الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَبِّكِ}؛ أي: إلى جسدك الذي كنت فيه، واختاره ابن جرير، ويدل على هذا قراءة ابن عباس {فادخلي في عبدي} بالإفراد، والأول أولى.
29
- ثم ذكر جميل عاقبتها فقال: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)} ؛ أي: في زمرة عبادي الصالحين، وكوني من جملتهم، وانتظمي في سلكهم
30
- {وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} ودار كرامتي معهم، كقوله تعالى:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} ، فالدخول في زمرة الخواص هي السعادة الروحانية، والدخول معهم في الجنات، ودرجاتها هي السعادة الجسمانية. وقيل: المراد بالنفس: الروح.
والمعنى: فادخلي في أجساد عبادي التي فارقت عنها، وادخلي دار ثوابي، ويؤيد هذا المعنى قول من قال: إن الخطاب عند البعث، وذهب بعضهم: إلى أنه عند الموت، كما مر آنفًا، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت هذه الآية، وأبو بكر جالس، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذا!، فقال:"أما إنه سيقال لك هذا". وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وقيل: نزلت في عثمان بن عفان حين وقف بئر رومة، وقيل: نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير .. فحوِّل وجهي إلى قبلتك، فحوَّلَ الله وجهه نحوها، فلم يستطع أحد أن يحوله عنها. والمراد بالآية (1): كل نفس مطمئنة على العموم، ولا ينافي ذلك نزولها في نفس معينة، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقرأ الجمهور (2): {عِبَادِي} جمعًا، وابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح والكلبي وأبو شيخ الهنائي واليماني:{في عبدي} على الإفراد، والأظهر أنه أريد به اسم الجنس، فمدلوله ومدلول الجمع واحد. وتعدى {فَادْخُلِي} أولًا بـ {فِي} ، وثانيًا بغير في، وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي .. تعدت إليه بقي، تقول: دخلت في الأمر، ودخلت في غمار الناس، ومنه قوله:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)} وإذا كان المدخول فيه ظرفًا حقيقيًا تعدَّت إليه في الغالب بغير وساطة في، ومنه قوله:{وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} ، وقال بعض أهل الإشارة:
(1) الشوكاني.
(2)
البحر المحيط.
معنى (1) الآية: يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا، ارجعي إلى الله بتركها، وسلوك سبيل الآخرة، فادخلي في عبادي الأخروية، وادخلي جنتي الصورية والمعنوية. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إذا توفي العبد المؤمن .. أرسل الله ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال لها: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح وريحان، ورب عنك راض، فتخرج كاطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، والملك على أرجاء السماء يقولون: قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة، فلا تمر بباب إلا فتح، ولا بملك إلا صلى عليها، حتى يؤتى بها إلى الرحمن؛ أي: إلى حضوره، ومقام مخصوص من مقامات كرامته، فتسجد، ثم يقال لميكائيل: اذهب بهذه، فاجعلها مع نفس المؤمنين، ثم يؤمر، فيوسع عليه قبره سبعون ذراعًا عرضه، وسبعون ذراعًا طوله، وينبذ له فيه الريحان، فإن كان معه شيء من القرآن .. كفاه نوره، وإن لم يكن .. جعل له نور مثل نور الشمس في قبره، فيكون مثله مثل العروس، ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله، وإذا توفي الكافر .. أرسل الله إليه ملكين، وأرسل إليه قطعة بجاد - بوزن: كتاب: كساء مخطط. اهـ "قاموس" - أنتن من كل منتن، وأخشن من كل خشن، فيقال: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى جهنم، عذاب أليم، ورب عليك غضبان.
وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف، فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير مثله على خلقته، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجًا منه، فلما دفن .. تليت هذه الآية على شفير القبر، لا يرى من تلاها:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} .
وحاصل معنى الآية (2): {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)} ؛ أي: فادخلي في زمرة عبادي المكرمين، وانتظمي في سلكهم، وكوني في جملتهم، فالنفوس القدسية كالمرايا المتقابلة، يشرق بعضها على بعض، وكأنها تربى في هذه الدنيا بالآلام، وتزين بالمعارف والعلوم، حتى إذا فارقت الأبدان .. جعلت في أماكن متقاربة، بينها صفاء ومودة، وحسن صلة ومحبة. {وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} فتمتعي فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
اللهم اجعلنا من النفوس المطمئنة الراضية المرضية، وأدخلنا في جنتك مع المتقين من الأنبياء والشهداء والصالحين، والحمد لله رب العالمين آمين.
