المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تقسيم الحديث الضعيف إلى أقسامه المشهورة على طريقة المحدثين - توجيه النظر إلى أصول الأثر - جـ ٢

[طاهر الجزائري]

فهرس الكتاب

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْغَزْو وَالسير

- ‌المبحث الثَّالِث فِي الحَدِيث الضَّعِيف

- ‌تَقْسِيم الحَدِيث الضَّعِيف إِلَى أقسامه الْمَشْهُورَة على طَريقَة الْمُحدثين

- ‌زِيَادَة بسط

- ‌وَهنا أُمُور يَنْبَغِي الانتباه لَهَا

- ‌بَيَان شاف للمعلل من الحَدِيث

- ‌بَيَان علل أَخْبَار رويت فِي الطَّهَارَة

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي الصَّلَاة

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الزَّكَاة وَالصَّدقَات

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الصَّوْم

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْمَنَاسِك

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْجَنَائِز

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْبيُوع

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي النِّكَاح

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْحُدُود

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي اللبَاس

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي الْأَطْعِمَة

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي أُمُور شَتَّى

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْأَحْكَام والأقضية

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الزّهْد

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْمَنَاسِك

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْغَزْو وَالسير

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْبيُوع

- ‌صلَة تتَعَلَّق بالضعيف وَهِي تشْتَمل على ثَلَاث مسَائِل

- ‌الْفَصْل السَّابِع فِي رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى وَمَا يتَعَلَّق بذلك

- ‌فروع لَهَا تعلق بالرواية بِالْمَعْنَى

- ‌فَوَائِد شَتَّى الْفَائِدَة الأولى

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّالِثَة

- ‌الْفَائِدَة الرَّابِعَة

- ‌الْفَائِدَة الْخَامِسَة

- ‌تَنْبِيهَات

- ‌الْفَائِدَة السَّابِعَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّامِنَة

- ‌الْفَائِدَة التَّاسِعَة

- ‌الْفَائِدَة الْعَاشِرَة

- ‌الْفَائِدَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة عشرَة

الفصل: ‌تقسيم الحديث الضعيف إلى أقسامه المشهورة على طريقة المحدثين

تَأَمَّلت مَا ذكر ابْن سُفْيَان لم يُطَابق الْغَرَض الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَاكِم مِمَّا ذكر مُسلم فِي صدر كِتَابه فَتَأَمّله تَجدهُ كَذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى

هَذَا آخر كَلَام القَاضِي عِيَاض وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ ظَاهر جدا

‌تَقْسِيم الحَدِيث الضَّعِيف إِلَى أقسامه الْمَشْهُورَة على طَريقَة الْمُحدثين

وَقد أحببنا أَن نقسم الحَدِيث الضَّعِيف إِلَى أقسامه الْمَشْهُورَة الْمَأْخُوذَة بالاستقراء والتتبع متبعين لآثار الْقَوْم فَإِن ذَلِك أقرب إِلَى الطَّبْع وَأعظم فِي النَّفْع

وَقد بَينا فِيمَا سبق أَن الحَدِيث يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ مَقْبُول ومردود وَأَن المقبول هُوَ الصَّحِيح وَالْحسن والمردود هُوَ الضَّعِيف وَبينا شُرُوط الْقبُول

وَلَا يخفى أَن معرفَة شُرُوط الْقبُول توجب معرفَة سَبَب الرَّد إِذْ سَبَب الرَّد لَيْسَ إِلَّا فقد شَرط من شُرُوط الْقبُول فَأكْثر

وَقد أرجع بَعضهم سَبَب الرَّد إِلَى أَمريْن أَحدهمَا عدم الِاتِّصَال فِي السَّنَد

وَالثَّانِي وجود أَمر فِي الرَّاوِي يُوجب طَعنا

وَعدم الِاتِّصَال هُوَ سُقُوط راو من الروَاة من السَّنَد وَيُقَال لهَذَا السُّقُوط انْقِطَاع وَلِلْحَدِيثِ الَّذِي سقط من سَنَده راو فَأكْثر الحَدِيث الْمُنْقَطع ويقابله الحَدِيث الْمُتَّصِل وَهُوَ الَّذِي لم يسْقط من سَنَده راو من الروَاة

وَيدخل تَحت الْمُنْقَطع بِهَذَا الْمَعْنى الْمُنْقَطع الَّذِي سَيَأْتِي ذكره فَإِذا قسم من أقسامه

والأمور الَّتِي يُوجب كل وَاحِد مِنْهَا الطعْن فِي الرَّاوِي عشرَة الْكَذِب والتهمة بِهِ وفحش الْغَلَط والغفلة وَالوهم والمخالفة وَالْفِسْق والجهالة والبدعة وَسُوء الْحِفْظ

وَإِذا عرف هَذَا نقُول الحَدِيث الضَّعِيف هُوَ مَا وجد فِيهِ شَيْء مِمَّا يُوجب الرَّد

ص: 553

وَمُوجب الرَّد وَهُوَ بِعَيْنِه مُوجب الضعْف أَمْرَانِ أَحدهمَا سُقُوط راو من الروَاة من إِسْنَاده وَالثَّانِي وجود أَمر فِي الرَّاوِي يُوجب طَعنا فِيهِ فعلى ذَلِك يكون الحَدِيث الضَّعِيف نَوْعَيْنِ

أَحدهمَا مَا يكون مُوجب الرَّد فِيهِ سُقُوط راو من الروَاة من سَنَده

وَثَانِيهمَا مَا يكون مُوجب الرَّد فِيهِ وجود أَمر فِي الرَّاوِي يُوجب طَعنا فِيهِ

أما النَّوْع الأول وَهُوَ الحَدِيث الضَّعِيف الَّذِي يكون مُوجب الرَّد فِيهِ سُقُوط راو من الروَاة من سَنَده فَهُوَ أَرْبَعَة أَقسَام الْمُعَلق والمرسل والمعضل والمنقطع وَذَلِكَ لِأَن السُّقُوط إِمَّا أَن يكون من مبادي السَّنَد أَو من آخِره بعد التَّابِعِيّ أَو من غير ذَلِك

فَالْأول الْمُعَلق وَالثَّانِي الْمُرْسل وَالثَّالِث إِن كَانَ السَّاقِط فِيهِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدا مَعَ التوالي فَهُوَ المعضل وَإِلَّا فَهُوَ الْمُنْقَطع

فالمعلق هُوَ الحَدِيث الَّذِي سقط من أول سَنَده راو فَأكْثر كَقَوْل البُخَارِيّ قَالَ بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي ص = (الله أَحَق أَن يستحيى مِنْهُ)

قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر وَمن صور الْمُعَلق أَن يحذف مِنْهُ جَمِيع السَّنَد وَيُقَال مثلا قَالَ ص = وَمِنْهَا أَن يحذف مِنْهُ إِلَّا الصَّحَابِيّ أَو إِلَّا الصَّحَابِيّ والتابعي مَعًا وَمِنْهَا أَن يحذف من حَدثهُ ويضيفه إِلَى من فَوْقه فَإِن كَانَ من فَوْقه شَيخا لذَلِك المُصَنّف فقد اخْتلف فِيهِ هَل يُسمى تَعْلِيقا أم لَا وَالصَّحِيح فِي هَذَا التَّفْصِيل فَإِذا عرف بِالنَّصِّ أَو الاستقراء أَن فَاعل ذَلِك مُدَلّس قضي بِهِ وَإِلَّا فتعليق

وَإِنَّمَا ذكر التَّعْلِيق فِي قسم الْمَرْدُود للْجَهْل بِحَال الْمَحْذُوف وَقد يحكم بِصِحَّتِهِ إِن عرف بِأَن يَجِيء مُسَمّى من وَجه آخر فَإِن قَالَ جمع من أحذفه ثِقَات جَاءَت مَسْأَلَة التَّعْدِيل على الْإِبْهَام وَالْجُمْهُور لَا يقبل حَتَّى يُسمى لَكِن قَالَ ابْن الصّلاح هُنَا إِن وَقع الْحَذف فِي كتاب التزمت صِحَّته كالبخاري فَمَا أَتَى فِيهِ بِالْجَزْمِ حمل

ص: 554

على أَنه ثَبت إِسْنَاده عِنْده وَإِنَّمَا حذف لغَرَض من الْأَغْرَاض وَمَا أَتَى فِيهِ بِغَيْر الْجَزْم فَفِيهِ مقَال

