الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تابع لها، بخلاف وقت الموت، فإنا نجزم بأن أحدًا من أبناء الزمان لا يتجاوز مئة وخمسين سنة مثلًا، وليس لأحد مثل هذا الجزم في النشور، هكذا قالوا.
وفيه: إن الموت أيضًا له سن معلوم، وأجل محدود، فكيف يتعين في نفسه، ويجزم بوقوعه في سن كذا؛ بحيث لا يكون موكولًا إلى مجرد مشيئته تعالى، ولعل تقييد الإنشار بالمشيئة لا ينافي تقييد الموت بها أيضًا؛ إذ لا يجري عليه تعالى زمان، وإنه من مقدمات القيامة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"من مات فقد قامت قيامته"، أي: لاتصال زمان الموت بزمان القيامة، فهو قيامة صغرى مجهولة؛ كالقيامة الكبرى.
وقرأ الجمهور (1): {أَنْشَرَهُ} بالألف، وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة {نشره} بغير ألف، وهما لغتان فصيحتان.
والمعنى (2): أي ثم قبض روحه، ولم يتركه مطروحًا على الأرض جزرًا للسباع، بل تفضل عليه في غريزة نوعه أن يوارى ميته تكرمةً له، ثم إذا شاء بعثه بعد موته للحساب والجزاء في الوقت الذي قدره في علمه. وفي قوله:{إِذَا شَاءَ} إشعارٌ (3) بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا هو، فهو الذي استأثر بعلمه، وهوالقادر على تقديمه وتأخيره، وهو القاهر فوق عباده، وذو السلطان عليهم في إحيائهم وإماتتهم، وبعثهم وحشرهم، وحسابهم على ما قدموا من عمل خيرًا كان أو شرًا،
23
- ثم أكد كفرانه بالنعم، فقال:{كَلَّا} ردع وزجر للإنسان الكافر عما هو عليه؛ أي: ليس الأمر كما يقول الكافر المستغني فلينزجر وليرتدع عما هو عليه من الكفران والعصيان لربه. والوقف على {كَلَّا} حيئنذ. وفي "الخازن": {كَلَّا} : ردع وزجر للإنسان عما هو عليه من التكبر والتجبر والترفع والإصرار على إنكار التوحيد، وانكار البعث والحساب. اهـ.
وقوله: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} بيان (4) لسبب الردع والزجر، كما في "أبي السعود"؛ أي: لم يفعل الإنسان المذكور من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره ما أمره الله به مما فرضه الله عليه من الإيمان والطاعة، ولم يؤد ولم يعرف ولم يعمل به،
(1) الشوكاني.
(2)
المراغي.
(3)
المراغي.
(4)
الفتوحات.
وعدم (1) القضاء محمول على عموم النفي؛ إما على أن المحكوم عليه هو المستغني، أو هو الجنس، لكن لا على الإطلاق، بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده، وقد أسند إلى الكل، فلا شياع في اللوم بحكم المجانسة، وإما على أن مصداقه الكل من حيث هو كل بطريق رفع الإيجاب الكلي دون السلب الكلي، فالمعنى: لم يقض جميع أفراده ما أمره، بل أخل به بعضها بالكفر، وبعضها بالعصيان، وما قضى ما أمره إلا القليل، مع أن مقتضى ما فصل من فنون النعماء الشامل للكل أن لا يتخلف عنه أحد أصلًا.
وقال الحسن: حقًا لم يفعل ما أمره به، فـ {كَلَّا}: بمعنى: حقًا. قال ابن الأنباري: فالوقف على {كَلَّا} حينئذٍ قبيح، فيكون {كَلَّا} تابعًا لما بعده، فالوقف على {مَا أَمَرَهُ} حينئذٍ. وقال بعض أهل التفاسير:{ما} في قوله: {لَمَّا} صلة دخلت للتأكيد، كقوله:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} ، فـ {لَمَّا} بمعنى: لم، وليس فيه معنى التوقع. و {مَا} في {مَا أَمَرَهُ} ، موصولة، وعائدها يجوز أن يكون محذوفًا، والتقدير: ما أمره به، فحذف الجار أولًا، فبقي ما أمره هو، ثم حذف الهاء العائد ثانيًا، ويجوز أن يكون باقيًا على أن المحذوف من الهاءين هو العائد إلى الإنسان، والباقي هو العائد إلى الموصول، فاعرف وقس عليه أمثاله.
وحاصل معنى الآية: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)} ؛ أي (2): حقًا أن حال الإنسان لتدعو إلى العجب، فإنه بعد أن رأى في نفسه مما عددناه من عظيم الآيات، وشاهد من جلائل الاثار ما يحرك الأنظار، ويسير بها إلى صواب الآراء، وصحيح الأفكار لم يقض ما أمره به ربه من التأمل في دلائل قدرته، والتدبر في معالم هذا الكون المنبئة بوحدانية خالقه، الناطقة بأن لها موجدًا يستحق أن يقصده وحده دون سواه، ويتوجه إليه بالعبادة والامتثال إلى ما يأمره به.
والخلاصة (3): أن الإنسان قد بلغ في جحده آيات خالقه مبلغًا لا ينتهي منه العجب؛ إذ قد رأى في نفسه، وفي السموات والأرض، وسائر ما يحيط به من العوالم الآيات الناطقة بوحدانية الخالق الدالة على عظيم قدرته، ثم لا يزال مستمرًا في نكران نعمته عليه، فهذا ذكر لا يتذكر، وإذا أرشد إلى الهدى لم يسلك سبيله
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
(3)
المراغي.