الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أَيْ تَفَرَّقَتْ أَجْسَادُكُمْ فِي الْأَرْضِ وَذَهَبَتْ فِيهَا كُلَّ مَذْهَبٍ وَتَمَزَّقَتْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ أَيْ بَعْدَ هَذَا الْحَالِ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَيْ تَعُودُونَ أَحْيَاءً تُرْزَقُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ لَا يَخْلُو أَمْرُهُ مِنْ قِسْمَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَمَّدَ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ تعالى أَنَّهُ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ، لَكِنْ لُبِّسَ عَلَيْهِ كَمَا يُلَبَّسُ عَلَى الْمَعْتُوهِ وَالْمَجْنُونِ.
وَلِهَذَا قَالُوا: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ قَالَ اللَّهُ عز وجل رَادًّا عَلَيْهِمْ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، وَلَا كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، بَلْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ، الَّذِي جَاءَ بِالْحَقِّ، وَهُمُ الْكِذْبَةُ الجهلة الأغبياء فِي الْعَذابِ أي: الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ مِنَ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قال تعالى منبها لهم على قدرته في خلق السموات والأرض، فقال تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَيْ حَيْثُمَا تَوَجَّهُوا وذهبوا، فالسماء مطلة عليهم، والأرض تحتهم، كما قال عز وجل: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذَّارِيَاتِ: 47- 48] .
قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قَالَ: إِنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ، أَوْ عَنْ شِمَالِكَ، أَوْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، أَوْ مَنْ خَلْفِكَ، رَأَيْتَ السماء والأرض. وقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أَيْ لَوْ شِئْنَا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وَقُدْرَتِنَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ نُؤَخِّرُ ذَلِكَ لِحِلْمِنَا وَعَفْوِنَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ:
مُنِيبٍ تَائِبٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ قَتَادَةَ: الْمُنِيبُ الْمُقْبِلُ إلى الله تعالى، أي إن في النظر إلى خلق السموات وَالْأَرْضِ لَدَلَالَةٌ لِكُلِّ عَبْدٍ فَطِنٍ لَبِيبٍ رَجَّاعٍ إلى الله، على قدرة الله تعالى عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ وَوُقُوعِ الْمَعَادِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ السَّمَوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَهَذِهِ الْأَرْضِينَ فِي انْخِفَاضِهَا، وَأَطْوَالِهَا وَأَعْرَاضِهَا، إِنَّهُ لَقَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ وَنَشْرِ الرَّمِيمِ مِنَ الْعِظَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى [يس: 81] وقال تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِرٍ: 57] .
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مِمَّا آتَاهُ مِنَ الْفَضْلِ الْمُبِينِ، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ الْمُتَمَكِّنِ، وَالْجُنُودِ ذَوِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَمَا أَعْطَاهُ وَمَنَحَهُ
مِنَ الصَّوْتِ الْعَظِيمِ، الَّذِي كَانَ إِذَا سَبَحَ بِهِ تَسْبَحُ مَعَهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، الصُّمُّ الشَّامِخَاتُ، وَتَقِفُ لَهُ الطُّيُورُ السَّارِحَاتُ، وَالْغَادِيَاتُ، وَالرَّائِحَاتُ، وَتُجَاوِبُهُ بِأَنْوَاعِ اللُّغَاتِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعَ صَوْتَ أَبِي موسى الأشعري رضي الله عنه يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ، فَوَقَفَ فَاسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ قال صلى الله عليه وسلم «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» «1» .
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُ صَوْتَ صَنْجٍ وَلَا بَرْبَطٍ وَلَا وَتَرٍ أَحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، ومعنى قوله تعالى: أَوِّبِي أَيْ سَبِّحِي، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَزَعَمَ أَبُو مَيْسَرَةَ أَنَّهُ بِمَعْنَى سَبِّحِي بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّ التَّأْوِيبَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّرْجِيعُ، فَأُمِرَتِ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ أَنْ تُرَجِّعَ مَعَهُ بِأَصْوَاتِهَا.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِيُّ فِي كِتَابِهِ- الْجُمَلُ- فِي بَابِ النِّدَاءِ مِنْهُ يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أَيْ سَيْرِي مَعَهُ بِالنَّهَارِ كُلِّهِ، وَالتَّأْوِيبُ سَيْرُ النَّهَارِ كُلِّهِ، وَالْإِسْآدُ سَيْرُ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا لم أره لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مُسَاعَدَةٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هَاهُنَا، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تعالى: أَوِّبِي مَعَهُ أي رجعي مُسَبِّحَةً مَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُمْ: كَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُدْخِلَهُ نَارًا وَلَا يَضْرِبَهُ بِمِطْرَقَةٍ، بَلْ كَانَ يَفْتِلُهُ بيده مثل الخيوط، ولهذا قال تعالى:
أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَهِيَ الدُّرُوعُ قَالَ قَتَادَةُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا مِنَ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ صَفَائِحُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا ابْنُ سَمَاعَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ ضَمْرَةَ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ عليه السلام يَرْفَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْعًا فَيَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَلْفَيْنِ لَهُ، وَلِأَهْلِهِ، وَأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يُطْعِمُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ خُبْزَ الْحُوَّارَى وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ هذا إرشاد من الله تعالى لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ عليه السلام فِي تَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدروع وقال مجاهد في قوله تعالى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ لَا تُدِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَقْلَقَ في الحلقة، ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر، وقال الحكم بن عيينة: لا تغلظه فيقصم، وَلَا تُدِقَّهُ فَيَقْلَقَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّرْدُ حَلَقُ الْحَدِيدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَالُ دِرْعٌ مَسْرُودَةٌ إِذَا كَانَتْ مَسْمُورَةُ الحلق، واستشهد بقول الشاعر [الكامل] :
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا
…
دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تبّع «2»
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 31، ومسلم في المسافرين حديث 235، 236.
(2)
البيت لأبي ذؤيب الهذلي في سر صناعة الإعراب 2/ 760، وشرح أشعار الهذليين 1/ 39، وشرح المفصل 3/ 59، ولسان العرب (تبع) ، (صنع) ، (قضى) ، والمعاني الكبير ص 1039، وتاج العروس (صنع) ، (قضى) ، وبلا نسبة في شرح المفصل 3/ 58.