الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
يَقُولُ تبارك وتعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ أَيْ دَلَالَةٌ لَهُمْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَيْ إِذَا كَانَتْ مَيِّتَةً هَامِدَةً لَا شَيْءَ فيها من النبات، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى: أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أَيْ جَعَلْنَاهُ رِزْقًا لَهُمْ وَلِأَنْعَامِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أَيْ جَعَلْنَا فِيهَا أَنْهَارًا سَارِحَةً فِي أَمْكِنَةٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ، لَمَّا امْتَنَّ عَلَى خَلْقِهِ بِإِيجَادِ الزُّرُوعِ لَهُمْ، عَطَفَ بِذِكْرِ الثمار وتنوعها وأصنافها.
وقوله جل وعلا: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَيْ وَمَا ذَاكَ كُلُّهُ إلا من رحمة الله تعالى بِهِمْ لَا بِسَعْيِهِمْ وَلَا كَدِّهِمْ وَلَا بِحَوْلِهِمْ وقوتهم، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: ولهذا قال تعالى: أَفَلا يَشْكُرُونَ أَيْ فَهَلَا يَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ- بَلْ جَزَمَ بِهِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرُهُ إِلَّا احتمالا- أن (ما) في قوله تعالى: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ بِمَعْنَى الَّذِي تَقْدِيرُهُ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَيْ غَرَسُوهُ وَنَصَبُوهُ، قَالَ: وَهِيَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مسعود رضي الله عنه لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ، ثم قال تبارك وتعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ أَيْ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَنَبَاتٍ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ فَجَعَلَهُمْ ذَكَرًا وَأُنْثَى وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ أَيْ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ شَتَّى لَا يَعْرِفُونَهَا، كَمَا قال جلت عظمته: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49]
[سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
يَقُولُ تَعَالَى وَمِنَ الدلالة لهم على قدرته تبارك وتعالى الْعَظِيمَةِ، خَلْقُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هَذَا بِظَلَامِهِ وَهَذَا بِضِيَائِهِ، وَجَعَلُهُمَا يَتَعَاقَبَانِ يَجِيءُ هَذَا فَيَذْهَبُ هَذَا، ويذهب هذا فيجيء هذا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الْأَعْرَافِ: 54] وَلِهَذَا قَالَ عز وجل هَاهُنَا: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أَيْ نَصْرِمُهُ مِنْهُ، فَيَذْهَبُ فيقبل الليل، ولهذا قال تبارك وتعالى:
فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتِ
الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» «1» هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الْحَجِّ: 61] وَقَدْ ضَعَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ قَتَادَةَ هَاهُنَا، وَقَالَ: إِنَّمَا مَعْنَى الْإِيلَاجِ الْأَخْذُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا، وَلَيْسَ هَذَا مُرَادًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جرير حق.
وقوله جل جلاله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:
لِمُسْتَقَرٍّ لَها قَوْلَانِ [أَحَدُهُمَا] أَنَّ الْمُرَادَ مُسْتَقَرُّهَا الْمَكَانِيُّ، وَهُوَ تَحْتَ العرش مما يلي الأرض من ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَهِيَ أَيْنَمَا كَانَتْ فَهِيَ تَحْتَ العرش هي وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّهُ سَقْفُهَا، وَلَيْسَ بَكَرَةً كَمَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قُبَّةٌ ذَاتُ قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ فَوْقَ العالم مما يلي رؤوس النَّاسِ، فَالشَّمْسُ إِذَا كَانَتْ فِي قُبَّةِ الْفَلَكِ وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون إلى الْعَرْشِ، فَإِذَا اسْتَدَارَتْ فِي فَلَكِهَا الرَّابِعِ إِلَى مُقَابَلَةٍ هَذَا الْمَقَامِ وَهُوَ وَقْتُ نِصْفِ اللَّيْلِ، صارت أبعد ما تكون إلى الْعَرْشِ، فَحِينَئِذٍ تَسْجُدُ وَتَسْتَأْذِنُ فِي الطُّلُوعِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ «2» : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا وكيع، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه: قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن قوله تبارك وتعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها قال صلى الله عليه وسلم: «مستقرها تحت العرش» هكذا أَوْرَدَهُ هَاهُنَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ حين غربت الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم:«يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ بَيْنَ يَدَي رَبِّهَا عز وجل، فَتَسْتَأْذِنُ فِي الرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ إِلَى مَطْلَعِهَا وَذَلِكَ مُسْتَقَرُّهَا- ثُمَّ قرأ- وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها.
