الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: لأن شعبة حلف ألا يحدث أصحاب الحديث شهرا، فقصده أبو عاصم، فدخل مجلسه، وقال: حدث، وغلامي العطار حرٌ لوجه الله كفارة عن يمينك، فأعجبه ذلك.
من أقواله: " من طلب الحديث، فقد طلب أعلى الأمور، فيجب أن يكون خير الناس."
الوفاة: قال محمد بن سعد: " مات بالبصرة ليلة الخميس، لأربع عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة اثنتى
عشرة ومئتين، فى خلافة عبد الله بن هارون ". وهو ابن تسعين سنة وأربعة أشهر. وقيل ثلاث عشرة،
وقيل سنة أربع عشرة ومئتين، قاله البخارىُّ.
الحديث الأول
1 -
حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. (109، حـ1 صـ255)
الشرح:
وقد نص الحافظ فى الفتح على أن هذا الحديث هو أول ثلاثى وقع فى البخارى، كما نص على ذلك الكرمانىُّ أيضاً فى شرحه للبخارى.
والحديث أخرجه البخارى فى كتاب العلم " باب إثم من كذب على النبى صلى الله عليه وسلم " ورواه أحمد ومسلم والحاكم والطبرانى والدارقطنى وأصحاب السنن، وغيرهم عن جمعٍ غفيرٍ من الصحابه منهم العشرة المبشرة، قال ابو بكر الصيرفى كما نقل النووى فى شرح مسلم:" ولا يعرف حديث اجتمع فيه على روايته العشرة إلا هذا "
والحديث يتناول عظم الكذب على النبىِّ صلى الله عليه وسلم لأن الكذب على النبى صلى الله عليه وسلم ليس ككذبٍ على غيره. وقد روى البخارى فى نفس الباب نفس الحديث عن عَلىٍّ والزبير وأنس وأبى هريرة بألفاظ متقاربة، وتخويف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالنار على الكذب دليلٌ على أنه كان يعلم أنه سيكذب عليه، كما فى التمهيد لابن عبد البر.
وقد كثر هذا الكذب عليه صلى الله عليه وسلم فقد قال حماد بن زيد: " وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى عشر ألف حديث بثوها في الناس ".
وعلم الصحابة هذا الأمر من بعدهم فقد رُوِى وإن كان فى سنده ابن لهيعة، عن عقبة بن نافع قال لبَنِيه:" يا بني لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من ثقة "
وانتقل الأمر لمن بعدهم، فعن عبد الرحمن بن مهدي كما فى التمهيد لابن عبد البر قال:" سألت شعبة وابن المبارك والثوري ومالك بن أنس عن الرجل يتهم بالكذب فقالوا انشره "
وفى الحديث ثلاث عشرة مسألة:
الأولى: معنى " فليتبوأ " كجزاء للمُتَقَوِّل عليه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر: " أي فليتخذ لنفسه منزلا، يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكنا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضا، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك أي: بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوء ويلزم عليه كذا، قال: وأولها أولاها، فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ " بني له بيت في النار " قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوء."
ولم يذكر النبىُّ هذا الجزاء لمن يتقول عليه فقط، ولكن ذكر التبوء هذا لأكثر من معصية، وقد جَمعتُ فى ذلك رسالة (ذكر الآثار .. التى ذَكَرَتْ من يتبوأ مقعده من النار).
وقال النووى (1): " معنى الحديث أن هذا جزاؤه وقد يجازى به وقد يعفو الله الكريم عنه ولا يقطع عليه بدخول النار، وهكذا سبيل كل ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر فكلها يقال فيها هذا جزاؤه وقد يجازى وقد يعفى عنه، ثم إن جوزي وأدخل النار فلا يخلد فيها، بل لابد من خروجه منها بفضل الله تعالى ورحمته، ولا يخلد فى النار أحدٌ مات على التوحيد،
وهذه قاعدة متفق عليها عند أهل السنة ".
الثانية: هل الوعيد المذكور خاص بنسبة قول ٍ إلى النبى لم يقله دون نسبة الفعل؟
قال ابن حجر فى ذلك: " وذكر القول لأنه الأكثر وحكم الفعل كذلك لاشتراكهما فى علة الامتناع وقد دخل الفعل في عموم حديث الزبير وأنس لتعبيرهما بلفظ الكذب عليه ومثلهما حديث أبي هريرة فلا فرق في ذلك بين أن يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذا وفعل كذا إذا لم يكن قاله
أو فعل ".