الإعراب
{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} .
{وَالْفَجْرِ (1)} {الواو} : حرف جر وقسم {الْفَجْرِ} : مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالفجر، والجملة مستأنفة، {وَلَيَالٍ}: معطوف على {الْفَجْرِ} مجرور بالفتحة الظاهرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف علة واحدة تقوم مقام علتين، وهي: صيغة منتهى المجموع؛ لأنه على زنة مفاعل، كما ذكره ابن مالك في "الخلاصة":
وَكُنْ لِجَمْعٍ مُشْبِهٍ مَفَاعِلا
…
أو الْمَفَاعِيْلَ بِمَنْعٍ كَافِلًا
وأصله: ليالي، استثقلت الحركة على الياء فحذفت، ثم حذفت الياء طلبًا للتخفيف، وعوض عنه التنوين، فصار: ليال.
{عَشْرٍ} : صفة {وَلَيَالٍ} ، مجرور بالكسرة الظاهرة {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ}: معطوفات أيضًا على {الْفَجْرِ} ، مجرورات بالكسرة الظاهرة {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بفعل القسم المحذوف تقديره: أقسم بالليل وقت سراه {يَسْرِ} : فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لرعاية الفاصلة، أو اتباعًا لخط المصحف، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه فعل معتل بالياء، وفاعله ضمير يعود على {اللَّيْلِ} ، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، وجواب القسم في هذه المذكورات كلها محذوف تقديره: لنجازين كل أحد بما عمل، أو لنعذبن.
{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}.
{هَلْ} : حرف استفهام للاستفهام التفخيمي والتعظيمي للأمور المقسم بها {فِي ذَلِكَ} : خبر مقدم {قَسَمٌ} : مبتدأ مؤخر {لِذِي حِجْرٍ} : جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {قَسَمٌ} ، والجملة جملة إنشائية مسوقة لتقرير ما قبلها وتفخيمه، لا محل لها من الإعراب {أَلَمْ}:{الهمزة} للاستفهام التقريري؛ أي: قد رأيت وعلمت علمًا ضروريًا {لم} : حرف نفي وجزم {تَرَ} : فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب مجزوم بـ {لم} ، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والجملة جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل نصب على المصدرية بـ {فَعَلَ} ، والمعنى: قد علمت أيَّ فعل فعل ربك بعاد. {فَعَلَ رَبُّكَ} : فعل وفاعل {بِعَادٍ} : متعلق بـ {فَعَلَ} ، والجملة الفعلية المعلقة بـ {كَيْفَ} الاستفهامية سدت مسد مفعولي {تَرَ} ، {إِرَمَ}: بدل من {عاد} بدل كل من كل، أو عطف بيان له مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للعلمية والتأنيث المعنوي {ذَاتِ الْعِمَادِ}: صفة لـ {إِرَمَ} مجرور بالكسرة {الْعِمَادِ} : مضاف إليه {الَّتِي} : صفة ثانية لـ {إِرَمَ} ، وجملة {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا} صلة الموصول {يُخْلَقْ}: فعل مضارع مغير الصيغة {مِثْلُهَا} : نائب فاعل {فِي الْبِلَادِ} : متعلق بـ {يُخْلَقْ} ، {وَثَمُودَ}: معطوف على {عاد} {الَّذِينَ} : نعت لـ {ثَمُودَ} : {جَابُوا الصَّخْرَ} : فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول {بِالْوَادِ} : متعلق بـ {جَابُوا} ، و {الباء} بمعنى في، وحذفت الياء من {الواد} ؛ لأنها من ياءات الزوائد، {وَفِرْعَوْنَ}: عطف على {عاد} ، {ذِي الْأَوْتَادِ} صفة لـ {فِرْعَوْنَ} ، {الَّذِينَ}: صفة للمذكورين من عاد وإرم وثمود، أو منصوب على الذم، وجملة {طَغَوْا} صلة الموصول {فِي الْبِلَادِ}: متعلق بـ {طَغَوْا} ، {فَصَبَّ}:{الفاء} عاطفة {صب} فعل ماض {عَلَيْهِمْ} : متعلق بـ {صب} {رَبُّكَ} : فاعل {سَوْطَ عَذَابٍ} : مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {طَغَوْا} ، {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه {لَبِالْمِرْصَادِ} : {اللام} : حرف ابتداء {بالمرصاد} : جار ومجرور خبر {إِنَّ} ، وجملة {إِنَّ} جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب.
