلة من مجلة. Isl.Cult.p.23.:
(93)
تاريخ الأدب العربى 1/ 16.
وقد كتب مرجليوث عدة بحوث فى الفترة من 1905 - 1925، تتضمن أفكارا معقدة. فقد استنتج من الأخبار الخاصة بتدوين الشعر فى الجاهلية، أن تدوين الشعر العربى القديم وروايته مدونا كانا أمرين شائعين (94). ومن الجانب الآخر فإنه ذكر أن القرآن أنكر فى وضوح وجود مدونات أدبية قديمة عن عصور سابقة (95)، ولذا فإن الشعر الذى وصل إلينا، وينسب زعما إلى الجاهلية، سرت فيه روح القرآن، وقد نشأ فى واقع الأمر فى عصور متأخرة (96) إن هجومه على أصالة الشعر العربى القديم قال به طه حسين فى كتابه «فى الشعر الجاهلى» (97)، وبدأت بذلك فى مصر مناقشة حامية فى هذا الموضوع (98)، ونتيجة لظهور كتب مضادة ناقدة لكتابه اضطر طه حسين أن يعدل من نظريته فى الطبعة الثانية تعديلا كبيرا (تحت عنوان:«فى الأدب الجاهلى» القاهرة 1927).
أما تشارلز لايل، وهو العارف الكبير بالشعر العربى القديم، فقد يكون أول من حاول، ببحث عميق للمادة الموجودة، أن يثبت أصالة الشعر العربى القديم، وتكوّن لديه فى هذا انطباع أن القسم الأكبر من الشعر الجاهلى الذى وصل إلينا من المرجح/ أنه دوّن فى النصف الأول من القرن الأول الهجرى (99).
(94) انظر مادة «محمد» فى:
Encyclopaediaof Religionand Ethics VII، 874. Muhammedandthe Riseof Islam (1905) S. 60 The Originsof Arabicpoetryin JRAS 1925، 417 - 449.
(95)
انظر أيضا المرجع السابق ص 424 - 425.
(96)
انظر المرجع السابق ص 425، 426 وما بعدها.
(97)
نشر فى القاهرة 1926.
(98)
انظر بروكلمان، الملحق، I، 32 ناصر الدين الأسد، مصادر 379 - 428.
(99)
Ch. J. I. yall، Some Aspectsof Ancient Arabic Poetryaslllistra tedbya Little- Known Anihology. in: Proceedingsofthe British Academy 1917 - 18. P. 374
وقد حاول فريتز كرينكو، الذى كان على اقتناع مماثل بمدى أصالة شعر الجاهلية وصدر الإسلام، إثبات أن فن الكتابة أقدم زمنا وأكثر انتشارا فى مجال الشعر مما ظن الباحثون بصفة عامة، وأورد الأدلة على أن الخلافات الكثيرة التى وصلت إلينا فى روايات اللغويين وصنعتهم لدواوين الشعر القديم إنما ترجع فى قسم منها إلى تصحيف وتحريف، من جهة تنقيط الحروف فى المصادر المدونة، ولا ترجع إلى اختلافات سمعية للروايات الشفوية (100) وثمة مدافع آخر عن أصالة شعر الجاهلية، وهو بروينليش (101). إن ثمرة هذه المناقشة فى أوائل العقد الثالث من القرن العشرين تنعكس أيضا على التصحيحات التى قام بها بروكلمان فى ملحق كتابه سنة 1937، وعدل بها بعض ما جاء فى الكتاب الأصلى (102) لم يعد «تدوين الشعر فى جزيرة العرب فى عهد النبى» مثار عجبه، ولذا فقد «أخطأ مرجليوث وطه حسين فى إنكارهما الكامل لاستخدام الكتابة عند عرب الشمال فى العصر الجاهلى/، وفى استنتاجهما عدم أصالة جميع الأبيات المنسوبة إلى عرب الجاهلية» .
(100)
F. Krenkow، The Useof Writingforthe Preservationof Ancient Arabic Poetry، in: Festschrift E. G. Browne. Cambridge 1922، p. 261 - 268 ..
(101)
منطلق فكره الرواية الشفوية للشعر حتى النصف الثانى من القرن الثانى للهجرة، انظر:
E. Braunlich. Zur Frageder Echtheitderaltar abischen Poesiein: OLZ 29/ 1926/ 826
وفى مقال لاحق له لخص نتائج رواية الشعر وأصالته على النحو الآتى:
1 -
«منبع أو أصل الشعر هى فترة ما قبل الإسلام. نشأة الشعر فى الجاهلية ونقطة بدايته غير محددة على وجه اليقين، ولكن الشعر الذى وصل إلينا متطور معقد، سبقته مرحلة طويلة من التطور الفنى.
2 -
لا يكاد الشعر الذى وصل إلينا يتجاوز مائة سنة قبل النبى صلى الله عليه وسلم:
3 -
قدم العلماء المسلمون معلومات دقيقة عن الشعراء الذين عاشوا قبل الإسلام.
4 -
الرأى السائد عند اللغويين العرب جدير بالتصديق فى مجموعه، وعلينا مع هذا أن نواجه كل التفاصيل بقدر من الشك».
انظر مقاله:
E. Braunlich. Versucheinerlite rageschichtliche n Betrachtungsweis ealtarabischer Poesien. in: Islam 24/ 1937/ 210 - 211.
(102)
قارن الأصل 18 وملحق المجلد الأول 33 - 32
ولكن من البديهى أن الكتابة لم تزح الرواية الشفوية كلية، فكل الشعراء المرموقين فى ذلك العصر المتقدم كان يرافقهم رواتهم يحملون شعرهم ويذيعونه، وهذه الروايات كانت فى الأغلب شفوية ولكنها اعتمدت فى حالات استثنائية على الكتابة، ولم يبدأ جمع منظم لكل الشعر قبل عصر الأمويين، ووصلت حركة الجمع أوجها عند علماء العباسيين.
