الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فضل علم التاريخ
إن فضل علم التاريخ لا ينكر وفوائده تذكر فتشكر، وقد نوه به جمع المؤرخين في كتبهم، ولم أرد استيعاب ذلك لشهرته، وعلي أن قصدي الاختصار، والإتيان بكلام جديد، لعلي بذلك أفيد وإلا فشيخ التاريخ ابن خلدون رحمه الله قد أتى في خطبته في الموضوع بما هو كفاية لمن يريد أن يكتفي، وإنما رأيت كلامه وكلام غيره من السادة المؤرخين قد لا يفي بمقصودنا بسبب الحوادث التي لم تحدث لهم وذلك معنى قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تحدثون ويحدث لكم. وكذلك قول من قالوا بلزوم الاجتهاد في كل عصر وفي كل قطر. وعلى هذا فالذي حدث لنا والذي نجتهد فيه رد أقوال جمهور من أهل وطننا هذا ممن يظن منهم أنهم من أهل المعرفة فقهاء وطلبة العلم بأن علم التاريخ غير مطلوب وأنه قصص وأساطير الأولين كما قد أشرنا في الخطبة وأنه سهل ليس بأن يدرس إلى غير ذلك مما قالوا ولقد قالوا مثل ما قيل الأولون ما ذكر في القرآن وكفى هذا ردا عليهم ولكن لابد من زيادة بيان للاقتناع والارتداع فنقول:
المرأة تلد الرجل طفلا والتاريخ يجعله رجلا أن فضل علم التاريخ لا يحصر فيحد، ومنافعه لا تستقرأ فتعد، وإنما هي بالإجمال تميز الفضيلة من الرذيلة، والمحمدة من المذمة، والشجاعة من الجبانة، والشهامة من السفاهة، والنجابة من الدناءة، والكرامة من اللأمة، والرفعة من الحطة، والنباهة من البلاهة، والعبرة من العظمة، بل الحياة من الممات، إلى غير ذلك من المحاسن
والأضداد، مما عليه تقام القصور وتشاد، ونقدم طوائف وتؤخر أخرى وتذاد، إذ به تحي الأجناس أو تموت الماس، إذ هو للعقلاء معيار وقياس، وللسخفاء ممات وإفلاس، ومع أنه علم طبيعي في الخليفة والأجيال، تتشبث به السوقة والأقيال ذلك بأنهم ذوو المقاصد والآمال، والرغبة والرهبة فيما هنالك من الأعمال، والتشوق إلى ذكر غريزي المنوال، عزيز النوال، ليستفيد العارف ويفيد، ويقتدي بكل فعل حميد، وينبذ كل شائن حصيد، ويتخذ المنقى بين قديم وجديد، وأيد هذا كله الكتاب والسنة، وقال جل شأنه في غير ما آية:{لقد كان في قصصهم عبرة} وقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} وقال: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} وقال إمام المفسرين ابن جرير الطبري في تفسير الآية: {نحن نقص عليك} أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا يا رسول الله حدثنا فأنزل الله عز وجل أحسن الحديث ثم ملوا ملة أخرى فقالوا يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن يعنون القصص فانزل الله: {الر * تلك آيات الكتاب المبين} . قلت وهذا صريح في أن علم التاريخ علم جليل القدر والفائدة، عظيم النفع والعائدة، وهو مطلوب، ويفيد هذا النقل أن ليس علم فوقه سوى القرآن وعلى أن القرآن نفسه تاريخ وعبر، وديوان المبدأ والخبر، ليتذكر أولو الألباب وقال تعالى:{لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} . {ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} .
وأن مواعظ القرآن وعبره لا تعادلها مواعظ أخرى وعبرها فلذا قال صاحب بانت سعاد يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ
…
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
وبالجملة إن نكراننا علم التاريخ لإحدى الكبر في هذا العصر، نذيرا للبشر، لمن شاء أن يتقدم أو يتأخر، إذ من الفطرة السليمة التشوق وحب الإطلاع إلى بدء الخليقة وإلى انتهائها، وفي ذلك يقول أصدق القائلين:{قل سيروا في الأرض وانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة أن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون} وقال جل شأنه: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} وفي الحديث «كان الله ولا شيء غيره» وقال الطبري في تفسير هذه الآية: (حدثتا خلاد بن أسلم قال أخرنا النظر بن شميل قال أخبرنا المسعودي قال أخبرنا جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن ابن حصين وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرجوا من عنده وجاء قوم آخرون فدخلوا عليه فقالوا جئنا نسلم على رسول الله ونتفقه في الدين ونسأله عن بدء هذا الأمر قال فاقبلوا البشرى إذ لم يقبلها أولئك الذين خرجوا قالوا قبلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولا شيء غيره وكان عرشه على الماء» وكتب في "الذكر قبل كل شيء ثم خلق سبع سماوات ثم أتاني آت فقال تلك ناقتك قد ذهبت فخرجت ينتقطع دونها السراب فوددت أني تركتها له".
