الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَائِدَة السَّابِعَة
يَنْبَغِي أَن يتَّخذ لأجل الْوَقْف أَربع علائم وَهِي كَافِيَة بِالنّظرِ إِلَى أَكثر الْكتب
الْعَلامَة الأولى عَلامَة السكت وَهِي خطّ كالفتحة يوضع بَين يَدي الْحَرْف المسكون عَلَيْهِ هَكَذَا وَهَذِه الْعَلامَة كَانَ الْخَلِيل جعلهَا عَلامَة الرّوم وَالروم عِنْدهم هُوَ الْإِتْيَان بحركة آخر الْكَلِمَة فِي حَال الْوَقْف خُفْيَة حرصا على بَيَان حركتها الَّتِي تحرّك بهَا حَال الْوَصْل
قَالَ بعض الْعلمَاء للْعَرَب فِي الْوَقْف على أَوَاخِر الْكَلم أوجه مُتعَدِّدَة والمستعمل مِنْهَا عِنْد أَئِمَّة الْقِرَاءَة تِسْعَة وَهِي السّكُون وَالروم والإشمام والإبدال وَالنَّقْل والإدغام والحذف وَالْإِثْبَات والإلحاق
وَالروم عِنْدهم هُوَ النُّطْق بِبَعْض الْحَرَكَة وَسمي روما تروم الْحَرَكَة وتريدها حَيْثُ لم تسقطها بِالْكُلِّيَّةِ وَيدْرك ذَلِك الْقوي السّمع إِذا كَانَ منتهبا لِأَن فِي آخر الْكَلِمَة صوتيا خَفِيفا
ويشارك الرّوم الاختلاس فِي كَون كل مِنْهُمَا غير تَامَّة إِلَّا أَن بَينهمَا فرقا وَهُوَ أَن الرّوم لَا يكون فِي الْفَتْح وَالنّصب وَيكون فِي الْوَقْف دون الْوَصْل وَالثَّابِت فِيهِ من الْحَرَكَة أقل من الذَّاهِب والاختلاس يدْخل فِي الحركات الثَّلَاث كَمَا فِي {لَا يهدي} و {نعما} {يَأْمُركُمْ} عِنْد من اسْتعْمل الاختلاس فِيهَا وَلَا يخْتَص بِمحل الْوَقْف وَهُوَ الآخر وَالثَّابِت فِيهِ من الْحَرَكَة أَكثر من الذَّاهِب فَإِن المأتي بِهِ من الْحَرَكَة فِي الاختلاس نَحْو الثُّلثَيْنِ
وَلما ترك النَّاس الْبَحْث عَن الرّوم وَمَا أشبهه لم تبْق لَهُم حَاجَة فِي علامتها فنسيت أَو كَادَت تنسى وَلما كُنَّا الْآن مُحْتَاجين للسكت أَكثر من احتياجنا للروم رَأينَا جعلهَا عَلامَة عَلَيْهِ وَلَا يخفي أَن بَين مَا وضعت لَهُ فِي الأَصْل وَمَا نقلت إِلَيْهِ الْآن شَيْئا من الْمُنَاسبَة
وَكَانَ بعض كتاب الأندلس يَضَعهَا فِي آخر السطر إِذا بقيت لَا تتسع
لكتابة الْكَلِمَة المروم كتَابَتهَا وَهَذَا من الْوَاضِع الَّتِي حيرت الْكتاب حَتَّى اخْتلفُوا فِيهَا فَإِن بَعضهم يرى أَن يكْتب بَعْضهَا فِي آخر السطر وبقيتها فِي أول السطر الآخر وَلَا يرى بتجزئة الْكَلِمَة بَأْسا للضَّرُورَة وَخص بَعضهم ذَلِك بالكلمات الْقَابِلَة للفصل فِي الْكِتَابَة مثل الْإِرْسَال والمراسلة والتراسل والاسترسال وَهَذَا معيب عِنْد أهل الصِّنَاعَة لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِك
وَبَعْضهمْ يرى أَن يكْتب بَعْضهَا فِي آخر السطر ثمَّ يبعد عَنهُ قَلِيلا وَيكْتب بقيتها وَهَؤُلَاء يرَوْنَ أولى لِأَنَّهُ بذلك يُمكن للقارىء أَن يقْرَأ الْكَلِمَة بِتَمَامِهَا من غير انْتِقَال إِلَى سطر آخر وَغَايَة مَا فِيهِ أَنه يجد بَين الْكَلِمَة وتتمتها فاصلا ألجأ إِلَيْهِ مُرَاعَاة التناسب بَين أَوَاخِر الأسطر
وَبَعْضهمْ يرى مَا رأى الْكَاتِب الأندلسي وَهُوَ أَن تكْتب الْكَلِمَة بِتَمَامِهَا فِي أول السطر الآخر وَبِذَلِك يخلص من تجزئة الْكَلِمَة الْوَاحِدَة غير أَن الْبيَاض الَّذِي يبْقى فِي آخر السطر لما كَانَ موهما لِأَنَّهُ قد ترك عَلامَة للفصل اقْتضى رَفعه بِوَضْع هَذِه الْعَلامَة دفعا لهَذَا الْوَهم فَكَأَن هَذِه الْعَلامَة تَقول لناظرها صل وَلَا تقف
