المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهل لدى الذين يدعون أن شعبنا لا يمت بوحدة الدم - تاريخ الزواوة

[أبو يعلى الزواوي]

الفصل: فهل لدى الذين يدعون أن شعبنا لا يمت بوحدة الدم

فهل لدى الذين يدعون أن شعبنا لا يمت بوحدة الدم مع العرب أن يفسروا لماذا ندفع العرب في النضال من أجل الجزائر ولماذا اندفع الجزائريون وخاصة البربر في النضال من أجل فلسطين!!

‌الوحدة التربوية

ويتحدث أبو يعلى الزواوي عن الزوايا في بلاد الزواوة ومحافظتها على الثقافة والتربية والأخلاق لدى العامة وموقفهم منها، ويقول:(إذ لا فرق بين هذه الزوايا ومؤسسات الجمعيات والشركات العلمية الخيرية المقامة بأوروبا وأمريكا بأموال أولي البر من الوصايا والأوقاف ونحو ذلك فزوايا الزواوة كذلك دخلها من أولي البر والصلاح الملتزمين بعطايا من أرزاقهم وكسبهم للمؤسس الصالح المرجو بركته) ص 46. ثم هو يربط بإحكام بين تأثير هذه الزوايا في نفسية الناس العميقة رغم ما اعتراها من ضعف في المظهر نتيجة الضغط على الأصول التربوية التي تعرض لها بعض الناس والطبقات في الزواوة. (ومن عجيب أطوار أفراد من هذه الطبقة أن ترى الواحد منهم يصلي ولا يصوم والصلاة والصوم من أركان الإسلام الخمسة كما لا يخفى لكنك تراه كبير النفس قوي العزيمة ثابت الجأش كثير الأدب لا يكذب ولا يغش ولا يداهن ولا يتملق ولا يخضع ولا يشكو ولا يطمع وهو شديد الغيرة على الإسلام يجتهد في خدمته عامل على رفع شأنه بكل قوته وإذا سمع طعنا فيه أو افتراء عيه قامت قيامته ..) ص 79.

ص: 60

وأعتقد أن هذا النوع من التربية التي بثتها الزوايا والذي يستقر في أعماق النفس، هو ما عجز الاستعمار عن اكتشافه وهو موجود في المشرق فكثير لا يصومون ولا يصلون لكنهم لا يقبلون في الإسلام قدحا من أحد خاصة من الأوروبيين.

عمل الاستعمار الفرنسي المعروف بين الدول الاستعمارية بعنجهيته المتزايدة، وسوء الخلق، وادعاء حمل رسالة المسيح والحضارة، على هدم الزوايا والمساجد في منطقة القبائل وشن حملة تنصير واسعة حيث اختطف الأطفال وخاصة بعد المجاعات التي تسبب فيها الجيش الاستعماري حين حرق الزرع والضرع، ومن المعروف أن الجزائر وخاصة منطقة القبائل لم تشهد في تاريخها أية مجاعة، إلا بعد الدخول الفرنسي، فقايض المبشر "لافيجري" وجماعته من المبشرين الدين بالرغيف، وكان يرسل الكثير فيهم إلى فرنسا لتنصيرهم وتقول الباحثة الجزائرية خديجة بقطاش:(ومن تبقى من هؤلاء الأيتام وعددهم حوالي 378 صبيا و342 بنتا شغلوا بال لافيجري ولاسيما مستقبلهم، وحنى لا تضيع جهوده التنصيرية سدى، وسط المحيط الذي يعيشون فيه، قرر لافيجري عزلهم عنه، وذلك بإنشاء قرى عربية مسيحية تكون في نظره بمثابة النواة الأولى للأسرة العربية المسيحية) ص 126 - الحركة التبشيرية الفرنسية في الجزائر 1830 - 1871. وهكذا فإن محاولات هدم الزوايا وعدم تجديدها وحرفها عن رسالتها سواء في منطقة القبائل أو غيرها من مناطق الجزائر ومحاولات تنصير القبائل لم تتوقف حتى هذا اليوم. بل لعل حملة التنصير اشتدت في أعقاب الحرب العالمية الأولى

