الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: مصادر البحث فى شعر الجاهلية وصدر الإسلام
بعد أن حاولنا فى العرض السابق، أن نوضح قضايا رواية شعر الجاهلية وصدر الإسلام، نحاول هنا أن نقدم عرضا عاما للمصادر التى ندين لها بمعلوماتنا الحالية عن الشعر العربى، إنها ليست نقوشا، ولا نكاد نعرف برديّات، بل هى مجموعات مدونة من أنواع شتى/، وصلت إلينا من العصر الإسلامى، ولأسباب متعددة ومعروفة إلى حد بعيد ضاعت أقدم الكتب المدونة فى أصولها، أو سبقتها كتب أخرى وحلت محلها. إن الكتب المتأخرة التى وصلت إلينا تشكل بدورها مجرد بقايا، حتى وإن بدت كبيرة، وقد حفظت لنا مقتبسات وقطعا تضم شعرا من التراث الأقدم. إن الثقة فى النقل عن المصادر الأقدم فى الكتب الأحدث قضية جديرة بالبحث العميق، ويبدو أن المتخصصين لم يعد لديهم شك قوى فى ذلك، على الرغم من أن الحكم على أهمية الأخبار الواردة فى المصادر العربية وقيمتها كثيرا ما كان ذاتيا محضا، وغير منهجى، يتبين هذا الشك بصفة خاصة عند النظر فى الإشارات الببليوجرافية إلى المصادر المبكرة والكتب الأوائل، إنها إشارات لم يجمع أكثرها على نحو منهجى إلى اليوم، ولم تبحث قيمتها، ومن يراعى وضع هذه الأخبار فى إطار التطور العام لتاريخ الحضارة، ويراها بالتالى جديرة بالتصديق، فإنه سوف يجد نفسه فى أحوال غير نادرة عرضة لتهمة عدم التمحيص والنقد، وذلك من جانب نقاد ينقلون بدورهم أخبارا يعتبرونها صحيحة وذلك عن تلك المصادر بالذات التى يشكون فيها، طالما كان فى ذلك ما يدعم تصوراتهم. وهذان مقياسان للنقد غير متفقين، وكلاهما يستقى معلوماته من الفهرست لابن النديم، وهو كتاب ندين له بمادة ثرية كل الثراء، تتصل بتاريخ حركة التأليف، وندين له أيضا ببدايات التصنيف النوعى لمجالات التأليف، وهو ما نحاول تطبيقه هنا أيضا فى إطار الشعر.
إن البحوث الحديثة فى الدراسات العربية لم تصل- بكل أسف- إلى رؤية واضحة فى موضوع المصادر، ولذا فليس ثمة نتيجة واضحة مركزة، وعلينا أن نعتمد فى أكثر الحالات على نتائج البحوث الأقدم التى لم تؤخذ حقّ أخذها، أو طغى عليها النسيان.
لقد أشرنا من قبل (انظر: تاريخ التراث العربى 32) إلى أهمية مقال لجولد تسهير، يتضمن ملاحظات عن دواوين القبائل العربية (181)، يتضح من مجموع الأخبار المأخوذة فيه عن المصادر أن صنعة دواوين القبائل كانت فى العصر الأموى على قدم وساق (182).
لم يشك جولدتسيهر فى صنعة أبى عمرو الشيبانى (المولود نحو 90 هـ/ 710 م، والمتوفى 206 هـ/ 821 م) لأكثر من ثمانين ديوانا لشعر القبائل اعتمدت عليها الروايات بعد ذلك، لقد فهم جولدتسيهر أن صنعة أبى عمرو الشيبانى لدواوين القبائل مجرد «تحرير/ لمجموع المتاح من الشعر لدى القبيلة» (183)، وذلك بجمع ما تفرق من إنتاج أسلافهم (184)، وقد ذكر جولدتسيهر فى هذا الصدد خبرا يقول إن أبا عمرو الشيبانى أخذ الدواوين عن شيخه المفضل الضبى (185). ويرى جولدتسيهر أيضا إمكان اختيار المفضل الضبى لقسم كبير من قصائده فى «المفضليات» من دواوين القبائل المتاحة لديه (186)، وهذا الفهم الواضح للأخبار الصريحة غير المشكلة الواردة فى المصادر العربية نفتقده فى بحوث جولدتسيهر التى أعدها بعد ذلك.