وأوضح من هذا ما كتبه بروكلمان فى مقاله الأخير فى تاريخ الأدب العربى، فذكر أن أصحاب الزعم بانتحال كل أبيات الشعر الجاهلى قد بالغوا فى زعمهم، فقال (متوجها بالكلام إليهم):«إن الالتزام بالنقد والحق فيه قد تجاوز الحد، وإن التضاد بين شعراء الجاهلية وشعراء صدر الإسلام لا يمكن فهمه لو لم تكن هناك رواية صحيحة له، ولما أمكن لنقاد العصر العباسى اعتبار هذا المنتحل المنظوم فى عهد غير بعيد مثلا أعلى يحتذى به» (103). أما ليفى ديلا فيدا فرأيه كذلك أن الشعر الجاهلى جدير بالتصديق فى مجموعه (104) وفى أوائل النصف الثانى من القرن العشرين بدأ بلاشير بحث الموضوع (105) من جديد، وحاول أن يعيد تصور الأجواء التى نشأ فيها الشعر العربى القديم (106)، وأن يجيب بذلك على القضايا المطروحة، دون إهمال لدراسة الرواية القديمة والمواد القديمة، وقد اعتقد أن مثل هذه الأجواء متاحة عند البدو إلى يومنا هذا (107). لقد ناقش بلاشير المشكلة من جوانب مختلفة، ومع هذا فيبدو أيضا أنه لم يسهم فى إيضاحها. ودون إيراد
(103)
Geschichtederara bischen Literature، in: Handbuchder Orientalistik، 3 BD. Semitistik، Leiden 1954. S ..
256.
(104)
G. Levi Della Vida، Pre Islamic Arabiain: The Arab Heritage، hsg. von.
ونشره N.F.Faris ،Princeton 1944 ،P.41 - 48 وانظر: ناصر الدين الأسد، المرجع السابق، ص 374 - 376.
(105)
R. Blachere، Histoiredelalitt eraturearabe، Paris 1952. p. 83 - 117 ..
(106)
المرجع السابق ص 85.
(107)
المرجع السابق ص 86 وما بعدها. واعتمد فى هذا على عدة كتب منها:
A.Musil ،Arabia Petraea ،bd.III.Wien 1908. وله أيضا:
The Mannersand Customsofthe Rewala- Bedouins. New York 1928.
التفاصيل يجوز لنا القول بأنه جعل «لسلسلة الرواة الطويلة» دورا هاما فى/ الرواية فى العصر الإسلامى (108) كما يتضح ذلك من كتابه عن القرآن (109).
إن الطرق التى سلكها الباحثون حتى اليوم يراها بلاشير فى طرفى نقيض، فامتنع عن القول بالرأى فيهما (110)، لقد عرف بلاشير بعض الأخبار المهمة عن التدوين المبكر للشعر، ولكنه يعدّ التدوين جزئيا دفعت إليه ظروف بعينها، وهو نتيجة ميول فردية ومتطلبات دينية أو اتجاهات سياسية (111). وفى نهاية القرن الأول الهجرى كان القسم الأكبر من شعر الجاهلية وما بقى منه عهد به إلى ذاكرة الرواة (112). إن «نظريته الأساسية القائمة على افتراض أن القسم الأكبر من الشعر العربى القديم الذى وصل إلينا هو ثمرة تعديل، وإعادة نظم، ومحاكاة تمت فى عصر لاحق» ، هى مجرد فرض، وهى «غير صالحة وعقيمة» (113).
وفى نفس الوقت الذى نشر فيه بلاشير كتابه قدم العالم الدمشقى يوسف العش كتابه القيم «نشأة تدوين الأدب العربى» (114) وكان على معرفة بقدر من البحوث المنشورة باللغات الأوربية فى هذا الموضوع، وقدّم أفكارا جديدة تماما. وبعد ذلك بعامين ظهر بحث قيّم لهذه القضية هو كتاب «مصادر الشعر الجاهلى» (115) تأليف: ناصر الدين الأسد، ويبدو أن الأسد لم يكن يعرف كتاب العش، وقد توصل إلى نفس النتيجة تقريبا، وكتاب الأسد دراسة متعددة الجوانب لهذه المشكلة، ويعطى مادة كبيرة ومهمة، ويناقش الآراء المؤيدة والمعارضة مناقشة نقدية جادة، ويصل بالقارئ إلى نتيجة مقنعة، وكلا
.
R.Blachere ،Histoire 93 (108)
R.Blachere ،Le Coran ،Paris 1974 ،vol.I ،P.2. (109) انظر أيضا Islam Terk Enst.Derg.2 /1956 - 57 /26.: ولم يطبق فيها منهجه بالخروج من المعروف إلى غير المعروف ..
Histoire.85 - 86 (110)
(111)
المرجع السابق 98.
(112)
المرجع السابق ص 99.
(113)
W. Heinrichs، Diealtarabische Qasideals Dichtkunst، in: Islam 51/ 1974/ 120 ..
(114)
نشر فى: كتاب المحاضرات العامة للجامعة السورية، لعام 1951 - 1952.
(115)
نشر بالقاهرة سنة 1956، طبعة خامسة سنة 1978 م.
الكتابين قد صورا الأجواء المنشودة تصويرا حيّا، وهو ما طالب به بلاشير، ونتائج هذه البحوث بالنسبة للرواية فى العصر الإسلامى قد أيدها بحث آخر (116)./ وهذه الدراسات تقدم تصورا يقول: إن استخدام الكتابة فى تدوين الشعر العربى القديم كان واسع الانتشار (117)، وإن كثيرا من الشعراء كانوا يعرفون فن الكتابة، وإن بعضهم كتبوا بأنفسهم أشعارهم، وكانوا يصقلونها (118) على مدى الزمن، وإن بعضهم كان يرسل شعره فى رسائله إلى الملوك (119)، وإذا كان البدو لا يجدون الكتابة مكرمة (120) أو مفخرة، فإنهم مع ذلك كانوا يملون فى أحوال بعينها أشعارهم (121)، كان لدى الشاعر راوية أو رواة (122)، وكان هؤلاء بدورهم شعراء (123)، وهناك مثال مشهور ذكره طه حسين عند ما ضم مجموعة من الرواةالشعراء فى مدرسة شعرية واحدة، تبدأ بأوس بن حجر، وتمضى إلى زهير بن أبى سلمى، ثم إلى كعب بن زهير والحطيئة، ثم إلى هدبة بن خشرم وجميل إلى كثيّر (124).
وليست لدينا معلومات واضحة كثيرة عن كيفية الرواية فى الجاهلية، فالأخبار التى
(116)
F. Sezgin، Buharininkaynakl ari Hakkindaarastirm alar، Istanbul 1956 ..
(117)
انظر: ناصر الدين الأسد، مصادر ص 114 - 117، 120، 122 - 126، 132.
(118)
انظر: ابن قتيبة، الشعر والشعراء 17، ناصر الدين الأسد، المرجع السابق ص 223.
Ahlwardt ،Aechtheit 63 وقد ذكر الأصمعى عن زهير والحطيئة بأنهما من «عبيد الشعر» .
(119)
انظر: ناصر الدين الأسد، المرجع السابق ص 128 - 131.