ص: 61

جنبا إلى جنب مع اشتداد حملة التفتيت حيث شعر الاستعمار بقوتهم وضعف العرب في المشرق والمغرب على حد سواء فسعى في تمزيقهم دينيا بالدعوة إلى النصرانية، وسلاليا بالدعوة إلى البربرية وركز حملته الدينية والعرقية على البربر، وساعده في ذلك بعض المارقين في المغرب العربي ويقول شكيب أرسلان في كتابه "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟:(ليس واحد من هؤلاء ولا من في ظلهم في المغرب إلا وهو مطلع على نيات فرنسا وعلى مراميها من جهة هذا النظام الجديد لأمة البربر، وليس فيهم إلا من هو عارف بوجود جيش من القسوس والرهبان والراهبات يجوس خلال بلاد البربر ويبني الكنائس ويصيد اللقطاء والأيتام والفقراء وضعفاء الإيمان. إلى أن يقول عن هؤلاء الخونة: .. أخزى الله الذين منهم في المشرق والذين منهم في المغرب ممن يوقعون على اقتراحات الأجانب المضرة بالدين والوطن) ص 92 - 93.

ويورد رشيد رضا في الصفحة 66 من كتاب شكيب أرسلان المذكور هامشا تحت رقم 13 يقول فيه:

(وقد منعوا الوعاظ في شهر رمضان من الذهاب إلى بلاد البربر وكانوا يحبسون من يخالف هذا الأمر وقد أقفلوا مئات من الكتاتيب القرآنية في المغرب ومئات من مثلها في الجزائر وأغلقوا دار الحديث في تلمسان واحتجت على ذلك علماء المسلمين في الجزائر فما سمعوا لها كلاما "أصر بعض رجال الدين الإسلامي في الجزائر على تعليم القرآن للأحداث فحاكموهم وحكموا عليهم بالسجن أربعة أشهر بحجة أنهم خالفوا الأوامر

ص: 62

الصادرة. وهلم جرا).

وطبعا فإنني هنا لا أفاضل بين دين ودين .. لكن التبشير الفرنسي الديني والذي ازداد نشاطه في العقد الأخير من القرن العشرين حين اضطرب المن في الجزائر وساءت أحوال الناس الاقتصادية، كان ولا يزال ككل تبشير استعماري، هو التفتيت للوحدة الفكرية للعرب والبربر خصوصا .. ذلك أن البربر ولنحدد هنا الزواوة هم على وحدة فكرية واحدة، فهم مسلمون سنة وهم بذلك يلتقون تماما مع الوحدة الفكرية للأمة العربية حيث أن 80% من العرب هم مسلمون سنة "الذهب الشيعي ينشر معظمه خارج الوطن العربي". وهذا التوحيد مع العرب له أسبابه، فكما ارتبطت النصرانية والتنصير في هذا العصر بالاستعمار الفرنسي ارتبطت في القرون الميلادية الأولى بالاستعمار الروماني بيزنطيا وغير بيزنطي، كما أن عدم الالتقاء السلالي مع الأوربيين نفر البربر منهم ويقول د. سعد الدين إبراهيم وهو باحث أمريكي من أصل مصري لم يعرف عنه الدفاع عن العروبة والإسلام، يقول في كتابه "تأملات في مسألة الأقليات" ص 86.

(والبربر هم جماعة إثنية أصلية في شمال أفريقيا، وكانوا يمثلون أغلبية السكان الأصليين حينما وفدت إليهم جيوش العرب المسلمين في القرن السابع الميلادي، ولأنهم سلاليا ينتمون إلى الأسرة الحامية - السامية أو الحر متوسطية التي ينتمي إليها العرب، ولأن معظم النظريات عن أصولهم ترجع لهم إلى الجزيرة العربية أو الفينيقيين، فقد سهل ذلك في عمليات التفاعل والمصاهرة والتعريب والأسلمة).