وَقد رَأَيْت بَعضهم يضع هَذِه الْعَلامَة فِي أثْنَاء السطر ذَا وَقع فِيهِ بَيَاض بطرِيق السَّهْو لِئَلَّا يظنّ النَّاظر أَن ذَلِك الْبيَاض قد ترك بطرِيق الْقَصْد لكتابة شَيْء فِيهِ وَهُوَ مِمَّا يَقع كثيرا
وعلامة السكت إِنَّمَا تُوضَع فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يكون مَا بعْدهَا مُتَّصِلا بِمَا قبلهَا اتِّصَالًا شَدِيدا غير أَنه لَا يبلغ فِي الشدَّة دَرَجَة الِاتِّصَال الَّذِي بَين الْفِعْل وفاعله والمبتدأ وَخَبره والموصول وصلته وَنَحْو ذَلِك فَإِن الِاتِّصَال إِذا بلغ مثل هَذِه الدرجَة لم يسغْ وضع عَلامَة السكت فَإِذا رأى الْقَارئ عَلامَة السكت سَاغَ لَهُ أَن يقف هُنَاكَ وَقْفَة خَفِيفَة لَا يكَاد السَّامع يشْعر بهَا
فمما فِيهِ يسوغ السكت عَلَيْهِ قَول بعض أَرْبَاب الحكم المأثورة على الْعَاقِل أَن لَا يكون رَاغِبًا إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاث خِصَال تزَود لِمَعَاد أَو مرمة لِمَعَاش أَو لَذَّة
فِي غير محرم وَقَوله ثَلَاث خِصَال من أفضل أَعمال الْبر - الصدْق فِي الْغَضَب والجود فِي الْعسرَة وَالْعَفو عِنْد الْمقدرَة وَقَوله ثَلَاث خِصَال لَيْسَ مَعَهُنَّ غربَة - كف الْأَذَى وَحسن الْأَدَب ومجانبة الريب وَقَوله السُّكُوت فِي مَوْضِعه من صِفَات صفوة الرِّجَال - كَمَا أَن النُّطْق فِي مَوْضِعه من أشرف الْخلال
وَقَوله مِمَّا يدل على علم الْعَالم مَعْرفَته بِمَا يدْرك من الْأُمُور - وإمساكه عَمَّا لَا يدْرك - وتزيينه نَفسه بالمكارم وَظُهُور علمه للنَّاس من غير أَن يظْهر مِنْهُ فَخر لَا عجب - ومعرفته بِزَمَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ - وبصره بِالنَّاسِ وَأَخذه بِالْقِسْطِ - وإرشاده المسترشد - وَحسن مخالقته خلطاءه - وتسويته بَين قلبه وَلسَانه - وتحريه الْعدْل فِي كل أَمر - ورحب ذرعه فِيمَا نابه - واحتجاجه بالحجج فِيمَا عمل - وَحسن تبصره
وَقَوله حبب إِلَى نَفسك الْعلم حَتَّى تألفه وَتلْزَمهُ - وَيكون هُوَ لهوك ولذتك وسلوتك وبلغتك وَقَوله إِن اسْتَطَعْت أَن لَا تخبر بِشَيْء إِلَّا وَأَنت بِهِ مُصدق - وَألا يكون تصديقك إِلَّا ببرهان فافعل وَقَوله لَا يصلح الْعلم بِغَيْر حلم - وَلَا الْحِفْظ بِغَيْر فهم - وَلَا الْحسب بِغَيْر أدب - وَلَا الْغنى بِغَيْر كرم - وَلَا الْجد بِغَيْر جد
وَلَا بَأْس بِوَضْع هَذِه الْعَلامَة فِي آخر السطر إِذا بَقِي فِيهِ بَيَاض لَا يَتَّسِع لكتابة الْكَلِمَة المروم كتَابَتهَا على مَا جرى عَلَيْهِ بعض كتاب الأندلس
ويسوغ وَضعهَا فِي مثل قَول بعض عُلَمَاء الْأُصُول فِي الْكَلَام على اللُّغَات وَأَنَّهَا هَل هِيَ توقيفية أم اصطلاحية وَالْجَوَاب عَن التَّمَسُّك بقوله تَعَالَى {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} أَن يَقُول لم لَا يجوز أَن يكون المُرَاد من التَّعْلِيم أَنه ألهمه الِاحْتِيَاج إِلَى هَذِه الْأَلْفَاظ وَأَعْطَاهُ مَا لأَجله قدر على الْوَضع
مَعَ أَن هَذَا الْموضع لَيْسَ من مَوَاضِع الْفَصْل أصلا لَكِن تُوضَع الْعَلامَة لمُجَرّد التَّمْيِيز بَين الْكَلَامَيْنِ
وَمثل قَوْله والأثارة فِي قَوْله تَعَالَى {أَو أثارة من علم} هُوَ مَا يرْوى
