الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس: اتجاه تدوين السنة بعد القرن الخامس إلى نهاية القرن التاسع
تعريف موجز بأحوال المسلمين في تلك القرون الأربعة
…
الباب الخامس: اتجاه تدوين السُّنَّة بعد القرن الخامس إلى نهاية القرن التاسع.
في هذا الوقت الممتد عبر أربعة قرون تقريباً، مرت على المسلمين فيه محن وبلايا يشيب لهولها الولدان، ومن هذه المحن:
1-
استمرار الانحطاط العلمي والجمود الفكري الذي بدأ - كما أشرت سابقاً - من أوائل القرن الخامس الهجري تقريباً.
2-
استمرار الحملات الصليبية على ديار المسلمين، إذ بعد هزيمتهم في معركة حطين سنة (583 هـ) وطردهم من بيت المقدس على يد القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي – مؤسس الدولة الأيوبية في مصر والشام – رحمه الله – استمر لهؤلاء الصليبين وجود – أيضاً – في بعض مدن الشام قرابة قرن من الزمن بعد هزيمتهم في حطين، حيث كانت آخر معركة مع الصليبين في آخر معقل لفلولهم، معركة عكا سنة (690 هـ) كما ذكر ذلك الحافظ الذهبي في حوادث تلك السنة من كتابه "تاريخ الاسلام"، وذكر رحمه الله أنه حضرها بنفسه وسنه يومئذ سبع عشرة سنة، وأنها كانت على أيدي العلماء من الفقهاء والمحدثين والمطوِّعة، حيث كانوا يجرون المنجنيق بأيديهم وهم يرتلون آيات الجهاد ويضرعون بالدعاء.
3-
ومنها تلك المحنة العظيمة والرَّزيَّة الأليمة التي نزلت بالمسلمين
على أيدي التتار الوثنيين حيث بلغت ذروتها بسقوط بغداد على أيديهم سنة (656 هـ) 1، واستمرت معاركهم الضارية ضد المسلمين حتى كسرهم الله على يد المسلمين مرتين: الأولى على يد الملك المظفر قطز في معركة عين جالوت سنة (658 هـ) 2، والثانية على يد شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته في موقعة شقحب قرب مدينة دمشق سنة (702هـ) 3، وبعد هذه الموقعة لم يعد للتتار ذكر - فيما أعلم - حيث تفرقوا ودخل كثير منهم الإسلام.
4-
ومنها استمرار تسلط أصحاب البدع والأهواء على رقاب المسلمين وتحكمهم فيها، وقد بدأ ذلك من منتصف القرن الرابع الهجرى تقريباً بتسلط البويهيين الروافض على الخلافة في بغداد واستيلاء العبيديين الباطنيين على شمال أفريقيا ومصر والشام، وقبل ذلك تسلط على المسلمين القرامطة الملحدون في البحرين وبعض أجزاء من العراق والشام.
وانتهى باستحواذ الوزير الرافضي ابن العلقمي وصاحبه نصير الكفر الطوسي على الخليفة العباسي في بغداد، ولم يزل ابن العلقمي يزين للخليفة تسريح أفراد الجيش النظامي الذى كان عدده يزيد على ثلاثمائة ألف فأصبح لا يزيد عن عشرة آلاف شخص عند هجوم التتار
1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 13 / 200.
2 المصدر السابق 13 / 230.
3 المصدر السابق 14 / 23 – 27.
على بغداد 1.
5-
ومنها تلك الفتن والقلاقل الداخلية بين بعض ولاة المسلمين وأمرائهم، حيث كان كل أمير مدينة أو ناحية يغير على من حوله من الولايات أو الإمارات الصغيرة وقد كثرت في ديار المسلمين هذه الولايات الصغيرة المتناحرة وخاصة في بلاد الشام وشمال العراق فضلاً عما اشتهر في الأندلس من دويلات الطوائف وما بعدها من الدويلات الصغيرة والمتناحرة.