ص: 63

وهكذا فإننا إذا اعتبرنا أن البربر قومية أخرى غير القومية العربية، فإنهم يرتبطون مع العرب بالوحدة الفكرية، فضلا عن الاتصال الجغرافي، وهذا ما أقلق ويقلق الاستعمار، لذلك كان ولا يزال يسعى لخلق قومية بربرية مسيحية، وهذا يعني أن القومية البربرية نفسها لن تكون موحدة بل على الأرجح أنها ستندثر لأن عملية تمسيحها إذا أخذنا بالاعتبار عدد الزواوة الذين تمسحوا خلال قرن ونصف القرن - لن تقم قبل 40 قرنا قادمة، وهذا يعني أن البربري سيفقد وحدته الدينية والتربوية حتى مع نفسه فتقوم الحروب بين كل دشرة وأختها وتهجم تيزي وزو على بجاية وعزازقة على أزفون فيندثر البربر في سنوات قليلة.

فالأمير عبد القادر هو ابن الزاوية القادرية في غربي الجزائر وكان الشيخ محمد المهدي السكلاوي رئيس الزاوية الطريقة الرحمانية في منطقة الزواوة ومساعد الشيخ محمد المبارك وأحمد بن سالم هم السند القوي للأمير في الكفاح الذي عم قطرنا الجزائري، ويكفي أن الأمير عبد القادر تمكن من زيارة منطقة القبائل عام 1837 ونظم أمور المقاومة فيها ولم يشر به ذلك الجنرال الأخرق "بيجو" الذي هدم مئات القرى الزواوية وزواياها.

إن دور الزاوية في الكفاح دور لا يجحد، بل أن الزواية في الجزائر وفي المشرق العربي منبع الحركة القومية العربية وليس كما يدعي مؤرخو الغرب.

ولتوضيح هذه النقطة كنت أود لو أن شيخنا الزواوي قد تطرق لدور الزواوة في إعادة فتح الزوايا في دمشق التي أغلقها الترك وقبلهم المماليك،

ص: 64

ولعلي أذكر هنا أن الزاوية الصمادية في دمشق كانت قد أغلقت وحولها الأتراك إلى إسطبل فأعاد فتحها الشيخ محمد بن يلس إثر هجرته من تلمسان ويمكن الرجوع في ذلك إلى جريدة المقتبس الدمشقية، أما الزاوية الخيضرية فيها، فقد فتحها الشيخ محمد المهدي السكلاوي، أما دار الحديث فقد سمح الأتراك بتحويلها إلى خمارة فاشتراها الأمير عبد القادر وأرجعها إلى سابق عهدها دار علم ويمكن الرجوع في ذلك إلى كتاب "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر" للشيخ عبد الرزاق البيطار، أما المدرسة الجقمقية فقد تولى الأمير نفسه التدريس فيها وتلميذه فيها الشيخ طاهر الجزائري، ولما تزال قائمة قرب قصر صلاح الدين الأيوبي، فهي الآن متحف للخط العربي.

ومن المعروف أن الاستعمار الغربي قبله الاستعباد التركي حاول في كل من المغرب والمشرق تدمير وإغلاق هذه الزوايا، وفي أقل الأحوال صرفها عن أداء دورها العلمي والقومي فتحولت إلى ما يعرف في الجزائر بالطرقية وفي المشرق بالدروشة، وصار الطرقيون والدراويش، بعد أن حرفوا التصوف إلى مجرد طقوس، عونا للاستعمار وكما شن ابن باديس الصنهاجي حملته ضد الطرقية ونشر التعليم وناضل من أجل العربية والعروبة في الجزائر، فعل الشيء نفسه في المشرق العربي الشيخ طاهر الجزائري وشن حربه على الدراويش وعصرن التعليم وأعاد للعربية رونقها ووقف ضد سياسة التتريك .. وهو مؤسس جمعية النهضة العربية التي انبثقت عنها الأحزاب القومية في المشرق العربي وشيخنا أبو يعلى الزواوي نفسه من مؤسسي جمعية العلماء المسلمين في الجزائر التي حاربت الطرقية

ص: 65

والدراويش وانحرافاتهم.