ويستغنى عَن وضع هَذِه الْعَلامَة بِوُجُود عَلامَة أُخْرَى لحُصُول الْمَقْصُود وَذَلِكَ فِي مثل قَول بعض أَرْبَاب / التجويد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى - {ورتل الْقُرْآن ترتيلا} الترتيل هُوَ أَن تَأتي بِالْقِرَاءَةِ على ترسل وتؤدة بتبيين الْحُرُوف والحركات
وَقد كَانَ الْكتاب قَدِيما يَكْتُبُونَ الْآيَات فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع إِمَّا بمداد يُخَالف فِي اللَّوْن مَا يكْتب بِهِ غَيرهَا أَو بقلم أدق مِنْهُ أَو بِخَط مُخَالف فِي النَّوْع لَهُ فَكَانَ الْمَقْصُود حَاصِلا بذلك
وَهنا أَمر يَنْبَغِي الانتباه لَهُ وَهُوَ أَن السكت كالوقف لَهُ دَرَجَات مُتَفَاوِتَة فِي الْمِقْدَار حَتَّى إِنَّه فِي بعض الْمَوَاضِع لَا يكَاد يشْعر بِهِ لشدَّة خفائه وَذَلِكَ فِي مثل قَوْلك جاد لنا فلَان فَإِنَّهُ إِذا كَانَ من الْجُود تَجِد نَفسك مسوغة إِلَى السكت على الدَّال سكتة خَفِيفَة خُفْيَة بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ من الْجِدَال
وَنَحْو قَوْلك مَا سعى أحد فِي فَسَاد فَسَاد فَإِن الْفَاء الثَّانِيَة لَا بُد فِيهَا من سكتة خُفْيَة وَنَحْو قَوْلك مَا لَك لَا تجْعَل مَالك دون مَالك وَأَنت تعلم أَنه سَيكون لَهُ دُونك مَالك وَانْظُر إِلَى لفظ قد رشاني فِي قَول بعض الْقُضَاة مفتخرا بِالْعَدْلِ
(فَمَا خفض الأعادي قدر شاني
…
وَلَا قَالُوا فلَان قد رشاني)
فَإنَّك لَا تشك أَنه لابد من سكت فِيهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أما فِي الأول فعلى الرَّاء وَأما فِي الثَّانِي فعلى الدَّال وَقد أَشَارَ إِلَى وُقُوع السكت فِي الشّعْر السَّيِّد المرتضى فَإِنَّهُ قَالَ عِنْد ذكر قَول الْكُمَيْت
(وَمَا أَنا مِمَّن يزْجر الطير همه
…
أصاح غراب أم تعرض ثَعْلَب)
يجب الْوُقُوف على الطير ثمَّ يبْدَأ بهمه ليفهم الْغَرَض وَلَا يخفى أَن المُرَاد بِالْوَقْفِ هُنَا السكتة الْخَفِيفَة لَا الْوَقْف بِالْمَعْنَى الْمَشْهُور فَإِنَّهُ يُوجب إسكان الرَّاء فيختل الْوَزْن على أَن هُنَا أمرا آخر وَهُوَ أَن الْوَقْف فِيهِ يُوجب التقاء الساكنين وَقد تقرر أَنه لَا يَقع الساكنين فِي الشّعْر إِلَّا فِي الآخر وَأما فِي غَيره فَلَا يَقع نعم
أجَاز بَعضهم وُقُوع ذَلِك فِي المتقارب وَاسْتشْهدَ على ذَلِك بقول الشَّاعِر
(فَذَاك الْقصاص وَكَانَ التَّقَاصّ
…
فرضا وحتما على المسلمينا)
أجَاز ذَلِك فِي عرُوض هَذَا الضَّرْب من الشّعْر وَلم يجزه فِي غَيرهَا
وَهَذِه الْمَسْأَلَة وَمَا شاكلها من متعلقات علم قوانين الْقِرَاءَة وَهُوَ علم يعرف عَنهُ العلامات المميزة بَين الْحُرُوف الْمُشْتَركَة فِي الصُّور والعلامات الدَّالَّة على الْإِدْغَام وَالْمدّ وَالْقصر والفصل والوصل والمقاطع وأحوال هَذِه العلامات وأحكامها وَنَحْو ذَلِك وَهَذَا الْعلم وَعلم قوانين الْكِتَابَة متلازمان لغاية وَاحِدَة وَهُوَ معرفَة دلَالَة الْخط على اللَّفْظ وَذكر بَعضهم أَن شدَّة الِاحْتِيَاج إِلَى هذَيْن الفنين وفرط عناية النُّفُوس الإنسانية بمعرفتهما وتعلمهما أغنت عَن التصنيف فيهمَا
