الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما تقدم نبوته صلى الله عليه وسلم قبل تمام خلق آدم عليه السلام
فخرج الترمذي من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قالوا: يا رسول اللَّه! متى وجبت لك النبوة؟ قال: وآدم بين الروح والجسد [ (1) ] ،
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه، هذا آخر كلام الترمذي.
وقد رواه عباد بن جويرية عن الأوزاعي مرسلا، واختلف على الوليد بن مسلم فيه، فرواه بعضهم عنه مرسلا، ورواه بعضهم عنه فأسنده كما تقدم ذكره.
ولأبي نعيم من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل عن ميسرة، عن عبد اللَّه بن شقيق عن ميسرة الفجر قال: متى كنت يا رسول اللَّه نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد [ (1) ] .
وله من حديث حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن عبد اللَّه بن شقيق عن رجل أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى كنت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. كذا رواه حماد ولم يسم ميسرة، وتابعه عليه عن خالد الحذاء وهب بن خالد [ (1) ] .
ولأبي نعيم من حديث عمرو بن واقد، عن عروة بن رويم [ (2) ]، عن الصنابجي قال عمر رضي الله عنه: متى جعلت نبيا؟ قال: وآدم منجدل في الطين.
وله من حديث نصر بن مزاحم، حدثنا قيس بن الربيع عن جابر عن الشعبي،
[ (1) ] سبق تخريج هذه الأحاديث والتعليق عليها.
[ (2) ] عروة بن رويم اللخمي أبو القاسم الأردني، قال ابن أبي حاتم عن أبيه: عامة أحاديث مرسلة.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول اللَّه! متى كنت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد.
تفرد به نصر بن مزاحم.
وله من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إني عبد اللَّه في أم الكتاب وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته.
وفي رواية: أنا عبد اللَّه خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته. وفي رواية: إني عبد اللَّه مكتوب بخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته. وفي رواية: إني عبد اللَّه لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته [ (1) ] .
وخرجه الحاكم من حديث عثمان بن سعيد الدارميّ قال: قلت لأبي اليمان:
حدثك أبو بكر بن أبي مريم الغساني عن سعيد بن سويد عن العرباض بن سارية السلمي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إني عبد اللَّه في أول الكتاب بخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسآتيكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي بي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث سعيد عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث [ (3) ] .
وفي الصحيحين [ (4) ] من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال
[ (1) ](دلائل النبوة لأبي نعيم) ج- 1 ص 8- 9، وفي (خ)«بخاتم»
[ (2) ] (المستدرك للحاكم ج 2 ص 600 وله شاهد على صحته ص 609.
[ (3) ] سبق تخريجه وشرحه.
[ (4) ] ذكره البخاري في كتاب الجمعة، باب (2) هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟ وقال ابن عمر: إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة، حديث رقم (896) :
حدثنا مسلم ابن إبراهيم قال: حدثنا وهيب قال: حدثنا ابن طاوس عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون والسابقون يوم القيامة، أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الّذي اختلفوا فيه فهدانا اللَّه، فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى» فسكت. (897) : ثم قال: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده» .
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة»
الحديث. وله طرق [ (1) ]، قال أبو نعيم: وكان صلى الله عليه وسلم آخرهم في البعث، وبه ختمت النبوة، وهو
[ () ] وأخرجه مسلم من كتاب الجمعة باب (6) هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، حديث رقم (19) :
وحدثنا عمرو الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم الجمعة، بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا اليوم الّذي كتبه اللَّه علينا، هدانا اللَّه له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد.
وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة وابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة»
بمثله.
وحديث رقم (20) : حدثنا قتيبة بن سعيد، وزهير بن حرب قالا: حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا، فهدانا اللَّه له، قال يوم الجمعة، فاليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى»
قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة» ،
قال العلماء: معناه الآخرون في الزمان والوجود، السابقون بالفضل ودخول الجنة، فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم.
قوله صلى الله عليه وسلم: «بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم» ،
هو بفتح الباء الموحدة وإسكان المثناة تحت، قال أبو عبيد: لفظه «بيد» تكون بمعنى غير، وبمعنى على، وبمعنى من أجل، وكله صحيح هنا، ويقال:«ميد» بمعنى «بيد» .
قوله صلى الله عليه وسلم: «هذا اليوم الّذي كتبه اللَّه علينا هدانا اللَّه له» ،
فيه دليل لوجوب الجمعة، وفيه فضيلة هذه الأمة.
قوله صلى الله عليه وسلم: «اليهود غدا» ،
أي عيد اليهود غدا، لأن ظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث فيقدر فيه معنى يمكن تقديره خبرا.
قوله صلى الله عليه وسلم: «فهذا يومهم الّذي اختلفوا فيه هدانا اللَّه» ،
قال القاضي: الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين، ووكل إلى اجتهادهم لإقامة شرائعهم فيه، فاختلف اجتهادهم في تعيينه، ولم يهدهم اللَّه له، وفرضه على هذه الأمة مبينا، ولم يكله إلى اجتهادهم، ففازوا بتفضيله. قال: وقد جاء أن موسى عليه السلام أمرهم بالجمعة، وأعلمهم بفضلها فناظروه أن السبت أفضل، فقيل له: دعهم.
قال القاضي: ولو كان منصوصا لم يصح اختلافهم فيه، بل كان يقول: خالفوا فيه. قال الإمام النووي: ويمكن أن يكون أمروا به صريحا، ونصّ على عينه، فاختلفوا فيه، هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله، وأبدلوه وغلطوا في إبداله. (مسلم بشرح النووي) : 6/ 391، كتاب الجمة، باب (6) هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، حديث رقم (19) ، (20) ، (21) .
[ (1) ] باقي طرق الحديث في المرجع السابق، حديث رقم (22) ، (23) ، كلها بسياقات قريبة من بعضها مع التقديم والتأخير والزيادة والنقصان لكن بمعنى واحد، وذكره أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 49، باب ما روي في تقديم نبوته صلى الله عليه وسلم قبل خلق آدم عليه السلام، حديث رقم (11) ، والنسائي في الجمعة، باب إيجاب يوم الجمعة، حديث رقم (1366) .