(120)
انظر: الجاحظ، البيان والتبيين 1/ 163 - 164، والصولى، أدب الكتاب 62، الأسد، المرجع السابق ص 116 - 118.
(121)
كان عمرو بن كلثوم لا يقرأ ولا يكتب، وصل إلى سمعه أن النعمان بن المنذر يهدده، فأملى عمرو على كاتب قصيدة أرسلها إلى الملك مؤكدا له فنه فى المديح وولاءه له، انظر: الأغانى 11/ 58، ومن المرجح أن النابغة كان له أكثر من راو، ص 112.
(122)
قيل: اجتمع له الشعر والرواية، انظر: الأغانى 8/ 91، وجولد تسيهر: .
Goldziher ،Muh.Stud.II ،8
(123)
فى الأدب الجاهلى 338 - 376.
(124)
Ahlwardt ،Aechtheit 62 ناصر الدين الأسد، المرجع السابق 222 - 223.
تتعلق بالعصر الأموى توضح فى جلاء أن الرواة كانوا يدونون شعر شعرائهم (125)، ومن المؤكد أنه لا يجوز لنا أن نقول إن كل الرواة فى الجاهلية استطاعوا تدوين الشعر الذى كانوا يروونه. ومن الجانب الآخر يبدو أيضا أنه لا يجوز القول بأنه لولا «الرواية الشفوية لضاع الشعر المبكر من عصر ما قبل الكتابة» (126) وفيما يتعلق برواية الشعر العربى القديم فى العصر الإسلامى هناك عدد من الأخبار التى تقول: إن تدوين هذا الشعر كان مألوفا إلى حد بعيد. ولا بد أن الاهتمام بأخبار الجاهلية وشعرها ظل مستمرا دون انقطاع فى عصر النبوة والخلفاء الراشدين (127)، ويتضح هذا من شكوى عمر بن الخطاب من أن العرب تشاغلوا بالجهاد فى هذه الفترة، ولهوا عن الشعر وروايته (128). إن المحاولات الأولى لحفظ شعر الجاهلية ترجع إلى هذه الفترة، وقد كلف عمر بن الخطاب سعد بن أبى وقاص- كما يقول الخبر- بأن يتعرف على شعر من بقى على قيد الحياة من الجاهليين (129).
وهناك أخبار غير مباشرة، نعرف منها أن مجموعات كاملة من شعر الجاهلية ظلت موضع الحفظ فى العصر الإسلامى، لقد كان الفرزدق يمتلك ديوان لبيد، على ما ذكر فى بيت له (130)، ويتضح من بيت آخر للفرزدق أن مجموعات أخرى أو مدونات للشعر العربى القديم كانت عنده (131). وفى خبر آخر أن شعر الأنصار فى هجاء كفار قريش قد
(125) وقد ذكر أبو عبيدة فى «النقائض» (ص 430) مثالا واضحا لذلك، وهو أن جريرا كان يعيش مع الحسين راويته فى بيت واحد، وأراد مرة أن يقول شعرا فى الهجاء وكان فى عجلة فقال للحسين:«زد فى دهن سراجك الليلة وأعدّ ألواحا ودواة» . وفى هذا دليل على أن رواة جرير والفرزدق كانوا يدونون لهما أشعارهما. (الأغانى 4/ 258).
(126)
Ahlwardt ،Aechtheit 8.
(127)
انظر: مصادر الشعر الجاهلى، لناصر الدين الأسد، 218 - 220، ذلك على الرغم من موقف القرآن من الشعر، انظر ما كتبه برينلش Braunlich ،in: OLZ: قارن ما كتبه آلورد. Ahlwardt ،Poesie 4 - 5:
(128)
انظر طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 22.
(129)
انظر: يوسف العش، نشأة تدوين الأدب العربى ص 9، وهناك رواية أخرى فى الأغانى 21/ 30، وتدور على المغيرة بن شعبة وعلى شعر من العصر الإسلامى.
(130)
انظر: النقائض، لأبى عبيدة 201، البيت 57، وقارن ما كتبه كرنكو عن استخدام الكتابة. F.Krenkow ،The Useof Writing ،266:
(131)
انظر: النقائض، لأبى عبيدة 201، ومصادر الشعر الجاهلى، للأسد 160.
جمع فى عهد عمر بن الخطاب (132)، وربما وقع قسم من هذا الشعر فى وقت تال فى يد حماد الراوية بعد سرقته (133). أما صحة الخبر القائل بأن النعمان بن المنذر قد أمر بتدوين الشعر العربى ودفنه فى قصره الأبيض، وأن المختار الثقفى (المتوفى 67 هـ/ 687 م) احتفره فأخرج تلك الأشعار (134)، فهى موضع خلاف (135)، ورواية الخبر المجردة عند ابن سلام تقول:«وقد كان/ عند النعمان بن المنذر منه (أى من شعر العرب فى الجاهلية) ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح هو وأهل بيته به، فصار ذلك إلى بنى مروان، أو صار منه» (136).
وإذا نظرنا إلى التطور فى سياق أوسع، يتصل بتقييد الحوادث التاريخية والأنساب (انظر فى هذا الفصل ما يتعلق بالمصادر)، وبتسجيل حكم الجاهليين (137)، وبرغبة الصحابة فى تدوين حديث الرسول وأفعاله (138)، فإننا نستطيع أن نستنتج من هذه الأخبار كلها، أن تدوين الشعر كان مألوفا فى العصر الجاهلى إلى حدّ ما، وأن قدرا كبيرا من هذه المدونات قد وصل إلى العصر الإسلامى، وأن ظهور الإسلام لم يقلل من الاهتمام بالشعر وروايته، وأن الكتابة لم تلبث أن زاد انتشارها بعد ظهور الإسلام (139).
ويمكن التعرف على ثلاث مراحل لتطور تدوين الشعر العربى القديم فى العصر الإسلامى:
(132) انظر: الأغانى 4/ 140 - 141.
(133)
انظر: الأغانى 6/ 87.
(134)
انظر: الخصائص، لابن جنى 1/ 392 - 393، ولسان العرب مادة (ط ن ج)، والمزهر للسيوطى 1/ 249.
(135)
انظر أيضا: ما كتبه بلاشير Blachere.Histoire 96 - 97: وما كتبه العش، فى المرجع السابق ص 9، والأسد ص 161.
(136)
انظر: طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 23، وما كتبه كرنكو 266.
(137)
انظر: ما كتبه جولدتسيهر، فى كتابه فى الدراسات الإسلامية 2/ 205.
