المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محامد الزواوة وخصائصهم - تاريخ الزواوة

[أبو يعلى الزواوي]

الفصل: ‌محامد الزواوة وخصائصهم

النعمان القبلي - الملك - الذي كان بحضرموت وثبت أن الزواوة من كتامة وصنهاجة كما تقدم بإجماع المؤرخين تقريبا ثم إذا أضفنا إلى ذلك حكم الاستعراب الذي لا ينخرم ولا ينهدم لما ثبت أن العدنانيين مستعربون لأنهم من ولد إسماعيل فعرب فالنبي صلى الله عليه وسلم إذن من العرب المستعربة لأنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم وبه تم الشرف للعدنانيين والقحطانيون أعرق في العربية من العدنانيين وهم بنوا هود عليه السلام كما تقدم وأن حكم الاستعراب ينسحب على المتدين بالإسلام والمتخذ للقرآن وللعربية لسانا وسميا في معاملاته ومكاتباته ودراسته فالزواوة إذن عرب مستعربة وعرب عاربة بأصلهم المتقدم ثم إن كثيرا من الأخلاق والعادات والطباع في البربر متماثلة ومتمازجة بطبائع العرب كاتخاذ البيوت من الشعر والوبر والطين والحجر والظعن والإقامة، وكسب الشاء، وحلق الرأس، والشجاعة، والكرم، والقرى، والانتجاع والارتياد، وركوب الخيل، وكسب النعم، الإبل والبقر، والغنم، إلى غير ذلك مما لا يكاد يستقرأ وكلها أحكام الاستعراب والله يحكم لا معقب لحكمه وهو جل شأنه سريع الحساب.

‌محامد الزواوة وخصائصهم

وأعني بالزواوة في هذا الباب المشهورين الآن بمذا الاسم قبائل الزواوة لا جملة قبائل كتامة وصنهاجة على طريقة الأصل الجغرافي كما تقدم أنهم منبثون من طرابلس الغرب شمالا وجنوبا إلى المغرب الأقصى الذين منهم الشاوية والزناتة والملثمون وقبائل الحضرة فأقول: محامد الزواوة جمعهم أشتات محاسن العرب والعجم والبربر فتجدهم عربا في الشجاعة والكرم وشدة الأنفة والغيرة

ص: 101

وإباية الضيم وحماية الجار والذمار والمحافظة على الأعراض والنزوع إلى الحرية إلى غير ذلك مما يلزم الفخر العربي كما ورد في الحديث «إذا سألتم الحوائج فاسألوا العرب فإنها تعطي ثلاث خصال كرم أحسابها واستحياء بعضها من بعض والمواساة لله» مع الأوصاف والعادات المتقدمة في آخر الفصل الذي قيل هذا. ونجدهم مثل العجم في الشؤون الاجتماعية والمدنية من الصنائع والحرف وسائر الأعمال كالزراعة والتجارة والكد والجد من أعمال اليد وبالأخص النظام والثبات في القتال صفا فهم في ذلك كله كما يصدق عليهم الحديث الوارد في العجم روي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه (تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الجمعة فلما بلغ {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال له رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لما يلحقوا بنا فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان رضي الله عنه فقال «والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» وفي أخرى «فارس» وعنه أيضا - أبي هريرة رضي الله عنه قال ذكرت الأعاجم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم «لأنا بهم أو ببعضهم أوثق مني بكم أو ببعضكم» رواه الترمذي وعن المستورد القرشي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «تقوم الساعة والروم أكثر الناس» قال عمرو بن العاص أبصر ما تقول قال أقول (سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن قلت ذلك أن فيهم لخصالا أربعة إنهم لأحكم الناس عند فتنة وأسرعهم إفاقة عند مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة وأجبرهم لمسكين ويتيم وضعيف وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك» رواه مسلم.