_________
[ () ] قال الحافظ السيوطي: قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون» ،
أي الآخرون زمانا، الأولون منزلة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة، بأنهم أول من يحشروا، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة.
وقيل: المراد بالسبق إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة، وقيل المراد به السبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، والأول أقوى. «بيد» بموحدة ثم تحتية ساكنه مثل «غير» وزنا، ومعنى، وإعرابا، وبه جزم الخليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة.
وروى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعيّ رحمه الله، عن الربيع، عنه، أن معنى «بيد» من أجل، وكذا ذكره ابن حبان والبغوي، عن المزني عن الشافعيّ، وقد استبعده القاضي عياض، ولا بعد فيه.
والمعنى إنا سبقنا بالفضل إذ هدينا للجمعة، مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم. ويشهد لهم ما في (فوائد المقري) بلفظ: نحن الآخرون في الدنيا، ونحن أول من يدخل الجنة، لأنهم أورثوا الكتاب من قبلنا. وقال الراويّ: هي بمعنى «على» أو «مع» .
قال القرطبي: إن كانت بمعنى «غير» فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى «مع» ، فنصب على الظرف، وقال الطيبي: هي للاستثناء، وهي من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم. «أنهم أوتوا الكتاب قبلنا» اللام للجنس، والمراد التوراة والإنجيل:«وأوتيناه» المراد الكتاب، مرادا به القرآن، «وهذا اليوم الّذي كتب اللَّه عليهم» ، أي فرض عليهم تعظيمه، «فاختلفوا فيه» ، قال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض اللَّه عليه وهو مؤمن، وإنما يدل واللَّه تعالى أعلم على أنه فرض عليهم يوم الجمعة ووكل على اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أي الأيام هو، ولم يهتدوا ليوم الجمعة.
وقال النووي: يمكن أن يكونوا أمروا به صريحا فاختلفوا، هل يلزم تعيينه أم يسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك فأخطئوا. وقد روى ابن أبي حاتم عن السدّي، في قوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قال: إن اللَّه فرض على اليهود يوم الجمعة فأبوا وقالوا: يا موسى إن اللَّه لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا، فجعله عليهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: «اليهود غدا والنصارى بعد غد» ، قال القرطبي «غدا»
منصوب على الظروف، وهو متعلق بمحذوف تقديره: اليهود يعظمون غدا وكذا بعد غد ولا بد من هذا التقدير لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة، وقدر ابن مالك تقييد اليهود غدا. (حاشية الحافظ السيوطي على سنن النسائي) : 3/ 95- 96، كتاب الجمعة، باب إيجاب الجمعة، حديث رقم (1366) .
وقال الإمام السندي:
قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون» ،
أي الآخرون زمانا في الدنيا، الأولون منزلة وكرامة يوم القيامة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة إياهم في الآخرة، بأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة.
وقيل: المراد بالسبق إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة، وقيل: المراد بالسبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا.
قوله صلى الله عليه وسلم: «أوتوا الكتاب» ،
اللام للجنس، فيحمل بالنسبة إليهم على كتابهم، وبالنسبة إلينا
السابق يوم القيامة لأنه أول مكتوب في النبوة، ففي هذا الخبر الفضيلة العظيمة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لما أوجب اللَّه تعالى له النبوة قبل تمام خلق آدم الّذي هو أبو البشر، ويحتمل أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم اللَّه ملائكته ما سبق في علمه وقضائه من بعثته صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، فمن حاز هذه الفضيلة حق له الصبر على مواصلة الدعوة واحتمال الأذية ممن ردها، وإعظام من قبلها، واستفراغ الوسع في احتمال كل عارض وشدة وبلوى تعرض دون إقامتها، إذ الفضيلة سابقة على فضائل من تقدمه من الأنبياء في العهد والخلق الأول.
وقال بعض العارفين باللَّه: لما خلق اللَّه الأرواح المدبرة للأجسام عند حركة الفلك أول ما خلق الزمان بحركته، كان أول ما خلق روح محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صدرت الأرواح الفلكية عن الحركات الفلكية، فكان لها وجود في عالم الغيب دون عالم الشهادة، وأعلمه اللَّه بنبوته، وآدم لم يكن إلا كما قال بين الماء والطين، فاقتضى
قوله: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين»
أن يكون وجوده حقيقة، فإنه لا يكون العدم بين أمرين موجودين لانحصاره، والمعدوم لا يوصف بالحصر في شيء، ثم انتهى الزمان في حقه عليه السلام إلى وجود جسمه وارتباط الروح به، فظهر محمد صلى الله عليه وسلم بكليته جسما وروحا، فكان له الحكم أولا باطنا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل عليهم السلام، ثم صار له الحكم ظاهرا فنسخ كل شرع وإن كان المشرع واحدا، وهو صاحب الشرع، فإنه قال:«كنت نبيا» ..،
[ () ] على كتابنا، وهذا بيان زيادة شرف لنا، أي فصار كتابنا ناسخا لكتابهم، وشريعتنا ناسخة لشريعتهم، وللناسخ فضل على المنسوخ، فهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم.
أو المراد بيان أن هذا يرجع إلى مجرد تقدمهم علينا في الوجود، وتأخرنا عنه فيه، ولا شرف لهم فيه، أو هو شرف لنا أيضا من حيث قلة انتظارنا أمواتا في البرزخ، ومن حيث حيازة المتأخر علوم المتقدم دون العكس، فقولهم الفضل للتقدم ليس بكلي. قوله صلى الله عليه وسلم:«وهذا اليوم» ، الظاهر أنه أوجب عليهم يوما بعينه والعبادة فيه، فاختاروا لأنفسهم أن يبدل اللَّه لهم يوم السبت، فأجيبوا إلى ذلك، وليس بمستبعد من قوم قالوا لنبيهم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً.