وكنت أتمنى لو تحدث شيخنا أبو يعلى الزواوي عن المؤلفات العلمية في الطب والفلك وما إلى ذلك من علوم التي أنجزها رجال الزواوة من أبناء هذه الزوايا من أمثال إبراهيم بن جابر الزواوي، إبراهيم بن قائد، إبراهيم بن بهلول، أحمد بن صالح الزواوي، أحمد بن الطيب الزواوي، أحمد أبو العباس الزواوي، بلقاسم بن محمد الزواوي، عبد الرحمان بن عبد الله الغماري الزواوي، عبد السلام بن سيد الناس الزواوي، عبد الله بن عبد الله المحفوف الزواوي، وغيرهم خلق كثير ممن أبدعوا وألفوا في العلوم البحتة والعلوم الدينية والعلوم اللغوية ويمكن للمهتم بهذا الموضوع من الدارسين أن يرجع إلى المراجع التالية:

1 -

تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر.

2 -

تراث العرب العلمي/ قدري حافظ طوقان.

3 -

تنوير البصائر بسيرة الشيخ طاهر.

4 -

حاضر العالم الإسلامي.

5 -

خزائن الكتب العربية في الخافقين.

6 -

دائرة المعارف (للبستاني)

7 -

دائرة المعارف الإسلامية.

8 -

دليل مؤرخ المغرب.

9 -

سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر.

10 -

حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر.

ص: 66

11 -

كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون.

12 -

الأعلام (للزركلي).

13 -

معجم المؤلفين (فروخ).

14 -

أعلام الجزائر.

15 -

علماء بجاية.

16 -

تذكرة الورتلاني.

17 -

شجرة النور الزكية.

18 -

تعريف الخلف.

19 -

التبصرة في القرآن.

ولعل كتاب ابن خلدون هو دليل آخر وهام على أهمية علماء الزواوة فأشياخ ابن خلدون منهم، وخاصة شيخه أحمد إدريس الزواوي .. وقد علمت خلال كتابة هذا التعليق أن ثمة كتاب لباحث جزائري يسمى "أعلام من الزواوة" قيد الطبع والباحث هو الأستاذ أحمد ساحي .. وقد صدر فعلا قبل طبع هذا الكتاب، وهناك مراجع كثيرة أخرى تدل في نهاية التحليل على أن الجهد الحضاري للبربر كان في إطار الحضارة العربية .. وهذه الحضارة تضعهم موضع الصدارة منها فهم مؤسسون فيها .. فلماذا يراد لهم اليوم

التخلي عن جهدهم الحضاري هذا (وإلحاقهم بأوروبا التي من المؤكد أنها لن تقبلهم، كما فعلت بالأتراك قبلهم) فمادام البربر قد استعربوا (حتى وإن لم يكونوا عربا) وصنعوا حضارة عربية، وبإمكانهم اليوم تجديدها وقيادتها فما هو الداعي لزرع الفتنة بينهم وبين العرب!!

