المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وكقول ابن المقفع السابق: ": " وليعرف العلماء حين تجالسهم - تحبير الوريقات بشرح الثلاثيات

[وليد الصعيدي]

الفصل: وكقول ابن المقفع السابق: ": " وليعرف العلماء حين تجالسهم

وكقول ابن المقفع السابق: ": " وليعرف العلماء حين تجالسهم أنك على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ".

الثانى عشر: ومن النصائح والآداب أن تتعلم ما الذى تبذله وما الذى تضن به.

قال ابن المقفع (1): " ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، ولعدوك عدلك وإنصافك، واضنن بدينك وعرضك على كل أحد ".

وهذه جملة من الأخلاق ووصايا قيمة من الإمام مالك أسرُدها سرداً، علنا ننتفع بها:

قال رحمه الله (2):

* لا تستحي إذا دعيت لأمر ليس بحق أن تقول قال الله تعالى في كتابه: " وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ"

* وطهر ثيابك وأنقها عن معاصي الله.

*وعليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتق رذائلها وما سفسف منها، فإن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفافها، وأكثر تلاوة القرآن، واجتهد أن لا تأتي عليك ساعة من ليل أو نهار إلا ولسانك رطب في ذكر الله.

*ولا تمكن الناس من نفسك، واذهب حيث شئت.

* وقال: ما أسر عبد سريرة خير إلا ألبسه الله رداءها، ولا أسر سريرة سوء إلا ألبسه الله رداءها.

* وقال مالك للقعنبي: مهما تلاعبت بشيء فلا تلعبن بدينك.

* من علم أن قوله من عمله قل كلامه، والقول من العمل.

* لا يصلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه، فإذا كان كذلك أوشك أن يفتح الله في قلبه.

* وفي رسالة إلى أبي قرة قال: " إني أرى الصواب في ترك تعلم المسائل التي قد ينتفع ببعضها إذا كان فيه من المضرة ما يخاف على صاحبها الخطأ والفتنة، فكيف بغيرها من المسائل، التي لا منفعة فيها".

* وقال ابن المبارك سمعته يقول لا يصلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه، فإذا كان كذلك أوشك أن يفتح الله في قلبه.

* وقال لبعض أصحابه لا تكثر الشخوص من بيتك إلا لأمر لا بد منه، ولا تجلس في مجلس لا تستفيد منه علماً.

‌المبحث الثالث

ترجمة الإمام البخارى

رحمه الله

(1) الأدب الكبير والأدب الصغير، 19

(2)

ترتيب المدارك وتقريب المسالك، 58

ص: 24

لما كان هذا الكم من العلم المتعلق بصحيح البخارى فى ميزان حسنات البخارىِّ نفسه، كان ولا بد من ذكر ترجمة له بين يدى هذا العلم المنسوب له لنقف على بعض جوانب شخصية هذا الإمام الجبل، الذى ملأ الأرض بعلمه وفضله، فوقفت على ساحل ترجمته لألتقط لؤلؤةً من هنا ولؤلؤةً من هناك، وقد تحيرت فى ماذا آخذ وماذا أدع من هذا الكم من الفضائل والمواقف وكلام أهل العلم عنه، فكلها مختارة

تكاثرت الظباء على خراش

فما يدري خراش ما يصيد.

ولكن اكتفى بما يكون عنواناً لترجمته الطويلة العظيمة الموجودة فى بطون الكتب، ولكنها نسمات نتنسمها من ذكره العاطر الفياح، علنا نكون بذلك قد اقتربنا من حُبه عن طريق معرفتنا به، فإن الإنسان عدو ما يجهله، والمرء مع من أحب.

فلتقف أيها القارىء أمام هذه النتف معظماً ومكْبرا، وها قد حان الأوان أن نطرق على الإمام بابه، فلنقف فى أدبٍ بين يديه ......

اسمه:

هو أبو عبد الله البخاري؛ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدٍزْبَه وهي لفظة بخارية، معناها الزَّرّاع. كان جده المغيرة مجوسياً وأسلم، وطلب أبوه إسماعيل العلم، فروى عن حماد بن زيد، والإمام مالك، وصار من كبار المحدثين.