(138)
انظر: المرجع السابق 2/ 9. وانظر كذلك: تاريخ التراث العربى I ،53 وما بعدها.
(139)
إن الرأى الذى ذكره بلاشير، فى كتابه فى تاريخ الأدب العربى R.Blachere.Histoire 97 أن تدوين القرآن نفسه لم يكن ممكنا- فيما يقال- إلا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، وبالتالى لم يدون الشعر الجاهلى الوثنى إلا بعد ذلك، هو رأى لا يقوم على أساس سليم.
المرحلة الأولى: استمرار التدوين المحدود، وتحرير النسخ على نحو ما كان معروفا فى الجاهلية.
المرحلة الثانية: جمع الأشعار المدونة والمروية شفاها.
المرحلة الثالث: صنعة الدواوين.
وتشبه هذه المراحل الثلاث ما عرفناه فى علم الحديث، كان علماء الحديث قد أطلقوا على هذه المراحل:
1 -
كتابة الحديث.
2 -
تدوين الحديث.
3 -
تصنيف الحديث (140).
ومن المرجح أن تدوين الشعر العربى القديم قد بدأ فى العقود الأولى من حكم الأمويين، فقد بدأ فى عهد معاوية جمع الأخبار التاريخية وما يتصل بها من أشعار؛ ألف عبيد بن شريّة اليمنى (انظر ص 38 من الأصل الألمانى)«كتاب فى أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها» ، وألف زياد بن أبيه (المتوفى 53 هـ/ 673 م)«كتاب المثالب» ، وألف بن مفرّغ الحميرى (المتوفى 69 هـ/ 688 م)«سيرة تبّع وأشعارها» (انظر ص 325 من الأصل الألمانى)، وهذه الكتب يمكن أن تعدّ أقدم المؤلفات/ فى هذا الاتجاه. وقد بدأ العمل المركز والمنظم لجمع الشعر فى نهاية القرن الأول وبدايةالقرن الثانى الهجرى، ويبدو أن الوليد بن يزيد كان يهتم بهذا اهتماما خاصا (انظر ص 38 من هذا الكتاب).
وقد اعتمد صناع الدواوين بعد ذلك اعتمادا كبيرا على رواية شعر شعراء مشهورين فى العصر الأموى، ويقال: إن الفرزدق ورث الاهتمام بالشعر القديم وروايته من أبيه غالب بن صعصعة (141)، أما رواية شعر امرئ القيس وأخباره فيبدو أنه أخذها عن جده،
(140) شرح المؤلف فى متن كتابه باللغة الألمانية هذه المصطلحات مترجما لها على النحو الآتى: مصطلح كتابة الحديث يعنى مجرد كتابة الأحاديث متفرقة، أما مصطلح تدوين الحديث فيعنى جمع الأحاديث المتفرقة وتدوينها، وأخيرا يدل مصطلح تصنيف الحديث على تصنيف ما دوّن وفقا للموضوعات- انظر تاريخ التراث العربى. I ،55
انظر الفهرست لابن النديم 91 وما كتبه العش فى المرجع السابق 19، 20 أما بروكلمان فيتحدث هنا عن بداية الجمع المنظم لكل الشعر (؟ ) (ملحق. (I ،33
(141)
انظر: خزانة الأدب 1/ 108.
ولا بد أن هذا الجد قد أدرك الجاهلية (142). أما غريمه جرير فيبدو أنه تلقى روايات الشعر عن جده حذيفة بن بدر (143)، وكان شاعرا وعارفا بأخبار العرب وأنسابها، أدرك الجاهلية أيضا (144)، وكان اللغويون وخلفاء بنى أمية يسألون جريرا عن شعر الجاهليين وأخبارهم (145). وكان ذو الرومة راوية للراعى (146)، وكان حجة فى هذا المجال، روى عنه النحوى يونس بين حبيب (المتوفى نحو سنة 182 هـ/ 798 م)(147) وأقرّ له حماد الراوية بالتمييز بين شعر أهل الجاهلية وشعر أهل الإسلام (148). وكان الكميت عالما بالشعر القديم أيضا، ويقال إنه فاق حمادا الراوية فى المعرفة به (149). وكان صديقه الطّرمّاح راوية (150) مشهورا، وكان أبو عمر بن العلاء وغيره من اللغويين فى القرن الثانى الهجرى (الثامن للميلاد) يروون الشعر القديم عن طريق الراجز رؤبة (انظر ص 369).
ولا نستطيع أن نحدد فى كل حالة على حدة اسم من قام بجمع الشعر فى العصر الأموى، وقد كان لعدد كبير من المؤرخين والمفسرين فى القرن الأول وأوائل القرن الثانى الهجريين بلا شك، دور كبير ومهم فى هذا العمل، بوصفهم عارفين بالشعر العربى، ومن هؤلاء الشّعبى (المتوفى 103 هـ/ 721 م انظر: تاريخ التراث العربى، (I ،277 وقتادة (المتوفى 118 هـ/ 736 م، انظر: تاريخ التراث العربى I ،31 والزّهرى (المتوفى 124 هـ/ 742 م، انظر: تاريخ التراث العربى، (I ،280 ومحمد بن السائب الكلبى (المتوفى 146 هـ/ 763 م انظر تاريخ التراث العربى (I ،34 وعوانة بن الحكم/ المتوفى 147 هـ/ 764 م، انظر: تاريخ التراث العربى. (I ،307
إن العلماء المشهورين المذكورين كثيرون، منهم أبو عمرو بن العلاء، وحماد الراوية،
(142) انظر: الشعر والشعراء، لابن قتيبة 48، ومصادر الشعر الجاهلى، لناصر الدين الأسد 228.
(143)
طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 319 - 321.
(144)
البيان والتبيين، للجاحظ 1/ 366.
(145)
انظر: النقائض، لأبى عبيدة 1047 - 1048، ومصادر الشعر الجاهلى، لناصر الدين الأسد 227.
(146)
انظر: طبقات فحول الشعراء، لابن سلام 467.
(147)
المصدر السابق 76 - 77.
(148)
الأغانى 6/ 88، ومصادر الشعر الجاهلى 226.
(149)
انظر: كتاب الأغانى 17/ 2 - 3.
(150)
انظر: البيان والتبيين، 1/ 46، ومصادر الشعر الجاهلى 225.