ص: 102

قلت أود أن يعلم هذا الحديث ناس من العرب عرفتهم هنا بالجزائر وطننا هذا وفي الشام وفي مصر كثيروا الاستخفاف بالعجم من الروم والإفرنج وفارس والبربر ولا يرون لهم فضلا فأصمهم الله وأعمى أبصارهم الجهل والتعصب ولكم خاصمتهم وجادلتهم وجدلتهم فتمادوا في العناد والمماراة واحتججت عليهم بما لابن خلدون فأذوه وهو ميت فدافعت لهم لو كان ابن خلدون حيا ما تجاسرتم على مناظرته وما أحسن ما حكي عن ابن مالك صاحب الألفية فإنه لما قال أن ألفيته أفضل من ألفية ابن معطى الزواوي فقال: "فائقة منها بألف بيت" توقف في هذا المصراع ولم يفتح عليه فرأى رجلا في المنام توسم منه العلم فقال له أنه أخذ في نظم ألفيته في النحو خير ألفية ابن معطى إلا أنه توقف في المصراع الأول من رجزه ذلك فسأله الرجل كيف توقفت فقال قلت: "فائقة منها بألف بيت" فقال له الرجل افتح عليك وقل "والحي قد يغلب ألف ميت"(1) أقول هذا ما أقول لجموع المغرورين وأمر بهم مر الكرام باللغو فإنهم لا قيمة لهم للجدال ولا للهجو ومن يضلل الله فلا هادي له ونذرهم في طغيانهم يعمهون وإنما يغيظنا أنهم يضلون الأمة العربية بإيهامهم أنهم غيورون على العرب يدافعون عنهم فينفعونهم وهم يضرونهم ذلك بأن طمس الحقائق من أكبر الغرور وأضره وفي مثل ذلك قال القائل:

هل تطمسون من الماء نجومها

بأكفكم أو تسترون هلالها

أو تبعدون مقالة عن ربكم

جبريل بلغها النبي فقالها

شهدت من الأنفال آخر آية

بتراثكم فأردتم إبطالها

(1) فنبهه عند ذلك ابن مالك فرجع وقال: (وهو بسبق جائز تفضيلا ........)

ص: 103

وتجدهم مثل البربر في شدة الحياء والمحافظة على العرض والصبر على الشدائد واحتمال المكاره والكد والجد في سبيل الأسرة (العائلة) والحياة الأهلية والجماعية والعصبية وذلك أن للبربر خصائل تذكر فتشكر فشيخ التاريخ العلامة ابن خلدون أبصر بهم لأنه تقلب في مواطنهم وتولى وظائف دولهم ونقب في بلادهم وضرب في عرضها وطولها كما تقدم فقال محامدهم: وأما تخلفهم بفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة وما جبلوا عليه مرفاة الشرف والرفعة بين الأمم ومدعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار وحماية النزيل ورعي الذمة والوسائل والوفاء بالقول والعهد والصبر على المكاره والثبات في الشدائد وحسن الملكة والإغضاء عن العيون والتجافي عن الانتقام ورحمة المسكين وبر الكبير وتوقير الدين وحمل الكل وكسب المعدوم وقرى الضيف والإعانة على النواب وعلو الهمة وإباية للضيم ومشاقة الدول ومقارعة الخطوب وغلاب الملوك وبيع النفوس من الله في نصر دينه فلهم في ذلك آثار ينقلها الخلف عن السلف لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون أسوة لمتبعيه من الأمم أو حسبك ما اكتسبوا من حميدها واتصفوا به من شريفها أن قادتهم إلى مراقي العز وأوفت بهم على ثنايا الملك حق علت على الأيدي أيديهم ومضت في الخلق بالبسط والقبض أحكامهم وكان مشاهيرهم بذلك من أهل الطبقة الأولى بلكين بن زيري الصنهاجي عامل افريقية للعبيديين ومحمد بن خزر والخير ابنه وعروبة بن يوسف الكتامي القائم بدعوة عبيد الله الشيعي ويوسف بن تاشفين ملك لمتونة بالمغرب وعبد المؤمن بن علي شيخ الموحدين وصاحب الإمام المهدي إلى آخر ما عبر وخبر رحمه الله.