وقال الحافظ فى هدى الساري: " مات إسماعيل ومحمد صغير، فنشأ فى حجر أمه "، وكانت أمه من الصالحات، فقد ذكر الذهبي فى ترجمة البخارى ما نصه (1):" ذهبت عينا محمد بن إسماعيل في صغره، فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال لها: يا هذه، قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك، أو كثرة دعائك - شك البلخي -، فأصبحنا وقد رد الله عليه بصره "

مولده

ولد الإمام البخارىُّ رحمه الله فى بخارى، من بلدان ما وراء النهر، وقد فتحت هذه الديار فى خلافة بنى أمية، وولد يوم الجمعة، بعد صلاة العصر لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، سنة أربعٍ وتسعين ومئة.

بداية طلبه للعلم:

(1) السير، حـ10، 80

ص: 25

فعن محمد بن أبى حاتم قال (1): قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك؟ قال: " ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب. فقلت: كم كان سنك؟ فقال: عشر سنين، أو أقل.

ثم خرجت من الكتاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره.

فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو

عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل.

فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، وقال: صدقت.

فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال ابن إحدى عشرة سنة.

فلما طعنت في ست عشرة سنة، كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها! وتخلفت في طلب الحديث" (2) فلما طعنت في ثمان عشرة، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وذلك أيام عبيد الله بن موسى، وصنفت كتاب " التاريخ " إذ ذاك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة.

وقل اسم في التاريخ إلا وله قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب "

وكان نبوغه مبكراً:

كان أهل المعرفة من البصريين يعدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه، ويجلسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوف، أكثرهم ممن يكتب عنه. وكان شابا لم يخرج وجهه وقال (3): دخلت على الحميدي وأنا ابن ثمان عشرة سنة، وبينه وبين آخر اختلاف في حديث، فلما بصر بي الحميدي قال: قد جاء من يفصل بيننا، فعرضا عليَّ، فقضيت للحميدي على من يخالفه

وقال أبو بكر الأعين: كتبنا عن البخاري على باب محمد بن يوسف الفريابي، وما في وجهه شعرة فقلنا: ابن كم أنت؟ قال: ابن سبع عشرة سنة.

وعن كتابه:

قال البخارىُّ: أخرجت هذا الكتاب من زهاء ست مئة ألف حديث.

(1) تهذيب الكمال، حـ16، 89

(2)

السير، حـ10، 80

(3)

السير، 84

ص: 26

وقال: ما وضعت في كتابي " الصحيح " حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين.

وقال: " ما أدخلت في هذا الكتاب إلا ما صح، وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب "

وقال: صنفت " الصحيح " في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى.

وقال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن همام يقول: سمعت عدة من المشايخ، يقولون: حوَّل محمد بن إسماعيل تراجم جامعه بين قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين.

وقيل صنفه ببخارى، وقيل بمكة، وقيل بالبصرة، كما قال النووى، وكل ذلك صحيح لطول مدة تصنيفه. والله أعلم.

يقول الذهبىُّ: " لو رحل الرجل من مسيرة سنة لسماعه لما فرط.

وهو أعلى الكتب الستة سنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شئ كثير من الأحاديث، وذلك لأن أبا عبد الله

أسنُّ الجماعة، وأقدمهم لقيا للكبار، أخذ عن جماعة يروي الأئمة الخمسة (1) عن رجل عنهم.

صحيح البخارى لو أنصفوه لما خُطّ إلا بماء الذهب.

سبب تصنيفه لكتابه

يقول عن نفسه: " كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب "

مشايخه:

قال: " كتبت عن ألف شيخ وأكثر، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده "

قال: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر، لقيتهم كَرَّات، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، وأهل البصرة أربع مرات، وبالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي خراسان.

وهذا الكم الهائل ينحصر فى خمس طبقات كما قال الحافظ، وقد نقلها الشيخ أحمد فريد فى كتابه الماتع " من أعلام السلف "، وهى كالآتى:

الأولى: من حدثه عن التابعين كأصحاب الثلاثيات التى معنا؛ كالأنصاري والمكي.