وجنّاد الشرقى بن القطامى، وخلف الأحمر، والمفضّل الضبى، وأبو عمرو الشيبانى، ومن أشهر هؤلاء وأهمهم أبو عمرو بن العلاء وحماد الراوية، وتذكر المصادر أسماء كثيرة أخرى غير هؤلاء جميعا، لقد تلقى أبو عمرو بن العلاء شعرا كثيرا لعرب الجاهلية عن الشعراء الرواة، وروى أبو عمرو بن العلاء بشهادة تلميذه أبى عبيدة «عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية» ، وكانت كتبه التى كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتاله إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرّأ (151) فأحرقها كلها» (152).
ويتضح من الأخبار التى نعرفها اليوم أن قسما كبيرا من الشعر العربى المبكر كان متاحا فى دواوين القبائل. وكان العمل الأساسى للغويين فى القرن الثانى الهجرى/ (الثامن الميلادى) يقوم من ناحية، على جمع دواوين الشعراء، وتكوين هذه المختارات، اعتمادا على تلك المجموعات، ومن ناحية أخرى على تهذيب دواوين القبائل، وإكمالها اعتمادا على ما تجمع لديهم من مواد جديدة.
فإذا نظرنا إلى الشواهد التى لا يرقى إليها الشك لاستخدام الكتابة فى الجاهلية، واستمرار استخدامها فى العصر الإسلامى، تحتم علينا أن نتساءل عن مدى الاعتماد على الروايات الشفوية المحضة فى جمع الشعر الجاهلى فى القرن الأول الهجرى (السابع الميلادى).
لقد سبق أن ذكرنا أن بعض الدراسات فى القرن التاسع عشر قد أشارت إلى استخدام الكتابة فى تدوين الشعر العربى القديم، ولكن هذه الدراسات لم تصل إلى تصور أن لغويى القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) قد وصلت إليهم روايات مكتوبة، وشبيه بهذا ما كان فى علم الحديث، فقد كان ثمة اعتقاد بالتدوين المبكر لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وساد- بالرغم من هذا- رأى بأن مؤلفى كتب الحديث
(151) شرح المحقق الكبير عبد السلام هارون كلمة تقرأ أنها تعنى: تنسك. واعتمد فى ذلك على ترجمة أبى عمرو بن العلاء فى وفيات الأعيان لابن خلكان.
(152)
النص عن البيان والتبيين 1/ 320، ويبدو أن معاصرين آخرين لأبى عمرو بن العلاء كانوا قد رووا عن رواة أدركوا الجاهلية، انظر: مصادر الشعر الجاهلى، لناصر الدين الأسد 270 - 273.
الجامعة فى القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) لم يأخذوا مادتهم من نصوص مدونة، وأنهم أخذوها بالضرورة عن مصادر شفوية (153).
ولا يجوز أن نتوقع إيضاح كل مراحل رواية الشعر مرحلة مرحلة، وذلك لأن المعرفة الدقيقة بطرق الرواية غير متاحة لدينا فى ميدان الشعر على نحو ما نعرف فى مجال الحديث، ومع هذا يمكن أن تعيننا طرق تحمل العلم فى مجال الحديث- إلى حد ما- على تحديد دور الراوى، وعلى حل المشكلات المتصلة بذلك، وعلى الاستفادة مما وصل إلينا من أخبار عن الشعر، قياسا على ما نعرفه فى علم الحديث.
إن كتب علم أصول الحديث- تلخص «طرق تحمل العلم» وتذكرها فى أبواب خاصة بها (انظر: تاريخ التراث العربى I ،58 وما بعدها)، وبغض النظر عن الجزئيات والتفاصيل، فإن دور الراوى وواجبه يتحددان على النحو الآتى: يروى الراوى نصوصا وصلت إليه مدونة أو دوّنها هو بنفسه، وذلك بغض النظر عن حفظه للنص أو عدم حفظه له، إن ذكر الرواة عند رواية النص مرة أخرى يكوّن سلسلة الرواة المعروفة بالإسناد، إن العمل المشكور الذى قام به يوسف هوروفتس قد أثبت أن الإسناد كان معروفا فى النصف الثانى من القرن الأول الهجرى/ (السابع الميلادى) (انظر: تاريخ التراث العربى. (I ،77
ونستطيع اليوم أن نثبت بدقة أن الكتب الدينية الجامعة المؤلفة فى العصر الأموى قد اشتقت مادتها من مدونات سابقة، وفى هذه الكتب كانت أسماء الرواة تذكر بدلا من عناوين الكتب وأسماء مؤلفيها (انظر تاريخ التراث العربى. (I ،82 إن دور رواة الأدب فى العصر الإسلامى وطريقتهم يضارعان دور الرواة وطريقتهم فى المجالات الدينية (154)» وهناك تصور خطأ ترتب عليه تصورات خطأ أخرى بأن رواية النصوص
(153) انظر: ما كتبه جولدتسيهر، فى كتابه فى الدراسات الإسلامية 2/ 180، 245.
(154)
إن رواية الشعراء أقدم من الرواية فى الموضوعات الدينية، على الرغم مما يبدو للرواية فى المجال الدينى من تأثير فى تطور رواية الشعر، انظر حول الشبه بينهما ما كتبه مصطفى صادق الرافعى فى: تاريخ آداب العرب، طبعة ثانية، القاهرة 1940، 1/ 295 - 298.
الأدبية لم تكن إلا شفويّا، وقد أدّى مثل هذا التصور عند آلورد إلى حكم شاكّ فى أصالة الشعر العربى القديم (انظر: تاريخ التراث العربى I ،15 وما بعدها).
ولا نستطيع اليوم أن نثبت مدى استخدام الرواة فى الجاهلية لنصوص مكتوبة لمروياتهم. ولكننا نستطيع دون شك أن ننطلق من حقيقة أن هؤلاء الشعراء كانوا يستطيعون الكتابة، وكانوا يتعهدون شعرهم بالصقل خلال فترة طويلة، وكانوا أيضا رواة لشعراء آخرين، إن وظيفة الرواةفى العصر الأموى تتضح من خلال بعض الأخبار القليلة المهمة، وفيها أنهم كانوا يقيدون الشعر بعد إملاء/ الشاعر له، وأنهم كانوا يصقلونه.
إن حمادا الراوية المشهور قد نظر فى كتبه عند ما أرسل الوليد بن يزيد فى طلبه لينشده من شعر الجاهلية وأخبارها (155)، وكان حماد مصنفا لعدة كتب (انظر الأصل الألمانى (156) I ،366 - 368 وقد دوّن ملاحظة فى أحد كتبه الذى وصل إلينا قسم منه، إن الشاعر الجاهلى عدىّ بن زيد قرأ كتب العرب والفرس (157). وهناك روايتان عن نشوء المفضليات (انظر: تاريخ التراث العربى 53) تعطيان مثالا آخر على أنه كان من الممكن فى صنعة مجموعات الشعر فى العصر الأموى وأوائل العصر العباسى الاعتماد على مجموعات أسبق.