الثالثة: قوله " علىَّ " هل يخرج بها الكذب للنبى لا عليه، كوضع أحاديث فى الترغيب والترهيب؟
كل أهل العلم قاطبة يقولون بتحريم الكذب سواء عليه أو له، وقد خالف فى ذلك الكرامية حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتجوا بأنه كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت وهي ما أخرجه البزار من حديث ابن مسعود بلفظ:" من كذب علي ليضل به الناس " وقد ضعفه ابن حجر وقال: وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة، وقال أيضاً:" ولفظة " علىَّ " ليس لها مفهوم مخالف ".
الرابعة: هل الكذب المنهى عنه هو الكذب الخاص بأمر الدين أم هو نهىٌ عام؟
قال ابن بطال فى شرحه للبخارى (2):
(1) شرح مسلم - النووى، 66
(2)
شرح البخارى لابن بطال، حـ 1، 183
" فإن قيل: ذلك عامٌ فى كل كذب فى أمر الدين، وغيره أو فى بعض الأمور؟. قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فقال بعضهم: معناه الخصوص، والمراد: من كذب عليه فى الدين، فنسب إليه تحريم حلال، أو تحليل حرام متعمدًا."
وقال النووى (1): "والصواب فى ذلك أن قوله على العموم فى كل من تعمد عليه كذبًا فى دين
أو دنيا، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان ينهى عن معانى الكذب كلها إلا ما رخَّص فيه من كذب الرجل لامرأته، وكذلك فى الحرب، والإصلاح بين الناس. ا-هـ
وقال ابن دقيق العيد: " والصوابُ عُمومه فى كل خبَر تُعُمد به الكذب عليه (صلى الله عليه وسلم) "
وقال ابن حجر: " هو عام فى كل كاذبٍ، مطلقٌ فى كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسبوا الكذب إلىّ "
الخامسة: هل الكذب المنهى عنه متوقف على حال اليقظة فقط أم يدخل فيه حال المنام؟
قال ابن حجر فى سبب ذكر حديث أبى هريرة بطوله فى الباب رغم أنه مخالفٌ لعمل البخارى فى ذكر محل الشاهد فقط من الحديث وفيه " من رآنى فى المنام فقد رآنى " قال: وإنما ساقه المؤلف بتمامه ولم يختصره كعادته لينبه على أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يستوي فيه اليقظة والمنام.
وقد ذكر النبىُّ ذلك صراحةً كما عند البخارى من حديث واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما لم يقل) وفى رواية ابن عمر عند البخارىِّ ايضاً قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ"
قال ابن حجر: " أي يدعي أن عينيه رأتا في المنام شيئا ما رأتاه، ولأحمد وابن حبان والحاكم من وجه آخر عن واثلة " أن يفتري الرجل على عينيه فيقول رأيت ولم ير في المنام شيئا ".
(1) شرح مسلم - النووى
وقال العينى فى عمدة القارى: " فإن قلت إن كذبه في المنام لا يزيد على كذبه في اليقظة فلم زادت عقوبته؟ قلت: " لأن الرؤيا جزء من النبوة، والنبوة لا تكون إلا وحيا، والكاذب في الرؤيا يدعي أن الله أراه ما لم يره، وأعطاه جزءا من النبوة ولم يعطه، والكاذب على الله أعظم فرية ممن كذب على غيره ".
السادسة: هل يؤخذ من الحديث تحريم الرواية بالمعنى؟
اختلف أهل العلم فى الرواية بالمعنى وهذ الحديث مما احتج به القائلين بالمنع، قال ابن حجر:" وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى. وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهي عن الإتيان بلفظ يوجب تغير الحكم مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته. والله أعلم."
والراجح جواز المعنى بشروط. قال النووى: " لمن هو كامل المعرفة "
ثم قال النووى: " قال العلماء: ويستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده أوكما قال أو نحو هذا كما فعلته الصحابة فمن بعدهم والله أعلم.
السابعة: لماذا هذا الوعيد متعلقٌ بالكذب على النبي (صلى الله عليه وسلم) دون غيره رغم أن الكذب كله حرام؟
الكذب على النبى صلى الله عليه وسلم ليس ككذبٍ على غيره كما فى حديث المغيرة فى الجنائز، حيث أن التقول على النبى (صلى الله عليه وسلم) يقتضى الكذب على الله فيدخل فى الدين ما ليس منه أو يخرج منه ما هو فيه، فإن كان الكذب حرامٌ إلا ما استثناه الشرع، فهنا قد ضم ذنباً آخر، ألا وهو: أن الذى يكذب على النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل نفسه شريكاً لله فى التشريع. وكفى به ذنباً.