وَقد أوضحت أَمْثِلَة ذَلِك فِي النكت على ابْن الصّلاح

والمرسل هُوَ الحَدِيث الَّذِي سقط من آخر سَنَده من بعد التَّابِعِيّ وَصورته أَن يَقُول التَّابِعِيّ سَوَاء كَانَ كَبِيرا أَو صَغِيرا قَالَ رَسُول الله ص = كَذَا أَو فعل كَذَا أَو فعل بِحَضْرَتِهِ كَذَا وَنَحْو ذَلِك

وَإِنَّمَا ذكر فِي قسم الْمَرْدُود للْجَهْل بِحَال الْمَحْذُوف لاحْتِمَال أَن يكون غير صَحَابِيّ وَإِذا كَانَ ذَلِك احْتمل أَن يكون ضَعِيفا وَإِذا كَانَ ثِقَة احْتمل أَن يكون روى عَن تَابِعِيّ آخر يكون ضَعِيفا وَهَكَذَا

وَقد وجد بالاستقراء رِوَايَة سِتَّة أَو سَبْعَة من التَّابِعين بَعضهم عَن بعض وَهَذَا أَكثر مَا وجد فِي هَذَا النَّوْع

فَإِن عرف من عَادَة التَّابِعِيّ الَّذِي أرسل الحَدِيث أَنه لَا يُرْسل إِلَّا عَن ثِقَة فمذهب الْجُمْهُور التَّوَقُّف فِيهِ لاحْتِمَال أَن يكون من أرْسلهُ عَنهُ ضَعِيفا عِنْد غَيره وَإِن كَانَ ثِقَة عِنْده فالتوثيق فِي الرجل الْمُبْهم غير كَاف عِنْدهم وَمَعَ ذَلِك فثم احْتِمَال آخر وَإِن كَانَ بَعيدا وَهُوَ أَن يكون الْإِرْسَال فِي ذَلِك الْموضع قد جرى على خلاف عَادَته بِسَبَب مَا

وَإِن عرف من عَادَته أَنه يُرْسل عَن الثِّقَات وَغَيرهم لم يقبل مرسله اتِّفَاقًا

هَذَا وَلما كَانَ الْمُرْسل مِمَّا عني بأَمْره المؤلفون فِي أصُول الْفِقْه أَو أصُول الحَدِيث أحببنا أَن نفيض فِيهِ هُنَا فَنَقُول ذكر الْعلمَاء فِي حَده ثَلَاثَة أَقْوَال

القَوْل الأول وَهُوَ الْمَشْهُور أَن الْمُرْسل مَا رَفعه التَّابِعِيّ إِلَى النَّبِي ص = سَوَاء كَانَ من كبار التَّابِعين كعبيد الله بن عدي بن الْخِيَار وَقيس بن أبي حَازِم وَسَعِيد بن الْمسيب وأمثالهم أَو من صغَار التَّابِعين كالزهري وَأبي حَازِم وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وأشباههم

القَوْل الثَّانِي أَنه مَا رَفعه التَّابِعِيّ الْكَبِير إِلَى النَّبِي ص = فعلى هَذَا لَا يُسمى مَا رَفعه صغَار التَّابِعين مُرْسلا وَلَكِن مُنْقَطِعًا

قَالَ ابْن الصّلاح قَول

ص: 555

الزُّهْرِيّ وَابْن أبي حَازِم وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وأشباههم من أصاغر التَّابِعين قَالَ رَسُول الله ص = حكى ابْن عبد الْبر أَن قوما لَا يسمونه مُرْسلا بل مُنْقَطِعًا لكَوْنهم لم يلْقوا من الصَّحَابَة إِلَّا الْوَاحِد والاثنين وَأكْثر روايتهم عَن التَّابِعين

قلت وَهَذَا الْمَذْهَب فرع لمَذْهَب من لَا يُسَمِّي الْمُنْقَطع قبل الْوُصُول إِلَى التَّابِعِيّ مُرْسلا وَالْمَشْهُور التَّسْوِيَة بَين التَّابِعين فِي اسْم الْإِرْسَال كَمَا تقدم

قَالَ بعض الْعلمَاء لم أر التَّقْيِيد بالكبير صَرِيحًا فِي كَلَام أحد من الْمُحدثين وَأما تَقْيِيد الشَّافِعِي الْمُرْسل الَّذِي لم يقبل إِذا اعتضد بِأَن يكون من رِوَايَة التَّابِعِيّ الْكَبِير فَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على أَن مَا يرفعهُ التَّابِعِيّ الصَّغِير لَا يُسمى مُرْسلا

على أَن الشَّافِعِي قد صرح بِتَسْمِيَة مَا يرفعهُ من دون كبار التَّابِعين مُرْسلا وَذَلِكَ فِي قَوْله وَمن نظر فِي الْعلم بخبرة وَقلة غَفلَة استوحش من مُرْسل كل من دون كبار التَّابِعين بدلائل ظَاهِرَة

وَقد اعْترض على ابْن الصّلاح هُنَا من وَجْهَيْن أَحدهمَا فِي قَوْله قبل الْوُصُول إِلَى التَّابِعِيّ

فَإِن الصَّوَاب فِي ذَلِك أَن يُقَال قبل الْوُصُول إِلَى الصَّحَابِيّ وَقد تبع فِي ذَلِك الْحَاكِم

الثَّانِي فِي إشعاره بِأَن الزُّهْرِيّ لم يلق من الصَّحَابَة إِلَّا الْوَاحِد والاثنين مَعَ أَنه قد لَقِي من الصَّحَابَة ثَلَاثَة عشر فَأكْثر وهم عبد الله بن عمر وَأنس بن مَالك وَسَهل بن سعد وَرَبِيعَة بن عباد وَعبد الله بن جَعْفَر والسائب بن يزِيد وسنين أَبُو جميلَة وَأَبُو الطُّفَيْل ومحمود بن الرّبيع والمسور بن مخرمَة وَعبد الرَّحْمَن بن أَزْهَر

وَلم يسمع من عبد الله بن جَعْفَر بل رَآهُ رُؤْيَة وَقيل إِنَّه سمع من جَابر وَقد سمع من مَحْمُود بن لبيد وَعبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل وثعلبة بن أبي مَالك الْقرظِيّ وهم مُخْتَلف فِي صحبتهم

وَأنكر أَحْمد وَيحيى سَمَاعه من أبي عمر وأثبته عَليّ بن الْمَدِينِيّ

ص: 556

القَوْل الثَّالِث أَنه مَا سقط راو من إِسْنَاده فَأكْثر من أَي مَوضِع كَانَ

فعلى هَذَا يكون الْمُرْسل والمنقطع بِمَعْنى وَاحِد

وَالْمَعْرُوف فِي الْفِقْه وأصوله أَن ذَلِك يُسمى مُرْسلا إِلَّا أَن أَكثر مَا يُوصف بِالْإِرْسَال من حَيْثُ الِاسْتِعْمَال مَا رَوَاهُ التَّابِعِيّ عَن النَّبِي ص =

وَقَالَ الْحَاكِم فِي كتاب الْمعرفَة إِن الْإِرْسَال مَخْصُوص بالتابعين

وَخَالف ذَلِك فِي الدخل فَقَالَ هُوَ قَول التَّابِعِيّ أَو تَابِعِيّ التَّابِعِيّ قَالَ رَسُول الله ص = وَبَينه وَبَين الرَّسُول قرن أَو قرنان وَلَا يذكر سَمَاعه من الَّذِي سَمعه يَعْنِي فِي رِوَايَة أُخْرَى

وَقد أطلق الْمُرْسل على الْمُنْقَطع من أَئِمَّة الحَدِيث أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقد صرح البُخَارِيّ فِي حَدِيث لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ بِأَنَّهُ مُرْسل لكَون إِبْرَاهِيم لم يسمع من أبي سعيد وَصرح هُوَ وَأَبُو دَاوُد فِي حَدِيث العون بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود عَن ابْن مَسْعُود بِأَنَّهُ مُرْسل لكَونه لم يدْرك ابْن مَسْعُود

وَأما قَول بعض أهل الْأُصُول الْمُرْسل قَول غير الصَّحَابِيّ قَالَ رَسُول الله ص =

فَالْمُرَاد بِهِ مَا سقط مِنْهُ التَّابِعِيّ مَعَ الصَّحَابِيّ أَو مَا سقط مِنْهُ اثْنَان بعد الصَّحَابِيّ وَنَحْو ذَلِك

وَلَو حمل على الْإِطْلَاق لزم بطلَان اعْتِبَار الْأَسَانِيد وَترك النّظر فِي أَحْوَال الروَاة وَهُوَ بَين الْفساد وَلذَا خصّه بَعضهم بِأَهْل الْأَعْصَار الأول يَعْنِي الْقُرُون الفاضلة

وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي بَيَان الْوَهم وَالْإِيهَام إِن الْإِرْسَال رِوَايَة الرَّاوِي عَمَّن لم يسمع مِنْهُ