وإذا كان المحدثون يشيرون إلى علاقتهم بمصادرهم عن طريق ذكر الرواة، فإننا غالبا ما نفتقد هذه الإشارات عند أدباء العصر الأموى وأوائل العصر العباسى (158).
وترجع الأسانيد فى القرون التالية أيضا، فى الغالب، إلى رواة القرنين الأول والثانى للهجرة فقط، ومع ذلك فهناك بعض النصوص التى ترجع سلسلة إسنادها إلى العصر الجاهلى دون انقطاع (159).
(155) انظر: الأغانى 6/ 94.
(156)
انظر أيضا: النص الذى اقتبسه ابن الكلبى من كتاب حماد فى التاريخ، يوجد فى المفضليات، تحقيق ليال، وقارن ما كتبه يوهان فك، فى دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الأوربية الثانية 3/ 136.
(157)
انظر: تاريخ الطبرى 1/ 1016.
(158)
انظر: مصادر الشعر الجاهلى، لناصر الدين الأسد 267 - 268.
(159)
انظر: المرجع السابق 231 - 240، 261 - 279.
أما أسباب وجود الإسناد المنقطع فى القرن الأول الهجرى/ (السابع الميلادى) فمن المرجح أنها ترجع إلى كون الشعر يرجع إلى عصر أقدم من عصر الحديث الشريف، وأن رواة الشعر كانوا أقل، وأنه لم يكن هناك مانع دينى من رواية الشعر دون ذكر الرواة، ويرجع هذا أيضا إلى أن طرق الرواية التى كانت ملزمة فى علم الحديث لم تنتقل إلى مجال رواية الشعر إلا فى وقت متأخر نسبيا.
وقد أشار ابن سلّام الجمحى إلى هذا القصور، بأن بعض الرواة اكتفوا بنسخ الشعر من كتاب إلى كتاب، دون أن يتثبتوا منه عند البدو، أو يقرءوه عند العلماء (160).
ذكر ابن سلّام الجمحى أن حمّادا هو أول من جمع الشعر العربى القديم، وذكر الأخبار المتصلة به (161). ومن هذا لا يجوز لنا أن نستنتج أن حمّادا الراوية/ كان فى الواقع أول جامع للشعر، أو أنه أول من جمع المأثور الشفوى، ففى مجال علم الحديث- مثلا- عدّ معاصره الذى يكبره بنحو ثلاثين عاما، وهو الزّهرى (المتوفى 124 هـ/ 742 م)«أول من دوّن الحديث» (162)«وأول من أسند الأحاديث» (163). ولكنا نعلم علم اليقين أن المقصود ليس أن الزهرى جمع مادة شفوية أو أنه أول جامع لها على الإطلاق، وإنما تفسير هذه المعلومات أن كلا العالمين كانت له شهرة بوصفه «أول» الجامعين الكبار ذوى الشأن للشعر أو للحديث.
إن تاريخ رواية الشعر العربى القديم يعرف مكانة خلف الأحمر بوصفه مؤسس «السماع» فى البصرة (164)، وفى هذا الضرب من ضروب الرواية ما كان مألوفا عند
(160) انظر: طبقات فحول الشعراء 6.
(161)
انظر: المرجع السابق ص 40، وما كتبه نولدكه، فى كتابه فى تاريخ القرآن.
Noldeke ،Geschichtedes Qorans II 6 وما كتبه بلاشير، فى تاريخ الأدب العربى Blachere ،Histoire 100 وفيه أن كلمة (جمع) تعنى فى مفهومه حفظه فى ذاكرته.
(162)
انظر: جامع بيان العلم، لابن عبد البر 1/ 73، وفتح البارى، لابن حجر 1/ 174.
وانظر أيضا: الأصل الألمانى لتاريخ التراث العربى. I ،57
(163)
انظر: مقدمة الجرح والتعديل، لابن أبى حاتم 20.
(164)
انظر: إرشاد الأريب، لياقوت 4/ 179.
المحدّثين، كان الشيخ أو من ينوب عنه يقرأ نصّا على التلاميذ، أو كان أحد التلاميذ يقرأ النص على الشيخ، وكان على التلميذ أو السامع أن يقدم عند روايته لهذا النص أو عند الاقتباس منه اسم شيخه مسبوقا بعبارة «حدّثنا» أو «أخبرنا» (165) وهما عبارتان يمكن أن يفهمها البعض على أساس أنهما لا تشيران إلا إلى الرواية الشفوية، ولكن سياق الحديث كان يتعرض من حين لآخر للنصوص التى تقوم عليها الرواية، ويكفى هنا المثال الآتى:
أبو النّضر جرير بن حازم البصرى (المتوفى 170 هـ/ 786، انظر تاريخ التراث العربى (I ،310 هو تلميذ أبى عمرو بن العلاء (انظر التهذيب لابن حجر 2/ 70) قال لابنه وهب بن جرير: «كنت أروى 300 قصيدة لأميّة» (ابن أبى الصلت) فسأله وهب عن الكتاب الذى كان يضم هذه القصائد، فرد الأب بما يفيد أنه استعير فضاع (166) وتدل القرائن على أنه لم يكن من المستحب فى منتصف القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى) - فى دوائر اللغويين أيضا- أن تروى الكتب دون سماع من شيخ أو قراءة عليه، خوفا من التصحيف والخطأ فى الفهم، فقد مدح أبو نواس شيخه/ خلفا الأحمر بقوله:
لا يهم الحاء فى القراءة بالخاء* ولا لامها مع الألف ولا يعمّى معنى الكلام ولا* يكون إنشاده عن الصّحف (167) وقد نقد أبو حاتم السجستانى؛ لأنه اعتمد على الكتب وحدها، فى حين كان الآخرون يستطيعون إسناد مادتهم إلى الشيوخ، قال بعضهم يهجو أبا حاتم السّجستانى:
إذا أسند القوم أخبارهم* فإسناده الصّحف والهاجس (168) وفى هذا الصدد ينبغى أن نذكر أيضا فصحاء الأعراب، وهم جماعة من الرواة
(165) انظر: تاريخ التراث العربى (الأصل الألمانى) 58، 1 وما بعدها.
(166)
انظر: فحولة الشعراء للأصمعى، تحقيق تورى، Torrey فى:
ZDMG 65 /1911 /500 ويوجد النص فى طبعة القاهرة 1953 ص 33، وبعد جيل واحد يدور الحوار مرة ثانية بين وهب بن جرير والأصمعى، ووهب هنا هو الراوية.
