الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُهُ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَيْ تَرْبِيَتُهُ وَإِرْضَاعُهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي عَامَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] الآية، وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَنْبَطَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، لأنه قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَافِ: 15] وَإِنَّمَا يَذْكُرُ تَعَالَى تَرْبِيَةَ الْوَالِدَةِ وَتَعَبَهَا وَمَشَقَّتَهَا فِي سَهَرِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، لِيُذَكِّرَ الْوَلَدَ بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاءِ: 24] وَلِهَذَا قَالَ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَا:
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بن وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَكَانَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إني رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُطِيعُونِي لَا آلُوكُمْ خَيْرًا، وَأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ إِقَامَةٌ فَلَا ظَعْنَ، وَخُلُودٌ فَلَا مَوْتَ.
وَقَوْلُهُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أَيْ إِنْ حَرَصَا عَلَيْكَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذَلِكَ، ولا يمنعك ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، أَيْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الْعِشْرَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عن داود بن أبي هند أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ:
أُنْزِلَتْ فِيَّ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [العنكبوت: 8] الآية، قال: كُنْتُ رَجُلًا بَرًّا بِأُمِّي، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَتْ: يَا سَعْدُ مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكَ قَدْ أحدثت لتدعن دينك هذا أولا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ فَتُعَيَّرُ بِي، فَيُقَالُ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ، فَقُلْتُ: لَا تَفْعَلِي يَا أُمَّهْ، فَإِنِّي لَا أَدْعُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ. فَمَكَثَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ، فَأَصْبَحَتْ قد جهدت، مكثت يوما وَلَيْلَةً أُخْرَى لَا تَأْكُلْ، فَأَصْبَحَتْ قَدِ اشْتَدَّ جُهْدُهَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ: يَا أُمَّهْ تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي وَإِنْ شِئْتِ لَا تأكلي، فأكلت.
[سورة لقمان (31) : الآيات 16 الى 19]
يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
هذه وصايا نافعة قد حكاها الله سبحانه عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، لِيَمْتَثِلَهَا النَّاسُ وَيَقْتَدُوا بِهَا، فَقَالَ يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَيْ إِنَّ الْمَظْلَمَةَ أَوِ الْخَطِيئَةَ لَوْ كَانَتْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ إِنَّهَا ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ، وَجَوَّزَ عَلَى هَذَا رفع مثقال، والأول أولى. وقوله عز وجل يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أَيْ أَحْضَرَهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَجَازَى عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء: 47] الآية.
وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7- 8] وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّرَّةُ مُحَصَّنَةً مُحَجَّبَةً فِي دَاخِلِ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، أَوْ غَائِبَةٍ ذَاهِبَةٍ في ارجاء السموات والأرض، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِهَا، لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السموات ولا في الأرض، ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أَيْ لِطَيْفُ الْعَلَمِ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ دَقَّتْ وَلَطُفَتْ وَتَضَاءَلَتْ، خَبِيرٌ بِدَبِيبِ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَنَّهَا صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ، وذكره السدي بإسناده ذلك المطروق عن ابن مسعود وابن عباس وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَأَبِي مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- كَأَنَّهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تَكْذَّبُ، وَالظَّاهِرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ فِي حَقَارَتِهَا لَوْ كَانَتْ دَاخِلَ صَخْرَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُبْدِيهَا وَيُظْهِرُهَا بِلَطِيفِ عِلْمِهِ. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» .
ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ أَيْ بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَيْ بِحَسَبِ طَاقَتِكِ وَجُهْدِكَ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ عَلِمَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ. وَقَوْلُهُ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَمِنْ عَزَمِ الْأُمُورِ وَقَوْلُهُ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ يَقُولُ لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ، وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَلِنْ جَانِبَكَ وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَالْمَخِيلَةُ لَا يُحِبُّهَا اللَّهَ» «2» .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ يقول لا تتكبر
(1) المسند 3/ 28.
(2)
أخرجه أبو داود في اللباس باب 24، وأحمد في المسند 4/ 65، 5/ 63، 64، 378.
فَتَحْقِرَ عِبَادَ اللَّهِ، وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ، وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ وَعِكْرِمَةُ عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تتكلم وَأَنْتَ مُعْرِضٌ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ وَأَبِي الْجَوْزَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ جبير والضحاك وابن زيد وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَعْنِي بِذَلِكَ التَّشْدِيقَ في الكلام. والصواب القول الأول. وقال ابْنُ جَرِيرٍ «1» : وَأَصْلُ الصَّعْرِ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا أَوْ رُؤُوسِهَا، حَتَّى تُلْفِتْ أَعْنَاقَهَا عَنْ رُؤُوسِهَا، فَشُبِّهَ بِهِ الرَّجُلُ الْمُتَكَبِّرُ، وَمِنْهُ قول عمرو بن حيي التغلبي [الطويل] .