(1) أخرجه البخاري في الصوم باب 33، 43، 45، ومسلم في الصيام حديث 51، 53، ومسلم في الصيام حديث 51، 53. وأحمد في المسند 4/ 380.
(2)
كتاب التفسير، تفسير سورة 36، باب 1.
(3)
المسند 5/ 152.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشمس: «أتدري أين تذهب؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذِنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا؟ وَتَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، وَيُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فذلك قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قال فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فَتَرُدُّهَا ذُنُوبُ بَنِيَ آدَمَ، حَتَّى إِذَا غربت سلمت وسجدت واستأذنت يؤذن لَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ غَرَبَتْ فَسَلَّمَتْ وَسَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ فَلَا يُؤْذِنُ لَهَا، فَتَقُولُ إِنَّ المسير بعيد، وإني إن لا يُؤْذَنُ لِي لَا أَبْلُغُ فَتَحْبِسُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَحْبِسَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا اطْلَعِي مِنْ حَيْثُ غَرَبْتِ، قَالَ: فَمِنْ يَوْمَئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا.
وقيل: المراد بمستقرها هُوَ انْتِهَاءُ سَيْرِهَا، وَهُوَ غَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي السَّمَاءِ فِي الصَّيْفِ وَهُوَ أَوْجُهَا، ثُمَّ غَايَةُ انْخِفَاضِهَا فِي الشِّتَاءِ وَهُوَ الْحَضِيضُ.
[وَالْقَوْلُ الثَّانِي] أَنَّ الْمُرَادَ بِمُسْتَقَرِّهَا هُوَ مُنْتَهَى سَيْرِهَا وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَبْطُلُ سَيْرُهَا وَتَسْكُنُ حَرَكَتُهَا وَتُكَوَّرُ، وَيَنْتَهِي هَذَا الْعَالَمُ إِلَى غَايَتِهِ، وَهَذَا هُوَ مُسْتَقَرُّهَا الزَّمَانِيُّ. قَالَ قَتَادَةُ لِمُسْتَقَرٍّ لَها أَيْ لِوَقْتِهَا وَلِأَجَلٍ لَا تَعْدُوهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْتَقِلُ فِي مَطَالِعِهَا الصَّيْفِيَّةِ إِلَى مدة لا تزيد عليها، ثم تنتقل في مطالع الشتاء إِلَى مُدَّةٍ لَا تَزِيدُ عَلَيْهَا، يُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما. وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أَيْ لَا قَرَارَ لَهَا وَلَا سُكُونَ، بَلْ هِيَ سَائِرَةٌ لَيْلًا وَنَهَارًا، لَا تَفْتُرُ ولا تقف، كما قال تبارك وتعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ أَيْ لَا يَفْتُرَانِ وَلَا يَقِفَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ أَيِ الَّذِي لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ الْعَلِيمِ بِجَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وقد قدر ذلك ووقته عَلَى مِنْوَالٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَاكُسَ، كما قال عز وجل: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الْأَنْعَامِ: 96] وَهَكَذَا ختم آية حم السجدة بقوله تعالى: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فُصِّلَتْ: 12] .
ثُمَّ قَالَ جل وعلا: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ أَيْ جَعَلْنَاهُ يَسِيرُ سَيْرًا آخَرَ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مُضِيِّ الشُّهُورِ، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ يُعْرَفُ بِهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، كَمَا قال عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] . وقال تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس: 5] الآية، وقال تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا
[الْإِسْرَاءِ: 12] فَجَعَلَ الشَّمْسَ لَهَا ضَوْءٌ يَخُصُّهَا، وَالْقَمَرَ لَهُ نُورٌ يَخُصُّهُ، وَفَاوَتَ بَيْنَ سَيْرِ هَذِهِ وَهَذَا، فَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ وَتَغْرُبُ فِي آخِرِهِ عَلَى ضَوْءٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ تَنْتَقِلُ فِي مَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً، يَطُولُ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّهَارُ وَيَقْصُرُ اللَّيْلُ، ثُمَّ يَطُولُ اللَّيْلُ وَيَقْصُرُ النَّهَارُ، وَجَعَلَ سُلْطَانَهَا بِالنَّهَارِ فَهِيَ كَوْكَبٌ نَهَارِيٌّ.