ص: 104

ومن محامد الزواوة الإذعان للشرائع المنزلة والقوانين الوضعية والامتثال لأوامر الله من الأحكام الفقهية والانقياد إلى التحاكم إذا قال أحدهم لأحد تعال إلى النبي يعني إلى شريعة النبي ينقاد حالا ولا يتخلف ولا يستخف وإنما ولاتهم في العهد الأخير أضلوهم وأفسدوا آدابهم وملكاتهم وأساءوا التصرف فيهم فتبعة ذلك عليهم وذلك بأن من محاسنهم أيضا الانقياد للعلماء والشرفاء والمرابطين والصلحاء ويحترمونهم ويخدمونهم خدمة خالصة ويلتزمون لهم بالعطايا من أرزاقهم وأموالهم عن طيب نفس رجاء رضائهم وبركاتهم وإن الزوايا الكثيرة في بلادهم قيامها وقوامها منهم يخدم ملتهم وتخصيصات من أموالهم ولولا فساد التصرف وسوء الإدارة من أولياء الأمور لأنتج ذلك رجالا في كل فن ولكن مصيبة سوء الإدارة وفساد التربية والتعليم التي أصابت العالم الإسلامي لم تخطئهم ..

قف وتأمل وإن غالب الدول الني قامت دعواتها بأفريقية لم تك لتفوز لولا تعضيد الزواوة لها كما تقدم. وأما خدمتهم للشرفاء وآل البيت فحدث ولا حرج قال العلامة ابن خلدون بايع البربر إدريس الأصغر حملا بم رضيعا ثم فصيلا إلى أن شب فبايعوه بمدية (وليلى) وفي الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى أن إدريس وفدت عليه قبائل الزواوة والزواغة لينصروه اهـ قلت أن دولة الفاطميين التي قام بدعوتها من تقدم ذكرهم فاندفعت بجحافلها لم تقف دون الإسكندرية ومصر والشام بل وصلوا الموصل وتعدوا إلى اليمن أصلهم الأول، فكان ذلك بالقبيلتين العظيمتين كتامة وصنهاجة خدمة للفاطميين أولاد

ص: 105

فاطمة رضي الله عنهما ابنة محمد صلى الله عليه وسلم ففي ذلك السبيل اندفعوا سكارى وما هم بسكارى.

وأن الفتح الأول لأندلس كان بأحد عشر ألف من البربر بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير ولقد أنقذوا عرب الأندلس مرارا فاحتلوه بأميرهم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي أجمع المؤرخون على فضله والإعجاب به حتى أن الإمام الغزالي تمنى الاجتماع به وجهز للسفر إليه. ومن أدلة شجاعتهم وخصائصهم في ذلك ما حكي المؤرخون بإسهاب وإطناب ثم أن الواقعة الأخيرة المشومة الملقبة بواقعة العقبان لم ينج منها بربري واحد شهدها وهلك معهم من إخوانهم عرب افريقية جمع كثير وكانت تلك المصيبة بخيانة عرب الأندلس ونذالتهم بسبب الحضارة الفاسدة وقد قال المؤرخون في تلك الواقعة ما إذا ذكر سكب الدمع وانهمر وعلى أن عدد من استشهدوا بلغ ستمائه ألف أو يزيدون ففد وقع أجرهم على الله بسب الخيانة وأن الله لا يهدي كيد الخائنين.

(فابكهم ما استطعت إن قليلا

في عظيم من المصاب البكاء)

ومن محامد الزواوة الصراحة وحسن العهد إذا قالوا أو بايعوا أو عاهدوا وفوا فلا خيانة ولا غدر ولا خداع فكأن كل فرد منهم لقن:

(عروضي إذا جار الزمان ألجتها

ولكن عرضي لا يباح وبي روح)

ولا يبالون بالقتل في سبيل ما تولوا من الأمور وترى كل واحد منهم يقول لسان حاله:

ص: 106

وإنا قوم لا نرى القتل سبة

إذا ما رأته عامر وسلول

ومن محامد الزواوة إطعام البائس الفقير بقواعد ونظامات خاصة عجيبة بحيث لا يبيت الإنسان الأجنبي عندهم بلا شيء وعنايتهم بالأجنبي أكثر أيا كان وصرفهم في ذلك منتظم لم يكن عند أمة من الأمم وينزلون الضيوف منازلهم على طريق السنة.

ومن محامدهم التحكيم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى به الحكم بل يسلمون تسليما.

