الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيْ عَلِمُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ جَحَدُوهَا وَعَانَدُوهَا وَكَابَرُوهَا.
ظُلْماً وَعُلُوًّا أَيْ ظُلْمًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ سَجِيَّةً مَلْعُونَةً، وعلوا أي استكبارا من اتباع الحق، ولهذا قال تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أمرهم فِي إِهْلَاكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَإِغْرَاقِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفَحْوَى الْخِطَابِ يَقُولُ:
احْذَرُوا أيها المكذبون لمحمد، الْجَاحِدُونَ لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، فَإِنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُوسَى، وَبُرْهَانُهُ أَدَلُّ وَأَقْوَى مِنْ بُرْهَانِ مُوسَى بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُقْتَرِنَةِ بِوُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ وَشَمَائِلِهِ، وَمَا سَبَقَهُ مِنَ الْبِشَارَاتِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ، وَأَخْذِ الْمَوَاثِيقِ لَهُ، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ والسلام.
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عَبْدَيْهِ وَنَبِيَّيْهِ: دَاوُدَ وَابْنِهِ سليمان عليهما السلام، مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ وَالْمَوَاهِبِ الْجَلِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَمَا جَمَعَ لَهُمَا بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمُلْكِ وَالتَّمْكِينِ التَّامِّ فِي الدُّنْيَا، وَالنُّبُوَّةِ والرسالة فِي الدِّينِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بْنِ تَمَّامٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنَّ الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد اللَّهَ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ حَمْدُهُ أَفْضَلَ مِنْ نِعْمَتِهِ، لَوْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فأي نِعْمَةٍ أَفْضَلُ مِمَّا أُوتِيَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ عليهما السلام.
وقوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أَيْ فِي الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وِرَاثَةَ الْمَالِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخُصَّ سُلَيْمَانَ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَوْلَادِ دَاوُدَ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ وِرَاثَةُ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُوَرَّثُ أَمْوَالُهُمْ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في قوله:«نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة» «1» وقال:
(1) أخرجه البخاري في الفرائض باب 3، والاعتصام باب 5، ومسلم في الجهاد حديث 49، 52، 54، 56، وأحمد في المسند 1/ 4، 6، 9، 10، 25، 47، 48، 49، 60، 162، 164، 179، 191، 208، 2/ 463، 6/ 145، 262.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ أَخْبَرَ سُلَيْمَانُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا وَهَبَهُ لَهُ مِنَ الْمُلْكِ التَّامِّ وَالتَّمْكِينِ الْعَظِيمِ، حَتَّى إِنَّهُ سَخَّرَ لَهُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالطَّيْرَ، وَكَانَ يَعْرِفُ لُغَةَ الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ أَيْضًا، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالرَّعَاعِ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ كَانَتْ تَنْطِقُ كَنُطْقِ بَنِي آدَمَ قبل سليمان بن داود، كما قد يَتَفَوَّهُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَهُوَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ، إِذْ كُلُّهُمْ يَسْمَعُ كَلَامَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ، وَيَعْرِفُ مَا تَقُولُ، وليس الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا كَمَا قَالُوا، بَلْ لَمْ تَزَلِ الْبَهَائِمُ وَالطُّيُورُ وَسَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ وَقْتِ خُلِقَتْ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا عَلَى هَذَا الشكل والمنوال. ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان مَا يَتَخَاطَبُ بِهِ الطُّيُورُ فِي الْهَوَاءِ، وَمَا تَنْطِقُ بِهِ الْحَيَوَانَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، وَلِهَذَا قال تعالى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَلِكُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أَيِ الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ لِلَّهِ عَلَيْنَا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ دَاوُدُ عليه السلام فِيهِ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ أُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ- قَالَ- فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَأُغْلِقَتِ الأبواب، فأقبلت امرأة تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ: مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ؟ وَاللَّهِ لَنَفْتَضِحَنَّ بِدَاوُدَ، فَجَاءَ دَاوُدُ عليه السلام فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: مَنْ أنت؟ فقال: الَّذِي لَا يَهَابُ الْمُلُوكَ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الحجاب، فقال داود: أنت إذا والله مَلَكُ الْمَوْتِ مَرْحَبًا بِأَمْرِ اللَّهِ، فَتَزَمَّلَ دَاوُدُ مَكَانَهُ حَتَّى قُبِضَتْ نَفْسُهُ حَتَّى فُرِغَ مِنْ شَأْنِهِ وَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ عليه السلام للطير: أظلي على داود، فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه الْأَرْضَ، فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ:
اقْبِضِي جَنَاحًا جَنَاحًا» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ فعلت الطير؟ فقبض رسول الله يَدَهُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ. قَالَ أَبُو الفرج بن الجوزي: المضرحية هن النسور الحمراء.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ وَجُمِعَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، يَعْنِي رَكِبَ فِيهِمْ فِي أُبَّهَةٍ وَعَظَمَةٍ كَبِيرَةٍ فِي الْإِنْسِ وَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَلُونَهُ، وَالْجِنُّ وَهُمْ بَعْدَهُمْ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَالطَّيْرُ وَمَنْزِلَتُهَا فَوْقَ رَأْسِهِ، فَإِنْ كَانَ حَرٌّ أَظَلَّتْهُ مِنْهُ بِأَجْنِحَتِهَا. وَقَوْلُهُ: فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ يَكُفُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ عَنْ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي هِيَ مَرْتَبَةٌ لَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ وَزَعَةً يَرُدُّونَ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا لِئَلَّا يَتَقَدَّمُوا في المسير كما يفعل الملوك اليوم.
(1) المسند 2/ 419، ولفظه: المصرحية بدل المضرحية.