وقال إمام الحرمين (1): " وإنما كان هذا الوعيد لعظم مفسدته - أى الكذب على النبىِّ - فانه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة فان مفسدتهما قاصرة ليست عامة"
(1) شرح مسلم للنووى، حـ 1، 67
وقال على القارى فى " تعليقاته ": ولا يبعد أن يقال: الكذب عليه كبيرة وعلى غيره صغيرة وقد تكفر الصغائر عند اجتناب الكبائر، فالمراد: أن الكذب عليه يجعل النار مسكناً لفاعله البته، بخلاف الكذب على غيره فإنه تحت المشيئة وقابل للعفو والشفاعة، فيكون مآل الحال إلى أن الأمر للتأكيد فى الوعيد، وللتشديد فى التهديد ".
الثامنة: كيف تعامل الصحابة مع هذا النص النبوى؟
قال ابن حجر وهو يعلق على حديث الزبير لما سأله ابنه عامر:" إنى لا أسمعك تحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما يحدث فلانٌ وفلان؟ فأجابه بعظم الأمر كما بينه هذا الحديث، قال: " فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة (1) عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على:
- أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت ..
- أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان. رضي الله عنهم.
فبهذا الكلام قد ذهب الصحابة إلى التقليل من التحديث إلا إذا احتيج إلى ذلك، لأن الإكثار مظنة الوقوع فى الخطأ، يقول ابن حجر مدافعاً عن مذهب ابن الزبير:" ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ، والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر؛ لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سببا للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار " ا-هـ
(1) ومن ذلك أنس وعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، وسعدا، والمقداد بن الأسود، وعبدالرحمنِ بن عوفٍ رضي الله عنه -
وقال البغوى (1) معلقاً على الحديث: " ولذلك كره قوم من الصحابة والتابعين إكثار الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم خوفا من الزيادة والنقصان، والغلط فيه، حتى إن من التابعين كان يهاب رفع المرفوع، فيوقفه على الصحابي، ويقول: الكذب عليه أهون من الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومنهم من يسند الحديث حتى إذا بلغ به النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: قال، ولم يقل: رسول الله، ومنهم من يقول: رفعه ومنهم من يقول: رواية، ومنهم من يقول: يبلغ به النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكل ذلك هيبة للحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخوفا من الوعيد."اهـ
وفى التمهيد (2): عن طاوس قال: " كنت عند ابن عباس وبشير بن كعب العدوى يحدثه فقال ابن عباس: عُدْ لحديث كذا وكذا، فعاد له، ثم إنه حدث، فقال له ابن عباس: " عُدْ لحديث كذا وكذا "، فعاد له ثم إنه حدث، فقال له بشير:
" ما لك تسألني عن هذا الحديث من بين حديثي كله؟! أأنكرت حديثي كله وعرفت هذا أو عرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟! فقال له ابن عباس: " إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه."
التاسعة: هل توبة من كذب على النبى صلى الله عليه وسلم تؤثر فى الرواية عنه بعد ذلك؟ (3)
قال النووى نقلاً عن الجوينى: " من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدا فى حديث واحد فسق وردت رواياتة كلها وبطل الاحتجاج بجميعها فلو تاب وحسنت توبته فذلك فيه خلاف:
(1) شرح السنة للبغوى (1/ 255)
(2)
التمهيد، حـ 1، 43
(3)
شرح مسلم، المقدمة - النووى 67
قال جماعة من أهل العلم منهم؛ أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدى شيخ البخارى، وصاحب الشافعى، وأبو بكر الصيرفى من فقهاء اصحابنا الشافعيين وأصحاب الوجوه منهم ومتقدميهم فى الاصول والفروع:" لا تؤثر توبته فى ذلك ولا تقبل روايته أبدا بل يحتم جرحه دائما ".
وأطلق الصيرفى وقال: "كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك ".
وقال النووىُّ معلقاً: وهذا الذى ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية والمختار القطع بصحة توبته فى هذا وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة وهى الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها والعزم على أن لايعود إليها فهذا هو الجاري على قواعد الشرع
وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرا فأسلم وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة وأجمعوا على قبول شهادته ولا فرق بين الشهادة والرواية فى هذا والله أعلم.
العاشرة: هل الكذب يشترط فيه العمد أم يستوى فيه العمد والسهو.
قال النووى فى شرح مسلم: مذهب أهل السنة أن الكذب يتناول أخبار العامد والساهى عن الشيء بخلاف ما هو عليه فى الحقيقة، خلافاً للمعتزلة الذين اشترطوا العمد. وفصل ابن مفلح مذهب المعتزلة فقال:" وعند بعض المتكلمين شرط الكذب العمدية وعند بعضهم أيضا يعتبر للصدق الاعتقاد وإلا فهو كاذب ".