قوله صلى الله عليه وسلم: «فهدانا اللَّه» ،
بالثبات عليه حين شرع لنا العبادة فيه،
«اليهود غدا»
أي يعبدون اللَّه في يوم الجمعة. فأخذ المصنف قوله: «كتب اللَّه» ، الوجوب، والظاهر أن الحكم بالنظر إلى واحد، فحيث إن ذلك الحكم هو الوجوب بالنسبة إلى قوم تعين أنه الوجوب بالنظر إلى الآخرين، واللَّه تعالى أعلم (المرجع السابق) .
ما قال: كنت إنسانا، ولا كنت موجودا، وليست النبوة إلا بالشرع المقرر من عند اللَّه، فأخبر أنه صاحب النبوة قبل وجود الأنبياء في الدنيا كما تقرر فيما تقدم، فكانت استدارته إليها دورته بالاسم الباطن، وابتداء دورة أخرى بالاسم الظاهر،
فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه السموات والأرض» [ (1) ] ،
[ (1) ]
ذكره البخاري في مواضع متفرقة من صحيحه يتمم بعضها بعضا، لكن أخرجه مسلم بتمامه في كتاب القسامة باب (9) تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (29) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ويحى بن حبيب الحارثي «وتقاربا في اللفظ» قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر، الّذي بين جمادى وشعبان، ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا:
اللَّه ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة، قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:
أليس البلدة؟ قلنا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى يا رسول اللَّه، قال فإن دماءكم وأموالكم قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعن بعدي كفارا- أو ضلالا- يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه، ثم قال: ألا هل بلغت» ؟ قال ابن حبيب في روايته: «ورجب مضر» وفي رواية أبي بكر: «فلا ترجعوا بعدي» .
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللَّه السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر، الّذي بين جمادى وشعبان» ،
أما ذو القعدة، فبفتح القاف، وذو الحجة بكسر الحاء، هذه اللغة المشهورة، ويجوز في لغة قليلة كسر القاف وفتح الحاء، وقد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم الأربعة هي هذه المذكورة في الحديث، ولكن اختلفوا في الأدب المستحب في كيفية عدّها، فقالت طائفة من أهل الكوفة وأهل الأدب، يقال: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة، ليكون الأربعة من سنة واحدة، وقال علماء المدينة والبصرة، وجماهير العلماء، هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ثلاثة سرد، وواحد فرد، وهذا هو الصحيح الّذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، منها هذا الحديث الّذي نحن فيه، وعلى هذا الاستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها.
وأما
قوله صلى الله عليه وسلم: «ورجب شهر مضر الّذي بين جمادى وشعبان» ،
وإنما قيّده هذا التقييد مبالغة في إيضاحه، وإزالة للبس عنه، قالوا: وقد كان بين بني مضر وبين ربيعة اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الّذي بين جمادى وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر.
وقيل: لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم، وقيل: إن العرب كانت تسمي رجبا وشعبان
_________
[ () ] الرجبين، وقيل كانت تسمى جمادى ورجبا جمادين، وتسمى شعبان رجبا.
وأما
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه السموات والأرض» ،
فقال العلماء:
معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في تحريم الأشهر الحرم، وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الّذي بعده، وهو صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة، حتى اختلط عليهم الأمر، وصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم تحريمهم، وقد تطابق الشرع، وكانوا في تلك السنة قد حرّموا ذا الحجة لموافقة الحساب الّذي ذكرناه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة قد صادفت ما حكم اللَّه تعالى به يوم خلق السموات والأرض.
وقال أبو عبيد: كانوا ينسئون أي يؤخرون، وهو الّذي قال اللَّه تعالى فيه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ، فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى صفر، ثم يؤخرون صفر في سنة أخرى، فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه.
هذا السؤال، والسكوت، والتفسير، أراد به التفخيم، والتقرير، والتنبيه على عظم مرتبه هذا الشهر، والبلد، واليوم، وقولهم:«اللَّه ورسوله أعلم» ، هذا من حسن أدبهم، وأنهم علموا أنه صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون.
قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» .
المراد بهذا كله بيان توكيد غليظ تحريم الأموال والدماء، والأعراض، والتحذير من ذلك.
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ،
قيل في معناه سبعة أقوال:
[1]
أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق.
[2]
المراد كفر النعمة، وحق الإسلام.
[3]
أنه يقرب من الكفر، ويؤدي إليه.
[4]
أنه فعل كفعل الكفار.
[5]
المراد حقيقة الكفر، ومعناه: لا تكفروا، ودوموا مسلمين.
[6]
حكاه الخطابي وغيره، أن المراد بالكفار: المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفّر الرجل بسلاحه إذا لبسه. قال الأزهري في كتاب (تهذيب اللغة) : يقال للابس السلاح كافر.
[7]
قال القاضي عياض رحمه الله: ثم إن الرواية «يضرب» برفع الباء، هكذا هو الصواب، وكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا.
ونقل القاضي عياض رحمه الله، أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء. قال القاضي: وهو إحالة للمعنى، والصواب الضم، قال الإمام النووي: وكذا قال أبو البقاء العكبريّ: إنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر، أي إن ترجعوا يضرب، واللَّه تعالى أعلم.
يعني في نسبة الحكم لنا ظاهرا كما كان في الدورة الأولى منسوبا إلينا باطنا، وإن كان في الظاهر منسوبا لمن نسب إليه من الأنبياء، ولما كانت العرب تنسئ [ (1) ] في الشهور فترى المحرّم منها حلالا والحلال منها محرّما، جاء محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برد الزمان إلى أصله الّذي حكم إليه به عند خالقه، فبين الحرم من الشهور على حد ما خلقها اللَّه
[ () ] وأما
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارا» ،
فقال القاضي: قال الصبري: معناه بعد فراقي من موقفي هذا، وكان هذا يوم النحر بمنى في حجة الوداع، أو يكون بعدي أي خلافي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الّذي أمرتكم به، أو يكون تحقق صلى الله عليه وسلم أن هذا لا يكون في حياته، فنهاهم عنه بعد مماته.
قوله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» ،
فيه وجوب تبليغ العلم، وهو فرض كفاية، فيجب تبليغه بحيث ينتشر.