{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}.
{فَأَمَّا} : {الفاء} : استئنافية، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن ربك لبالمرصاد لأعمال عباده خيرًا أو شرًا ليجازيهم عليها، وأردت بيان أحوال الإنسان، هل هو في مراقبة ربه فيشكر على نعمه، ويصبر على نقمه، أم لا؟ فأقول لك: أما الإنسان. {أما} : حرف شرط وتفصيل {الْإِنْسَانُ} : مبتدأ {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ {يقول} {مَا} : زائدة {ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} : فعل ومفعول به وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها مجردة عن معنى الشرط، {فَأَكْرَمَهُ}:{الفاء} : عاطفة {أكرمه} : فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الرب، ومفعول به، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة {ابْتَلَاهُ}. {وَنَعَّمَهُ}: معطوف على {أكرمه} {فَيَقُولُ} : {الفاء} : رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها، وجملة {يقول} في محل الرفع خبر عن {الْإِنْسَانُ} ، ولا يمنع تعلق الظرف بـ {يقول} كونه خبر المبتدأ؛ لأن الظرف في نية التأخير، والتقدير: فأما الإنسان .. فقائل ربي أكرمني وقت الابتلاء، والجملة من المبتدأ والخبر جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {رَبِّي}: مبتدأ، وجملة {أَكْرَمَنِ} خبره، وحذفوا الياء من {أَكْرَمَنِ} اجتزاءً بكسر نون الوقاية، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {يقول} وجملة قوله:{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)} معطوفة على جملة {فَأَمَّا} الأولى مماثلة لها في إعرابها {كَلَّا} : حرف ردع وزجر للإنسان عن قوله المذكور. {بَل} : حرف إضراب من قبيح إلى أقبح منه {لَا} : نافية {تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما هو أقبح من قول الإنسان المذكور، {وَلَا تَحَاضُّونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {تُكْرِمُونَ} . {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} متعلق بـ {تَحَاضُّونَ} ، {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {تُكْرِمُونَ} {أَكْلًا}: مفعول مطلق {لَمًّا} : صفة {أَكْلًا} ، {وَتُحِبُّونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {لا تكرمون} {الْمَالَ}: مفعول به {حُبًّا} : مفعول مطلق {جَمًّا} صفة {حُبًّا} .
{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)}.
{كَلَّا} : حرف ردع وزجر لهم عن ذلك كله {إِذَا} : ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، متعلق بـ {يَتَذَكَّرُ} ، وجملة {دُكَّتِ} في محل الخفض بإضافة الظرف إليها {دُكَّتِ الْأَرْضُ}: فعل ونائب فاعل {دَكًّا دَكًّا} : حال مركبة من {الْأَرْضُ} في محل النصب مبني على فتح الجزءين؛ أي: مدكوكةً دكًا بعد دك، بني الجزء الأول لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا؛ بافتقاره إلى الجزء الثاني، وبني الجزء الثاني لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا؛ لتضمنه معنى الحرف، وحركا ليعلم أن لهما أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة فتحة للخفة مع ثقل التركب، وليس الثاني تأكيدًا للأول، بل التكرر للدلالة على الاستيعاب، كقرأت النحو بابًا بابًا، وعلمته الخط حرفًا حرفًا، وأعرب ابن خالويه {دَكًّا} الأول: مصدرًا، والثاني: تأكيدًا، وليس بعيدًا. {وَجَاءَ رَبُّكَ}: فعل وفاعل، معطوف على جملة {دُكَّتِ} ، {وَالْمَلَكُ}: معطوف على {رَبُّكَ} . {صَفًّا صَفًّا} : حال مركبة من الملك؛ أي: مصطفين، أو ذوي صفوف، نظير {دَكًّا دَكًّا} والمجوز لمجيء الحال جامدة دلالتها على الترتيب، وضابطه: أن يأتي التفصيل بعد ذكر المجموع بجزأيه مكررًا، وفي إعراب هذا المكرر خلاف طويل، اقتصرت على الراجح منها، فراجعه في محله {وَجِيءَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة {يَوْمَئِذٍ} : ظرف مضاف لمثله، متعلق بـ {وَجِيءَ} ، و {بِجَهَنَّمَ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {جيء} ، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة {دُكَّتِ} ، {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله بدل من {إذا} في قوله: {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ} بدل كل من كل، وجملة {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ} جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب؛ أي: يوم إذا دكت الأرض دكًا دكًا، ويوم إذ جاء ربك والملك صفًا صفًا، ويوم إذ جيء بجهنم يتذكر الإنسان تفاصيل أعماله التي عملها في الدنيا، {وَأَنَّى}. {الواو}: حالية {أَنَّى} : اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون؛ لتضمنه معنى حرف الاستفهام، والظرف متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا. {لَهُ}: متعلق بما تعلق به الظرف، {الذِّكْرَى}: مبتدأ مؤخر، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: ومن أين حاصلة له منفعة الذكرى، وإلا فبين {يَتَذَكَّرُ} و [{أَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}] تناف وتناقض، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يَتَذَكَّرُ} .