وَعَلِيهِ فَتكون رِوَايَة من روى عَمَّن سمع مِنْهُ مَا لم يسمع مِنْهُ بِأَن يكون بَينهمَا وَاسِطَة فِيهَا لَيست من قبيل الْإِرْسَال بل من قبيل التَّدْلِيس فَيكون فِي حد الْمُرْسل أَرْبَعَة أَقْوَال

وَهَذَا الِاخْتِلَاف يرجع إِلَى اخْتِلَاف فِي الِاصْطِلَاح وَلَا مشاحة فِيهِ

ص: 557

والمرسل اسْم مفعول من قَوْلهم أرسل الحَدِيث إرْسَالًا

والإرسال فِي الأَصْل الْإِطْلَاق وَعدم التَّقْيِيد تَقول أرْسلت الطَّائِر إِذا أطلقته وَأرْسلت الْكَلَام إرْسَالًا إِذا أطلقته من غير تَقْيِيد وَسمي هَذَا النَّوْع من الحَدِيث بالمرسل لإِطْلَاق الْإِسْنَاد فِيهِ وَعدم تَقْيِيده براو يعرف

وَقد فرق أهل الْأَثر هُنَا بَين الِاسْم وَالْفِعْل عِنْد الْإِطْلَاق نبه على ذَلِك الْحَافِظ ابْن حجر فِي شرح النخبة حَيْثُ قَالَ إِن أهل الِاصْطِلَاح غايروا بَين الْفَرد والغريب من حَيْثُ كَثْرَة الِاسْتِعْمَال وقلته فالفرد أَكثر مَا يطلقونه على الْفَرد الْمُطلق والغريب أَكثر مَا يطلقونه على الْفَرد النسبي

وَهَذَا من حَيْثُ إِطْلَاق الاسمية عَلَيْهِمَا

وَأما من حَيْثُ استعمالهم الْفِعْل الْمُشْتَقّ فَلَا يفرقون فَيَقُولُونَ فِي الْمُطلق والنسبي تفرد بِهِ فلَان أَو أغرب بِهِ فلَان

وَقَرِيب من هَذَا اخْتلَافهمْ فِي الْمُنْقَطع والمرسل هَل هما متغايران أم لَا فَأكْثر الْمُحدثين على التغاير لكنه عِنْد إِطْلَاق الِاسْم وَأما عِنْد اسْتِعْمَال الْفِعْل الْمُشْتَقّ فيستعملون الْإِرْسَال فَقَط فَيَقُولُونَ أرْسلهُ فلَان سَوَاء كَانَ مُرْسلا أم مُنْقَطِعًا وَمن ثمَّ أطلق غير وَاحِد مِمَّن لم يُلَاحظ مَوَاضِع استعمالهم على كثير من الْمُحدثين أَنهم لَا يغايرون بَين الْمُرْسل والمنقطع

وَلَيْسَ كَذَلِك لما حررناه وَقل مننبه على النُّكْتَة فِي ذَلِك

وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الِاحْتِجَاج بالمرسل اخْتِلَافا شَدِيدا لَا يَتَّسِع للبحث فِيهِ مثل هَذَا الْكتاب

قَالَ الْحَافِظ السُّيُوطِيّ وَقد تلخص فِي ذَلِك عشرَة أَقْوَال يحْتَج بِهِ مُطلقًا لَا يحْتَج بِهِ مُطلقًا يحْتَج بِهِ إِن أرْسلهُ أهل الْقُرُون الثَّلَاثَة يحْتَج بِهِ إِن لم يرو إِلَّا عَن عدل يحْتَج بِهِ إِن أرْسلهُ سعيد فَقَط يحْتَج بِهِ إِن اعتضد يحْتَج بِهِ إِن لم يكن فِي الْبَاب سواهُ هُوَ أقوى من الْمسند يحْتَج بِهِ ندبا لَا وجوبا يحْتَج بِهِ إِن أرْسلهُ صَحَابِيّ

ص: 558

وَنقل عَن القَاضِي أبي بكر أَنه قَالَ لَا أقبل الْمُرْسل وَلَا فِي الْأَمَاكِن الَّتِي قبلهَا الشَّافِعِي حسما للباب بل وَلَا مُرْسل الصَّحَابِيّ إِذا احْتمل سَمَاعه من تَابِعِيّ

قَالَ وَالشَّافِعِيّ لَا يُوجب الِاحْتِجَاج بِهِ فِي هَذِه الْأَمَاكِن بل يستحبه كَمَا قَالَ أستحب قبُوله وَلَا أَسْتَطِيع أَن أَقُول الْحجَّة تثبت بِهِ ثُبُوتهَا بالمتصل

وَقَالَ غَيره فَائِدَة ذَلِك أَنه لَو عَارضه مُتَّصِل قدم عَلَيْهِ وَلَو كَانَ حجَّة مُطلقًا تَعَارضا لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ مُرَاد الشَّافِعِي بقوله أستحب أخْتَار هَذَا

والْحَدِيث الْمُرْسل ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ عِنْد جُمْهُور الْمُحدثين وَكثير من الْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الْأُصُول وَالنَّظَر وَذَلِكَ للْجَهْل بِحَال السَّاقِط من السَّنَد فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون غير صَحَابِيّ وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيحْتَمل أَن يكون ضَعِيفا

وَإِن اتّفق أَن يكون الْمُرْسل لَا يروي إِ لَا عَن ثِقَة فالتوثيق مَعَ الْإِبْهَام غير كَاف

وَقَالَ بعض الْأَئِمَّة الحَدِيث الْمُرْسل صَحِيح يحْتَج بِهِ وَقيد ابْن عبد الْبر ذَلِك بِمَا إِذا لم يكن مرسله مِمَّن لَا يحْتَرز وَيُرْسل عَن غير الثِّقَات فَإِن كَانَ فَلَا خلاف فِي رده

وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي رسَالَته إِلَى أهل مَكَّة وَأما الْمَرَاسِيل فقد كَانَ يحْتَج بهَا الْعلمَاء فِيمَا مضى مثل سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ حَتَّى جَاءَ الشَّافِعِي فتلكم فِيهَا وَتَابعه على ذَلِك أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره فَإِذا لم يكن مُسْند غير الْمَرَاسِيل وَلم يُوجد الْمسند فالمرسل يحْتَج بِهِ وَلَيْسَ هُوَ مثل الْمُتَّصِل فِي الْقُوَّة

وَقَالَ ابْن جرير أجمع التابعون بأسرهم على قبُول الْمُرْسل وَلم يَأْتِ عَنْهُم إِنْكَاره وَلَا عَن أحد من الْأَئِمَّة بعدهمْ إِلَى رَأس المئتين

قَالَ ابْن عبد الْبر كَأَنَّهُ يَعْنِي أَن الشَّافِعِي أول من رده

وَقد انتقد بَعضهم قَول من قَالَ إِن الشَّافِعِي أول من ترك الِاحْتِجَاج بالمرسل فقد نقل ترك الِاحْتِجَاج عَن سعيد بن الْمسيب وَهُوَ من كبار التَّابِعين وَلم ينْفَرد هُوَ بذلك بل قَالَ بِهِ من بَينهم ابْن سِيرِين وَالزهْرِيّ

وَقد أخرج مُسلم فِي مُقَدّمَة صَحِيحه عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ لم يَكُونُوا يسْأَلُون عَن الْإِسْنَاد فَلَمَّا وَقعت الْفِتْنَة قيل سموا لنا رجالكم فَينْظر إِلَى أهل السّنة فَيُؤْخَذ حَدِيثهمْ وَينظر إِلَى أهل الْبدع فَلَا يُؤْخَذ حَدِيثهمْ

وَقد ترك الِاحْتِجَاج بالمرسل ابْن مهْدي وَيحيى الْقطَّان وَغير وَاحِد مِمَّن قبل الشَّافِعِي وَالَّذِي يُمكن نسبته إِلَى الشَّافِعِي فِي أَمر الْمُرْسل هُوَ زِيَادَة الْبَحْث عَنهُ وَالتَّحْقِيق فِيهِ

وَقد روى الشَّافِعِي عَن عَمه قَالَ حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه أَنه قَالَ إِنِّي لأسْمع الحَدِيث أستحسنه فَمَا يَمْنعنِي من ذكره إِلَّا كَرَاهِيَة أَن يسمعهُ سامع فيقتدي بِهِ وَذَلِكَ أَنِّي أسمعهُ من الرجل لَا أَثِق بِهِ قد حدث بِهِ عَمَّن أَثِق بِهِ أَو أسمعهُ من رجل أَثِق بِهِ قد حدث بِهِ عَمَّن لَا أَثِق بِهِ