(167)
انظر: التصحيف، للعسكرى 13، وديوان أبى نواس، طبعة القاهرة 1898 ص 135، ومصادر الشعر الجاهلى، لناصر الدين الأسد 181.
(168)
التصحيف والتحريف، للعسكرى 13، ومصادر الشعر الجاهلى 181.
المثقفين الذين ترجع أصولهم إلى بيئة بدوية، وكانوا أيضا رواة اللغويين المشاهير (169).
وينبغى الإشارة هنا أيضا إلى أننا نعرف شواهد عن نشاط عدد من هؤلاء الأعراب فى التأليف (انظر القسم الخاص بعلوم اللغة).
أما فى عصر اللغويين الكبار فى القرنين الثانى الهجرى (الثامن الميلادى) والثالث الهجرى (التاسع الميلادى) فلا بد من رفض التصور الخطأ القائل بأن هؤلاء اللغويين قد دونوا المرويات الشفوية فى عصرهم لأول مرة (170). ويبدو من كل الملاحظات التى سبق أن ذكرناها أنه من الفضول أن نذكر مزيدا من الشواهد لإثبات وجود نصوص مدونة لدى اللغويين فى ذلك الوقت، وأنهم تمكنوا من تهذيبها. كانت السمة الأولى لعملهم فى مجال الشعر العربى القديم صنعة المواد التى رويت كاملة أو ناقصة فى دواوين أو صحف، ونقد هذه المادة وتقويمها، وتلقى المعلومات بشأنها من البدو، إذا اقتضى الأمر، وبهذا المعنى يمكن فهم المصطلحات المستخدمة فى الفهرست لابن النديم، وفى المصادر الأخرى مثل «صنع» و «جمع» و «روى» بأنها تدل على نشاط فى التأليف، وسنحاول فى الحديث عن الشعراء فى هذا المجلد أن نسجل بقدر الإمكان تاريخ رواية دواوينهم، حتى نصحح أيضا على هذا النحو التصور الخطأ القائل بأن الرواية كانت بطريقة المشافهة وحدها/ إن الهدف الأساسى من هذا العرض هو إيضاح أن الكتابة قد استخدمت فى تدوين الشعر فى زمن أقدم بكثير، وعلى نطاق أوسع مما يفترضه كثير من الباحثين المحدثين،
(169) انظر- مثلا-: ما كتبه شارل بيلا. Ch.Pellat ،Milieu 137 - 139
(170)
أوضح بلاشير هذا التصور فى كتابه عن تاريخ الأدب العربى:
Blachere.Historie 100 ويقوم رأيه على كون محمد بن السائب الكلبى (المتوفى 146 هـ/ 763 م). وحمّاد الراوية، وخلف الأحمر، والمفضل الضبى، كانوا يحفظون معارفهم ومروياتهم فى ذاكرتهم، ولم يكونوا يدونون معارفهم على أية حال. أما بالنسبة للكلبى فقد أحال بلاشير إلى ما ذكره بروكلمان فى كتابه فى «تاريخ الأدب العربى» 1/ 138، وفى دائرة المعارف الإسلامية». الطبعة الأوربية الأولى 2/ 730 (737)، على الرغم من أن الكلبى قد ذكر بوضوح فى موضعين بوصفه مؤلفا. أما نشاط حمّاد فى التأليف، ونشاط خلف الأحمر، فموضعها المجلد الأول من تاريخ التراث العربى I: 366 ،460 وكذلك القسم الخاص بعلوم اللغة. أما المفضل الضبى (المتوفى نحو عام 170 هـ/ 786 م) فقد ذكر له ابن النديم كتبا، وصل إلينا منها كتابان هما: المفضليات، وكتاب الأمثال.
وأنه ينبغى أن نضع فى اعتبارنا أن رواية الشعر عن طريق التدوين كانت أوسع انتشارا مما يقول به هؤلاء، ولا يعنى هذا أن كل ما وصل إلينا من شعر الجاهلية وصدر الإسلام أصيل، ولكننا نهتم فى هذه المحاولة بإزالة الشك المفتعل فى أصالة هذا الشعر، ومحو التصور القائل بأن الرواية كانت بالمشافهة وحدها على مدى مائتين أو مائتين وخمسين عاما. ومن المؤكد أنه فى مجال الشعر، وفى مجال الحديث الشريف أيضا، قد وجد دس وأخطاء وخلط وانتحال، وذلك على الرغم من التدوين المبكر، ولكن لا بد أنّ التدوين بالكتابة قد وضع لهذه التحريفات ولذلك الانتحال حدودا، وقد رأينا من قبل أن بعض العارفين بالشعر العربى، مثل: ليال (171)، وبروينلش، قد وصلوا، بمجرد البحث فى البنية الداخلية لذلك الشعر، إلى الاقتناع بأنه أصيل إلى حد بعيد، وإذا كان هؤلاء العلماء محقين فى حكمهم، فإن هذه الأصالة لم تكن ممكنة إلا عن طريق التدوين، بالإضافة إلى روايته بالطريق الشفوى، ولولا الاعتراف بأصالة الشعر الجاهلى إلى حد بعيد لما استطاع جرينيباوم أن يقوم بمحاولة وضع تصنيف زمنى لشعراء الجاهلية الكبار، بأن قسم شعراء العربية المبكرين إلى ست مجموعات أو مدارس (172).
ولا بد من إعادة التفكير فيما نسب إلى حماد الراوية وخلف الأحمر (173) من نحل الشعر، وذلك فى ضوء القول بالتدوين المبكر للشعر العربى وتقييده فى الدواوين، إن آلورد
(171) هنا تجدر الإشارة إلى عرضه للموضوع فى مقدمة ترجمة شروح المفضليات (1918) ص 24: «كثير من هذه الأشعار القديمة بها عدم اتصال، وثغرات تبدو طبيعية فى قطع لم تدون (كذا عنده، ولكن انظر ص 19 فى أولها) ولكنها حفظت فى الذاكرة ورويت على مدى أجيال من الرواة، الأمر الذى يستبعد افتراض الانتحال تماما.
وكثير من هذه الأشعار لها نص متتابع بدرجة معقولة، وفى آخرها تلحق أبيات يظن أنها منها، وليس لها مكان فى القصائد نفسها، وهذا أمر لا يطرد مع الانتحال. وفوق هذا فإن الانطباع القائم على الدراسة الدقيقة لهذه البقايا القديمة أنه يجب علينا أن نأخذ هذه القصائد بصفة عامة، بوصفها إنتاج الرجال الذين تحمل أسماءهم.