هذه من أشهر المحن والرزايا التي ابتلي بها المسلمون خلال هذه القرون المتأخرة، إلا أنه كان مما يخفف من حدتها ظهور تلك المصاولة والمجاولة من فينة لأخرى بين المسلمين وأعدائهم وذلك على أيدي الأئمة والعلماء من أهل السُّنَّة والجماعة ومن الأمثلة على ذلك:
أولاً: ما قام به العلماء من أهل السُّنَّة والجماعة من جهود لمقاومة ذلك الانحطاط العلمي والجمود الفكري من أمثال: الحافظ أبو بكر البيهقي، والخطيب البغدادي، ومحمد بن طاهر المعروف بابن القيسرانى، ومحي السُّنَّة البغوي، ثم أبو بكر الحازمي، وأبو موسى المديني، ومحمد بن طاهر السِّلفي، والحافظ ابن الجوزي وغيرهم من علماء المشرق، ومن أمثال الحافظ: ابن عبد البر، وأبو محمد بن حزم، وأبو الوليد الباجي، وأبو عبد الله الحميدي، ثم عبد الحق الأشبيلي، وأبو العباس القرطبي، والقاضي عياض، ورزين بن معاوية وغيرهم من علماء المغرب.
ثم أشرقت أنوار نهضة علمية جديدة مع بدايات القرن السابع
1 البداية والنهاية 13 / 200 – 202.
الهجري على أيدي علماء السُّنَّة من المحدثين والفقهاء من أمثال: الحافظ عبد الغني المقدسي (ت 600هـ) ، وابن الأثير (ت 606 هـ) ، والضياء المقدسى (ت 643 هـ) ، والحافظ المنذري (ت 656 هـ) ، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام (ت.66 هـ) وغيرهم.
ثم تُوجَت هذه النهضة العلمية بصلب عودها وبلوغ ذروتها على يد شيخ الإسلام الحافظ أبي العباس ابن تيمية (ت 728هـ) وتلامذته مثل: المزي (ت 742 هـ) ، وابن القيم (ت 751 هـ) ، وعلم الدين البرزالي (ت 739 هـ) ، وشمس الدين الذهبي (ت 748 هـ) ، ثم الحافظ أبو الفداء ابن كثير (ت 774 هـ) ، والحافظ ابن رجب الحنبلي (ت هـ79 هـ)، ثم حمل الراية من بعدهم الحافظ العراقي (ت 806 هـ) ومدرسته من أمثال: أبو بكر الهيثمي (ت 807 هـ) ، ثم البوصيري (ت 840 هـ) ، والحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) وغيرهم.
فقد أحيا هؤلاء الأعلام – كل في عصره وبحسب إمكاناته – السُّنَّة، ونشروا العلم، وبصروا الأمة بواقعها الذي تعيشه، وجددوا لها ما اندرس من أمر دينها في تلك العصور التي أحلكت فيها الظلمة على الأمة، وابتعد كثير من الناس عن نور النبوة، فاحتاجوا إلى من يضيء لهم الطريق وينير السبيل.
وقد سلك العلماء بعد هذا القرن الخامس الهجري - في مجال خدمة السُّنَّة المطهرة وعلومها - مسالك شتى في مصنفاتهم ويبرز
ذلك من خلال الأعمال التالية:-
1-
العناية التامة بكتب السلف، رواية ودراسة وشرحاً وترجمة لرجالها.
2-
العناية بعلوم الحديث تأليفاً وترتيباً وتهذيباً، وفي هذا القرن كثرت كتب المصطلح المرتبة المهذبة شرحاً ونظماً.
3-
الابتكار في التصنيف والعناية بالترتيب، حيث ظهرت أنواع جديدة من المصنفات منها:
أ- إعادة ترتيب كتب السابقين سواء في المتون أو في الرجال ليسهل الانتفاع بها.
ب- كتب اعتنت بجمع أحاديث موضوعات معينة محدودة مثل: كتب الموضوعات وكتب الأحكام وغيرها.
ج- كتب اعتنت بخدمة كتب أخرى أو حوت موضوعات عامة وشاملة مثل: كتب التخريج، وكتب الزوائد وغيرها.