الْعَلامَة الثَّانِيَة الْوَقْف الْحسن اعْلَم أَن الْقَوْم قرروا أَن معرفَة مَوَاضِع الْوَقْف متوقفة على معرفَة الْمَعْنى وَهُوَ أَمر بَين بِنَفسِهِ والتجربة تعضده فَإنَّك إِذا راقبت من يقرأه وَهُوَ عَارِف بِمَعْنى مَا يقرأه تَجدهُ لَا يقف إِلَّا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يسوغ الْوَقْف عَلَيْهَا مَعَ إِعْطَاء كل مَوضِع مَا يسْتَحقّهُ من الْمِقْدَار وَيقف
فَتَارَة ترَاهُ يقف وَقْفَة قَصِيرَة جدا بِحَيْثُ تقَارب الوقفة الْمُسَمَّاة بالسكتة وَذَلِكَ حَيْثُ يكون مَا بعد ذَلِك الْكَلَام مُتَّصِلا بِمَا قبله اتِّصَالًا فِيهِ قُوَّة غير أَن ذَلِك الْكَلَام مَفْهُوم فِي الْجُمْلَة وَهَذَا الْموضع هُوَ الْموضع الَّذِي يُسمى الْوَقْف عَلَيْهِ بِالْوَقْفِ الْحسن
وَتارَة ترَاهُ يقف وَقْفَة أطول مِنْهَا وَذَلِكَ حَيْثُ يكون مَا بعد ذَلِك الْكَلَام / مُتَّصِلا بِمَا قبله اتِّصَالًا أدنى فِي الْقُوَّة من الِاتِّصَال الْمَذْكُور وَهَذَا الْموضع هُوَ الَّذِي يُسمى الْوَقْف التَّام عَلَيْهِ بِالْوَقْفِ الْكَافِي
وَتارَة ترَاهُ يقف وَقْفَة طَوِيلَة تكَاد توهم السَّامع أَنه يُرِيد قطع الْقِرَاءَة وَذَلِكَ حَيْثُ يكون ذَلِك الْموضع قد تمّ فِيهِ الْكَلَام وَهَذَا الْموضع هُوَ الْموضع الَّذِي يُسمى الْوَقْف عَلَيْهِ بِالْوَقْفِ التَّام
ومواضع الْوَقْف التَّام ظَاهِرَة بَيِّنَة فِي الْغَالِب وَلذَلِك ينْدر الِاخْتِلَاف فِيهَا وَقد تكون متعينة وَذَلِكَ إِذا وَقعت فِي آخر الْكَلَام وَذَلِكَ كَمَا فِي الحكم الْآتِيَة قَالَ عبد الله الْمَأْمُون خير الْكَلَام مَا شكل الزَّمَان وَقَالَ أَحْمد بن أبي دؤاد الاستصلاح خير من الاجتياح وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء لَا تكن تلميذا لمن يُبَادر إِلَى الْأَجْوِبَة قبل أَن يتدبرها ويتفكر فِيمَا يتفرغ عَنْهَا
وَأما مَوَاضِع الْوَقْف الْحسن أَو الْكَافِي فقد تكون غير بَيِّنَة وَلذَا لم ينْدر وُقُوع الِاخْتِلَاف فِيهَا فكثير مَا يحكم بعض الناظرين على وقف بِأَنَّهُ حسن وَيحكم غَيره بِأَنَّهُ كَاف وَذَلِكَ لاخْتِلَاف نظرهم فِي دَرَجَة التَّعَلُّق بَين الْكَلَام الْمَوْقُوف عَلَيْهِ وَبَين مَا بعده وَكَثِيرًا مَا يكون الْمُخْتَلف فِيهِ فِي الدرجَة الْوُسْطَى بَين النَّوْعَيْنِ فَيكون الِاخْتِلَاف هُنَاكَ غير مستغرب
وَالظَّاهِر أَن الْمَوَاضِع الَّتِي يخْتَلف فِي كَون الْوَقْف فِيهَا حسنا أَو كَافِيا يَنْبَغِي أَن يَجْعَل الْوَقْف فِيهَا من قبيل الْحسن احْتِيَاطًا وَنِهَايَة مَا فِي ذَلِك أَن يَجْعَل الْوَقْف فِيهَا أقصر وَهُوَ لَو لم يقف أصلا لم يكن عَلَيْهِ شَيْء بل رُبمَا كَانَ أحسن لم يؤد ذَلِك إِلَى الِاضْطِرَار إِلَى الْوُقُوف فِي موقف غير مستحسن
وَقد عرفت أَنهم ذكرُوا أَن النَّاظر فِي كتب الْقَوْم إِذا وجدهم قد اخْتلفُوا فِي الْوَقْف فِي مَوضِع فَقَالَ بَعضهم يحسن الْوَقْف فِيهِ وَقَالَ بَعضهم بِخِلَافِهِ وَلم يتَرَجَّح عِنْده أحد الْوَجْهَيْنِ أَن الأولى أَن لَا يقف فِي غير مَوَاضِع الْوَقْف كَانَ ملوما
وَمن أحكم مَا ذَكرْنَاهُ فِي هَذَا الْبَحْث اكْتفى بِهِ فِي أَكثر الْمَوَاضِع وَمن أَرَادَ الزِّيَادَة فَعَلَيهِ بمطالعة كتاب من الْكتب المبسوطة فِيهِ الْمَذْكُور فِيهَا الْأَسْبَاب والعلل