قوله صلى الله عليه وسلم: «فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» ،
احتج به العلماء لجواز رواية الفضلاء وغيرهم من الشيوخ الذين لا علم لهم عندهم ولا فقه، إذا ضبط ما يحدث به. (مسلم بشرح النووي) : 2/ 415- 416، كتاب الإيمان، باب (29) بيان معنى
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ،
حديث رقم (118)، (المرجع السابق) : 11/ 180، كتاب القسامة، باب (9) . تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (29) .
[ (1) ] النسيء: يقال نسأه وأنسأه، إذا أخّره، حكاه الكسائي. قال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
قال الجوهري وأبو حاتم: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخّرته، ثم حوّل إلى نسيء، كما حوّل مقتول إلى قتيل. ورجل ناسئ، وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة.
وقيل: النسيء مصدر من أنسأ، كالنذير من أنذر، والنكير من أنكر، وهو ظاهر قول الزمخشريّ لأنه قال: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر.
وقال الطبريّ: النسيء بالهمز معناه الزيادة. قال أبو حيان: فإذا قلت: أنسأ اللَّه أجله بمعنى أخّر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسيء مرادفا للزيادة، بل قد يكون منفردا عنها في بعض المواضع. وإذا كان النسيء مصدرا كان الإخبار عنه بمصدر واضحا، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي: إن نسأ النسيء، أو في زيادة، أي: ذو زيادة. وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله. ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.
وأخبر أن النسيء زيادة في الكفر، أي جاءت مع كفرهم باللَّه، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفرا. قال تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125]، كما أن المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيمانا. قال تعالى: فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] ، وأعاد الضمير في به على النسيء، لا على لفظ زيادة.
عليه، فلهذا
قال: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض» ،
كذلك استدار الزمان فأظهر محمدا صلى الله عليه وسلم جسما وروحا، فنسخ [ (1) ] من شرعه المتقدم ما أراد أن ينسخ منه. وأبقى ما أراد اللَّه أن يبقى عليه، وذلك النّسخ في الأحكام لا في الأصول، ولما كان ظهوره صلى الله عليه وسلم [بالميزان][ (2) ] وهو العدل في الكون وهو معتدل حار رطب كان زمان ملته متصلا بالآخرة، وكان العلم في أمته أكثر مما كان.
في الأوائل، وأعطي صلى الله عليه وسلم علم الأولين وعلم الآخرين، فكان الكشف في هذه الأمة
[ () ] وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص: يُضِلُّ مبنيا للمفعول، وهو مناسب لقوله: زُيِّنَ، وباقي السبعة مبنيا للفاعل. وابن مسعود في رواية، والحسن ومجاهد، وقتادة، وعمرو بن ميمون، ويعقوب: يُضِلُّ أي اللَّه، أي يضل به الذين كفروا أتباعهم.
ورويت هذه القراءة عن الحسن، والأعمش، وأبي عمرو، وأبي رجاء. وقرأ أبو رجاء:
يُضِلُّ بفتحتين، من ضللت بكسر اللام، أضلّ بفتح الضاد منقولا، فتحها من فتحة اللام، إذ الأصل أضلل. وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن: نضل بالنون المضمومة وكسر الضاد، أي فضل نحن.
ومعنى تحريمهم عاما وتحليله عاما: لا يراد أن ذلك كان مداولة في الشهر بعينه، عام حلال وعام حرام، وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شقّ عليهم توالي الأشهر الحرم، أحل لهم المحرم، وحرم صفرا بدلا من المحرم، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة، فإذا كان من قابل، حرّم المحرم على حقيقته، وأحلّ صفر، ومشت الشهور مستقيمة، وإن هذه كانت حال القوم.
وقال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة، وكانوا ثلاثة.
وعن ابن عباس: إن أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ، وهو أول من سيب السوائب وغيّر دين إبراهيم عليه السلام. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة.
والموطأة: الموافقة، أي ليوافقوا العدة التي حرّم اللَّه، وهي الأربعة ولا يخالفونها، وقد خالفوا التخصيص الّذي هو أصل الواجبين. والواجبان هما العدد الّذي هو أربعة، في أشخاص أشهر معلومة، وهي رجب وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم. يقال: تواطئوا على كذا، إذا اجتمعوا عليه، كأن كل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. ومن الإيطاء في الشعر، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد.
قال ابن عطية: ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد، فأزالوا الفضيلة التي خصّ بها الأشهر الحرم وحدها، بمثابة أن يفطر رمضان، ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر. باختصار من (البحر المحيط) : 5/ 416- 418.
[ (1) ] النسخ إبطال الشيء وإقامة آخر مكانه، وفي التنزيل: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، والآية الثانية ناسخة والأولى منسوخة، والشيء ينسخ الشيء أي يزيله ويكون مكانه. (لسان العرب) : 3/ 61.
[ (2) ] في (خ)«بالميراث» ، وما أثبتناه أجود للسياق.
أكثر مما كان في غيرها، لغلبة البرد واليبس على سائر الأمم قبلنا، وإن كانوا أذكياء وعلماء فآحاد مهم معينون بخلاف الأمة المحمدية، ألا ترى كيف ترجمت هذه الأمة جميع علوم الأمم، ولو لم يكن المترجم عالما بالمعنى الّذي دل عليه لفظ المتكلم به لما صح أن يكون مترجما، ولا كان ينطبق على ذلك اسم الترجمة، فقد علمت هذه الأمة علم من تقدم، واختصت بعلوم لم تكن للمتقدمين، ولهذا
أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: «فعلمت علم الأولين» ، وهم الذين تقدموه، ثم قال:«وعلم الآخرين» ،
وهو علم ما لم يكن عند المتقدمين، وهو ما تعلمته أمته من بعده إلى يوم القيامة، فقد أخبر عليه السلام أن عندنا علوما لم تكن قبل، فقد ثبت له صلى الله عليه وسلم السيادة في الدنيا في العلم، وثبت له أيضا السيادة في الحكم حيث
قال: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» ،
وتبين ذلك عند نزول عيسى عليه السلام، وحكمه فينا بالقرآن، فصحّت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم السيادة في الدنيا بكل وجه ومعنى.
