الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوسيلة الثانية: كتاب "أضواء على السُّنَّة المحمدية" لأبي ريَّة 1
الطائفة الثانية:
بعض الكتاب والأدباء وهم من أبناء الكنانة أيضاً - ممن نشأ وترعرع على أيدي أعداء الإسلام من يهود ونصارى من المستشرقين في جامعات فرنسا وألمانيا وبريطانيا، فتغذَّت عقولهم، وران على قلوبهم شبهات وشكوك مشايخهم من المستشرقين، فعادوا إلى بلاد المسلمين ليكونوا رسلاً لأعداء الله ورسوله، فيبثوا تلك الشبهات ويثيروا تلك الشكوك بين المسلمين، وعلى رأس هؤلاء الأدباء الذين كانت كتبهم تنضح بالطعن على السُّنَّة ورواتها وينادون بردِّها كل من: طه حسين، وأحمد أمين وغيرهما.
1 كتب في الرد على أبي ريَّة كتب كثيرة من أجودها: 1- السنة ومكانتها للسباعي 2- الأنوار الكاشفة للمعلمي رحمهما الله جميعاً
ثانياً: رد خبر الآحاد:
لم يكن هناك خلاف بين أحد من السلف في القرون الثلاثة المفضلة في وجوب العمل بالسُّنَّة دون تفريق بين ما سمِّي فيما بعد بخبر الآحاد وما سمِّي بالمتواتر، ولا ما يسمَّى بأصول الدين وفروعه - وكلها تقسيمات محدثة مبتدعة 2 - بل لما بزغت بعض رؤوس الفتنة في عصور السلف الأولى وردت السُّنَّة أو بعضها هبوا جميعاً في وجوههم، وحذَّروا منهم، فهذا أيوب السختيانى - كما مرَّ سابقاً - يقول: "إذا حدَّثت الرجل بالسُّنَّة فقال: دعنا من هذا وحدثنا بالقرآن،
2 انظر: مختصر الصواعق المرسلة 2 / 413.
فاعلم أنه ضالٌّ مضلٌّ".
وهذا الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - يعقد فصلين في الردِّ على هؤلاء المبتدعة الذين أحدثوا القول برد السُّنَّة أو بعضها، الفصل الأول في الرد على الطائفة التي ردت السُّنَّة مطلقاً، وذلك في كتاب "جماع العلم" المطبوع ضمن كتاب "الأم" له، والآخر في الرد على من ردَّ خبر الخاصة – الآحاد - وذلك في كتابه "الرسالة".وهكذا بقية السلف كانوا يحاصرون هؤلاء في معاقلهم ويحذرون المسلمين منهم ومن بدعهم، والمتتبع لتاريخ ظهور بدعة القول برد خبر الآحاد يجد الأمور التالية:
أولاً: أن هذا القول لم يظهر إلا على يد المبتدعة وأصحاب الأهواء والمتَّهمين في دينهم من جهمية أو معتزلة أو متكلمين، وأغلب رؤساء هذه الطوائف إمَّا متَّهمٌ بالزندقة أو بأخذ آرائه وعقيدته من أعداء الاسلام، أو على الأقل متَّهمٌ برقَّة دينه، كما قال الإمام الذهبي عن الجاحظ:"كان ماجناً قليل الدين" 1
وذكر الخطيب بإسناده إلى ابن أبى الذيال أن الجاحظ كان لا يصلى. 2
ثانياً: أن حقيقة هذا القول هو رد السُّنَّة بمجرد العقل أو الهوى، إذْ ردهم لخبر الآحاد لتجويزهم عقلاً أن يكذب راويه أو يغلط، ثم
1 انظر: سير أعلام النبلاء 11 / 527.
2 انظر: تاريخ بغداد 12 / 217.
إنهم يؤوِّلون المتواتر أو يفوضونه لمجرد مخالفته لعقولهم التي هي مختلفة ومتناقضة وقاصرة. 1
ثالثاً: أن هذا القول طوال القرون الثلاثة بل الأربعة الأولى لم يكتب له الانتشار والظهور - كما حصل فيما بعد - وهذا بفضل الله، ثم بفضل جهود السلف الذين هيأهم الله لحفظ السُّنَّة وتبليغها للأمَّة، فكانوا يجاهدون لإحياء السنن وقمع البدع في مهدها رحمهم الله وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ولم يكتب لهذا القول - فيما أعلم - الانتشار والظهور إلا في عصور الضعف، وظهور البدع، وتسلط أصحاب الأهواء وأهل البدع على رقاب المسلمين، وذلك من أوائل القرن الخامس الهجري فما بعده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في معرض الردَّ على أهل هذا الرأى من معاصريه: "وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى السيف الآمدي، وإلى ابن الخطيب الرازي، فإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني 2، وإلا فالسلف مجمعون على قبول خبر الآحاد والعمل به دون تفريق بينه وبين غيره". 3
1 انظر مثلاً على ذلك: كلام أبي المعالي الجويني في كتاب: الإرشاد ص: 146 – 148 عند الكلام على صفة اليدين والعينين والوجه.