ص: 67

إن موقع الإنتاج الثقافي الحضاري "الزوايا" في بلاد المغرب والمشرق كان دائما مستهدفا من الأجنبي سواء كان مملوكيا أو تركيا أو أوروبيا ومر بنفس المعاناة تقريبا، ونفس النظام حيث الطالب فيه يمكنه أن يظل "طالبا" طوال عمره والشعب يكفيه مؤونته، وهو مطالب في كل الأحوال بالإنتاج العلمي سواء كان شفويا أو خطيا .. وهذا التفرغ للعلم لم تعرفه أوروبا وعرفته زوايانا في المغرب والمشرق وقد شجع ابن جبير في كتابه المعروف "رحلة ابن جبير" طلبة العلم من أهل المغرب على طلب العلم في زوايا المشرق ويخص منها تلك التي في دمشق حيث يشير أنها تكفي طالب العلم مؤونته إذ يقول في ص 258 طبعة الجزائر (فمن شاء الفلاح من نشأة مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المعينات كثيرة، فأولها فراغ البال من أمر المعيشة وهو أكبر الأعوان وأهمها) ومن المعروف أن ابن جبير ولد عام 1145م في الأندلس وتوفي بالإسكندرية عام 1217م.

وهكذا فإن نظام الزوايا الموحد مشرقا ومغربا نظام حضاري عربي إسلامي موجود في تيزي وزو قبل أن توجد باريس نفسها!! ومع ذلك يقولون عنا أننا بربر ويقصدون أننا همج، فورب جرجرة لم تعرف البشرية همجية أكثر من همجية المستوطنين والمستعمرين الذين هدموا هذه الزوايا سواء في المشرق أو في المغرب وصرفوها عن رسالتها العلمية.

ويمكن القول أن الباحث الجزائري خصوصا والعربي عموما مقصر في مسألة البحث في دور الزوايا والكتاتيب، العلمي والديني والسياسي والاجتماعي وهو تقصير له بعض الأسباب العلمية والعملية، مثل عدم توافر بعض شروط

ص: 68

البحث وهي أسباب يمكن تداركها، غير أن هناك من الأسباب ما يدخل في محاولة طمس التاريخ مثل الاعتقاد بأن هذه البحوث تؤدي خدمة للفكر غير العلمي، أو أنها تثبت عروبة البربر، أو أنها لا ترضي فرنسا، أو أنها تشجع الطرقية والدروشة، وما إلى ذلك من أسباب أقل ما يقال فيها أنها خدمة للمستعمر .. ذلك أن النظام التربوي في زواوة أو ردفان لم يدرس بعد، وها هي المدرسة الجزائرية والمدرسة في عموم الوطن العربي، تعاني من مشكلات حقيقية، لأن نظامنا التربوي الحالي مغربا ومشرقا هو نظام غير مرتبط بالجذور، بل هو مستورد أصلا، وبالتالي فإنه غير ناتج عن تراكم .. وسنظل نعاني من هذه المشكلة ما لم تعقد دراسات علمية جدية حول "النظام التربوي العربي" أعتقد أنها مهمة مركز دراسات الوحدة العربية .. فمن المعروف لدينا أن هناك مؤتمرات تنعقد لوزراء الداخلية العرب ولوزراء الإعلام، أولائك يقمعون وهؤلاء يكذبون .. أما وزراء التربية فقلما يجتمعون .. أليس ذلك بملفت للنظر؟!

وحتى لا يتوهم القارئ، أقول بأني لم أدرس في زاوية ولم أدخلها إلا كما يدخلها الزائر، ولكنها تراث شعبي الذي في بجاية وعزازقة والقدس ودمشق واليمن، فليس صحيحا أن لا أحاول فهم هذا التراث وهذا النظام التربوي الذي قاوم الفرنسة مغربا والتتريك مشرقا وكان أبطاله في الحالين زواوة أمازيغ!! لابد أن فيه من الثراء ما يصلح في هذا الزمان ويثريه ويطوره، كما فيه ما لم يعد صالحا لا لهذا الزمن ولا للزمن السابق، وإني أعتقد أن هذا الأسلوب الصحيح لتطوير المنظومة التربوية (المدرسة) في الجزائر والوطن