ثم أثبت له السيادة على سائر الناس يوم القيامة بفتحه باب الشفاعة، ولا يكون ذلك [لنبي في [ (1) ] يوم القيامة] إلا له صلى الله عليه وسلم، فقد شفع صلى الله عليه وسلم في الرسل والأنبياء أن تشفع، نعم، وفي الملائكة، فأذن اللَّه تعالى عند شفاعته عليه السلام في ذلك لجميع من له شفاعة من ملك ورسول ونبي ومؤمن أن يشفع، فهو صلى الله عليه وسلم أول شافع بإذن اللَّه تعالى، وأرحم الراحمين، أخرج من النار من لم يعمل خيرا قط كما ورد في الحديث الصحيح، فأي شرف أعظم من دائرة تدار يكون آخرها أرحم الراحمين، وآخر الدائرة متصل بأولها، ولا شرف أعظم من شرف محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان ابتداء الأشياء، وبه كملت، وما أعظم شرف المؤمن حيث ثلث شفاعته بشفاعة أرحم الراحمين، فلا دائرة أوسع من دائرة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن له الإحاطة-[ولأمته بحكم التبعية فلها الاحاطة][ (2) ]- بسائر الأمم، ولذلك كانوا شهداء على الناس [ (3) ] .
[ (1) ] في (خ)«ولا يكون ذلك لنبي إلا في يوم القيامة» ، وهو خطأ من الناسخ.
[ (2) ] ما بين القوسين من هامش (خ) .
[ (3) ] إشارة إلى قوله تعالى: وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78] .
[وأعطى][ (1) ] اللَّه محمدا صلى الله عليه وسلم ما لم يعط غيره، فمن ذلك القرآن لم يبدل [ولم يحرف][ (2) ] ، ولا نسخت شريعته بل ثبتت محفوظة، واستقرت بكل عين ملحوظة، يستشهد بها على كل طائفة، وخصّ صلى الله عليه وسلم بعلم الأولين والآخرين، وبالتؤدة والرّفق والرحمة وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [ (3) ] ، وما غلظ على من غلظ إلا بالأمر الإلهي حين قيل له جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [ (4) ] ، فصحت له السيادة على العالم بما تقرر، فإنه لم يحصل لغيره.
قال تعالى: يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ [ (5) ]، وقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [ (6) ] ، فلذلك ثبت القرآن ولم يحرف، وكذا علمه الإحاطي لم يكن لغيره ممن تقدمه. ومما خص به: السيف الّذي بعث به، وقتال الملائكة معه، فإن ذلك لم يكن لغيره، وهو من رتبة الكمال، وبعث من قوم ليس لهم همّ إلا في قرى الضيفان ونحر الجزور، والقتال الدائم الّذي لم يكن في غيرهم من الناس، وبهذا ولهذا كانوا يتمدحون كما هو معروف في أشعارهم، ولا خفاء عند كل أحد بفضل العرب على العجم بالكرم والشجاعة، وإن كان في العجم كرماء وشجعان كما في العرب بخلاء وجبناء لكن آحاد، والكلام يقع في الغالب لا في النادر، فهذا أمر لا ينكره أحد.
ومما اختص به صلى الله عليه وسلم أنه حببت إليه النساء [ (7) ] ، فإن حبهن بكون اللَّه تعالى حببهن إليه، فكان يحبهن. ومن سنته النكاح لا التبتل، وجعل النكاح عبادة، وحبب إليه أيضا الطيب [ (7) ] .
[ (1) ] في (خ)«وأعطا» .
[ (2) ] في (خ)«ولا حرف» .
[ (3) ] الأحزاب: 43.
[ (4) ] التوبة: 73، التحريم:9.
[ (5) ] البقرة: 75.
[ (6) ] الحجر: 9.
[ (7) ]
أخرجه النّسائيّ في كتاب عشرة النساء، باب (1) ، حب النساء، حديث رقم (3949) : حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الرحمن النّسائيّ قال: أخبرنا الحسين بن عيسى القومسيّ قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا سلّام أبو المنذر عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «حبّب إليّ من الدنيا النساء والطّيب، وجعل قرة عيني في الصلاة» .
وحديث رقم (3950) : أخبرنا عليّ بن مسلم الطوسيّ قال: حدثنا سيّار قال: حدثنا جعفر قال: حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «حبّب إليّ النّساء والطيب، وجعلت قرّة عيني في الصلاة» .
قال الحافظ السيوطي: قال بعضهم: في هذا قولان: أحدهما: أنه زيادة في الابتلاء والتكليف،
_________
[ () ] حتى يلهو بما حبب إليه من النساء، عما كلف من أداء الرسالة، فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره.
والثاني: لتكون خلواته مع ما يشاهدها من نسائه، فيزول عنه ما يرميه به المشركون من أنه ساحر أو شاعر، فيكون تحببهن إليه على وجه اللطف به، وعلى القول الأول على وجه الابتلاء، وعلى القولين فهو له فضيلة.
وقال التستري في (شرح الأربعين) : «من» في هذا الحديث بمعنى «في» ، لأن هذه من الدين لا من الدنيا، وإن كانت فيها. والإضافة في رواية «دنياكم» للإيذان بأن لا علاقة له بها.
وفي هذا الحديث: إشارة إلى وفائه صلى الله عليه وسلم بأصلي الدين، وهما التعظيم لأمر اللَّه، والشّفقة على خلق اللَّه، وهما كمال لقوّتيه، النظرية والعملية، فإن كمال الأولى بمعرفة اللَّه، والتعظيم دليل عليها، لأنه لا يتحقق بدونها، والصلاة لكونها مناجاة اللَّه تعالى على ما قال صلى الله عليه وسلم:«المصلي يناجي ربه» ، نتيجة التعظيم على ما يلوح من أركانها ووظائفها.