وَقد نظرت فِي كثير من الْكتب فَوجدت مناهج الْكتاب فِيهَا مُخْتَلفَة من جِهَة الْوَقْف وَذَلِكَ أَن
مِنْهُم من اقْتصر على قسم وَاحِد مِنْهُ وَهُوَ الْوَقْف التَّام الَّذِي هُوَ أحسن
الْأَوْقَاف وَجعل لَهُ عَلامَة وأغفل مَا عداهُ إِلَّا أَن فِي هَذَا نوع تَقْصِير لِأَنَّهُ يتعب القارىء لَا سِيمَا عِنْد طول الْكَلَام فيضطر إِلَى الْوُقُوف قبل الْوُصُول إِلَيْهِ فَإِذا لم يجد موقفا قَرِيبا مِنْهُ وقف كَيفَ مَا كَانَ
وَكثير مَا يكون الْوُقُوف هُنَاكَ غير حسن فَنَشَأَ من ذَلِك أَن صَار فِي كثير من الْمَوَاضِع لَا يصل إِلَى الْأَحْسَن مَعَ انْقِطَاعه عَن الْحسن
وَمِنْهُم من اقْتصر من ذَلِك على قسمَيْنِ وهما الْوَقْف التَّام وَالْوَقْف الْكَاف ي الشبيه بالتام وَجعلُوا لكل وَاحِد مِنْهَا عَلامَة وَهَؤُلَاء لَا يلحقهم ملام لحُصُول الْمَقْصُود بذلك فِي جلّ الْكتب
وَمِنْهُم من أَتَى بالأقسام الثَّلَاثَة إِلَّا أَنهم اقتصروا على علامتين إِحْدَاهمَا للْوَقْف التَّام وَالْأُخْرَى للْوَقْف الْكَافِي وَالْحسن وَجعلُوا الْعَلامَة مُشْتَركَة بَينهمَا
وَيُمكن أَن يُقَال إِن هَؤُلَاءِ كَالَّذِين قبلهم قد اعتبروا الْوَقْف قسمَيْنِ تَاما وكافيا غير أَنهم قد ألْحقُوا بالكافي قسما من الْحسن وَهُوَ مَا لَا ريب فِي حسنه وَلذَلِك اقتصروا على عَلامَة وَاحِدَة
وَهَؤُلَاء مِنْهُم من يَجْعَل عَلامَة الْكَافِي وَالْحسن كِتَابَة الْكَلِمَة الأولى أَو الْحَرْف الأول مِنْهَا لَا سِيمَا إِن كَانَ الْوَاو بالحبر الْأَحْمَر أَو يَجْعَل فَوْقهَا خطا / كَذَلِك إِشَارَة إِلَى أَن تِلْكَ الْكَلِمَة مِمَّا يسوغ الِابْتِدَاء بهَا وَأَن مَا قبلهَا يسوغ الْوَقْف عَلَيْهِ وَمِنْهُم من يَجْعَل الْعَلامَة نقطة صَغِيرَة وَمِنْهُم من يَجْعَل الْعَلامَة واوا مَقْلُوبَة هَكَذَا
وَهَذَا الَّذِي اخترناه لأمرين أَحدهمَا أَن هَذِه الْعَلامَة هِيَ أَكثر شيوعا عِنْدهم الثَّانِي أَنَّهَا لما كَانَت فِي صُورَة الْوَاو كَانَت مذكرة بِالْوَقْفِ غير أَنا رَأينَا ان تبقى هَذِه الْوَاو المقلوبة على حَالهَا عِنْد قصد الدّلَالَة بهَا على الْوَقْف الْحسن وَأَن يُزَاد فِيهَا شَيْء كنقطة أَو خطّ عِنْد قصد الدّلَالَة بهَا على الْوَقْف الْكَافِي الَّذِي هُوَ أطول مِمَّا قبله فِي الْمدَّة وأهم مِنْهُ
وَمِمَّا فِيهِ مَا يحسن الْوُقُوف عَلَيْهِ قَول بعض أَرْبَاب الحكم المأثورة الْعلم زين
لصَاحبه فِي الرخَاء ومنجاة لَهُ فِي الشدَّة وَقَوله حق الْعَاقِل أَن يتَّخذ مرآتين ينظر من إِحْدَاهمَا فِي مساوي نَفسه فيتصاغر بهَا وَينظر من الْأُخْرَى فِي محَاسِن النَّاس فيحليهم بهَا وَيَأْخُذ مَا اسْتَطَاعَ مِنْهَا
وَقَوله لَا تكونن على الْإِسَاءَة أقوى مِنْك على الْإِحْسَان وَلَا إِلَى الْبُخْل أسْرع مِنْك إِلَى الْجُود وَقَوله سوسوا أَحْرَار النَّاس بمحض الْمَوَدَّة والعامة بالرغبة والرهبة والأسافل بالمخافة وَقَوله لَا تعد الْغنم غنما إِذا سَاق غرما وَلَا الْغرم غرما إِذا سَاق غنما
الْعَلامَة الثَّالِثَة عَلامَة الْوَقْف الْكَافِي وَهِي الْوَاو المقلوبة غير أَنه يُزَاد فِيهَا شَيْء كنقطة أَو خطّ تمييزا بَينهَا وَبَين عَلامَة الْوَقْف الْحسن