ص: 69

العربي عموما .. يبدأ من نقطة الدراسة العميقة للنظام التربوي القديم المعمول به منذ عشرات القرون، دراسته بعمق عند أبي حامد الغزالي، والكسائي، وابن خلدون .. في المدرسة المستنصرية في بغداد وفي مدرسة النجف ومدرسة القيروان وبجاية وتلمسان وفاس وربطها بهذا العصر ومستجداته إذ أن ذلك النظام التربوي هو الذي أنتج علماء ما نسميه الحضارة العربية الإسلامية. بينما المنظومة التربوية ومناهجها التي رسمها الإنجليز في مصر والفرسيون في الجزائر لا تبدو ناجحة هذه الأيام ولا تبدو كمدرسة متنورة بينما تبدو المدرسة أو المنظومة التربوية التي وضع أسسها الشيخ طاهر الجزائري ثم جودت الهاشمي الينيوي في بلاد الشام تحمل نجاحا نسبيا في التنور أفضل منهما وهي ملاحظة تستحق الدرس من قبل المهتمين بالمنظومة التربوية، إذا كانوا يقصدون توحيد المجتمع الجزائري مع تراثه ومع العصر لا تمزيقه وتفتيته، فالمدرسة التي لا توحد الشعب لا يمكن أن تستمر .. ولعل هذا يفسر استمرار الزواي رغم ما حل بها من تحريف وانحراف وتخريب وكلها أشياء تحدث عنها أبو يعلى الزواوي في فصله هذا تصريحا أو تلميحا .. لقد حافظت "الزوايا" رغم جمودها على الوحدة التربوية للبربر مربوطة بالوحدة التبروية للعرب، كما تظهر ذلك الكتب المقررة التي تحدث عنها المؤلف وهذه

الوحدة .. وهذا الربط ألا يستحقان الدراسة؟!!

والطريف أن بعض "أذكياء" الاستعمار يظهرون غباء خارقا للعادة حيث يقول بعضهم أن للبربر عادات قديمة مسيحية الأصل.

ص: 70

ومن المعروف أن هذه العادات عربية قديمة لما تزل لها مثيلاتها في هذه المنطقة أو تلك من مناطق المشرق العربي، والمسيحية نفسها ديانة عربية أرامية، كما اليهودية .. ولعل المدقق والمتفحص لعادات الشعوب القديمة في جبل الأطلس وجبال لبنان وعسير وردفان يجد تشابها كبيرا، لنأخذ مثلا نظرة القداسة للماء، بل أن هذه النظرة تشبه نظرة تقديس الماء عند الهنود

لقد دافع الزواوة عن دينهم، ولعلهم كانوا أكثر دقة في تحديده فالزواوي العادي لا يفرق بين العربي والمسلم، فما دام 80% أو أكثر من العرب هم من المسلمين أفلا يصح تسميتهم بدينهم، أو لا تتبع القلة الكثرة ويعتبر ذلك في هذا العصر من أصول الديمقراطية؟ والزواوة أبدعوا داخل هذا الفهم "العربي - الإسلامي" في مختلف مجالات العلوم، بل لا نكاد نجد لهم إبداعات حضارية ونظاما تعليميا خارج الحضارة العربية، رغم ما تحاوله بعض الأبحاث المشكوك في نزاهتها

ويذكر أبو يعلى في فصله المخصص للزوايا عند الزواوة عددا من العلماء الذين تخرجوا من هذه الزوايا ويذكر أهمية الزاوية كمدرسة وجامعة ومسجد ومأوى للغرباء والمسافرين وهو يفاخر بها ويعتز، خاصة وأن هذه الزوايا تقوم على نظام شعبي حضاري لم تعرفه أوروبا إلا في عصورها المتأخرة هذه.

وكم كنت أتمنى لو أن مؤرخنا أفاض بالحديث عن هذه النقطة، ولعل عذره هو أنه يكتب في ظروف جد صعبة فالاستعمار الاستيطاني الفرنسبي قد ظهر في أعقاب الحرب العالمية في أكثر صوره شراسة ضد الشعب الجزائري وخصوصا الزواوة وزواياهم فقد دمر حتى ذلك الوقت آلاف القرى والمداشر

ص: 71