ومن محامدهم حسن ترتيب الكلام عند الخصام دعوى وجوابا وإن كانوا كثيرين في القضية فلا يتكلم إلا اثنان واحد لكل فريق وليس فيهم شيء من عيب أعراب افريقية الذين يتكلمون وفي الخصام كلهم دفعة واحدة فيكثر الوغى حتى لا يكاد الحكم يفقه شيئا حسبما شهدنا ذلك في المحاكم الشرعية إذ كنا في العدالة وهناك انتهينا إلى هذه لخصلة ذلك بأن الشيء يعرف بضده.

ومن محامدهم الاجتماع والجماعة وذلك الأمر المدني العظيم الشأن سواء كان الاجتماع للصلاة أم لشؤونهم الدنيوية والحال أن من أسرار الاجتماع للصلاة قضاء مصالح أخرى اجتماعية وترى أهل القرية مجتمعين كلما عرض لهم شأن ما ولهم في ذلك قوانين وضعية شرعية وعرفية لا يتهاون بها إذ يلزم لذلك ما يلزم من الجزاء الوفاق.

ومن محامدهم بل غرائزهم الروح العسكرية والخدمة الجندية وتاريخهم في ذلك لا يستوفي وبما تقدم من الإشارة كفاية وبقي ذلك فيهم إلى اليوم

ص: 107

مع ضعفهم إلى درجة الاضمحلال وقد اعترفت لهم فرنسا بذلك الفضل مثلما اعترفت لهم جميع الدول المتقدمة ومنذ التاريخ القديم العام وقد أسمت فرانسا فريقا من جندها الشهير بالبسالة والإقدام باسم الجند الزواوي "زواف" بتحريف قليل تخليدا لهذه المنقبة ولم تغمضها وقد اشتهروا في القرن (11 و 12) هجري في تونس وكان ذلك أول إشهارهم مع وقائعهم في ثورتهم الأخيرة في سنة (1871 فتم عليهم الدست).

ومن محامدهم كثرة التناسل وحب الولد والشغف بذلك والعناية به إلى درجة يقلدون المرأة التي أذكرت نوعا على الحلي خاصا بالجبهة وما هو إلا وساما قديما موروثا غير محدث ولما حدثت بهذا الأمر العلامة الشيخ طاهر الزواوي الدمشقي تعجب كثيرا وأعجب به فكان يعض الفضلاء المصريين وقد يتزوجون ويطلقون لمجرد الولد والعقب ويحزنون أشد الحزن للذي لا عقب له.

ومن محامدهم العناية التامة بصلة الرحم والقرابة والنسب والصهر وذوي الأرحام ويعتبرون الملائق النسبة والصداقة بأقل مناسة ومشابهة ويراعون الوداد وقد كانوا لا يؤذون قط من ذاقوا طعامه.

ويخشون العقاب الإلهي إن خان ذلك أو غدر والمعنى ينتظرون له ذلك وهي خصلة محمودة وأن أحدهم إذا كانت والدته من قوم يعدهم كلهم أخواله فتحترمهم ويكرمهم أيما إكرام ويدعوهم أخوالي. وبالجملة محامدهم هم لا تعد وتحصى في مختصر كهذا وإن ساعدنا الدهر ووجدنا المعين والناصر طولناه وأما خصائصهم فكثيرة أيضا فمنها عدم نجاح تكون جمع أو جنس أو مذهب ديني أو غير ديني مع جمعهم وجنسهم وليس ذلك لاضظهاد كما قد