وَأَمَّا الْقَمَرُ فَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ يَطْلُعُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ ضَئِيلًا قَلِيلَ النُّورِ، ثُمَّ يَزْدَادُ نُورًا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَيَرْتَفِعُ مَنْزِلَةً، ثُمَّ كَلَّمَا ارْتَفَعَ ازْدَادَ ضِيَاءً وَإِنْ كَانَ مُقْتَبَسًا مِنَ الشَّمْسِ حَتَّى يَتَكَامَلَ نُورُهُ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ حَتَّى يَصِيرَ كالعرجون القديم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وَهُوَ أَصْلُ الْعِذْقِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعُرْجُونُ الْقَدِيمُ أي العذق اليابس يعني ابن عباس رضي الله عنهما أَصْلَ الْعُنْقُودِ مِنَ الرُّطَبِ إِذَا عَتَقَ وَيَبِسَ وَانْحَنَى، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُمَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يبديه الله تعالى جديدا أَوَّلِ الشَّهْرِ الْآخَرِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنَ الشَّهْرِ بِاسْمٍ بِاعْتِبَارِ الْقَمَرِ، فَيُسَمُّونَ الثلاث الأول غرر، واللواتي بعدها نقل وَاللَّوَاتِي بَعْدَهَا تُسَعَ، لِأَنَّ أُخْرَاهُنَّ التَّاسِعَةَ وَاللَّوَاتِي بعهدها عشر، لأن أولاهن العشرة، وَاللَّوَاتِي بَعْدَهَا الْبِيضَ، لِأَنَّ ضَوْءَ الْقَمَرِ فِيهِنَّ إِلَى آخِرِهِنَّ، وَاللَّوَاتِي بَعْدَهُنَّ دُرَعَ جَمْعُ دَرْعَاءَ، لأن أولهن أسود لتأخر القمر في أولهن منه، وَمِنْهُ الشَّاةُ الدَّرْعَاءُ وَهِيَ الَّتِي رَأَسُهَا أَسْوَدُ، وَبَعْدَهُنَّ ثَلَاثٌ ظُلَمٌ، ثُمَّ ثَلَاثٌ حَنَادِسُ، وَثَلَاثٌ دآدئ، وثلاث محاق لانمحاق القمر أو الشهر فيهن. وكان أبو عبيدة رضي الله عنه يُنْكِرُ التُّسَعَ وَالْعُشَرَ. كَذَا قَالَ فِي كِتَابِ غريب المصنف.
وقوله تبارك وتعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ قَالَ مُجَاهِدٌ: لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَدٌّ لَا يَعْدُوهُ وَلَا يَقْصِرُ دُونَهُ، إِذَا جَاءَ سُلْطَانُ هَذَا ذَهَبَ هَذَا، وَإِذَا ذَهَبَ سُلْطَانُ هَذَا جَاءَ سُلْطَانُ هَذَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنِ في قوله تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ قَالَ: ذَلِكَ لَيْلَةُ الْهِلَالِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلرِّيحِ جَنَاحًا، وَإِنَّ الْقَمَرَ يَأْوِي إِلَى غِلَافٍ مِنَ الْمَاءِ. وَقَالَ الثَّوْرِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ: لَا يُدْرِكُ هَذَا ضَوْءَ هَذَا وَلَا هَذَا ضَوْءَ هَذَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ عز وجل: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ يَعْنِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سُلْطَانًا! فَلَا يَنْبَغِي للشمس أن تطلع بالليل.
وقوله تعالى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي إِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَنْ يَكُونَ لَيْلٌ آخَرُ حَتَّى يَكُونَ النَّهَارُ، فَسُلْطَانُ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ وَسُلْطَانُ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا حَتَّى يَجِيءَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يَطْلُبَانِ حَثِيثِيْنِ يَنْسَلِخُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَالْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّهُ لَا فترة بين الليل