وَهَذَا كَمَا قَالَ ابْن عبد الْبر يدل على أَن ذَلِك الزَّمَان كَانَ يحدث فِيهِ الثِّقَة وَغَيره

وَأخرج الْعقيلِيّ من حَدِيث ابْن عون قَالَ ذكر أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ لمُحَمد بن سِيرِين حَدِيثا عَن أبي قلَابَة فَقَالَ أَبُو قلَابَة رجل صَالح وَلَكِن عَمَّن ذكره أَبُو قلَابَة

وَأخرج فِي الْحِلْية من طَرِيق ابْن مهْدي عَن ابْن لَهِيعَة أَنه سمع شَيخا من الْخَوَارِج يَقُول بَعْدَمَا تَابَ إِن هَذِه الْأَحَادِيث دين فانظروا عَمَّن تأخذون دينكُمْ فَإنَّا كُنَّا إِذا هوينا أمرا صيرنا لَهُ حَدِيثا

قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر هَذِه وَالله قاصمة الظّهْر للمحتجين بالمرسل إِذْ بِدعَة الْخَوَارِج كَانَت فِي مبدأ الْإِسْلَام وَالصَّحَابَة متوافرون ثمَّ فِي عصر التَّابِعين فَمن بعدهمْ وَهَؤُلَاء إِذا استحسنوا أمرا جَعَلُوهُ حَدِيثا وأشاعوه فَرُبمَا سمع الرجل الشَّيْء فَحدث بِهِ وَلم يذكر من حَدثهُ بِهِ تحسينا للظن فيحمله عَنهُ غَيره وَيَجِيء الَّذِي يحْتَج بالمنقطعات فيحتج بِهِ مَعَ كَون أَصله مَا ذكرت

ص: 559

وَأما مَرَاسِيل الصَّحَابَة فَحكمهَا حكم الْمَوْصُول على الْمَشْهُور الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور قَالَ ابْن الصّلاح ثمَّ إِنَّا لم نعد فِي أَنْوَاع الْمُرْسل وَنَحْوه مَا يُسمى فِي أصُول الْفِقْه مُرْسل الصَّحَابِيّ مثل مَا يرويهِ ابْن عَبَّاس وَغَيره من أَحْدَاث الصَّحَابَة عَن النَّبِي ص = وَلم يسمعوه مِنْهُ لِأَن ذَلِك فِي حكم الْمَوْصُول الْمسند لِأَن روايتهم عَن الصَّحَابَة والجهالة بالصحابي غير قادحة لِأَن الصَّحَابَة كلهم عدُول

قَالَ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ وَفِي قَوْله لِأَن روايتهم عَن الصَّحَابَة

نظر وَالصَّوَاب أَن يُقَال لِأَن غَالب روايتهم إِذْ قد سمع جمَاعَة من الصَّحَابَة من بعض التَّابِعين

وَسَيَأْتِي فِي كَلَام ابْن الصّلاح فِي رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر أَن ابْن عَبَّاس وَبَقِيَّة العبادلة رووا عَن كَعْب الْأَحْبَار وَهُوَ من التَّابِعين وروى كَعْب أَيْضا عَن التَّابِعين

وَلم يذكر ابْن الصّلاح خلافًا فِي مُرْسل الصَّحَابِيّ

وَفِي بعض كتب الْأُصُول أَنه لَا خلاف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ

وَلَيْسَ بجيد فقد قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرائيني إِنَّه لَا يحْتَج بِهِ

وَالصَّوَاب مَا تقدم

وَنقل القَاضِي عبد الْجَبَّار عَن الشَّافِعِي أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ قَالَ رَسُول الله ص = كَذَا قبل إِلَّا إِن علم أَنه أرْسلهُ

وَكَذَا نَقله ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ

وَهَذَا خلاف الْمَشْهُور من مذْهبه فقد ذكر ابْن برهَان فِي الْوَجِيز أَن مذْهبه فِي الْمَرَاسِيل أَنه لَا يجوز الِاحْتِجَاج بهَا إِلَّا مَرَاسِيل الصَّحَابَة ومراسيل سعيد وَمَا انْعَقَد الْإِجْمَاع على الْعَمَل بِهِ

وَأما مَرَاسِيل من أحضر إِلَى النَّبِي ص = غير مُمَيّز كعبيد الله بن عدي بن الْخِيَار فَلَا يُمكن أَن يُقَال إِنَّهَا مَقْبُولَة كمراسيل الصَّحَابَة لِأَن رِوَايَة الصَّحَابَة إِمَّا أَن تكون عَن النَّبِي ص = أَو عَن صَحَابِيّ وَالْكل مَقْبُول

وَاحْتِمَال كَون الصَّحَابِيّ الَّذِي أدْرك وَسمع يروي عَن التَّابِعين بعيد بِخِلَاف مَرَاسِيل هَؤُلَاءِ فَإِنَّهَا عَن التَّابِعين بِكَثْرَة فقوي احْتِمَال أَن يكون السَّاقِط غير صَحَابِيّ وَجَاء احْتِمَال كَونه غير ثِقَة

ص: 561

وَقد تكلم الْعلمَاء فِي عدَّة الْأَحَادِيث الَّتِي صرح ابْن عَبَّاس بسماعها من النَّبِي ص = فَقَالَ الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى إِنَّهَا أَرْبَعَة وَهُوَ قَول غَرِيب

وَقد قَلّدهُ فِي ذَلِك جمَاعَة

وَعَن يحيى الْقطَّان وَيحيى بن معِين وَأبي دَاوُد صَاحب السّنَن أَنَّهَا تِسْعَة

وَذكر بعض الْمُتَأَخِّرين أَنَّهَا دون الْعشْرين لَكِن من طرق صِحَاح

وَقد اعتنى الْحَافِظ ابْن حجر بِجمع الصِّحَاح والحسان مِنْهَا فزادت عِنْده على الْأَرْبَعين

وَهَذَا سوى مَا هُوَ فِي حكم السماع كحكاية حُضُور فعل أَمر بِحَضْرَة النَّبِي ص =

وَقد عقد ابْن حزم فِي كتاب الإحكام فصلا يتَعَلَّق بالمرسل فَقَالَ فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْمُرْسل من الحَدِيث هُوَ الَّذِي سقط بَين أحد رُوَاته وَبَين النَّبِي ص = ناقل وَاحِد فَصَاعِدا

وَهُوَ الْمُنْقَطع أَيْضا

وَهُوَ غير مَقْبُول وَلَا تقوم بِهِ حجَّة لِأَنَّهُ عَن مَجْهُول

وَقد قدمنَا أَن من جهلنا حَاله فَفرض علينا التَّوَقُّف عَن قبُول خَبره وَعَن قبُول شَهَادَته حَتَّى نعلم حَاله

وَسَوَاء قَالَ الرَّاوِي حَدثنَا الثِّقَة أَو لم يقل لَا يجب أَن نلتفت إِلَى ذَلِك إِذْ قد يكون عِنْده ثِقَة من لَا يعلم من جرحته مَا يعلم غَيره وَقد قدمنَا أَن الْجرْح أولى من التَّعْدِيل

وَقد وثق سُفْيَان الثَّوْريّ جَابِرا الْجعْفِيّ وَجَابِر قد عرف من حَاله مَا عرف وَلَكِن قد خَفِي أمره على سُفْيَان فَقَالَ بِمَا ظهر مِنْهُ إِلَيْهِ

ومرسل سعيد بن الْمسيب ومرسل الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيرهمَا سَوَاء لَا يُؤْخَذ مِنْهُ شَيْء

وَقد ادّعى بعض من لَا يحصل مَا يَقُول أَن الْحسن الْبَصْرِيّ كَانَ إِذا حَدثهُ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَة من الصَّحَابَة أرْسلهُ

قَالَ فَهُوَ أقوى من الْمسند

قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَائِل هَذَا أترك خلق الله لمرسل الْحسن وحسبك بِالْمَرْءِ سقوطا أَن يضعف قولا يَعْتَقِدهُ وَيعْمل بِهِ وَيُقَوِّي قولا يتْركهُ ويرفضه

ص: 562

وَقد كذب على رَسُول الله ص = وَهُوَ حَيّ وَقد كَانَ فِي عصر الصَّحَابَة مُنَافِقُونَ ومرتدون فَلَا يقبل حَدِيث قَالَ رَاوِيه فِيهِ عَن رجل من الصَّحَابَة أَو حَدثنِي من صحب رَسُول الله حَتَّى يُسَمِّيه وَيكون مَعْلُوما بِالصِّحَّةِ الفاضلة قَالَ الله عز وجل {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ ثمَّ يردون إِلَى عَذَاب عَظِيم}