(1) أي: مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة

ص: 27

الثانية: من كان فى عصر هؤلاء، لكن لم يسمع من ثقات التابعين كآدم وأبى مسهر.

الثالثة: هى الوسطى بين مشايخه وهم ممن لم يلق التابعين كقتيبة ونُعَيم وبن المدينى وبن معين وبن حنبل، وهذه الطبقه شاركه مسلم فى الأخذ عنهم.

الرابعة: رفقاؤه فى الطلب ومن سمع قبله قليلاً كابى حاتم الرازى وصاعقة.

الخامسة: قوم فى عداد طلبته فى السن والإسناد سمع منهم للفائدة، وروى عنهم أشياء يسيرة كعبد الله بن حماد الآملى وعبد الله بن أبى العاص.

تلامذته:

أما تلامذته فقد روى عنه جمعٌ غفير لعلو منزلته وكثرة رحلاته، يقول الفِربْرىُّ، وهو من تلامذته:" إن تسعين ألفاً من التلاميذ، رووا عنه صحيح البخارى.

فمن تلامذته الإمام مسلم، والترمذى والنسائى، والدارمىُّ، وكلهم من الفضل بمكان، ومن تلامذته أيضاً محمد بن نصر المروزى، وأبو حاتم الرازى، وابن خزيمة، وحسن المحاملى وابراهيم الحربى والفربرى

وغيرهم من الضخام كثير.

سعة حفظه وعلمه:

يقول: " إني أحفظ سبعين ألف حديث وأكثر، ولا أجيئ بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي من ذلك أصل أحفظه حفظا من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو الطيب حاتم بن منصور: محمد بن إسماعيل آية من آيات الله في بصره ونفاذه من العلم

وأشهر مثالٍ فى ذلك، هذه القصة العجيبة كما فى التهذيب والسير (1):

(1) تهذيبالكمال للمزى حـ16، 99، وسير أعلام النبلاء، حـ10، 88

ص: 28

قال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد هذا، وإسناد هذا المتن هذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال: لا أعرفه. وسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه. وكذلك حتى فرغ من عشرته.

فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم.

ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز، ثم انتدب آخر، ففعل كما فعل الأول، والبخاري يقول: لا أعرفه. ثم الثالث وإلى تمام العشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على: لا أعرفه.

فلما علم أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم، فقال: أمَّا حديثك الأول فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا إلى العشرة، فرد كل متن إلى إسناده. وفعل بالآخرين مثل ذلك. فأقر له الناس بالحفظ.

فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكبش النطاح.

ومن ذلك أيضاً، ما ذكره المزي عن أبى بكر المديني قال (1):" كنا يوما بنيسابور عند إسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل حاضر في المجلس، فمر إسحاق بحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكان دون صاحب صلى الله عليه وسلم عطاء الكَيْخارانيّ، فقال له إسحاق: يا أبا عبد الله إيش كيخاران؟ قال: قرية باليمن؛ كان معاوية بن أبي سفيان بعث هذا الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فسمع منه عطاء حديثين، فقال له إسحاق: يا أبا عبد الله كأنك قد شهدت القوم! ".

مكانته عند المشايخ:

قال محمد بن أبى حاتم سمعت محمود بن النضر الشافعى يقول: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها فكلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم. (2)

(1) التهذيب، حـ16، 90

(2)

السابق، 99

ص: 29

قال عبدان: ما رأيت بعيني شابا أبصر من هذا، وأشار بيده إلى محمد بن إسماعيل.

وقال صالح بن مسمار المروزي: سمعت نعيم بن حماد يقول: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.

وقال إبراهيم بن خالد المروزي: قال مسدد: لا تختاروا على محمد بن إسماعيل، يا أهل خراسان.

وقال موسى بن قريش: قال عبد الله بن يوسف للبخاري: يا أبا عبد الله، انظر في كتبي، وأخبرني بما فيه من السقط، قال: نعم.

* وقال محمد: حدثني محمد بن إسماعيل، قال: كنت إذا دخلت على سليمان بن حرب يقول: بيِّن لنا غلط شعبة.