إن علم التاريخ يزيد في العقل والإيمان ويزيد في العلم والعمل ويورث الشهامة والشجاعة إذ تنير قضايا ثائرة الحماس في الغيورين، ويحرك ما سكن في الخاملين ويحمل ذوى الهمم العالية على المطالبة بمجد الأولين والحاضرين، ويثبت الأقدام عند الدفاع ويعير ما كان للأسلاف مما شاع وذاع، ويستجد المجدد ذا الشرف في الأمم، ويوقظ النائمين وينبه الغافلين، ذلك بأنهم إذا ذكروا بشرهم وكرمهم تنافوا فيه، وإذا عبر أحدهم بمذمة نعروا عليه، وقد اعتبره المتأخرون حياة الأمم أو موتها مثل اللغة يقولون لا حياة لأمة ماتت لغتها وكذلك لا حياة لأمة مات تاريخها ومن منافع علم التاريخ من لوازم علم الحديث ومعياره لمعرفة رجاله الأثبات والثقات لكيلا يدخل الحديث الزور والتوليج ومعرفة الناسخ والمنسوخ وهذا ركن مهم في الأصول وتأسيس الأحكام الشرعية وكذلك معرفة الأنساب للحديث (تعلموا من أنسابكم ما تصلوا به أرحامكم) وكذلك معرفة الوقايع والأيام وإن جهل النسب خسارة كبرى، وجهل الوقائع مذمة عظمى، وبالأخص نسب الشرفاء وسببهم الذي لا ينقطع فكيف والحالة هذه لا يعتني بالتاريخ؟ وهو إذا تعالت الفنون كان أعلى من المريخ، .. وقد عرف فضل التاريخ الإفرنج ودرسوا ما فيه، واستخرجوا كنوزه ومعانيه، ودونوا محامده ومساويه، وبينوا أصوله وقواعده، وحققوا فروعه ومذاهبه، وقسموه إلى أقسام، منه خاص وعام، ومعروف ومجهول، ومنبوذ ومعقول، فمنه طبعي ومنه جغرافي إلى غير ذلك مما تدبروا وتبصروا منه فأفادهم إرشادا وأدبا، وصار عندهم فرضا لا ندابا، ونجد أعلم علمائنا إذا تناظر مع أي علم من علماء أوروبا في شؤون التاريخ
والعمران وبدء الخليقة أو طبيعة الحيوان والبلدان إما يخبط خبط عشواء أو لا يدري ما يقول فيضحي أحصر من بأقل، أمام سحبان وائل، هذا ما يقال للذي يزدري علم التاريخ إن كانت له غيرة وحمية وإن الذي لا يبالي بما قيل فيه، فهو إما جهول أو سفيه، وسيان عنده، الحياتان الطيبة والخبيثة، وفي مثل هذا يقال ليس بحي فيرجى، ولا بميت فيرثى، إذ التاريخ كرامة ولا يأبى الكرامة إلا لئيم، ولا يغفل عن أصله إلا زنيم، ولقد أحيا التاريخ عدة أمم من أوروبا في هذه الحرب وقبلها فأحيا بولونيا وبولاندة وأوكرانيا وغيليسيا والسرب قبل واليونان والبلغار وكانت هذه كلها تحت الدولة التركية أكثر من مئة سنة وأحيا أرمينية وأحيا الحجاز المقدس وسورية والعراق ومصر المباركة وأزيدك
أن بسبب مجد أمة صغيرة وتاريخها قامت هذه الحرب على ساق وهي أمة السرب قام شاب من شبانها انفعل لها فصوب مسدسا له نحو أمير من أمراء النمسا وزوجته فقتلهما انتقاما لجنسه واسم هذا الشاب الذي جر هذه الحرب العظمى التي لم يشهد التاريخ مثلها "جافر يو اير بنسيب" وأنه لجدير أن يضرب به المثل في الشئوم فيقال: "أشأم من جافر يو" كما قيل أشأم من البسوس في المثل العربي. ترى قائدا من قواد الحرب أو شاعرا أو شريف قوم في إلقاء خطبة وجيزة يذكر مجد القوم وتاريخهم أو واقعة من وقائعهم الشهيرة فيحرك فيهم ما سكن فتأخذهم النخوة والمعرة فيستميتون بحماس فيندفعون إلى ساحة الوغى بلا أدنى مبالاة بالممات، أو يجعل قيمة الحياة، ذكر المؤرخين أن نحوا من ثمانين عظيما من عظماء بني أمية بمد سقوط دولتهم كانوا في مجلس أبي العباس السفاح أول خليفة من بني العباس فكان قد ثم
الصلح فقدم الشاعر مولى أبي العباس المسمى سيف فاستأذن فأذن له ودخل متلثما فشال اللثام وأنشأ يقول:
أصبح الملك ثابت الأساس
…
بالبها ليل من بني العباس
بالصدور القدمين قديما
…
والرؤس القماقم الرؤاس
إلى آخر القصيدة التي منها:
واذكرن مصرع الحسن وزيد
…
وقتيلا بجانب المهراس
فلما انتهى تغير لون الخليفة أبى العباس وامتقع فتذكر الوقائع التي أشار إليها الشاعر وذكره فيها وهي موت بل قتل الحسين وزيد وحمزة من بني هاشم رضي الله عنهم فأمر الخليفة بقتل أولئك العظماء الحاضرين من بني أمية شر قتلة وأكلوا طعاما وشربوا ماء عليهم هنيئا مريئا وربما سمعوا أنين من بقي منه رمق الحياة ولم يشفقوا بل قالوا ما أكلنا طعاما أهنأ ولا أمرأ من هذا، وأمثال ذلك كثيرة في عبر التاريخ وبالجملة ليس من شأن العقلاء العارفين ولا من شأن ذوي الهمم الغيورين كيف لا يعتبر المسلم التاريخ إذ كان أوائله غير مسلمين وكانوا وثنيين أو مجوسين لا شريعة يعملون بها ولا حكمة يهتدون بنورها وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم الله منها بإرسال رسول الله فهداهم على يده وأحدث انقلابا عظيما في العالم عموما وفي العرب خصوصا وأسس شريعة غراء في جبهة الدهر، وتاريخا يعد قمرا منيرا بين النجوم الزاهرة، ثم كيف يغفل المسلم عن درس التاريخ وفيه سيرة نبي خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم. كيف كان وأصحابه الذين فتحوا العالم في مدة ربع قرن