ص: 108

يتبادر بل بطبيعة حالهم من كثرة جموعهم وغلبة محيطهم وقد خطر ببالي الآن أنهم إنما سموا الزواوة لكثرة جموعهم إذ معنى زوى الشيء جمعه فهو زاو وأزوى جاء ومعه غيره ومن أجل ذلك يندغم فيهم من يساكنهم أو يجاورهم والمحيط غلاب بطبيعته لا يظلمه ولا يتعديه المقصودة سر الله في الوجود، ولهذا لا تجد في الزواوة يهوديا ولا نصرانيا ولا مذهبا غير مذهب مالك ولا قراءة غير قراءة ورش وقد كانوا في العقيدة سلفيين ثم شيعيين ثم أشعريين ومنها عدم نجاح مدية عظيمة بقربهم وأخرى من بينهم بأن تكون تلك المدينة ذات قصور كبيرة وذلك لاستغنائهم عنها بدورهم وقراهم المتوسطة الكثيرة بلا تطاول في البنيان ومنها ظهورهم واشتهارهم في كل بلدة يحتلونها قديما وحديثا أما في القديم أعني منذ نزوحهم من اليمن كما تقدم فكانوا على جانب عظيم من القوة وكثرة الجموع ولكن الشهرة العظيمة حازوها في الإسلام وكان لهم الحظ الوافر في فتح الأندلس ووقائع ذلك الرجل العظيم يوسف بن تاشفين إذ عبر بهم مرارا إلى الأندلس وهم الذين نصروا إدريس الأكبر والأصغر وبهم قام أبو عبد الله الشيعي وبجموعهم احتل جوهر القائد الفاطمي مصر والإسكندرية وتأسست هنالك الفاطميين كما تقدم واشتهروا في العهد الأخير في تونس والشام واعتبروا في الشام بالمغاربة وأظن أن ذلك بدهاء المرحوم الأمير عبد القادر ذلك الرجل العظيم الذي يعرف كيف يؤكل الكل الكتف فجمعهم باسم المغاربة أشمل وأعم من اسم الزواوة ولو لم تكن نسبة غير الزواوة في الشام واحدا في المائة وقد اعتز بهم الأمير كما اعتز بهم قبله أبو عبد الله الشيعي والمعز لدين الله ومولاه القائد

ص: 109

جوهر فبهم دافع الأمير عيد القادر سنة 1860 عن قناصل الدول ونصارى الشام حتى اغتر بعض الجهال والعوام من أهالي الشام وسلت لهم أنفسهم أن يقوموا بمذبحة لا محل لها ولا مسوغ سوى وساوس الشيطان فعارض في ذلك الأمير أن خشي هو نفسه على نفسه ولكن جموع الزواوة تجمهروا حوله فأطاعوه وتسلحوا إلى أن انجلت الواقعة فسلم الأمير ومن معه من قناصل الدول والمسيحيين ثم إن فرانسا التفتت إلى الأمير (1) أنظر (صحيفة 159).

فجازته خير جزاء فتحسنت حالته ماديا وأدبيا وصار ذا مال وبين وملك قصورا وقرى وأنجاله من بعده كذلك لهم العناية والجاه إلى فرانسا وإلى تركية ولا ينكر ولا يماري إن أولاد الأمير إنما كان عزهم وجاههم وقهرهم لكثير من البيوت والعصبيات بالزواوة الذين بدمشق وما حوله لأنهم اشتهروا هنالك باسم المغاربة والشجاعة والغلبة فإذا ركبوا الملاقاة من يناوئهم لا يقف أمامهم ولا يثبت ثم إن الزواوة لجهلهم السياسة ومسالكها ولكونهم مثل العرب البدو قليلي التربية والتعليم في هذا العهد الأخير لم يحصلوا على شيء يذكر فيشكر بالرغم من وجود جملة من شرفائهم وأعيانهم. مثل (الشيخ المهدي وابن عمنا الشيخ المبارك والشيخ ابن أعراب)(1) الذين تقدمت لهم الشهرة في الزواوة وكذلك في الشام بصفة الصلاح والعلم

(1) جرت عادة الزواوة أن يلقبون سادتهم وأمرائهم بالمشايخ لأن عليهم صبغة دينية أكثر مما هي دنيوية فبهم أشبه بالمشايخ السنوسية هكذا كانت أصول الرئاسة في غالب بلاد المغرب.

ص: 110

والطريقة. وقد نبغ في هذا العهد الأخير من رجال الزواوة بالشام وبغيرها من مدن سورية عدد غير قليل فمن أحفاد السادة المشايخ المشار إليهم أنفا يليق بنا أن نذكر: العالم الفاضل التقي السيد الشيخ صالح المبارك نجلي المرحوم الأستاذ الكبير العلامة الشيخ الطيب المبارك وابن عمنا المرحوم العالم العلامة والحبر الفهامة والسيد الشيخ محمد المبارك وابنه المحب السيد الشيخ عبد القادر الكاتب الأديب الشاعر من أحفاد سيدي الشيخ المبارك قدس سره والسيد الشيخ صالح بن أعراب وأنجاله النجباء خاصة منهم الأستاذ الفاضل الواقف على عدة لغات والمؤلف بها وبغيرها من العلوم العصرية السيد محمد سعيد الطيب بن أعراب من أحفاد سيدي الشيخ ابن أعراب قدس سره.