وكمال الثانية في الشفقة وحسن المعاملة مع الخلق، وأولى الخلق بالشفقة بالنسبة إلى كل واحد من الناس، نفسه وبدنه، كما
قال صلى الله عليه وسلم: «أبدأ بنفسك ثم بمن تعول» ،
والطيب أخص الذات بالنفس، ومباشرة النساء ألذّ الأشياء بالنسبة إلى البدن، مع ما يتضمن من حفظ الصحة، وبقاء النسل المستمر لنظام الوجود، ثم إن معاملة النساء، أصعب من معاملة الرجال، لأنهن أرق دينا، وأضعف عقلا، وأضيق خلقا، كما
قال صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للبّ الرجل الحازم منكن» .
فهو عليه الصلاة والسلام أحسن معاملتهن بحيث عوتب بقوله تعالى: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، وكان صدور ذلك طبعا لا تكلفا، كما يفعل الرجل ما يحبه من الأفعال، فإذا كانت معاملته معهن هذا، فما ظنك بمعاملته مع الرجال، الذين هم أكمل عقلا، وأمثل دينا، وأحسن خلقا؟.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» ،
إشارة إلى أن كمال القوة النظرية أهم عنده وأشرف في نفس الأمر، وأما تأخيره فللتدرج التعليمي من الأدنى إلى الأعلى، وقدم الطيب على النساء، لتقدم حظ النفس على حظ البدن في الشرف.
وقال الحكيم الترمذي في (نوادر الأصول) : الأنبياء زيدوا في النكاح لفضل نبوتهم، وذلك أن النور إذا امتلأ منه الصدر، ففاض في العروق، التذت النفس والعروق، فأثار الشهوة وقوّاها.
وروى عن سعيد بن المسيب أن النبيين عليهم الصلاة والسلام، يفضّلون بالجماع على الناس، وروى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أعطيت قوة أربعين رجلا في البطش والنكاح، وأعطى المؤمن قوة عشرة» ،
فهو بالنّبوّة، والمؤمن بإيمانه، والكافر له شهوة الطبيعة فقط.
قال: وأما الطيب فإنه يزكي الفؤاد
…
وروى أحمد والترمذي من حديث أبي أيوب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أربع من سنن المرسلين: التعطّر، والحياء، والنكاح، والسواك» .
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: السّرّ في إباحة نكاح أكثر من أربع لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أن اللَّه تعالى أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها، وما يستحيا من ذكره، وما لا يستحيا منه، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أشدّ الناس حياء، فجعل اللَّه تعالى له نسوة، ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله، التي قد يستحي من الإفصاح بها بحضرة الرجال، ليكتمل نقل الشريعة، وكثر عدد النساء ليكثر الناقلون لهذا
واختص أيضا بإعجاز القرآن، وأعطي جوامع الكلم، ولم يعط ذلك نبي قبله، واعطي كما قال: ستا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبله: بعث إلى الناس كافة فعمت رسالته، ونصر بالرعب، وأحلت له ولأمته الغنائم، وجعلت له ولأمته الأرض مسجدا وتربتها طهورا، ومما خصّ به أن أعطاه اللَّه مفاتيح خزائن الأرض، وخصّه بصورة الكمال فكملت به الشرائع وكان خاتم الأنبياء، ولم يكن ذلك
[ () ] النوع، ومنهن عرف مسائل الغسل، والحيض، والعدة، ونحوها.
قال: ولم يكن ذلك لشهوة منه في النكاح، ولا كان يحب الوطء للذة البشرية، معاذ اللَّه، وإنما حبّب إليه النساء لنقلهن عنه ما يستحي هو من الإمعان في التلفظ به، فأحبهن لما فيه من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب.
وأيضا فقد نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه، وحال خلوته، من الآيات البينات على نبوته، ومن جدّه، واجتهاده في العبادة، ومن أمور يشهد كل ذي لب أنها لا تكون إلا لنبي، وما كان يشاهدها غيرهن، فحصل بذلك خير عظيم.
وقال الموفق عبد اللطيف البغدادي: لما كانت الصلاة جامعة لفضائل الدنيا والآخرة، خصّها بزيادة صفة، وقدّم الطيب لإصلاحه النفس، وثنّي بالنساء لإماطة أذى النفس بهن، وثلّث بالصلاة لأنها تحصل حينئذ صافية عن الشوائب، خالصة من الشواغل. (سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي) : 7/ 72- 73.
وقال الإمام السندي: قوله صلى الله عليه وسلم: «حبّب إليّ من الدنيا النساء» ،
قيل: إنما حبب إليه النساء لينقلن عنه ما لا يطلع عليه الرجال من أحواله، ويستحيا من ذكره.
وقيل: حبب إليه زيادة في الابتلاء في حقه، حتى لا يلهو بما حبب إليه من النساء عما كلف به من أداء الرسالة، فيكون أكثر لمشاقه، وأعظم لأجره، وقيل غير ذلك.
وأما الطيب، فكأنه يحبه لكونه يناجي الملائكة، وهم يحبون الطيب، وأيضا هذه المحبة تنشأ من اعتدال المزاج، وكمال الخلقة، وهو صلى الله عليه وسلم أشدّ اعتدالا من حيث المزاج، وأكمل خلقة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «قرة عيني في الصلاة» ،
إشارة إلى أن تلك المحبة، غير ما نعقله عن كمال المناجاة مع الرب تبارك وتعالى، بل هو مع تلك المحبة منقطع إليه تعالى، حتى أنه بمناجاته تقر عيناه، وليس له قريرة العين فيما سواه.
فمحبته الحقيقية ليست إلا لخالقه تبارك وتعالى،
كما قال: صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر، وإن صاحبكم لخليل الرحمن»
- أو كما قال- وفيه إشارة إلى أن محبة النساء والطيب إذا لم يكن مخلا لأداء حقوق العبوديّة، بل للانقطاع إليه تعالى، يكون من الكمال، وإلا يكون من النقصان، فليتأمّل.
وعلى ما ذكر، فالمراد بالصلاة، هي ذات ركوع وسجود، ويحتمل أن المراد في صلاة اللَّه تعالى عليّ، أو في أمر اللَّه تعالى الخلق بالصلاة عليّ. واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) : 73- 74.
لغيره [ (1) ] .