وَقد ارْتَدَّ قوم مِمَّن صحب النَّبِي ص = كعيينة بن حصن والأشعث بن قيس وَعبد الله بن أبي سرح

ولقاء التَّابِع لرجل من أصاغر الصَّحَابَة شرف وفخر عَظِيم فَأَي معنى يسكت عَن تَسْمِيَته لَو كَانَ مِمَّن حمدت صحبته

وَلَا يَخْلُو سُكُوته من أحد وَجْهَيْن أَنه لم يعرف من هُوَ وَلَا عرف صِحَة دَعْوَاهُ الصُّحْبَة أَو لِأَنَّهُ كَانَ من بعض من ذكرنَا

حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف عَن أَحْمد بن فتح عَن عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى عَن أَحْمد بن مُحَمَّد عَن أَحْمد بن عَليّ عَن مُسلم بن الْحجَّاج حَدثنَا يحيى بن يحيى أَنبأَنَا خَالِد بن عبد الله عَن عبد الْملك عَن عبد الله مولى أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق وَكَانَ خَال ولد عَطاء قَالَ أرسلتني أَسمَاء إِلَى عبد الله بن عمر فَقَالَت بَلغنِي أَنَّك تحرم أَشْيَاء ثَلَاثَة الْعلم فِي الثَّوْب وميثرة الأرجوان وَصَوْم رَجَب كُله فَأنْكر ابْن عمر أَن يكون حرم شَيْئا من ذَلِك

فَهَذِهِ أَسمَاء وَهِي صَاحِبَة من قدماء الصَّحَابَة وَذَوَات الْفضل مِنْهُم قد حدثها بِالْكَذِبِ من شغل بالها حَدِيثه عَن ابْن عمر حَتَّى استبرأت ذَلِك فصح كذب ذَلِك الْمخبر

فَوَاجِب على كل أحد أَن لَا يقبل إِلَّا من عرف اسْمه وَعرفت عَدَالَته وَحفظه

قَالَ أَبُو مُحَمَّد والمخالفون لنا فِي قبُول الْمُرْسل هم أترك خلق الله للمرسل إِذا خَالف مَذْهَب صَاحبه ورأيه

وَلَو تتبعنا مَا تركُوا من الْأَحَادِيث الْمُرْسلَة لبلغ ذَلِك

ص: 563

أَزِيد من أَلفَيْنِ وَإِنَّمَا أوقعهم فِي الْأَخْذ بالمرسل أَنهم تعلقوا بِأَحَادِيث مرسلات فِي بعض مسائلهم فَقَالُوا فِيهَا بِالْأَخْذِ بالمرسل ثمَّ تَرَكُوهُ فِي غير تِلْكَ الْمسَائِل وَإِنَّمَا غَرَض الْقَوْم نصر الْمَسْأَلَة الْحَاضِرَة بِمَا أمكن من بَاطِل أَو حق وَلَا يبالون بِأَن يهدموا من ذَلِك ألف مَسْأَلَة لَهُم ثمَّ لَا يبالون بعد ذَلِك بِإِبْطَال مَا صححوه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا أخذُوا فِي الْكَلَام فِي أُخْرَى

فَمَا أحد ينصح نَفسه يَثِق بِحَدِيث مُرْسل أصلا

وَقَالَ بعض الْحفاظ مِمَّن ينحو نَحْو ابْن حزم فِي عدم التقيد بقول من الْأَقْوَال قد تنَازع النَّاس فِي قبُول الْمَرَاسِيل وَفِي ردهَا

وَأَصَح الْأَقْوَال أَن مِنْهَا المقبول وَمِنْهَا الْمَرْدُود وَمِنْهَا الْمَوْقُوف فَمن علم من حَاله أَنه لَا يُرْسل إِلَّا عَن ثِقَة قبل مرسله وَمن عرف أَنه يُرْسل عَن الثِّقَة وَغير الثِّقَة كَانَ إرْسَاله رِوَايَة عَمَّن لَا يعرف حَاله فَهَذَا مَوْقُوف

وَمَا كَانَ من الْمَرَاسِيل مُخَالفا لما رَوَاهُ الثِّقَات كَانَ مردودا

وَإِذا كَانَ الْمُرْسل قد ورد من وَجْهَيْن وَكَانَ كل من الروايين قد أَخذ الْعلم عَن غير شُيُوخ الآخر فَهَذَا يدل على صدقه فَإِن من أخبر بِمثل مَا أخبر بِهِ الآخر مَعَ الْعلم بِأَن وَاحِدًا مِنْهُمَا لم يستفد ذَلِك من الآخر فَإِنَّهُ يعلم أَن الْأَمر كَذَلِك

ولنختم هَذَا المبحث بِكَلَام الإِمَام الشَّافِعِي رضي الله عنه فَإِنَّهُ إِمَام الْكَلَام روى الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل عَن شَيْخه الْحَاكِم عَن الْأَصَم عَن الرّبيع عَنهُ أَنه قَالَ الْمُنْقَطع مُخْتَلف فَمن شَاهد أَصْحَاب رَسُول الله ص = من التَّابِعين فَحدث حَدِيثا مُنْقَطِعًا عَن النَّبِي ص = اعْتبر عَلَيْهِ بِأُمُور مِنْهَا أَن ينظر إِلَى مَا أرسل من الحَدِيث

فَإِن شركه فِيهِ الْحفاظ المأمونون فَأَسْنَدُوهُ إِلَى رَسُول الله ص = بِمثل معنى مَا روى كَانَت هَذِه دلَالَة على صِحَة مَا قبل عَنهُ وَحفظه

وَإِن انْفَرد بِإِسْنَاد حَدِيث لم يشركهُ فِيهِ من يسْندهُ قبل مَا ينْفَرد بِهِ من ذَلِك

ص: 564

وَيعْتَبر عَلَيْهِ بِأَن ينظر هَل يُوَافقهُ مُرْسل غَيره مِمَّن قبل الْعلم عَنهُ من غير رِجَاله الَّذين قبل عَنْهُم

فَإِن وجد ذَلِك كَانَت دلَالَة تقَوِّي لَهُ مرسله وَهِي أَضْعَف من الأولى وَإِن لم يُوجد ذَلِك نظر إِلَى بعض مَا يرْوى عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي ص = قولا لَهُ فَإِن وجد يُوَافق مَا روى عَن النَّبِي ص = كَانَت فِي هَذَا دلَالَة على أَنه لم يَأْخُذ مرسله إِلَّا عَن أصل إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ إِن وجد عوام من أهل الْعلم يفتون بِمثل معنى مَا روى عَن النَّبِي ص =

ثمَّ يعْتَبر عَلَيْهِ بِأَن يكون إِذا سمى من روى عَنهُ لم يسم مَجْهُولا وَلَا مرغوبا عَن الرِّوَايَة عَنهُ فيستدل بذلك على صِحَّته فِيمَا يروي عَنهُ وَيكون إِذا شرك أحدا من الْحفاظ فِي حَدِيث لم يُخَالِفهُ فَإِن خَالفه وَوجد أنقص كَانَت فِي هَذِه دَلَائِل على صِحَة مخرج حَدِيثه

وَمَتى خَالف مَا وصفت أضرّ بحَديثه حَتَّى لَا يسع أحدا مِنْهُم قبُول مرسله

قَالَ وَإِن وجدت الدَّلَائِل لصِحَّة حَدِيثه بِمَا وصفت أحببنا أَن نقبل مرسله أَرَادَ بِهِ اخترنا

وَلَا نستطيع أَن نزعم أالحجة تثبت بِهِ ثُبُوتهَا بالمتصل وَذَلِكَ أَن معنى الْمُنْقَطع مغيب يحْتَمل أَن يكون حمل عَمَّن يرغب عَن الرِّوَايَة عَنهُ إِذا سمي وَأَن بعض المنقطعات وَإِن وَافقه مُرْسل مثله فقد يحْتَمل أَن يكون مخرجهما وَاحِدًا من حَدِيث من لَو سمي لم يقبل

وَإِن قَول بعض أَصْحَاب رَسُول الله ص = إِذا قَالَ بِرَأْيهِ لَو وَافقه لم يدل على صِحَة مخرج الحَدِيث دلَالَة قَوِيَّة إِذا نظر فِيهَا وَيُمكن أَن يكون إِنَّمَا غلط بِهِ حِين سمع قَول بعض أَصْحَاب رَسُول الله يُوَافقهُ وَيحْتَمل مثل هَذَا فَمن وَافقه من بعض الْفُقَهَاء

قَالَ فَأَما من بعد كبار التَّابِعين الَّذين كثرت مشاهدتهم لبَعض أَصْحَاب النَّبِي ص = فَلَا أعلم أحدا مِنْهُم يقبل مرسله لأمور أَحدهَا أَنهم أَشد