والشيخ محمد مزيان من أحفاد سيدي الشيخ المهدي قدس سره.

ومن سادة الزواوة وعلمائها بالشام المرحوم العالم العلامة الحكيم الأستاذ الكبير السيد الشيخ طاهر السمعوني الجزائري وسليم بك بن أخ الأستاذ المشار إليه العالم العصري الفاضل والذي كان بلغ رتبة قائم أركان حرب في الجندية التركية والمرحوم العلامة الفقيه الأستاذ الأوحد للناشئة الزواوة في دمشق سيدي الشيخ محمد سعيد شريف الينيوي وابن عمه العالم الرياضي الشهير السيد أحمد جودت الينيوي والعالم الفاضل الورع السيد الشيخ شريف العقوبي والعالم العلامة التقي الأستاذ السيد الحاج أحمد الشريف المقيم بقرية الرملة وابن أخيه العالم الفاضل الطيب السيد صالح الشريف القاطن بمدينة يافا والدراكة الكاتب علي بك ابن الحافظ التقي السيد الحاج شريف وخيري بك ابن السيد علي أبي حسين من شرفاء بهلول وهو رتبة المدعي

ص: 111

العمومي والسيد إبراهيم خالد المستنطق وعمر بك فرحات وأخوه الدكتور حسن بك فرحات، والدكتور طاهر بك قاسم ومتعهد الإنشاءات الأميرية الشهير الحاج مزيان أيراثني وغيرهم من يطول ذكرهم ممن نبغوا في الصنائع والتجارة الخ. ومنها عدم تزوج الزواوة بالأجنبيات إلا نادرا إذ أن عنايتهم الشديدة في الزواج بالأصل والجاه العظيمين مع عادات لهم فصار ذلك غير ممكن لهم من الأجنبي ومنها عدم تزوجهم بالإماء السود تحشيا من تسويد نسلهم وتغييره وهذه خاصة عظيمة تذكر لهم فتشكر وقد خالفوا إخوانهم العرب فيها. نعم قد يوجد العبيد في بعض قرى الزواوة إلا أنهم لا يناكحون. ومنها الحياء الشديد وله قواعد عندهم محمودة تنطبق على المروءة والإنسانية الكاملة وبالأخص فيما بين أعضاء الأسرة والأقارب ذوي الأرحام فلا تسمع لهم كلمة فحش أو بذاءة ترى عورة من عوراتهم وذلك محظور عندهم بشدة وعناية تأمين وبالأخص في محضر النساء حتى أنه قد يكون دم المتفحش هدرا فإنهم يقتلون من ذلك وهو من القواعد المتعارفة عندهم وإن أحدهم إذا كانت معه امرأة يكون محترما هو والمرأة ولا يؤذى ولا يسمع ما يكره و (

كلمة غير واضحة في النسخة) الغناء، فالذي تعدى وفعل ذلك المحظور في عرفهم فدمه هدر وهذا من المدنية الراقية بمكان والسبب أن الغناء عندهم مستقبح لما فيه من أقوال الغزل والتشبيب وذكر النساء والعشق والوصال إلى غير ذلك مما يحرك النفوس إلى الشهوات ويسوقها إلى أسواق الشبهات وهم في مثل هذا مخالفون للعرب على خط مستقيم وقد ذم أبو حامد الغزالي الأدب العربي في هذا المقصد لما فيه من بواعث الفسق للشبان