* وحدث عن نفسه قائلا: اجتمع أصحاب الحديث، فسألوني أن أكلم إسماعيل بن أبي أويس ليزيدهم في القراءة، ففعلت، فدعا إسماعيل الجارية، وأمرها أن تخرج صرة دنانير، وقال: يا أبا عبد الله، فرقها عليهم. قلت: إنما أرادوا الحديث.

قال: قد أجبتك إلى ما طلبت من الزيادة، غير أني أحب أن يضم هذا إلى ذاك ليظهر أثرك فيهم. (1)

* قال الحافظ: وسئل قتيبة عن طلاق السكران، فدخل محمد ابن إسماعيل، فقال قتيبة للسائل:

هذا أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وعلىّ بن المدينى، قد ساقهم الله إليك، وأشار إلى البخارى.

قال يحيى بن جعفر: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم. (2)

وقال البخارى مرةً (3): " لما دخلت البصرة صرت إلى مجلس بُنْدار، فلما وقع بصرُه عليَّ، قال: من أين الفتى؟ قلت: من أهل بخارى، فقال لي: كيف تركت أبا عبد الله؟ فأمسكت، فقالوا له: يرحمك الله هو أبو عبد الله، فقام، وأخذ بيدي، وعانقني، وقال: مرحبا بمن أفتخر به منذ سنين " وقال مسلم بن الحجاج وقد جاء إلى البخاري: " دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله ".

(1) السير، حـ10، 93

(2)

السير، حـ10، 92

(3)

السابق، 95، وتهذيب الكمال حـ16، 96

ص: 30

وقال محمد بن أبى حاتم: حدثني حاتم بن مالك الوراق، قال: سمعت علماء مكة يقولون: محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان.

فهذا ثناء المتقدمين أما المتأخرين فلا داعى لذكره حيث يقول الحافظ: " وبعد ما تقدم من ثناء كبار مشايخه عليه، لا يُحتاج إلى حكاية من تأخر"

مكانته عند الناس:

قال الشيخ عبد السلام المباركفورى: كان الإمام البخارى كلما حل مدينة، أو ترك أرضاً، كان المسلمون يزدحمون حوله، حيث يفوق الوصف والبيان. (1)

* ولما رجع إلى بخارى عائداً من رحلته الدراسية، نصبت له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله عامة أهل البلد، حتى لم يبق مذكور، ونثر عليه الدراهم والدنانير.

وجرى له مثل هذا فى نيسابور، قال الإمام مسلم: لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور، ما رأيت

والياً، ولا عالماً فعل به أهل نيسابور، ما فعلوا به؛ استقبلوه من مرحلتين من البلاد، أو ثلاث. (2)

تدينه:

ونقصد بالتدين التدين العام؛ فى عباداته ومعاملاته.

عن محمد بن أبى حاتم قال: سمعت سليماً - يعنى ابن مجاهد - يقول: ما رأيت بعينى منذ ستين سنةٍ أفقه، ولا أورع، ولا أزهد فى الدنيا من محمد ابن إسماعيل.

* فمن تدينه عبادته:

قال مُسبِّح بن سعيد: " كان محمد بن إسماعيل يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التروايح كل ثلاث ليال بختمة "

وروى الخطيب البغدادى عن عمر بن حفص الأشقر قال: كنا مع محمد بن إسماعيل بالبصرة، نكتب الحديث، ففقدناه أياماً، فطلبناه فوجدناه فى بيت وهو عريان، وقد نفذ ما عنده، ولم يبق معه شيءٌ فاجتمعنا، وجمعنا له الدراهم، حتى اشترينا له ثوباً، وكسوناه، ثم اندفع معنا فى كتابة الحديث (3)

* ومن تدينه أنه لم يجلس إلى التحديث إلا بعدما تأهل:

يقول عن نفسه:

" ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم، وحتى نظرت في عامة كتب الرأي، وحتى

(1) من أعلام السلف، 405

(2)

من أعلام السلف، الشيخ أحمد فريد، 394

(3)

السابق، 405

ص: 31

دخلت البصرة خمس مرات أو نحوها، فما تركت بها حديثا صحيحا إلا كتبته، إلا ما لم يظهر لي ".