وَمِمَّا فِيهِ مَا يكون الْوُقُوف عَلَيْهِ كَافِيا قَول بعض أَرْبَاب الحكم المأثورة لَا تقدم على أَمر حَتَّى تنظر فِي عاقبته وَلَا ترد حَتَّى ترى وَجه الْمصدر وَقَوله من ورع الرجل أَن لَا يقوم مَا لَا يعلم وَمن أربه أَن يتثبت فِيمَا يعلم وَقَوله كن فِي جَمِيع الْأُمُور فِي أوسطها فَإِن خير الْأُمُور أوساطها
وَقَوله الْعَاقِل لَا يعادي مَا وجد إِلَى الْمحبَّة سَبِيلا وَلَا يعادي من لَيْسَ لَهُ مِنْهُ بُد وَقَوله من أحسن ذَوي الْعُقُول عقلا من أحسن تَقْدِير أَمر معاشه ومعاده تَقْديرا لَا يفْسد عَلَيْهِ وَاحِد مِنْهُمَا الآخر فَإِن أعياه ذَلِك رفض الْأَدْنَى وآثر عَلَيْهِ الْأَعْظَم وَقَوله تحفظ فِي مجلسك وكلامك من التطاول على الْأَصْحَاب وطب نفسا عَن كثير مِمَّا يعرض لَك فِيهِ صَوَاب القَوْل والرأي مداراة لِئَلَّا يظنّ أَصْحَابك أَن مَا بك التطاول عَلَيْهِم
الْعَلامَة الرَّابِعَة عَلامَة الْوَقْف التَّام اعْلَم أَن الْكتاب قد اخْتلفت مناهجهم فِي ذَلِك
فَمنهمْ من كَانَ يضع نقطة إِلَّا أَن بَعضهم كَانَ يَجْعَلهَا كَبِيرَة لِئَلَّا تشتبه بالنقطة الَّتِي كَانَ يَضَعهَا للْوَقْف الَّذِي لَيْسَ بتام وَمِنْهُم من كَانَ يضع ثَلَاث نقط على
هَيْئَة الأثافي كَمَا فِي نقط الشين وَمِنْهُم من كَانَ يضع واوا مَقْلُوبَة وَمِنْهُم من كَانَ يَجْعَلهَا ثَلَاثًا على الْهَيْئَة الْمَذْكُورَة وَمِنْهُم من كَانَ يضع دارة إِمَّا مطبقة أَو منفرجة وَمِنْهُم من كَانَ يضع هَاء لَهَا عينان وَهِي ذَات طرف مَرْدُود إِلَى الْجَانِب الْأَيْمن هَكَذَا هـ وَكَأَنَّهَا رمز إِلَى لفظ انْتهى
وَمن الْكتاب من لم يقْتَصر على وَاحِدَة مِمَّا ذكر فَرُبمَا وضع فِي وضع دارة وَفِي مَوضِع آخر نقطا وَنَحْو ذَلِك وَلما كَانَ الْوَقْف التَّام متفاوت الدَّرَجَات فِي التَّمام يَنْبَغِي لمن جعل لَهُ عَلَامَات أَن يخص كل وَاحِدَة مِنْهَا بِنَوْع مِنْهُ غير أَن الدارة لَا يَنْبَغِي أَن تُوضَع إِلَّا لأتم أَنْوَاعه كَأَن يكون الْموضع آخر قصَّة وَنَحْو ذَلِك
وَفِي هَذَا المبحث شَيْء وَهُوَ أَن يُقَال قد ذكرْتُمْ أَن بعض الْمَوَاضِع قد يتجاذبه أَمْرَانِ أَحدهمَا يَقْتَضِي الْوَصْل وَالْآخر يَقْتَضِي الْفَصْل وَهُوَ ثَلَاثَة أَقسَام فَهَل يُمكن أَن يَجْعَل لكل قسم مِنْهَا / عَلامَة يعرف بهَا فَيُقَال نعم وَذَلِكَ بِالْجمعِ بَين الْخط الَّذِي هُوَ عَلامَة الْوَصْل والنقطة الَّتِي هِيَ عَلامَة الْفَصْل فَإِذا كَانَ الْموضع مِمَّا يرجح فِيهِ جَانب الْوَصْل على الْفَصْل وضع فِيهِ خطّ بعده نقطة هَكَذَا - وَإِذا كَانَ الْموضع مِمَّا يرجح فِيهِ جَانب الْفَصْل على الْوَصْل وضعت فِيهِ نقطة بعْدهَا خطّ هَكَذَا - وَإِذا كَانَ الْموضع مِمَّا لم يرجح فِيهِ أَحدهمَا على الآخر وضع الْخط بَين نقطتين هَكَذَا -
هَذَا وَمَا يذكر من العلائم الْمُخْتَلفَة الَّتِي تدل كل وَاحِدَة مِنْهَا على قسم من أقسامه إِنَّمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْكَلَام المنثور الَّذِي لم يُقيد بسجع وَأما الْكَلَام المنثور الْمُقَيد بالسجع فَيَكْفِي فِيهِ علامتان تُوضَع إِحْدَاهمَا فِي آخر الْفَقْرَة الأولى للدلالة على مَوضِع الْوَقْف وعَلى أَن السجعة لم تتمّ بعد وَالْأُخْرَى فِي آخر الْفَقْرَة الثَّانِيَة للدلالة على الْوَقْف وعَلى أَن السجعة قد تمت إِلَّا أَنه يَنْبَغِي أَن تكون أقوى فِي الدّلَالَة على الْوَقْف من الَّتِي قبلهَا