ص: 112

وفساد أدب النفس بأدب الدرس المختلط بما يذكرنا من الفحش والتفاحش. ومن القرى في الزواوة من يمنعون المغنيين من الغناء ولو في الوليمة بسبب ما ذكر. لم أدر أن والدي رحمه الله ضربني غير مرة واحدة وأنا يافع لأنه سمعني أغني مع الولدان، وأن الصبي إذا تلفظ بكلمة فحش يضرب عنها وكذلك الخدم وجميع الصغار، ويستحيون من كثرة الأكل ولهم في ذلك آداب وقواعد في مواضع فإنهم إذا رأوا أن الطعام قليل فلا يأكلون إلا قليلا. وإن كبرائهم وشرفائهم وأهل العلم منهم لا يأكلون في الأسواق ولا في الشوارع طبق القاعدة الإسلامية وأنها من لوازم العدالة والمروءة ومنها شدة التحفظ من العار أن يصاب به الرجل أو امرأة والتشديد الزائد فوق التصور في أمر العهر فإن الزناة عندهم يقتلون ولا يحاكمون ولا يشهد أنس ولا جان أنه يوجد في أرض الزواوة قديما أو حديثا ابن مجهول الأب وذلك أن المرأة إذا وقع ونزل حملت من زنى فإنها لا تبقي بقيد الحياة إلى الوضع بل تقتل من أهلها وذريتها لأنها حملت لهم العار أو تنتحر هي بالتسمم فهي كما في المثل بيدها لا بيد عمرو وفي المعنى شدة الحياء والحياء من الإيمان قال فيهم الشاعر:

قوم لهم شرف العلى س حمير

وإذا انتهوا صنهاجة فهم هموا

لما حووا إحراز كل فضيلة

غلب الحياء عليهم فتلثموا

وعن ذكر الملثمين نقول: أنهم صنهاجيون وأنهم كانوا مضرب الأمثال في الشجاعة والإقدام وأنجبوا رجالا عظماء مثل يوسف بن تاشفين رحمه الله فإند ملأ ذكره الأسماع، وصار تعظيمه والإعجاب به كلمة إجماع، بين المؤرخين المشارقة والمغاربة وكتبوا تاريخه بحبر الحبور، والأجدر أن يكتب

ص: 113

بسطور النور على نحور الحور وقد كان سلطان العدوتين في المغربين وتلقب بأمر المسلمين، وكفى أن حجة الإسلام أبا حامد الغزالي تمنى الاجتماع به كما تقدم.

ومنها الفوز في الوقائع فهم في ذلك إما الأمنية أو المنية دون القضية التي يطلبونها ولا يفرون من الزحف وأن الفرار عندهم عار (العار أكبر من النار).

ومنها أنهم لم تستول عليهم دولة من الدول قبل فرانسا فهذا فخر عظيم لهم كما قال الموسيو جول كامبون الوالي العام كان بالجرائر في خطبة له ألقاها على الزواوة في بلدة الأربعا بني يراثن في منة 1891 بأن لم تضع دولة قدمها على تلك الجبال الشم آخر ما قال، قلت لا بد من غالب ومغلوب وأن لكل شيء حدا ونهاية ثم أن الدولة الحالية التي استولت عليهم تحبهم وتميل بالعطف عليهم وتود أن يتمدنوا تمدنا عصريا وكثرت لهم من المدارس الابتدائية في غالب القرى وصار النشء الجديد يحسن التكلم باللسان الفرنساوي ويقرؤون ويكتبون ويزاولون كثيرا من الأفعال في المكاتب وسائر الأعمال ولكن ضعفهم المادي وشدة تمسكهم بعاداتهم وعرفهم القديم وما توارثوه من ذلكم ومن الديانة ومن الخلاف في الدين والأخلاق والمتقدمة ويزاد على ذلك سوء الظن المتحكم بينهم وبين المستعمرين والمتصرفين وبعض الأحكام في ذلك مثل الأحكام الأهلية التي اضطرت إليها الهيئة الحاكمة - كل ذلك يوسع خرق الراقع بالرغم من أن الحرب العمومية الأخيرة أثبتت لهم الإخلاص والوفاء وكلا الفريقين معذور ونرجو دائما التوفيق وحسن التفاهم، وعندي أنه لا يكون ذلك إلا بكثرة المدارس العربية الصالحة للتفاهم فإن