ص: 565

تجوزا فِيمَن يروون عَنهُ وَالْآخر أَنهم تُوجد عَلَيْهِم الدَّلَائِل فِيمَا أرْسلُوا بِضعْف مخرجه وَالْآخر كَثْرَة الإحالة فِي الْأَخْبَار وَإِذا كثرت الإحالة كَانَ أمكن للوهم وَضعف من يقبل عَنهُ

ثمَّ إِن السُّقُوط من السَّنَد قد يكون وَاضحا يشْتَرك فِي مَعْرفَته كَثِيرُونَ من أهل الْفَنّ وَلَا يخفى عَلَيْهِم وَذَلِكَ فِي مثل مَا إِذا كَانَ الرَّاوِي لم يعاصر من روى عَنهُ وَقد يكون خفِيا لَا يُدْرِكهُ إِلَّا الْأَئِمَّة الحذاق المطلعون على طرق الْأَحَادِيث وَعلل الْأَسَانِيد وَالْأول يدْرك بِمَعْرِِفَة التَّارِيخ لتَضَمّنه التَّعْرِيف بأوقات مواليد الروَاة ووفياتهم وطلبهم وارتحالهم وَغير ذَلِك

وَقد ادّعى أنَاس الرِّوَايَة عَن شُيُوخ أظهر التَّارِيخ كذب دَعوَاهُم فِيهَا وَلذَا عني المحدثون بالتاريخ كثيرا

وَيُقَال للإسناد الَّذِي يكون السُّقُوط فِيهِ وَاضحا الْمُرْسل الْجَلِيّ وللإسناد الَّذِي يكون السُّقُوط فِيهِ خفِيا المدلس بِالْفَتْح إِن كَانَ الْإِسْقَاط صادرا مِمَّن عرف لقاؤه لمن روى عَنهُ والمرسل الْخَفي إِن كَانَ الْإِسْقَاط صادرا مِمَّن عرف معاصرته لَهُ وَلم يعرف إِنَّه لقِيه وَهَذَا على قَول من فرق بَينهمَا وجعلهما متباينين وَأما من جعل الْمُرْسل الْخَفي دَاخِلا فِي المدلس فَإِنَّهُ يعرف المدلس بِأَنَّهُ هُوَ الْإِسْنَاد الَّذِي يكون السُّقُوط فِيهِ خفِيا

وَيُقَال لهَذَا النَّوْع من التَّدْلِيس تَدْلِيس الْإِسْنَاد

وَثمّ نوع آخر يُقَال لَهُ تَدْلِيس الشُّيُوخ

أما تَدْلِيس الْإِسْنَاد فَهُوَ أَن يسْقط اسْم شَيْخه الَّذِي روى عَنهُ ويرتقي إِلَى من فَوْقه فيسند ذَلِك إِلَيْهِ بِلَفْظ غير مُقْتَض للاتصال وَلكنه متوهم لَهُ كَقَوْلِه عَن فلَان أَو أَن فلَانا أَو قَالَ فلَان موهما بذلك أَنه سَمعه مِمَّن رَوَاهُ عَنهُ

وَإِنَّمَا يكون تدليسا إِذا كَانَ المدلس قد عاصر الْمَرْوِيّ عَنهُ أَو لقِيه وَلم يسمع

ص: 567

مِنْهُ أَو سمع مِنْهُ وَلم يسمع مِنْهُ ذَلِك الحَدِيث الَّذِي دلسه عَنهُ

أما إِذا روى عَمَّن لم يُدْرِكهُ بِلَفْظ موهم فَإِن ذَلِك لَيْسَ بتدليس على الصَّحِيح الْمَشْهُور

وَحكى ابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد عَن قوم أَنه تَدْلِيس فَجعلُوا التَّدْلِيس أَن يحدث الرجل عَن الرجل بِمَا لم يسمعهُ مِنْهُ بِلَفْظ لَا يَقْتَضِي تَصْرِيحًا بِالسَّمَاعِ

قَالَ وعَلى هَذَا فَمَا سلم من التَّدْلِيس أحد

وَقد أَكثر الْعلمَاء من ذمّ التَّدْلِيس والتنفير مِنْهُ والزجر عَنهُ قَالَ شُعْبَة التَّدْلِيس أَخُو الْكَذِب

وَقَالَ وَكِيع الثَّوْب لَا يحل تدليسه فَكيف الحَدِيث وَقَالَ بَعضهم المدلس دَاخل فِي قَول النَّبِي ص = من غَشنَا فَلَيْسَ منا

لِأَنَّهُ يُوهم السامعين أَنه حَدِيثه مُتَّصِل وَفِيه انْقِطَاع

هَذَا إِن دلّس عَن ثِقَة فَإِن كَانَ ضَعِيفا فقد خَان الله وَرَسُوله وَهُوَ كَمَا قَالَ بعض الْأَئِمَّة حرَام إِجْمَاعًا

وَقد اخْتلف فِي قبُول رِوَايَة من عرف بالتدليس فَقَالَ فريق من أهل الحَدِيث وَالْفُقَهَاء لَا تقبل رِوَايَة المدلس بِحَال بَين السماع أَو لم يبين

والتدليس مِمَّا يَقْتَضِي الْجرْح عِنْدهم

وَالْمَشْهُور التَّفْصِيل وَهُوَ أَن مَا رَوَاهُ المدلس بِلَفْظ مُحْتَمل لم يبين فِيهِ السماع والاتصال فَحكمه حكم الْمُرْسل وأنواعه وَمَا رَوَاهُ بِلَفْظ يبين الِاتِّصَال نَحْو سَمِعت وَحدثنَا وَأخْبرنَا وأشباهها فَهُوَ مَقْبُول مُحْتَج بِهِ

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من الْكتب الْمُعْتَبرَة من حَدِيث هَذَا الضَّرْب كثير جدا كقتادة وَالْأَعْمَش والسفيانين وهشيم بن بشير وَغَيرهم

وَهَذَا لِأَن التَّدْلِيس لَيْسَ كذبا وَإِنَّمَا هُوَ ضرب من الْإِيهَام بِلَفْظ مُحْتَمل وَالْحكم أَنه لَا يقبل من المدلس حَتَّى يبين

وَأما تَدْلِيس الشُّيُوخ فَهُوَ أَن يروي عَن شيخ حَدِيثا سَمعه مِنْهُ فيسميه أَو يكنيه أَو ينْسبهُ أَو يصفه بِمَا لَا يعرف بِهِ كي لَا يعرف

ص: 567

ومثاله قَول أبي بكر بن مُجَاهِد أحد أَئِمَّة الْقُرَّاء حَدثنَا عبد الله بن أبي عبد الله يُرِيد بِهِ عبد الله بن أبي دَاوُد السجسْتانِي

وَفِيه تَضْييع للمروي عَنهُ وتوعير لطريق مَعْرفَته على من يطْلب الْوُقُوف على حَاله وأهليته

وَهُوَ مَكْرُوه

وتختلف الْحَال فِي كَرَاهَة ذَلِك باخْتلَاف الْغَرَض الْحَامِل عَلَيْهِ فقد يحملهُ على ذَلِك كَون شَيْخه الَّذِي غير سمته غير ثِقَة أَو كَونه مُتَأَخّر الْوَفَاة قد شَاركهُ فِي السماع مِنْهُ من هُوَ دونه أَو كَونه أَصْغَر سنا من الرَّاوِي عَنهُ أَو كَونه كثير الرِّوَايَة عَنهُ فيحب إيهاما لِكَثْرَة الشُّيُوخ أَن يعرفهُ فِي مَوضِع بِصفة وَفِي مَوضِع آخر بِصفة أُخْرَى ليوهم أَنه غَيره

وَقد كَانَ الْخَطِيب لهجا بذلك فِي تصانيفه

قَالَ ابْن الصّباغ فِي الْعدة من فعل ذَلِك لكَون من روى عَنهُ غير ثِقَة عِنْد النَّاس وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يُغير اسْمه ليقبلوا خَبره يجب أَن لَا يقبل خَبره

وَإِن كَانَ هُوَ يعْتَقد فِيهِ الثِّقَة فقد يغلط فِي ذَلِك لجَوَاز أَن يعرف غَيره من جرحه مَا لَا يعرفهُ هُوَ

وَإِن كَانَ لصِغَر سنه فَيكون ذَلِك رِوَايَة عَن مَجْهُول فَلَا يجب قبُول خَبره حَتَّى يعرف من روى عَنهُ