2 توفي الباقلاني سنة 403 هـ، والغزالي سنة 505 هـ.
3 ذكره ابن القيم عن شيخه في: مختصر الصواعق 2 / 412 – 433.
رابعاً: انتشار القول برد خبر الآحاد في القرن الخامس وما بعده وهي الفترة الزمنية التي سيطر فيها علم الكلام ومنطق اليونان على العلوم الاسلامية وعلى كثير من علماء الأمَّة في تلك الفترة من الزمن، فأفسد ذلك المنطق وعلم الكلام أغلب العلوم الإسلامية، ولا أدلَّ على ذلك من أن الوقت الذي سيطر فيه علم المنطق، وعلم الكلام على الأمَّة والذي يبدأ من بداية القرن الخامس إلى نهاية القرن السابع تقريباً هو وقت جمود الأمَّة الإسلامية فكرياً وعلمياً، وهو وقت انتشار البدع وانتفاش الباطل وأهله من باطنية ومتفلسفة ومتصوفة، وهذا الوقت هو الذي استغله أعداء الأمَّة من الصليبيين والمغول فهجموا عليها وأطاحوا بخلافتها.
ولم تستيقظ الأمَّة من ذلك الركود والجمود، وتنفض غبار المنطق وعلم الكلام إلا على يد تلك المدرسة السلفيَّة السائرة على منهج أهل السُّنَّة والجماعة - أهل القرون المفضلة - تلك هي مدرسة شيخ الاسلام ابن تيمية وتلاميذه، وذلك في نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن من الهجرة.
وقد كان من أكثر العلوم الإسلامية تأثراً بعلم الكلام: علم أصول الفقه، ثم أصول الحديث بعد القرن الخامس.
خامساً: بعد انتشار هذا القول بين علماء الأمَّة تلخصت أقوالهم في ثلاثة مذاهب:
الأول: أنه لا يفيد إلا الظن، وهؤلاء فريقان:
1-
المعتزلة ومن نهج نهجهم يقولون: إنه ظنٌ فلا يفيد علماً ولا يوجب عملاً، ولذلك ردُّوه في العقائد والأحكام.
2-
متكلموا الأشاعرة يقولون: نعم إنه ظن ولكن يجوز العمل بالظن الراجح في الأحكام دون العقائد.
وحجة هذا المذهب أنك لو سئلت عن أعدل رواة الآحاد أيجوز في حقِّه الكذب والغلط لاضطررت أن تقول: نعم، فيقال: قطعك إذن بصدقه مع تجويزك عليه الكذب والغلط لا معنى له. 1
الثاني: أنه يفيد العلم ويوجب العمل إن كان الرواة عدولاً ضابطين.
قال أبو محمد بن حزم: قال أبو سليمان الخطابي والحسين بن علي الكرابيسى والحارث المحاسبي وغيرهم: "إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معاً، وبهذا نقول، وقد ذكر هذا القول أحمد ابن اسحاق المعروف بابن خويذ منداد عن مالك بن أنس. 2
ثم شرع بعد ذلك في ذكر البراهين على قبول السلف لخبر الواحد من الصحابة ومن بعدهم. 3
1 مذكرة أصول الفقه لمحمد الأمين الشنقيطي ص: 103، وانظر: الإحكام لابن حزم 1 / 133.
2 الإحكام لابن حزم 1 / 132.
3 انظر تفاصيل ذلك في: كتاب الإحكام لابن حزم 1 /122 – 132.
وأغلب ما ذكر من الأدلة والبراهين - وهي مهمة ومفيدة - قد ذكرها الإمام الشافعي رحمه الله في "الرسالة". 1
الثالث: التفصيل بأنه إذا احتفَّت بخبر الواحد قرائن دالة على صدقه أفاد اليقين وإلا أفاد الظن.
ومن أمثلة ما احتفت به القرائن أحاديث الصحيحين لأن القرائن دالَّة على صدقها لجلالتهما في هذا الشأن، وتقديمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق كما قاله غير واحد، واختار هذا القول ابن الحاجب، وإمام الحرمين، والآمدي، والبيضاوي، وأبو العباس ابن تيمية رحمهم الله، وحمل بعضهم الرواية عن أحمد على ما قامت القرائن على صدقه خاصة دون غيره. 2
تنبيهان:
التنبيه الأول: قال شيخ الاسلام ابن تيمية: "وأما قول السائل: إذا صح الحديث هل يكون صدقاً فجوابه أن الصحيح أنواع:
1-
فمن الصحيح ما تواتر لفظه كحديث: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
2-
ومنه ما تواتر معناه، كأحاديث الشفاعة، وأحاديث الرؤية،
1 انظر: الرسالة ص: 401 فما بعدها – باب الحجة في تثبيت خبر الواحد وانظر: ما كتب الإمام أبو عبد الله البخاري في صحيحه حيث أفرد كتاباً من كتب الصحيح بعنوان: كتاب أخبار الآحاد. الفتح 13 / 231 – 244
2 مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص: 103.