وعَلى ذَلِك يسوغ أَن تكون الأولى عَلامَة الْوَصْل وَالثَّانيَِة نقطة أَو الأولى
نقطة صَغِيرَة وَالثَّانيَِة نقطة كَبِيرَة أَو الأولى واوا مَقْلُوبَة وَالثَّانيَِة واوا مَقْلُوبَة متميزة بِزِيَادَة فِيهَا
وَمن أَمْثِلَة السجع قَول بعض أَرْبَاب البلاغة إيَّاكُمْ ومقابلة النِّعْمَة بالكفران - واذْكُرُوا هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان وأبرزوها فِي معرض من حسن الذّكر - وقابلوها بِمَا يَلِيق بهَا من الشُّكْر وَقَوله بَلغنِي أَن فلَانا نَاظر فَلَمَّا تَوَجَّهت عَلَيْهِ الْحجَّة كَابر وَقد كنت أَحسب أَنه أعرف بِالْحَقِّ من أَن يعقه وأهيب لحجاب الْعدْل والإنصاف من أَن يشقه أَو لم يعلم أَن الكابرة تشعر بِضعْف الْحس ومهانة النَّفس
وَقَوله اعتذر الْأُسْتَاذ من صغر الْكتاب واختصاره وَقد أغناه الله عَمَّا تكلفه من اعتذاره وَإِنَّمَا الصَّغِير مَا صغر قدره لَا مَا صغر حجمه فَأَما مَا أَفَادَ وَجَاوَزَ المُرَاد فَلَيْسَ بصغير بل هُوَ أكبر من كل كَبِير
وَقد يعرض فِي السجع فِي بعض الْمَوَاضِع أُمُور توجب الْإِشْكَال فِي وضع العلائم فَمن الْمَوَاضِع المشكلة أَن تكون السجعة مركبة من ثَلَاث فقر وَيَنْبَغِي هُنَا أَن تُوضَع الْعَلامَة المشعرة بانتهاء السجعة عِنْد الْفَقْرَة الثَّالِثَة وَيُوضَع عِنْد الثَّانِيَة عَلامَة مثل الْعَلامَة الَّتِي تُوضَع عِنْد الأولى
مثل ذَلِك قَوْله جزى الله الْأُسْتَاذ عَن الْجُود خيرا فقد أَقَامَ لَهُ سوقا كَانَت كاسدة واهب مِنْهُ ريحًا كَانَت راكدة وَأَحْيَا مِنْهُ أَرضًا كَانَت هامدة وَعمر للمعروف دَارا طالما تيه فِي قفارها لَا ندراس آثارها وانهدام منارها
وَقَوله يعز علينا أَن يكثر بَين تلاقينا عدد الْأَيَّام وتعبر عَن ضمائرنا ألسن الأقلام ونتناجى فِي الْكتب بصور الْكَلَام
وَكَثِيرًا مَا يعرض فِي بعض الْمَوَاضِع هُنَا مَا يَجْعَل وضع عَلامَة الْوَصْل إِمَّا فِي الأولى أَو فِي الثَّانِيَة أولى من غَيرهَا وَإِن كَانَت الْعَلامَة المتخذة فِي الأَصْل غَيرهَا فعلامة الْوَصْل يحْتَاج إِلَيْهَا فِي كثير من الْمَوَاضِع الَّتِي جعل غَيرهَا عَلامَة فِيهِ وَمِثَال
ذَلِك قَوْله الظنون - أَمر لَا يعول عَلَيْهِ المتقون وَلَا يخلطون مَا كَانَ بِمَا لَعَلَّه لَا يكون
وَمن الْمَوَاضِع المشكلة أَن تُوجد فقرة لَيْسَ لَهَا أُخْت وَيَنْبَغِي هُنَا أَن تُعْطى حكمهَا فِي حد ذَاتهَا نَحْو قَوْله إِن للعقول مغارس كمغارس الْأَشْجَار فَإِذا طابت بقاع الأَرْض للشجر زكا ثَمَرهَا وَإِذا كرمت النُّفُوس للعقول حسن نظرها
وَمن الْمَوَاضِع المشكلة الْمَوَاضِع الَّتِي يكون فِيهَا سجع فِي سجع وَيَنْبَغِي هُنَا أَن تُوضَع عَلامَة الْوَصْل فِي السجع الَّذِي يكون فِي السجع وَمِثَال ذَلِك قَول بَعضهم / فِي علم الْبَيَان وَهُوَ فن قد نضب مَاؤُهُ فَلم يظْهر لَهُ ثَمَر وَذهب رواؤه فَلم يُؤثر فِيهِ غير الْأَثر وَقَول بَعضهم هَذَا كتاب قد أودع من جَوَاهِر الْكَلم - مَا يفوق قلائد العقيان - وعقود الدُّرَر وَمن زواهر الحكم - مَا يروق الْجنان - ويجلو الْبَصَر