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ
…
أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا «2»
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي شعره [الطويل] :
وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً
…
إِذَا مَا ثَنُوا صُعْرَ الرُّؤُوسِ نُقِيمُهَا «3»
وَقَوْلُهُ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي خيلاء مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا، لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ يُبْغِضُكَ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أَيْ مُخْتَالٍ مُعْجَبٍ فِي نَفْسِهِ، فَخُورٌ أَيْ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الْإِسْرَاءِ: 37] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عِيسَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ قَالَ: ذُكِرَ الْكِبْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَدَّدَ فِيهِ، فَقَالَ «إِنِ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لِأَغْسِلُ ثِيَابِي فَيُعْجِبُنِي بَيَاضُهَا، وَيُعْجِبُنِي شِرَاكُ نَعْلِي، وَعِلَاقَةُ سَوْطِي، فَقَالَ «لَيْسَ ذَلِكَ الْكِبْرُ، إِنَّمَا الْكِبْرُ أَنْ تُسَفِّهَ الْحَقَّ وَتَغْمِطَ النَّاسَ» وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَمَقْتَلُ ثَابِتٍ وَوَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقَوْلُهُ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أَيِ امش مقتصدا مشيا لَيْسَ بِالْبَطِيءِ الْمُتَثَبِّطِ، وَلَا بِالسَّرِيعِ الْمُفْرِطِ، بَلْ عَدْلًا وَسَطًا بَيْنَ بَيْنَ. وَقَوْلُهُ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أَيْ لَا تُبَالِغْ فِي الْكَلَامِ وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلِهَذَا قال إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، أَيْ غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبَّهُ بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي هَذَا بِالْحَمِيرِ، يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَذَمَّهُ غَايَةَ الذَّمِّ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الْعَائِدُ فِي هبته كالكلب يقيء ثم
(1) تفسير الطبري 10/ 214.
(2)
البيت للمتلمس في ديوانه ص 24، ولسان العرب (درأ) ، (صعر) ، (كون) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 15، 2/ 149، وتاج العروس (درأ) ، (صعر) ، (كون) ، ولعمرو بن حنيّ التغلبي في تفسير الطبري 10/ 214، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 2/ 274، ويروى «من درئه» بدل «من ميله» .
(3)
البيت في سيرة ابن هشام 1/ 269. [.....]
يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» «1» .
وَقَالَ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِذَا سَمِعْتُمُ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا» «2» وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةُ سِوَى ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ بِهِ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: بِاللَّيْلِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَهَذِهِ وَصَايَا نافعة جدا، وهي من قصص القرآن عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا أُنْمُوذَجًا وَدُسْتُورًا إِلَى ذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» :
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنِي نَهْشَلُ بْنُ مُجَمِّعٍ الضَّبِّيُّ عَنْ قَزْعَةَ عَنِ ابن عمر قَالَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ: إن الله إذا استودع شيئا حفظه» . وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنِ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالتَّقَنُّعَ، فَإِنَّهُ مَخْوَفَةٌ بِاللَّيْلِ مَذَمَّةٌ بِالنَّهَارِ» .
وَقَالَ: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان بن ضمرة، حدثنا الترمذي بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ أَجْلَسَتِ الْمَسَاكِينَ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِذَا أَتَيْتَ نَادِيَ قَوْمٍ فَارْمِهِمْ بِسَهْمِ الْإِسْلَامِ، يَعْنِي السَّلَامَ، ثُمَّ اجْلِسْ فِي نَاحِيَتِهِمْ فَلَا تَنْطِقْ حَتَّى تَرَاهُمْ قَدْ نَطَقُوا، فَإِنْ أَفَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ، فَأَجِلْ سَهْمَكَ مَعَهُمْ، وَإِنْ أَفَاضُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فتحول عنهم إلى غيرهم. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا ضمرة عن حفص بن عمر قَالَ: وَضَعَ لُقْمَانُ جِرَابًا مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى جَانِبِهِ، وَجَعَلَ يَعِظُ ابْنَهُ وَعْظَةً وَيَخْرُجُ خَرْدَلَةً حَتَّى نَفَذَ الْخَرْدَلُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر، قَالَ: فَتَفَطَّرَ ابْنُهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بن عبد الرحمن الطرائفي، حدثنا أنس بْنُ سُفْيَانَ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ سَلَامٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اتَّخَذُوا السُّودَانَ، فَإِنَّ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ مَنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: لُقْمَانُ الْحَكِيمُ، وَالنَّجَاشِيُّ، وبلال المؤذن»
(1) أخرجه البخاري في الهبة باب 30، ومسلم في الهبات حديث 5، 6.
(2)
أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 15، ومسلم في الذكر حديث 82، والترمذي في الدعوات باب 56، وأحمد في المسند 2/ 306، 321، 364.
(3)
المسند 2/ 87.