ويبدو أن جاير قد وصف العلاقات بين دواوين القبائل ودواوين الشعراء وصفا دقيقا إلى حد كبير، إذ يقول: «إن دواوين الشعر، التى يحمل الواحد منها اسم شاعر بعينه، يجوز اعتبارها ظواهر ثانوية بالنسبة إلى دواوين القبائل، وقد يكون بعضها مقتطعا من دواوين القبائل، أو من الأخبار التى تدور حول حياة الأبطال وقتالهم، وعلى أية حال فهذا لا ينفى أن بعض دواوين الشعراء ترجع صناعتها إلى زمن بعيد جدا، وهذا ما تأكد بشأن المعلقات، وهى أقدم من هذه الدواوين، وربما كانت المعلقات هى النموذج والحافز الدافع إلى استخراج القصائد الكبار لآحاد الشعراء المشاهير، وجمعها فى مجموعات متميزة (187).
(181) عنوان هذا البحث:
I. Goldziher، Some Notesonthe Diwansofthe Arabic Tribes.
(182)
انظر البحث السابق ص 120 - 121.
(183)
المرجع السابق ص 124.
(184)
المرجع السابق ص 124، وعبارة جولدتسيهر:«يمكن القول بأنه جمع كل ما كان لدى سابقيه» . (ص 124).
(185)
المرجع السابق ص 127.
(186)
المرجع السابق ص 126.
(187)
انظر: مقدمة المكاثرة، للطيالسى، ص 10 - 11.
ونحن نتفق مع عرض جاير بشأن دواوين القبائل، ودواوين الشعراء اتفاقا بعيدا، ولكنا توصلنا بشأن التأريخ إلى نتائج مخالفة، اعتمادا على عرضنا السابق. وإذا كان جاير، متابعة لجولد تسهير، قد انطلق من أن الدواوين لا يمكن أن تكون قد ظهرت قبل العصر الأموى، فإنا نقول بإمكان تكوّن بعض دواوين القبائل ودواوين الشعراء فى العصر الجاهلى، وهذا الرأى تقرره المصادر التاريخية، والمصادر الخاصة بتاريخ الحضارة، وتؤكده كتب الأخبار وكتب المثالب وكتب الفضائل وكتب المناقب وكتب الأنساب وكتب الأمثال، وقد أشرنا من قبل إلى أن عمر بن الخطاب ومعاصريه فى مكة المكرمة والمدينة المنورة قد أبدوا اهتماما/ بحفظ الموروث الثقافى الجاهلى، ولا يمكن تصور هذا دون معرفة متوارثة بهذه المادة. إن جمع الشعر الجاهلى زاد بمضى الوقت، وبدأ بوعى فى عهد معاوية بن أبى سفيان (حكم 41 هـ/ 661 م- 60 هـ/ 680 م). فالجهود الرائدة فى المختارات الشعرية، وكتب الشعراء وكتب الأخبار الجامعة، ترجع أيضا إلى حكمه، وكانت الاهتمامات الأدبية والثقافية التاريخية تأخذ مكان الصدارة أثناء الجمع، ثم جاء فى المقام الثانى الاهتمامات المعجمية المرتبطة بتفسير القرآن. إن الجامعين الأول للشعر العربى القديم كانوا لهذا كله أدباء ومؤرخين، وبدأ العمل اللغوى الحقيقى فى نهاية القرن الأول الهجرى (السابع الميلادى) وفى بداية القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى)، وموازاة للتطور فى مجالات العلوم الأخرى عند العرب فقد بدأ فى منتصف القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى) نقد الشعر، وتصنيفه فى كتب ذات ترتيب منهجى، وقد عرف النصف الثانى من القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى) والنصف الأول من القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) مزيدا من التهذيب، وعرف صنعة اللغويين الكبار المشاهير للمادة المتاحة على نحو منهجى.