وَأما تَدْلِيس التَّسْوِيَة فَإِنَّهُ دَاخل فِي تَدْلِيس الْإِسْنَاد

وَجعله بَعضهم قسما مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ فقسم التَّدْلِيس إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام تَدْلِيس الْإِسْنَاد وتدليس الشُّيُوخ وتدليس التَّسْوِيَة

وَأما تَدْلِيس التَّسْوِيَة هُوَ أَن يسْقط ضَعِيفا بَين ثقتين وَصورته أَن يروي حَدِيثا عَن شيخ ثِقَة وَذَلِكَ الثِّقَة يرويهِ عَن ضَعِيف عَن ثِقَة فَيَأْتِي المدلس الَّذِي سمع الحَدِيث من الثِّقَة الأول فَيسْقط الضَّعِيف الَّذِي فِي السَّنَد وَيجْعَل الحَدِيث عَن شَيْخه الثِّقَة عَن الثِّقَة الثَّانِي بِلَفْظ مُحْتَمل فَيصير السَّنَد كُله ثِقَات

ص: 568

وَهَذَا شَرّ أَقسَام التَّدْلِيس لِأَن فَاعل ذَلِك قد لَا يكون مَعْرُوفا بالتدليس ويجده الْوَاقِف على السَّنَد كَذَلِك بعد التَّسْوِيَة قد رَوَاهُ عَن ثِقَة آخر فَيحكم لَهُ بِالصِّحَّةِ وَفِي ذَلِك من التَّدْلِيس فِي الحَدِيث مَا لَا يخفى

وَهُوَ قَادِح فِيمَن فعله عمدا

وَقد سمى ابْن الْقطَّان هَذَا النَّوْع بالتسوية بِدُونِ لفظ التَّدْلِيس فَيَقُول سواهُ فلَان وَهَذِه تَسْوِيَة

والقدماء يسمونه تجويدا فَيَقُولُونَ جوده فلَان أَي ذكر من فِيهِ من الْجِيَاد وَترك غَيرهم

وَقَالَ بعض الْعلمَاء التَّحْقِيق أَن يُقَال مَتى قيل تَدْلِيس التَّسْوِيَة فَلَا يَد أَن يكون كل من الثِّقَات الَّذين حذفت بَينهم الوسائط فِي ذَلِك الْإِسْنَاد قد اجْتمع بشيخ شَيْخه

وَإِن قيل تَسْوِيَة بِدُونِ تَدْلِيس لم يحْتَج إِلَى اجْتِمَاع أحد مِنْهُم بِمن فَوْقه وَقد وَقع فِي هَذَا بعض الْأَئِمَّة فَإِنَّهُ روى عَن ثَوْر عَن ابْن عَبَّاس

وثور لم يلقه وَإِنَّمَا روى عَن عِكْرِمَة عَنهُ فأسقط عِكْرِمَة لِأَنَّهُ غير حجَّة عِنْده

وَأما الْمُرْسل الْخَفي فَهُوَ مَا كَانَ الْإِسْقَاط فِيهِ صادرا مِمَّن عرف معاصرته لمن روى عَنهُ وَلم يعرف لقاؤه لَهُ

وَقد عرفت أَن بعض الْعلمَاء يفرق بَينه وَبَين المدلس وَبَعْضهمْ يَجعله دَاخِلا فِيهِ

وَمِمَّنْ فرق بَينهمَا الْحَافِظ ابْن حجر حَيْثُ قَالَ وَالْفرق بَين المدلس والمرسل الْخَفي دَقِيق حصل تحريره بِمَا ذكر هُنَا وَهُوَ أَن التَّدْلِيس يخْتَص بِمن روى عَمَّن عرف لقاؤه إِيَّاه فَأَما إِن عاصره وَلم يعرف أَنه لقِيه فَهُوَ الْمُرْسل الْخَفي

وَمن أَدخل فِي تَعْرِيف التَّدْلِيس المعاصرة وَلَو بِغَيْر لَقِي لزمَه دُخُول الْمُرْسل الْخَفي فِي تَعْرِيفه وَالصَّوَاب التَّفْرِقَة بَينهمَا

وَيدل على أَن اعْتِبَار اللقي فِي التَّدْلِيس دون المعاصرة وَحدهَا إطباق أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ على أَن رِوَايَة المخضرمين كَأبي عُثْمَان النَّهْدِيّ وَقيس بن أبي حَازِم عَن النَّبِي ص = من قبيل الْإِرْسَال لَا من قبيل التَّدْلِيس وَلَو كَانَ مُجَرّد المعاصرة يكْتَفى

ص: 569

بِهِ فِي التَّدْلِيس لَكَانَ هَؤُلَاءِ مدلسين لأَنهم عاصروا النَّبِي ص = وَلَكِن لم يعرف هَل لقوه أم لَا

وَمِمَّنْ قَالَ بِاشْتِرَاط اللِّقَاء فِي التَّدْلِيس الإِمَام الشَّافِعِي وَأَبُو بكر الْبَزَّار

وَكَلَام الْخَطِيب فِي الْكِفَايَة يَقْتَضِيهِ وَهُوَ الْمُعْتَمد

وَيعرف عدم الملاقاة بإخباره عَن نَفسه بذلك أَو بحزم إِمَام مطلع وَلَا يَكْفِي أَن يَقع فِي بعض الرّقّ زِيَادَة راو بَينهمَا لاحْتِمَال أَن يكون من الْمَزِيد وَلَا يحكم فِي هَذِه الصُّورَة بِحكم كلي لتعارض احْتِمَال الِاتِّصَال والانقطاع

وَقد صنف فِيهِ الْخَطِيب كتاب التَّفْصِيل لمبهم الْمَرَاسِيل وَكتاب الْمَزِيد فِي مُتَّصِل الْأَسَانِيد

وَقد نُوقِشَ فِيمَا ذكر بِأَن المخضرمين إِنَّمَا لم يعدوا إرسالهم من قبيل التَّدْلِيس لِأَنَّهُ من قبيل الْإِرْسَال الْجَلِيّ وَذَلِكَ لِأَن المخضرم هُوَ من عرف عدم لِقَائِه النَّبِي ص = لَا من لم يعرف أَنه لقِيه وَبَينهمَا فرق

وَلَيْسَ المُرَاد بالمرسل هُنَا الْمُرْسل بِالْمَعْنَى الْمَشْهُور وَهُوَ مَا سقط من سَنَده الصَّحَابِيّ بل المُرَاد بِهِ مَا يكون فِيهِ مُطلق الِانْقِطَاع

وَقَالَ الْخَطِيب فِي الْكِفَايَة التَّدْلِيس هُوَ تَدْلِيس الحَدِيث الَّذِي لم يسمعهُ الرَّاوِي مِمَّن دلسه عَنهُ بروايته إِيَّاه على وَجه يُوهم أَنه سَمعه مِنْهُ ويعدل عَن الْبَيَان لذَلِك

قَالَ وَلَو أَنه بَين أَنه لم يسمعهُ من الشَّيْخ الَّذِي دلسه عَنهُ وكشف عَن ذَلِك لصار ببيانه مُرْسلا للْحَدِيث غير مُدَلّس فِيهِ لِأَن الْإِرْسَال للْحَدِيث لَيْسَ بإيهام من الْمُرْسل كَونه سَامِعًا مِمَّن لم يسمع مِنْهُ وملاقيا لمن لم يلقه إِلَّا أَن التَّدْلِيس الَّذِي ذَكرْنَاهُ مُتَضَمّن الْإِرْسَال لَا محَالة لإمساك المدلس عَن ذكر الْوَاسِطَة وَإِنَّمَا يُفَارق حَال الْمُرْسل بإيهامه السماع مِمَّن لم يسمعهُ فَقَط وَهُوَ الْمُؤمن لأَمره فَوَجَبَ كَون

ص: 570

التَّدْلِيس متضمنا للإرسال والإرسال لَا يتَضَمَّن التَّدْلِيس لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِيهَام السماع مِمَّن لم يسمع مِنْهُ وَلِهَذَا لم يذم الْعلمَاء من أرسل وذموا من دلّس

وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد التَّدْلِيس عِنْد جَمَاعَتهمْ اتِّفَاقًا هُوَ أَن يروي عَمَّن لقِيه وَسمع مِنْهُ وَحدث عَنهُ بِمَا لم يسمعهُ مِنْهُ وَإِنَّمَا سَمعه من غَيره عَنهُ مِمَّن يرضى حَاله أَو لَا يرضى على أَن الْأَغْلَب فِي ذَلِك أَنه لَو كَانَت حَاله مرضية لذكره وَقد يكون لِأَنَّهُ استصغره

قَالَ وَأما حَدِيث الرجل عَمَّن لم يلقه كمالك عَن سعيد بن الْمسيب وَالثَّوْري عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ

فَقَالَت فرقة إِنَّه تَدْلِيس لِأَنَّهُمَا لَو شَاءَ لسميا من حَدثهمَا كَمَا فعلا فِي الْكثير مِمَّا بلغهما عَنْهُمَا

وَقَالَت طَائِفَة من أهل الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ إرْسَال قَالُوا فَكَمَا جَازَ أَن يُرْسل سعيد عَن النَّبِي ص = وَعَن أبي بكر وَعمر وَهُوَ لم يسمع مِنْهُم وَلم يسم أحد من أهل الْعلم ذَلِك تدليسا كَذَلِك مَالك عَن سعيد

قَالَ وَلَئِن كَانَ هَذَا تدليسا فَمَا أعلم أحدا من الْعلمَاء قَدِيما وَلَا حَدِيثا سلم مِنْهُ إِلَّا شُعْبَة وَالْقطَّان فَإِنَّهُمَا لَيْسَ يُوجد لَهما شَيْء من هَذَا لَا سِيمَا شُعْبَة

وَفِي كَلَامه مَا يُشِير إِلَى الْفرق بَين التَّدْلِيس والإرسال الْخَفي والجلي لإدراك مَالك لسَعِيد فِي الْجُمْلَة وَعدم إِدْرَاك الثَّوْريّ للنخفي أصلا وَلكنه لم يتَعَرَّض لتخصيصه بالثقة فتخصيصه بهَا فِي مَوضِع آخر من تمهيده اقْتِصَار على الْجَائِز مِنْهُ

وَقد صرح فِي مَوضِع آخر مِنْهُ بذمه فِي غير الثِّقَة فَقَالَ وَلَا يكون ذَلِك عِنْدهم إِلَّا عَن ثِقَة فَإِن دلّس عَن غير ثِقَة فَهُوَ تَدْلِيس مَذْمُوم عِنْد جمَاعَة من أهل الحَدِيث وَكَذَلِكَ إِن حدث عَمَّن لم يسمع مِنْهُ فقد جَاوز حد التَّدْلِيس الَّذِي رخص فِيهِ من رخص من الْعلمَاء إِلَى مَا ينكرونه ويذمونه وَلَا يحمدونه

وَقد سبقه إِلَى ذَلِك يَعْقُوب بن شيبَة كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيب عَنهُ

وَهُوَ مَعَ قَوْله فِي

ص: 571

مَوضِع آخر إِنَّه إِذا وَقع فِيمَن لم يلقه أقبح وأسمج يَقْتَضِي أَن الْإِرْسَال أَشد بِخِلَاف قَوْله الأول فَإِنَّهُ مشْعر بِكَوْنِهِ أخف فَكَأَنَّهُ هُنَا عَنى الْإِرْسَال الْخَفي لما فِيهِ من إِيهَام اللقي وَالسَّمَاع مَعًا وَهُنَاكَ الْجَلِيّ لعدم الالتباس فِيهِ لَا سِيمَا بعد أَن صرح بِأَن الْإِرْسَال قد يبْعَث عَلَيْهِ أُمُور لَا تضيره كَأَن يكون سمع الْخَبَر من جمَاعَة عَن الْمُرْسل عَنهُ بِحَيْثُ صَحَّ عِنْده وَوقر فِي نَفسه أَو نسي شَيْخه فِيهِ مَعَ علمه بِهِ عَن الْمُرْسل عَنهُ أَو كَانَ أَخذه لَهُ مذاكرة أَو لمعْرِفَة المتخاطبين بذلك الحَدِيث واشتهاره بَينهم أَو لغير ذَلِك مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ

وَقد تعرض ابْن حزم لذكر التَّدْلِيس فِي كتاب الإحكام فَقَالَ فِي فصل من يلْزم قبُول نَقله الْأَخْبَار وَأما المدلس فينقسم قسمَيْنِ

أَحدهمَا حَافظ عدل رُبمَا أرسل حَدِيثه وَرُبمَا أسْندهُ وَرُبمَا حدث بِهِ على سَبِيل المذاكرة أَو الْفتيا أَو المناظرة فَلم يذكر لَهُ سندا وَرُبمَا اقْتصر على ذكر بعض رُوَاته دون بعض فَهَذَا لَا يضر سَائِر رواياته شَيْئا لِأَن هَذَا لَيْسَ جرحة وَلَا غَفلَة لَكنا نَتْرُك من حَدِيثه مَا علمنَا يَقِينا أَنه أرْسلهُ وَمَا علمنَا أَنه أسقط بعض من فِي إِسْنَاده ونأخذ من حَدِيثه مَا لم نوقن فِيهِ شَيْئا من ذَلِك

وَسَوَاء قَالَ أخبرنَا فلَان أَو قَالَ عَن فلَان أَو قَالَ فلَان عَن فلَان كل ذَلِك وَاجِب قبُوله مَا لم يتَيَقَّن أَنه أورد حَدِيثا بِعَيْنِه إيرادا غير مُسْند فَإِن أيقنا ذَلِك تركنَا ذَلِك الحَدِيث وَحده فَقَط وأخذنا سَائِر رواياته

وَقد روينَا عَن عبد الرَّزَّاق بن همام قَالَ كَانَ معمر يُرْسل لنا أَحَادِيث فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ عبد الله بن الْمُبَارك أسندها لَهُ

وَهَذَا النَّوْع مِنْهُ كَانَ جلة أَصْحَاب الحَدِيث وأئمة الْمُسلمين كالحسن الْبَصْرِيّ وَأبي إِسْحَاق السبيعِي وَقَتَادَة بن دعامة وَعَمْرو بن دِينَار وَسليمَان الْأَعْمَش وَأبي الزبير وسُفْيَان الثَّوْريّ وسُفْيَان بن

ص: 572

عُيَيْنَة

وَقد أَدخل عَليّ بن عمر الدَّارَقُطْنِيّ فيهم مَالك بن أنس وَلم يكن كَذَلِك وَلَا يُوجد لَهُ هَذَا إِلَّا فِي قَلِيل من حَدِيثه أرْسلهُ مرّة وأسنده أُخْرَى

وَقسم آخر قد صَحَّ عَنْهُم إِسْقَاط من لَا خير فِيهِ من أسانيدهم عمدا وَضم الْقوي إِلَى الْقوي تلبيسا على من يحدث وغرورا لمن يَأْخُذ عَنهُ ونصرا لما يُرِيد تأييده من الْأَقْوَال مِمَّا لَو سمى من سكت عَن ذكره لَكَانَ ذَلِك على أَو مَرضا فِي الحَدِيث

فَهَذَا رجل مَجْرُوح وَهَذَا فسق ظَاهر وَاجِب اطراح جَمِيع حَدِيثه صَحَّ أَنه دلّس فِيهِ أَو لم يَصح أَنه دلّس فِيهِ وَسَوَاء قَالَ سَمِعت أَو أخبرنَا أَو لم يقل كل ذَلِك مَرْدُود غير مَقْبُول لِأَنَّهُ سَاقِط الْعَدَالَة غاش لأهل الْإِسْلَام باستجازته مَا ذَكرْنَاهُ وَمن هَذَا النَّوْع كَانَ الْحسن بن عمَارَة وَشريك بن عبد الله القَاضِي وَغَيرهمَا

قَالَ عَليّ وَمن صَحَّ أَنه قبل التَّلْقِين وَلَو مرّة سقط حَدِيثه كُله لِأَنَّهُ لم يتفقه فِي دين الله عز وجل وَلَا حفظ مَا سمع وَقد قَالَ عليه الصلاة والسلام نضر الله امْرأ سمع منا حَدِيثا فحفظه حَتَّى بلغه غَيره

فَإِنَّمَا أَمر عليه الصلاة والسلام بِقبُول تَبْلِيغ الْحَافِظ

والتلقين هُوَ أَن يَقُول الْقَائِل حَدثَك فلَان بِكَذَا ويسمي لَهُ من شَاءَ من غير أَن يسمعهُ مِنْهُ فَيَقُول نعم

فَهَذَا لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن وَلَا بُد من أَحدهمَا ضَرُورَة إِمَّا أَن يكون فَاسِقًا يحدث بِمَا لم يسمع أَو يكون من الْغَفْلَة بِحَيْثُ يكون ذاهل الْعقل مَدْخُول الذِّهْن

وَمثل هَذَا لَا يلْتَفت إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ من ذَوي الْأَلْبَاب وَمن هَذَا النَّوْع كَانَ سماك بن حَرْب أخبر بِأَنَّهُ شَاهد ذَلِك مِنْهُ شُعْبَة الإِمَام الرئيس بن الْحجَّاج

وَأما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الحَدِيث الضَّعِيف الَّذِي يكون مُوجب الرَّد فِيهِ وجود أَمر

ص: 573