{يَقُولُ} : فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة الفعلية بدل اشتمال من جملة قوله:{يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ} ، أو مستأنفة. {لَيْتَنِي}:{يا} : حرف تنبيه، أو حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء، وجملة النداء في محل النصب مقول القول لـ {يَقُولُ} ، {ليت}: حرف تمنٍ ونصب، و {النون} للوقاية؛ لأنها تبقي الحرف على حركة بنائه الأصلي، وياء المتكلم في محل النصب اسمها، وجملة {قَدَّمْتُ} ، خبرها {لِحَيَاتِي}: متعلق بـ {قَدَّمْتُ} ، وجملة {ليت} في محل النصب مقول القول {فَيَوْمَئِذٍ}:{الفاء} : استئنافية {يَوْمَئِذٍ} : ظرف مضاف لمثله، متعلق بـ {يُعَذِّبُ} ، {لَا}: نافية {يُعَذِّبُ} : فعل مضارع مبني للفاعل، {عَذَابَهُ}: مفعول مطلق، والضمير فيه عائد إلى الله، فيكون مصدرًا مضافًا إلى الفاعل {أَحَدٌ}: فاعل، وقرىء {يعذب} بالبناء للمفعول، فيكون {أَحَدٌ} نائب فاعل، والضمير في {عَذَابَهُ} للإنسان الكافر، فيكون مصدرًا مضافًا إلى المفعول، والجملة الفعلية على كلا القراءتين مستأنفة، وجملة قوله:{وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} معطوفة على ما قبلها مماثلة له في إعرابه في كلتا القراءتين. {يَا أَيَّتُهَا} : {يا} : حرف نداء. {آية} : منادى نكرة مقصودة مبني على الضم، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات، أي: من الإضافة {النَّفْسُ} : بدل من {أي} {الْمُطْمَئِنَّةُ} : صفة لـ {النَّفْسُ} ، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: يقول الله سبحانه للمؤمن بلا واسطة، أو بواسطة الملك: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
…
} إلخ، وجملة القول المحذوف مستأنفة. {ارْجِعِي}: فعل أمر مبني على حدف النون، والياء فاعل {إِلَى رَبِّكِ}: متعلق بـ {ارْجِعِي} ، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها جواب النداء {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}: حالان من فاعل {ارْجِعِي} ، {فَادْخُلِي}: فعل أمر وفاعل، معطوف على {ارْجِعِي} ، {فِي عِبَادِي}: متعلق بـ {ادخلي} ، {وَادْخُلِي}: معطوف أيضًا على {ارْجِعِي} ، {جَنَّتِي}: مفعول به على التوسع. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
{وَالْفَجْرِ (1)} الفجر: هو الوقت الذي ينشق فيه الضوء، وينفجر فيه النور، وقد أقسم ربنا به؛ لما يحصل فيه من انقضاء الليل، وظهور الضوء، وما يترتب على ذلك من المنافع، كانتشار الناس وسائر الحيوان من الطير والوحش لطلب الرزق، كما مر.
{وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} جمع: ليلة، وهي الزمن الذي بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر أو طلوع الشمس، وهذه الليالي العشر غير متعينة، بل في كل شهر، وهذه العشر يتشابه حالها مع حال الفجر، فيكون ضوء القمر فيها مطاردًا لظلام أول الليل إلى أن تغلبه الظلمة، كما يهزم ضوء الصبح ظلمة الليل حتى سطع النهار، ولا يزال الضوء منتشرًا إلى الليل الذي بعده، وضوء الأهلة في عشر ليال من أول كل شهر يشق الظلام، ثم لا يزال الليل يغالبه إلى أن يغلبه، فيسدل على الكون حجبه.
{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)} ؛ أي: والزوج والفرد من هذه اليالي، فهو سبحانه أقسم بالليالي جملة، ثم أقسم بما حوته من زوج وفرد، والشفع: الزوج من العدد، يقال: أشفع هو أم وتر؟؛ أي: أزوج هو أم فرد، ويجمع على أشفاع وشفاع، ومصدر شفع يشفع - من باب فتح - شفعًا الشيء؛ أي: صيره شفعًا؛ أي: زوجًا بأن يضيف إليه مثله، يقال: كان وترًا فشفعه بآخر؛ أي: قرنه به. وفي "القاموس": والشفع: خلاف الوتر، وهو الزوج، وشفعه كمنعه {وَالْوَتْرِ} وفي "القاموس": والوتر - بالكسر ويفتح - الفرد، أو ما لم يتشفع من العدد.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} يقال: سرى يسري سُرى ومسرى: إذا سار عامة الليل. وفي "المصباح": سريت الليل، وسريتُ به سرى، والاسم السراية: إذا قطعته بالسير، وأسريت بالألف لغة حجازية، ويستعملان متعديين بالباء إلى المفعول، ويقال: سريت بزيد، وأسريت به، والسرية - بضم السين وفتحها - أخص، يقال: سرينا سريةً من الليل وسرية، والجمع: السرى مثل: مدية ومدى.
قال أبو زيد: ويكون السري أول الليل وأوسطه وآخره، وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيهًا لها بالأجسام مجازًا واتساعًا. قال الله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} ، والمعنى: إذا يمضي. {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)} ؛ أي؛ لصاحب
عقل، وسمي العقل بذلك؛ لأنه يحجر صاحبه عما لا يحل ولا ينبغي، كما سمي عقلًا؛ لأنه يعقل صاحبهُ عن القبائح، وينهاه، وسمي أيضًا نُهْيةً؛ لأنه ينهى صاحبهُ عما لا يليق ولا يحل.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)} وعاد: جيل من العرب البائدة، يقولون: إنه من ولد عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ويلقب أيضًا: بإرم.
{ذَاتِ الْعِمَادِ} ؛ أي: سكان الخيام، وكانت منازلهم بالرمال والأحقاف إلى حضرموت، والعماد كالعمود، والجمع: عَمَد وعُمُد بفتحتين وبضمتين.
{وَثَمُودَ} : قبيلة من العرب البائدة كذلك، وهي من ولد كاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ومنازلهم بالحجر بين الشام والحجاز.
{جَابُوا الصَّخْرَ} ؛ أي: قطعوه ونحتوه {بِالْوَادِ} ؛ أي: في الوادي الذي كانوا يسكنون فيه، وفي "المختار": وجاب: خرق وقطع، وبابه: قال، وأصل جابوا: جوبوا، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ففيه إعلال بالقلب.
{وَفِرْعَوْنَ} هو حاكم مصر الذي كان في عهد موسى عليه السلام.
{ذِي الْأَوْتَادِ} ؛ أي: ذي المباني العظيمة المشيدة الثابتة جمع: وتد بالتحريك وبكسر التاء أيضًا.
{الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)} ؛ أي: تجاوزوا الحد في الظلم والعتو، وأصل طغوا: طغيوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لما التقت ساكنة بواو الجماعة.
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ} ؛ أي: أفرغ وأنزل وألقى، وصبُّ الماء: إراقته من أعلى؛ أي: أنزل عليهم إنزالًا شديدًا {سَوْطَ عَذَابٍ} ؛ أي: أنواعًا من العقوبات التي أنزلها عليهم جزاء طغيانهم، والسوط في الأصل: الجلد المضفور؛ أي: المنسوج المفتول الذي يضرب به، كما مر.