وأحاديث نبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك.
فهذا يفيد العلم ويجزم بأنه صدق لأنه متواترٌ إما لفظاً وإما معنى.
3-
ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول فعملوا به، كما عملوا بحديث الغرة في الجنين، وكما عملوا بأحاديث الشفعة، وأحاديث سجود السهو ونحو ذلك، فهذا يفيد العلم ويجزم بأنه صدق، لأن الأمَّة تلقته بالقبول تصديقاً وعملاً بموجبه، والأمَّة لا تجتمع على ضلالة، فلو كان في نفس الأمركذباً لكانت الأمَّة قد اتفقت على تصديق أهل الكذب والعمل به، وهذا لا يجوز عليها.
4-
ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث كجمهور أحاديث الصحيحين، جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين، وسائر الناس تبعاً لهم في معرفة الحديث، وإذا أجمع أهل العلم على شيءٍ فسائر الأمَّة تبعٌ لهم فإجماعهم معصوم لا يجوز أن يجمعوا على خطأ.
5-
ومنه ما اتفق العلماء على صحته فهو مثل ما اتفق عليه العلماء من الأحكام، وهذا لا يكون إلا صدقاً وجمهور متون الصحيح من هذا الضرب، وعامة هذه المتون تكون مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه، رواها هذا الصاحب وهذا الصاحب من غير أن يتواطآ، ومثل هذا يوجب العلم القطعي.
6-
ومما قد يسمى صحيحاً ما يصححه بعض علماء الحديث وآخرون يخالفون في تصحيحه فيقولون: هو ضعيف وليس بصحيح، مثل ألفاظٍ رواها مسلم في صحيحه ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم، إما مثله أو دونه أو فوقه، فهذا لا يجزم بصدقه إلا بدليل".اه ملخصاً 1
التنبيه الثاني: قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطى رحمه الله: "اعلم أن التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه أن أخبار الآحاد الصحيحة كما تقبل في الفروع تقبل في الأصول، فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة من صفات الله يجب اثباته واعتقاده على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله على نحو:{ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم من أنَّ أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد ولا يثبت بها شيء من صفات الله زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين، وأن العقائد لا بد فيها من اليقين باطلٌ لا يعول عليه، ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم ردَّ الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد تحكيم العقل.
والعقول تتضاءل أمام عظمة صفات الله، وقد جرت عادة المتكلمين أنهم يزعمون أن ما يسمونه الدليل العقلي - وهو القياس
1 مجموع الفتاوى 18 / 16 – 22، وانظر: مختصر الصواعق لابن القيم 2 / 372 فما بعدها.
المنطقي الذي يركبونه من مقدمات اصطلحوا عليها أنه - مقدَّمٌ على الوحي، وهذا من أعظم الباطل لأن ما يسمونه الدليل العقلي ويزعمون أن انتاجه للمطلوب قطعي، هو جهلٌ وتخبطٌ في الظلمات.
ومن أوضح الأدلة وأصرحها في ذلك أن هذه الطائفة تقول مثلاً: إنَّ العقل يمنع كذا من الصفات ويوجب كذا منها، وينفون نصوص الوحى بناء على ذلك، فيأتي خصومهم من طائفة أخرى ويقولون: هذا الذي زعمتم أن العقل يمنعه كذبتم فيه؛ بل العقل يوجبه، وما ذكرتم بأنه يجيزه أو يوجبه كذبتم فيه؛ بل هو يمنعه، وهذا معروف في الكلام في مسائل كثيرة معروفة كاختلافهم في أفعال العبد، وجواز رؤية الله بالأبصار، وهل العرض يبقى زمانين إلى غير ذلك. فيجب على المسلم أن يتقبل كل شىءٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، ويعلم أنه إن لم يحصل له الهدى والنجاة باتِّباع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحصل له ذلك بتحكيم عقله التائه في ظلمات الحيرة والجهل، وعلى كل حال فإثبات صفات الله بأخبار الآحاد الصحيحة واعتقاد تلك الصفات كالعمل بما دلت عليه أوامر الله ونواهيه كما أنها تثبت بها أوامره ونواهيه، وكذلك تثبت بها صفاته، وقد بيَّنَّا أنها من إحدى الجهتين قطعية". 1
1 مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص: 104 – 105، والمراد بالجهتين:"أنه قطعيٌ من جهة غير قطعي من جهة أخرى، أما الجهة التي هو قطعيٌّ منها فهي: العمل به لأن الكتاب والسنَّة والإجماع كلها دالٌّ على العمل بخبر الآحاد أما الجهة التي هي غير قطعي منها فهي: كون الخبر صدقاً في ذات نفسه ".انظر كتاب: الرحلة إلى بيت الله الحرام للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى ص: 98