* ومن تدينه شدة حيائه:

قال أبو جعفر: قال لي بعض أصحابي: كنت عند محمد بن سلام، فدخل عليه محمد بن إسماعيل حين قدم من العراق، فأخبره بمحنة الناس، وما صنع ابن حنبل وغيره من الأمور.

فلما خرج من عنده قال محمد بن سلام لمن حضره: أترون البكر أشد حياء من هذا؟!

* ومن تدينه تمسكه بهدى النبى (صلى الله عليه وسلم):

كان البخارى يقول: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به. فالرمى مع أنه ليس من اختصاص العلماء، ولكن لما كانت السنة قد وردت به كان الإمام البخارىُّ يركب إلى الميدان للتدرب على الرمى، وكان من شدة مهارته لا يخطئ الهدف. (1)

ومن ذلك أيضاً أنه كان يبنى رباطاً، وجاء الناس يعينونه، فكان ينقل اللبن بنفسه إقتداءً بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم فى بناء المسجد وحفر الخندق.

* ومن تدينه احتياطه فى جرح الرواة:

كان يقول: " أرجو أن ألقى الله، ولا يحاسبنى أنى اغتبت أحداً.

يقول الشيخ أحمد فريد (2): " ومسلك الاحتياط الذى سلكه الإمام البخارىُّ، يدل على منزلته العليا من التدين والإخلاص والورع، فطريقته فى الجرح أنه يختار كلمات لا يمكن أى شخص أن يؤاخذ بها المجروح، ومن كلماته: تركوه، أنكره الناس، وأشدها عنده أن يقول: منكر الحديث "

* ومن تدينه أنه ما كان يؤذى أحداً من جلسائه حتى ولو بما أحل الله:

قال: ما أكلت كراثا قط، ولا القنابَرَى قيل: ولم ذاك؟ قال: كرهت أن أوذي من معي من نتنهما.

فقيل له: وكذلك البصل النئ؟ قال: نعم.

* ومن تدينه هذه الخصائص:

(1) من أعلام السلف، 400

(2)

السابق، 404

ص: 32

وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت الحسين بن محمد السمرقندي يقول: كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال مع ما كان فيه من الخصال المحمودة: كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم. (1)

* ومن تدينه أنه ما كان يأخذ على العلم أجرا:

قال سليم بن مجاهد: ما بقي أحد يعلم الناس الحديث حِسبةً غير محمد بن إسماعيل.

* ومن تدينه الإحسان إلى المسيء:

قال عبد الله بن محمد الصارفي: كنت عند أبي عبد الله في منزله، فجاءته جارية، وأرادت دخول المنزل، فعثرت على محبرة بين يديه، فقال لها: كيف تمشين؟

قالت: إذا لم يكن طريق، كيف أمشي؟ فبسط يديه، وقال لها: اذهبي فقد أعتقتك.

قال: فقيل له فيما بعد: يا أبا عبد الله، أغضبتك الجارية؟ قال: إن كانت أغضبتني فإني أرضيت نفسي بما فعلت (2).

ومن ذلك (3): أنه كان كثير من أصحابه يقولون له: إن بعض الناس يقع فيك، فيقول:

"إن كيد الشيطان كان ضعيفا"(النساء: 76) ويتلو أيضا: " ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله"(فاطر: 43) فقال له عبد المجيد بن إبراهيم: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك

ويبهتونك؟ فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اصبروا حتى تلقوني على الحوض " وقال صلى الله عليه وسلم:

" من دعا على ظالمه، فقد انتصر "

مؤلفاته:

1 -

" الجامع الصحيح "

2 -

" التاريخ الكبير "

3 -

" التاريخ الأوسط "

4 -

" التاريخ الصغير "

5 -

" خلق أفعال العباد "

6 -

كتاب " الضعفاء الصغير "

7 -

" الأدب المفرد "

8 -

" جزء رفع اليدين "

9 -

" جزء القراءة خلف الإمام "

10 -

" كتاب الكنى "

وله كتبٌ أخرى فى عداد المخطوطات والمفقودات.

وفاته:

(1) السير حـ10، 108

(2)

السير، حـ 10، 111

(3)

السابق، 115

ص: 33