{لَبِالْمِرْصَادِ} والمرصاد: هو المكان الذي يقوم فيه الرصد، والرصد: من يرصد الأمور؛ أي: يترقبها ليقف على ما فيها من الخير والشر، ويطلق أيضًا على الحارس الذي يحرس ما يخشى عليه، وهو مفعال من رصده، كالميقات من وقته،
ويجوز أن يكون صيغة مبالغة، كالمطعان لكثير الطعن.
{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} ؛ أي: اختبره ببسط الرزق، أصله: ابتليه بوزن افتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
{فَأَكْرَمَهُ} ؛ أي: صير مكرمًا يرفل في بحبوحة النعيم.
{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ} ؛ أي: اختبره بتضييق الرزق عليه. {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} ؛ أي: صيره فقيرًا مقترًا عليه في الرزق، تقول: قدرت عليه الشيء؛ أي: ضيقته عليه، وكأنك جعلته بقدر لا يتجاوزه. {أَهَانَنِ} أصله: أهوَيُ، بوزن: أفعل، نقلت حركة الواو إلى الهاء فسكنت، فقلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها الآن.
{وَلَا تَحَاضُّونَ} أصله: تتحاضضون بوزن: تتفاعلون، حذفت إحدى التاءين للتخفيف، وأدغمت الضاد في الضاد، فصار تحاضون. وقرأ غير الكوفيين:{تحضون} بضم الحاء وأصله: تحضضون بوزن: تفعلون بمعنى: تحاضون المتقدم، نقلت حركة الضاد الأولى إلى الحاء، ثم أدغمت لما سكنت في الضاد الثانية من الحض، وهو الحث والتحريض. {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} التراث: بوزن فعال الميراث، وأصله: وراث كتجاه في وجاه، قلبت واوه تاءً، والميراث: هو المال المنتقل من الميت. {أَكْلًا لَمًّا} واللم: الجمع، يقال؛ كتيبة ملمومة؛ أي: مجتمعة بعضها إلى بعض، وفي "المختار":{أَكْلًا لَمًّا} فعله من باب رد، يقال: لم الله شعثه؛ أي: أصلح وجمع ما تفرق من أمره، وقال أبو عبيدة: لممت ما على الخوان: إذا أكلت جميع ما عليه بأسره. {حُبًّا جَمًّا} الجم: الكثير، يقال: جم الماء في الحوض إذا اجتمع فيه وكثر. قال الشاعر:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا
…
وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا
{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)} الدك: الدق، يقال: دككت الشيء أدكه دكًا: إذا ضربته وكسرته حتى سويته بالأرض، وقال الخليل: الدك: كسر الحائط والجبل وتسويته بالأرض، ومنه: اندك سنام البعير: إذا انغرس في ظهره {دَكًّا دَكًّا} ؛ أي: دكًا بعد دك؛ أي: كرر عليها الدك، وتتابع حتى صارت كالصخرة الملساء. {صَفًّا صَفًّا}؛ أي: صفًا بعد صف، بحسب منازلهم ومراتبهم في الفضل.
{وَثَاقَهُ} في "المصباح": وثق الشيء بالضم وثاقه: قوي وثبت، فهو وثيق ثابت، وأوثقته: جعلته وثيقًا، والوثاق - بفتح الواو وكسرها -: القيد والحبل ونحوه، والجمع: وثق، مثل: رباط وربط، ويطلق هنا: على الشد والربط بالسلاسل والأغلال.
{الْمُطْمَئِنَّةُ} من الاطمئنان: وهو الاستقرار والثبات.
{مَرْضِيَّةً} اسم مفعول من رضي، وأصله: مرضوية بوزن: مفعول اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء، ثم كسرت الضاد لمناسبة الياء، ولام المادة واو، وعليه فـ {رَاضِيَةً} أصله: راضوة، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة، كما فعلوا في رضي أصله: رضو من الرضوان.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التنكير في قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} للدلالة على تعظيمها؛ لأنها مخصوصة بفضائل ليست لغيرها، ولذلك أقسم الله بها، وذلك كالاشتغال بأعمال الحج في عشر ذي الحجة.
ومنها: الطباق في قوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)} .
ومنها: تقييد الليل بالسرى في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة؛ كأن جميع الحيوانات أعيدت إليهم الحياة بعد الموت في الليل، وتسببوا بذلك لطلب الأرزاق المعدة للحياة الدنيوية التي يتوسل بها إلى سعادة الدارين. ذكره في "الروح".