ولأهل السنة أدلتهم فى ذلك، وهى كثيرة، منها:
حديث سلمة؛ الثانى عشر من هذه الثلاثيات وفيه: " أن عامراً أصاب نفسه فى المعركة، فمات فَقَالَ الْقَوْمُ: حَبِطَ عَمَلُهُ، قَتَلَ نَفْسَهُ، فأتى سلمةُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال له: " إن الناس يزعمون أن عامراً قتل نفسه، فقال:" كذب من قالها " فحكم النبىُّ صلى الله عليه وسلم على قولهم أنه كذب رغم أنهم ما قصدوا كذباً ومن الأدلة أيضاً: حديث سعد بن عبادة عند البخارىَِّ أنه قال يوم فتح مكة: يا أبا سفيان اليوم
يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فأخبر أبو سفيان بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" كذب سعد " ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة.
فحكم النبىُّ صلى الله عليه وسلم على قوله بالكذب رغم أنه لم يقصد كذباً.
ومن الأدلة أيضاً ما رواه مسلم، عن جابر أن عبدا لحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا فقال:" يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبت لا يدخلها فإنه قد شهد بدرا والحديبية " فحكم النبى صلى الله عليه وسلم بالكذب رغم أنه لم يقصد كذباً.
فهذه جملة من الأدلة تثبت ما ذهب إليه أهل السنة من تساوى العمد والسهو فى الكذب. وقد ذكر مثل هذا الكلام وهذه الأدلة ابنُ مفلح فى " الآداب الشرعية ". (1)
الحادية عشر: كيف الهروب من الوقوع فى الكذب.
أول أمر يبعد الإنسان به الكذب عن نفسه أن يستثنى فيقول " إن شاء الله "، عملاً بقول الله سبحانه:" وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ..... (24) " الكهف.
والعلماء فى الاستثناء المذكور فى الآية طرفان ووسط (2):
* قال بعضهم: إن المعنى إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فقل إن شاء الله ولو كان بعد سنة.
* وقال بعضهم: قالوا لا يصح الاستثناء إلا متصلا.
* وجمع ابن جرير بين المذهبين فقال: الصواب له أن يستثنى ولو بعد حِنثه في يمينه، فيقول إن شاء الله ليخرج بذلك مما يلزمه في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال إلا أن يستثني متصلا بكلامه، ومن قال له ثنياه ولو بعد سنة أراد سقوط الحرج الذي يلزمه بترك الاستثناء دون الكفارة.
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح، حـ1، صـ 64، 65
(2)
السابق حـ1، 63.
قال ابن الجوزي فائدة الاستثناء خروج الحالف من الكذب إذا لم يفعل ما حلف عليه قال موسى عليه السلام {ستجدني إن شاء الله صابرا} ولم يصبر فسلم منه بالاستثناء.
الثانية عشر: هل على الكاذب كفارة.
قال ابن مفلح (1): " الكذب ليس فيه كفارة، وهو أشد من اليمين، لأن اليمين تكفر والكذب لا يكفر "
فالكفارة المذكورة فى المسألة السابقة إنما يكون لمن حلف ثم حنث فى يمينه، أما من غير يمين فهو
كذب، وإن استثنى فلا شىء عليه.
الثالثة عشر: هل هناك من الكذب ما هو جائز.
هناك صورٌ اجاز الشرع فيها الكذب للمصلحة:
من ذلك كذب الرجل على امرأته، وفى الحرب ولإصلاح ذات البين.
فعن شهر عن أسماء بنت يزيد مرفوعا (2)" كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال إلا رجل كذب لامرأته ليرضيها أو رجل كذب في خديعة حرب أو رجل كذب بين امرأين مسلمين ليصلح بينهما ". وروى البخارى ومسلم نحوه.
ومن الجائز أيضاً: المعاريض، وقد بوب البخارىُّ على ذلك فقال:" وفى المعاريض مندوحةٌ عن الكذب "، وفى تفسير ابن الجوزى فى قوله (3):" بل فعله كبيرهم هذا "(الأنبياء، 63) قال:
" المعاريض لا تذم إذا احتيج إليها " وذكر أدلةً على هذا منها:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما يسرني أن لي بما أعلم من معاريض القول مثل أهلي ومالي "
وقال النخعي: " لهم كلام يتكلمون به إذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم"
وقال ابن سيرين: " الكلام أوسع من أن يكذب ظريف "
ومن الفوائد التى فى الحديث ما ذكره النووى فى مقدمة مسلم (4)
1 -
تقرير هذه القاعدة لأهل السنة أن الكذب يتناول أخبار العامد والساهى عن الشيء بخلاف ما هو عليه فى الحقيقة، خلافاً للمعتزلة الذين اشترطوا العمد.
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح، حـ1، 63
(2)
أحمد (6/ 454) الترمذى (1938)
(3)
الآداب الشرعية، حـ1/ 49، 50
(4)
شرح مسلم، المقدمة - النووى، 67، 68 - بتصرف -