ص: 114

العربي المسلم لا يصلحه إلا العربية الصحيحة ومكارم أخلاقها المرضية وآدابها الجمة ودليلي على هذا اسقرائي ما تيسر من المتعلمين تعلما فرنسويا بدون عربية فإنهم فريقان ففريق عدو ولدود لأهله وللحكومة والأمة المستعمرة ذلك بأنه لم يبق في حالة أهله ولم يبلغ إلى حالة معلميه وأسخطه الجميع وأسخطهم بسبب معاملات لا تخفى على المتأمل ومما يسخطه بكثير أنه متحير في جميع أقواله وأفعاله التي يتعذر عليه سلوك مسالكها أفيبقى مهانا ومعتزلا طول عمره الهيئتين الاجتماعيتين؟ وقد جربتهم أنهم إذا تلي عليهم كتاب عربي فصيح بليغ رشيق العبارة جيد المعنى يأسف أشد الأسف على ما فاته، وفريق راض ظاهرا ساخط باطنا لأنه لا يرضى بالإمتيازات والتصرفات لا (......) *

ويراه غبنا وخلاف الإنصاف ولا يكاد يدرك أن توزيع الأعمال في المجتمع الدولي لا بد له من التفاوت على حسب الأهلية وصلاحية مع شرطية التجنس المعروف قديما وحديثا ليس عند فرانسا فقط بل في الإسلام كان ذلك عندهم كذلك. وخير من هذين الفريقين عندي فريق ثالث وهو وسط وخير الأمور أوسطها كذا في الحديث وهذا الفريق هم المتعلمون التعلم العربي الواسع الصحيح وآدابه الكاملة كما تقدم فإن أدب هؤلاء إذا تنوروا كما ينبغي يرضى المجتمع الأمة الحاكمة وحكومتها والأمة المحكومة وذلك أن الأهالي يتنورون بالعلوم العقلية والشرعية الصحيحة السليمة المنقاة من التعصبات القديمة المدسوسة والخرافات المحشوة مثل إبادة المختلف في الدين واعتباره عدوا كما يزعم الأوروبيون أن ذلك من الدين كلا بل هو

* كلمة غير واضحة في النسخة

ص: 115

من التعليم الفاسد المستحكم في الفريقين المسلمين والمسيحيين في الحروب الصليبية وتلاشت الآن وبقي الخلاف محصورا في دائرة أخرى اقتصادية - تنازع البقاء - وقد أدرك الناس شرقا وغربا أن أمور الدين محترمة بفضل عقلاء من أوروبا وأمريكا وإنما بقي أمر الاستخفاف بالعربي المسلم لمرضه الاجتماعي وسوء إدارته وتربيته وأنا ذلك العربي المسلم إلا أني قلت وما زلت ولن أزال أقول لا يبرئنا من هذا المرض غير التعليم الصحيح العربي الإسلامي وإلا فنبقى كلا على أوروبا فلا هي ترتاح ولا نحن نشقى والله ولي التوفيق. ومن الشواهد على تفوق الزواوي في أشغاله وأعماله قديما وحديثا ما وقفت عليه في جريدة (السعادة) التي تطبع في الغرب الأقصى ترجم فيها فصل عن بعض كتاب فرانسا في هذه الحرب التي جعلت فرانسا بابل الألسن والأمم فقالت تلك الجريدة في عددها الصادر 16 فبراير سنة 1918: ويروى عن أحد كتاب فرانسا المشهورين في الكتابة وهو الموسيو جيثو أنه قال بأن صرف الرماة المغاربة والجزائريين والتونسيين الأشهر الطويلة بين الجنود الفرنساوية في ميدان القتال سوف يبدل أخلاق أولئك الرجال ويولد فيهم روح الهمة والنشاط فإذا ما رجعوا إلى بلادهم كانوا كمن حنكتهم التجارب وألفوا المتاعب وتذليل الصعاب كذلك العامل الذي صرف في مزاولة الأعمال بفرانسا مدة ستة أشهر على الأقل وذاق لذة الربح وتعود العمل لا يرجع إلى حياة الكسل التي كان ألفها بين الدواوير حيث كان يلتف بأطمار الحائك البالية مدخنا الكيف - الحشيش - متوكلا والقمل يرعى تحت إبطه وقد خمل وبهل وكاد أن يكون قعيدة رحل وقد تعود العامل

ص: 116