وسنناقش مدى صحة ذلك فى المقدمة الخاصة بكل قطعة شعرية، وفى التعليقات الملحقة بها، حيث تبحث القضايا المشكوك فيها».
(172)
عن التصنيف الزمنى للشعر العربى المبكر. انظر: ما كتبه جرينيباوم
G. V. Grunebaum، Zurchronologiede r Fruharabischen Dichtung، in: Orientalia 8/ 1939/ 328 - 345.
(173)
انظر: كتاب آلورد، عن خلف الأحمر ص 2، وبحثه عن أصالة الشعر:
Ahlwardt، Halafal- Ahmar، S. O. S. 2 Ahlwardt، Aechteit S. 13 - 16
ونولدكه (174) كانا أول من شغلا بقضية أصالة الشعر العربى، وقد بالغا فى فهم ما ورد فى المصادر عن دور هؤلاء الوضّاعين، ومن المؤكد أن كلا العالمين- آلورد ونولدكه- لم يفيدا من كثير من المصادر، ومع هذا فإن الكتب التى عادا إليها تضم بضع ملاحظات لو أحسنا تدبرها لعصمتها من الأحكام المتحيزة «إن موقفهما يفهم من خلال شكهما فى مادة بحثهما، وهو ما أدى أثناء بحوثهما المتأخرة إلى حكم يزرى بالقيمة الفنية للشعر العربى» (175). ومما يثير العجب حقا أن بعض العلماء الأحدث عهدا، ومنهم بلاشير (176) قد بالغوا مبالغة شديدة فى بيان إمكان الوضععلى يد حماد وخلف من الوجهة التاريخية.
إن المبالغة فى فهم الأخبار التى تجرح حمادا الراوية وخلفا الأحمر ينبغى فى الواقع أن توضع فى نصابها الصحيح، من خلال نتائج البحوث الحديثة، فإذا غضضنا النظر فى المستوى الحالى لمعارفنا عن التدوين المبكر للشعر وجمعه المنظم فى عهد الأمويين، فإننا نفكر على النحو الآتى: فى سنة 1897 قام جولدتسيهر بجمع المعلومات الواردة فى المصادر، فى إطار بحثه عن دواوين القبائل، وبتحديد قيمتها والإفادة منها، وفى هذه المصادر أن بعض دواوين القبائل كانت موجودة فى العصر الأموى، حتى إن المفضّل الضّبّى (المتوفى نحو سنة 170 هـ/ 786 م أو قبيل ذلك) - وكان معاصرا لحماد (المتوفى سنة 155 هـ/ 771 م) وخلف (المتوفى نحو سنة 180 هـ/ 796 م) - قد استقى مادة مختاراته الشعرية (المفضّليّات) من تلك الدواوين، وأن معاصره أبا عمرو الشّيبانى (ولد نحو عام 90 هـ/ 710 م وتوفى 206 هـ/ 821 م) قد تلقى من المفضل رواية دواوين القبائل، وكانت تربو على ثمانين ديوانا (177)، لقد رواها عن المفضّل الذى قيل إنه شكا
(174) انظر: ما كتبه نولدكه. Noldeke ،Beitrage S.VI:
(175)
انظر: ما كتبه جرينيباوم فى بحثه عن دراسة الأدب العربى فى الغرب، ضمن كتابه عن النقد وفن الشعر:
G. E. Von Grunebaum، Zum Studiumderarabis chen Literatureim Westen، In: Kritikund Dichtkunst، Wiesbaden 1955، S. 9.
(176)
انظر: ما كتبه بلاشير، فى. Blachere ،Historie 99:
(177)
انظر: ما كتبه جولد تسيهر من ملاحظات على دواوين القبائل العربية:
I. Goldziher، Some Notesonthe Diwansofthe Arabic Tribes، in: JRAS 1897 P. 325 - 334.
وقد نشر هذا البحث ضمن الأعمال الكاملة له. Gesammette Schriften IV ،119 - 128:
(*) وقد ترجم الأستاذ الدكتور حسين نصار هذا المقال إلى اللغة العربية، ونشر فى مجلة الثقافة، عدد 633 فى 12 فبراير 1951 - المترجم
من وضع حماد للشعر (178). وقد يكون صحيحا أن حمادا/ لمعرفته الوثيقة بالشعر، ولاهتمامه به، لم يتورع عن وضعه، ويبدو أن هذا لم يكن يشكل خطورة كبيرة على الشعر العربى فى الجاهلية وصدر الإسلام، وذلك فى ضوء حقيقة أن هذا الشعر فى مجموعه أو أكثره على الأقل كان قد دوّن وانتشر، فحماد لم يكن الوحيد فى هذا المجال، فهو مجرد واحد من الكثيرين الذين يعرفون الشعر ويروونه، ولذا فإن ما رواه المفضل الضبى- وكان ينقد حمادا- وكذلك دواوين القبائل لأبى عمرو الشيبانى، وعددها نحو ثمانين ديوانا، ينبغى أن ينظر إليها، دون أدنى شك، بعيدة عن عمل حماد (179).
ومن هذه الملاحظات وحدها يتضح أيضا أن مكانة الوضّاع المزعوم خلف الأحمر أقل بكثير مما هو مأخوذ به، إننا لا نستبعد إمكان الوضع والسرقة الأدبية وتداخل الروايات، ولكنا فى مثل هذه الأحكام السلبية الصارمة ينبغى أن نضع فى اعتبارنا أن بها قدرا من المبالغة، ولا سيما إذا كانت صادرة عن منافسية (180).
والأمل معقود فى أن يظل البحث فى المستقبل بعيدا عن هذا الشك المتحيز والعقيم، عند النظر فى مصادر الشعر الجاهلى.
(178) ورد فى الأصل الألمانى فى هذا الموضع ترجمة آلورد لنص مأخوذ عن كتاب الأغانى: «حماد الراوية
…
رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله فى شعره، ويحمل ذلك عنه فى الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح عنها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك! ».
انظر الأغانى 6/ 89، وتوجد الترجمة الألمانية للنص عند آلورد.
أما مناقشة دور حماد فترد أيضا فى مقدمة ليال لتحقيقه للمفضليات، الجزء الثانى، المقدمة ص 16 وما بعدها، وعند ناصر الدين الأسد، فى مصادر الشعر الجاهلى 368 وما بعدها، و 438 وما بعدها.
(179)
انظر أيضا: مقدمة ليال للمفضليات، ص 19.
(180)
انظر: ناصر الدين الأسد 450، 464 - 465.