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)} لتحقيق فخامة شأن المقسم بها، وكونها أمورًا جليلة بالإعظام والإجلال عند أرباب العقول، وللتنبيه على أن الإقسام بها أمر معتد به، حقيق بأن يؤكد به الإخبار.
ومنها: التنوين في قوله: {حِجْرٍ} للدلالة على تعظيمها، قال بعض الحكماء: العقل للقلب بمنزلة الروح للجسد، فكل قلب لا عقل له، فهو ميت
بمنزلة قلب البهائم.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)} ؛ لأن الهمزة فيه للإنكار وفي قوة النفي، ونفي النفي إثبات، فصار تقريريًا إثباتيًا، أي: قد علمت يا محمد بإعلام الله تعالى، وبالتواتر أيضًا كيف عذب ربك عادًا.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)} ، فقد استعمل الصب، وهو خاص بالماء لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب. قال الشاعر:
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ مُحْصَرَاتٍ كَأَنَّهَا
…
شَآبِيْبُ لَيْسَتْ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَطْرِ
وقال آخر في وصف الخيل:
صَبَبْنَا عَلَيْهِمْ ظَالِمِيْنَ سَيَاطَنَا
…
فَطَارَتْ بِهَا أَيْدٍ سِرَاعٌ وَأَرْجُلُ
واستعار السوط للعذاب؛ لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} شبه كونه تعالى حافظًا لأعمال العباد مراقبًا عليها، ومجازيًا على ما دق وجل منها، بحيث لا ينجو منه بحال من قعد على الطريق مترصدًا لمن يسلكها ليأخذه، فيوقع به ما يريد، ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر على طريقة الاستعارة التمثيلية.
ومنها: المقابلة بين قوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ
…
} إلخ، وبين قوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
…
} إلخ، فقد قابل بين توسعة الرزق وإقتاره، وبين الإكرام والإهانة.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قول: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ} إلى الخطاب في قوله: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)} للإيذان باقتضاء ملاحظة جنايته السابقة لمشابهته بالتوبيخ تشديدًا للتقريع، وتأكيدًا للتنشيع، والجمع فيه باعتبار معنى الإنسان، إذا المراد به الجنس، وكان مقتضى السياق أن يقال: بل لا يكرمون اليتيم.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ} ، وقوله:{وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ} ، وقوله:{يَتَذَكَّرُ} {الذِّكْرَى} .
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)} .
ومنها: إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة، والإخبار عنه مجاز في قوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} ، وهو نظير قول من رأى موكبًا عظيمًا، أو جيشًا خضمًا، فقال: جاء الملك نفسه، وهو يعلم أنه ما جاء إلا جيشه، فقد جعل في الآية مجيء جلائل آياته مجيئًا له سبحانه وتعالى، فأسند المجيء إليه على سبيل المجاز، كذا قالوا، وهذا إنما يتمشى على مذهب المؤولين.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
خلاصة ما تضمنته هذه السورة من المقاصد
تشتمل هذه السورة على مقاصد ستة:
1 -
القسم على أن عذاب الكافرين لا محيص منه.
2 -
ضرب المثل بالأمم البائدة، كعاد وثمود.
3 -
كثرة النعم على العبد ليست دليلًا على إكرام الله له، ولا البلاء دليلًا على إهانته وخذلانه.
4 -
وصف يوم القيامة وما فيه من الأهوال.
5 -
تمني الأشقياء العودة إلى الدنيا.
6 -
كرامة النفوس الراضية المرضية، وما تلقاه من النعيم بجوار ربها (1).
شعرٌ
وَإِنِّيْ وَإِنْ كُنْتُ أَخِيْرًا زَمَانُهُ
…
لآتٍ بِما لَمْ تَسْتَطِعْهُ الأَوَائِلُ
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(1) إلى هنا تم تفسير سورة الفجر بعون الله سبحانه ذي المن والقهر، عصر يوم الجمعة قبيل الغروب، اليوم الثاني عشر من شهر شوال المعظم من شهور سنة: 12/ 10/ 1416 هـ. ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من سني الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين يا رب العالمين ألف ألف آمين.
وبتمام تفسير هذه السورة الكريمة تم المجلد الحادي والثلاثين من هذا الكتاب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، ويليه المجلد الثاني والثلاثين، وأوله سورة البلد.