ثانياً: ما قام به بعض الولاة والحكام من إحياء السُّنَّة وقمع البدعة وإحياء فريضة الجهاد ضد أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين الباطنين ومن هولاء:
كمشتكين بن دانشمند (ت 499هـ) بطل الإنتصارات الأولى على الصليبين، ثم عماد الدين زنكي (ت 540 هـ) ، وابنه نور الدين محمود الشهيد بن زنكي (ت 569 هـ) ، وقد كان لنور الدين هذا
جهود كبيرة في إحياء السُّنَّة ونشر العدل بين الناس وتقريب العلماء وتكريم الصالحين.
وكان من آثار جهوده بروز القائد صلاح الدين الأيوبي (ت 589 هـ) الذي كسر الله على يده شوكة الصليبين في حطين وفتح على يديه بيت المقدس، كما أزال على يديه دولة الباطنيين العبيديين، ومحا مذهبهم الرافضي الباطني الذي حاولوا نشره بين المسلمين عن طريق الأزهر الذي أسسوه لهذا الغرض بعد دخولهم مصر بعد منتصف القرن الرابع الهجري.
وكذلك الملك المظفر قطز بن عبد الله (ت 658 هـ) الذي قهر التتار في عين جالوت سنة (658 هـ) وغيرهم من سلاطين الدولتين الأيوبية والمملوكية.
ثالثاً: ما كان بين أهل الحل والعقد من أهل السُّنَّة - علماء وأمراء - من تلاحم وتناصح وتواصٍ بالحق والصبر، فقد عرف الأمراء والولاة الذين كانوا ينتهجون منهج أهل السُّنَّة في تلك العصور للعلماء حقهم وحفظوا لهم مكانتهم، ومكنوهم من أداء رسالتهم إلى الأمَّة وتعليمها الهدى والخير. 1
وهذا بعكس ما يفعله الولاة والأمراء من أصحاب الأهواء والبدع من محاربة العلماء والتضييق عليهم، ومنعهم من أداء رسالتهم؛ لأنهم يعلمون أنهم لا يمكن أن ينفذوا مآربهم ومآرب أسيادهم من
1 انظر مثالاً على ذلك: ما فعله الملك الناصر محمد بن قلاوون مع شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن اتضح له أمره وأنه كان مظلوماً من خصومه، فأخرجه من سجن الاسكندرية سنة 709 هـ، واستقدمه إلى القاهرة، وأكرمه وطلب منه المكث عندهم لنشر العلم ودعوة الناس.
انظر: العقود الدرية لابن عبد الهادي ص: 184، البداية والنهاية لابن كثير 14 / 53.
أعداء المسلمين إلا بنشر الجهل في الأمة، وتفشي الأمِّيَّة في المجتمع، وبذلك تنشأ الأمة جاهلة بدينها وبرسالتها في هذه الحياة، وغارقة في شهواتها وطلب معاشها، فتنشغل بذلك عما يدبره لها حكامها وأسيادهم.
كما عرف العلماء – أيضاً - للولاة والأمراء – بِرَّهم وفاجرهم - حقهم من السمع والطاعة والنصيحة لهم، وتبيين الحق لهم، وجمع الكلمة عليهم، وعدم جواز الخروج عليهم ما لم يفعلوا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان. 1
1 ومن الأمثلة على ذلك: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – من نائب السلطان في دمشق جمال الدين الأفرم وإعادته إلى ولايته بعد أن كان قد هرب أمام التتار قبل موقعة شقحب سنة 702 هـ، فتولى شيخ الإسلام السلطة في دمشق هو وتلاميذه بعد انتصارهم على التتار في شقحب، وأقام الحدود وأراق الخمور، وجبى الزكاة، ووضع المكوس، ثم استدعى نائب السلطان الأمير جمال الدين الأفرم وسلَّمه السلطة، وتفرغ هو لدعوته وجهاده – رحمه الله، وإن شئت فانظر رسالته إلى السلطان الملك الناصر بن قلاوون في "العقود الدرية" لابن عبد الهادي ص: 123 وغير ذلك كثير.