[ (1) ]
هذا الحديث أخرج البخاري في كتاب التيمم، باب (1)، حديث رقم (335) : أخبرنا سيار قال:
حدثنا يزيد الفقير قال: أخبرنا جابر بن عبد اللَّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» .
قوله: «حدثنا يزيد الفقير» ، هو ابن صهيب يكنى أبا عثمان، التابعي مشهور، قيل له الفقير لأنه كان يشكو فقار ظهره، ولم يكن فقيرا من المال، قال صاحب المحكم: رجل فقير مكسور فقار الظهر، ويقال له: فقير بالتشديد أيضا.
فائدة: مدار حديث جابر هذا على هشيم بهذا الإسناد، وله شواهد من حديث ابن عباس وأبي موسى وأبي ذر، من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواها كلها أحمد بأسانيد حسان.
قوله صلى الله عليه وسلم: «لم يعطهن أحد قبلي» ،
زاد في كتاب الصلاة عن محمد بن سنان: «من الأنبياء» ، وفي حديث ابن عباس:«لا أقولهن فخرا» ، ومفهومه أنه لم يختص بغير الخمس المذكورة، لكن
روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: «فضلت على الأنبياء بست» ،
فذكر أربعا من هذه الخمس، وزاد ثنتين كما سيأتي بعد.
وطريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله. وظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك.
ولا يعترض بأن نوحا عليه السلام، كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه، وقد كان مرسلا إليهم، لأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الّذي وقع، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك.
وأما قول أهل الموقف لنوح كما صح في حديث الشفاعة: «أنت أول رسول إلى أهل الأرض» ،
فليس المراد به به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات، على أن إرسال نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
واستدل بعضهم لعموم بعثته بكونه دعا على جميع من في الأرض، فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثا إليهم لما أهلكوا، لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وقد ثبت أنه أول الرسل.
وأجيب بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن من قومه ومن غيرهم فأجيب، وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبّئ في زمن نوح غيره.
ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه، أو بعده، فينسخ بعض شريعته، ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد، بلغ بقية الناس، فتمادوا على الشرك فاستحقوا العذاب، وإلى هذا نحا ابن عطية في تفسيره
_________
[ () ] سورة هود قال:
وغير ممكن أن تكون نبوّته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته، ووجّهه ابن دقيق العيد بأن توحيد اللَّه تعالى يجوز أن يكون عامّا في حق بعض الأنبياء، وإن كان التزام فروع شريعته ليس عاما، لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازما لهم لم يقاتلهم.
ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح، [وهذا الاحتمال الأخير أظهر مما قبله، لقول اللَّه تعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، وقوله تعالى:
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً] فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثا إليهم.
وغفل الداوديّ الشارح غفلة عظيمة فقال:
قوله: «لم يعطهن أحد»
يعني لم تجمع قبله، لأن نوحا بعث إلى كافة الناس، وأما الأربع فلم يعط أحد واحدة منهن. وكأنه نظر في أول الحديث وغفل عن آخره، لأنه
نص صلى الله عليه وسلم على خصوصيته بهذه أيضا لقوله: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة» ، وفي رواية مسلم:«وكان كل نبي» .
قوله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب» ، زاد أبو أمامة:«يقذف في قلوب أعدائي» ، أخرجه الإمام أحمد.
قوله صلى الله عليه وسلم: «مسيرة شهر» ،
مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ
رواية عمرو بن شعيب: «ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر» ،
فالظاهر اختصاصه به مطلقا، وإنما جعل الغاية شهرا، لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى لو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال.
قوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجدا» ،
أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها، كانت كالمسجد في ذلك.
قال ابن التين: قيل: المراد جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وجعلت لغيري مسجدا، ولم تجعل له طهورا، لأن عيسى عليه السلام، كان يسبح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، كذا قال، وسبقه إلى ذلك الداوديّ.
وقيل: إنما أبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة، فأبيح لها في جميع الأرض، إلا فيما يتيقنوا نجاسته، والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة، كالبيع والصوامع، ويؤيده
رواية عمرو بن شعيب بلفظ: «وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم» ،
وهذا نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية، ويؤيده ما
أخرجه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب فيه: «ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه» .
قوله صلى الله عليه وسلم: «وطهورا» ،
استدلّ به على أن الطهور هو المطهر لغيره، لأن الطهور لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها.
وقد روى ابن المنذر، وابن الجارود، بإسناد صحيح، عن أنس مرفوعا:«جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا» ،
ومعنى طيبة طاهرة،
_________
[ () ] فلو كان معنى طهورا طاهرا للزم تحصيل الحاصل.
واستدل به على أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في هذا الوصف، قال الحافظ في (الفتح) :«وفيه نظر» . قال محققه: «ليس للنظر المذكور وجه، والصواب أن التيمم رافع للحدث كالماء، عملا بظاهر الحديث المذكور، وما جاء في معناه، وهو قول جم غفير من أهل العلم. واللَّه تعالى أعلم. (أ. هـ) .
وعلى أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أكد في رواية أبي أمامة بقوله:«وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا» .
قوله صلى الله عليه وسلم: «فأيما رجل» ، «أيّ» مبتدأ فيه معنى الشرط، و «ما» زائدة للتأكيد، وهذه صيغة عموم يدخل تحتها من لم يجد ماء ولا ترابا، ووجد شيئا من أجزاء الأرض، فإنه يتيمم به، ولا يقال:
هو خاص بالصلاة، لأنا نقول: لفظ حديث جابر مختصر، وفي رواية أبي أمامة عند البيهقي:«فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد ماء، وجد الأرض طهورا ومسجدا. وعند الإمام أحمد: «فعنده طهوره ومسجده» . وفي رواية عمرو بن شعيب: «فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت» .
واحتج من خصّ التيمم بالتراب، بحديث حذيفة عند الإمام مسلم بلفظ:«وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» ، وهذا خاص، فينبغي أن يحمل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب، ودلّ الافتراق في اللفظ، حيث حصل التأكيد من جعلها مسجدا دون الآخر على افتراق الحكم، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا، كما في حديث الباب.
ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ «التربة» على خصوصية التيمم بالتراب بأن قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ «التراب» ، أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفي حديث علي:«وجعل التراب لي طهورا» ، أخرجه الإمام أحمد والبيهقي بإسناد حسن، ويقوى القول بأنه خاص بالتراب، أن الحديث سبق لإظهار التشريف والتخصيص، فلو كان جائزا بغير التراب لما اقتصر عليه. قوله صلى الله عليه وسلم:«فليصل» ، عرف مما تقدم أن المراد فليصل بعد أن تيمم.
قوله صلى الله عليه وسلم: «وأحلت لي الغنائم» ،
وللكشميهني «المغانم» وهي رواية الإمام مسلم، قال الخطابي:
كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.. وقيل: المراد أنه خصّ بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف يشاء، والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم المغانم أصلا.
قوله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت الشفاعة» ،
قال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام منها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها. وكذا جزم النووي وغيره.
وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل. وقيل: الشفاعة لخروج من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك، قاله عياض. والّذي يظهر لي أن هذه مع الأولى، لأنه يتبعها بها.
وقال البيهقي: يحتمل أن الشفاعة التي يختص بها أن يشفع لأهل الصغائر والكبائر، وغيره إنما يشفع لأهل الصغائر دون الكبائر. ونقل عياض أن الشفاعة المختصة به شفاعة لا ترد.
وقد وقع في حديث ابن عباس: «وأعطيت الشفاعة، فأخّرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك باللَّه شيئا» .
وفي حديث عمرو بن
_________
[ () ] شعيب: «فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا اللَّه» ،
والظاهر أن المراد بالشفاعة المختصّة في هذا الحديث إخراج من ليس له عمل صالح إلا التوحيد، وهو مختص أيضا بالشفاعة الأولى، لكن جاء التنويه بذكر هذه لأنها غاية المطلوب من تلك لاقتضائها الراحة المستمرة.
وقد ثبتت هذه الشفاعة في رواية الحسن عن أنس في كتاب التوحيد: «ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا اللَّه، فيقول: وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال:
لا إله إلا اللَّه» . ولا يعكر على ذلك ما وقع عند مسلم قبل قوله: «وعزتي» فيقول: «ليس ذلك، وعزتي.. إلخ» ،
لأن المراد أنه لا يباشر الإخراج كما في المرات الماضية، بل كانت الشفاعة سببا في ذلك.
وأما
قوله صلى الله عليه وسلم: «وبعثت إلى الناس عامة» ، فوقع في رواية مسلم:«وبعثت إلى كل أحمر وأسود» ،
فقيل: المراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب، وقيل: الأحمر الإنس، والأسود الجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه مرسل إلى الجميع، وأصرح الروايات في ذلك وأشملها،
رواية أبي هريرة عند مسلم: «وأرسلت إلى الخلق كافة» .
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : أول حديث أبي هريرة هذا: «فضّلت على الأنبياء بست» ، فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهم:«وأعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون» ،
فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال.
ولمسلم أيضا من حديث حذيفة: «فضلنا على الناس بثلاث خصال: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة»
وذكر خصلة الأرض كما تقدم، قال: وذكر خصلة أخرى، وهي الخصلة المهمة بينها
ابن خزيمة والنسائي، وهي:«وأعطيت هذه الآيات من سورة البقرة من كنز تحت العرش» ،
يشير إلى ما حطه اللَّه عن أمته من الإصر، وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعا.
ولأحمد من حديث علي: «أعطيت أربعا لم يعطهنّ أحد من أنبياء اللَّه: أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم»
وذكر خصلة التراب فصارت الخصال اثنتي عشرة خصلة.
وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: «فضّلت على الأنبياء بست: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه» ،
وذكر ثنتين مما تقدم.
وله من حديث ابن عباس رفعه: «فضّلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني اللَّه عليه فأسلّم»
قال: ونسيت الأخرى، قال الحافظ ابن حجر: فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة. ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وقد تقدم طريق الجمع بين هذه الروايات، وأنه لا تعارض فيها.
وقد ذكر أبو سعيد النيسابورىّ في كتاب (شرف المصطفى)، أن عدد الّذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلة. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم:
[1]
مشروعية تعديد نعم اللَّه.
[2]
إلقاء العلم قبل السؤال.
[3]
أن الأصل في الأرض الطهارة.
[4]
أن صحة الصلاة لا تختص بالمسجد المبني لذلك.
وأما
حديث: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فضعيف، أخرجه الدار الدّارقطنيّ من حديث
فبهذا وأمثاله انفرد بالسيادة الجامعة للسيادات كلها، والشرف المحيط الأعم صلى الله عليه وسلم. وكان من رتبة الكمال الّذي اختص به عليه السلام في جميع أموره: الكمال في [العبوديّة][ (1) ] فكان عبدا صرفا لم تقم بذاته ربانية على أحد، وهي التي أوجبت له السيادة، وهي الدليل على شهوده على الدوام، وقد قالت عائشة رضي الله عنها:
«كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكر اللَّه على كل أحيانه» ، وهو أمر يختص بباطن الإنسان وقوله، وقد يظهر خلاف ذلك بأفعاله مع تحققه بالمقام، فيلتبس على من لا معرفة له بالأحوال. واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
***
[ () ] جابر.
واستدل به صاحب (المبسوط) من الحنفية على إظهار كرامة الآدمي وقال: لأن الآدمي خلق من ماء وتراب، وقد ثبت أن كل منهما طهور، ففي ذلك بيان كرامته. قال محققه:
وحديث جابر، يغني عنه ما
رواه ابن ماجة، وابن حبان، والحاكم بإسناد حسن عن ابن عباس مرفوعا:«من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر» ،
وما
رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: «أن رجلا أعمى سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب» ،
وهذا في الفرائض كما هو معلوم، أما النافلة فلا تختص بالمسجد بل هي في البيت أفضل، إلا ما للشرع دليل على استثنائه. واللَّه تعالى أعلم. (فتح الباري) :
1/ 574 كتاب التيمم باب (1) حديث (335) .
[ (1) ] في (خ) : «العبودة» .