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَنه هَل يجوز أَن يُقَال إِن فِي الْقُرْآن سجعا أم لَا فَقَالَ قوم إِنَّه لَا يجوز وَوَافَقَهُمْ على ذَلِك الرماني وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك فِي إعجاز الْقُرْآن حَيْثُ قَالَ إِن السجع هُوَ الَّذِي يقْصد فِي نَفسه ثمَّ يُحَال الْمَعْنى عَلَيْهِ والفواصل هِيَ الَّتِي تتبع الْمعَانِي وَلَا تكون مَقْصُودَة فِي نَفسهَا وَلذَلِك كَانَت الفواصل بلاغة والسجع عَيْبا
وَقَالَ قوم إِنَّه يجوز ذَلِك قَالَ بَعضهم لَيْسَ كل السجع يقْصد فِي نَفسه ثمَّ يُحَال الْمَعْنى عَلَيْهِ بل مِنْهُ مَا يتبع الْمَعْنى وَهُوَ غير مَقْصُود فِي نَفسه وَهَذَا مِمَّا لَا يعاب بل مِمَّا يستحسن
وَالظَّاهِر أَن الَّذِي دَعَا قوما إِلَى تَسْمِيَة جَمِيع مَا فِي الْقُرْآن فواصل مَعَ الِامْتِنَاع عَن تَسْمِيَة مَا تماثلت حُرُوفه مِنْهُ سجعا رغبتهم فِي تَنْزِيه الْقُرْآن عَن الْوَصْف اللَّاحِق بِغَيْرِهِ من الْكَلَام الْمَرْوِيّ عَن الكهنة وَغَيرهم لَا كَون السجع فِي نَفسه معيبا فَإِن السجع فِي نَفسه يرجع إِلَى تماثل الْحُرُوف أَو تقاربها فِي مقاطع الفواصل
وَإِنَّمَا لم يجىء فِي الْقُرْآن كُله وَلَا أَكْثَره سجع لِأَنَّهُ نزل بلغَة الْعَرَب وعَلى
عرفهم وعادتهم وَكَانَ البليغ مِنْهُم لَا يكون فِي كَلَامه كُله وَلَا أَكْثَره سجع لما فِيهِ من أَمَارَات التَّكَلُّف لَا سِيمَا مَعَ طول الْكَلَام وَلم يخل من السجع لِأَنَّهُ يحسن فِي بعض الْكَلَام لَا سِيمَا اقْتَضَاهُ الْمقَام
قَالَ حَازِم (1) من النَّاس من يكره تقطيع الْكَلَام إِلَى مقادير متناسبة الْأَطْرَاف مُتَقَارِبَة فِي الطول وَالْقصر (2) لما فِيهِ من التَّكَلُّف وَمِنْهُم من يرى أَن التناسب الْوَاقِع بإفراغ الْكَلَام فِي قالب التقفية وتحليتها بمناسبات المقاطع أكيد جدا وَمِنْهُم - وَهُوَ الْوسط - من يرى أَن السجع وَإِن كَانَ زِينَة للْكَلَام فقد يَدْعُو إِلَى التَّكَلُّف فرأيي أَن لَا يسْتَعْمل فِي جملَة الْكَلَام (3) وَأَن لَا يخلى الْكَلَام مِنْهُ جملَة وَأَنه يقبل مِنْهُ مَا اجتلبه الخاطر عفوا بِلَا تكلّف
قَالَ وَكَيف يعاب السجع على الْإِطْلَاق وَإِنَّمَا نزل الْقُرْآن على أساليب الفصيح من كَلَام الْعَرَب فوردت الفواصل فِيهِ بِإِزَاءِ وُرُود الأسجاع فِي كَلَامهم وَإِنَّمَا لم يجىء على أسلوب وَاحِد لِأَنَّهُ لَا يحسن فِي الْكَلَام جَمِيعًا أَن يكون مستمرا على نمط وَاحِد لما فِيهِ من التَّكَلُّف وَلما فِي الطَّبْع من الْملَل وَلِأَن الارفتنان فِي ضروب
الفصاحة أَعلَى من الِاسْتِمْرَار على ضرب وَاحِد فَلهَذَا وَردت بعض الْآي متماثلة المقاطع وَبَعضهَا غير متماثلة
تَنْبِيهَات مهمة تتَعَلَّق بالسجع أوردهَا صاحبالإتقان (1)
الأول قَالَ أهل البديع أحسن السجع وَنَحْوه مَا تَسَاوَت قرائنه نَحْو {فِي سدر مخضود وطلح منضود وظل مَمْدُود} ويليه مَا طَالَتْ قرينته الثَّانِيَة نَحْو {والنجم إِذا هوى مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى} أَو الثَّالِثَة نَحْو {خذوه فغلوه ثمَّ الْجَحِيم صلوه ثمَّ فِي سلسلة ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسلكوه} وَقَالَ ابْن الْأَثِير الْأَحْسَن فِي الثَّانِيَة الْمُسَاوَاة وَإِلَّا فأطول قَلِيلا وَفِي الثَّالِثَة أَن تكون أطول وَقَالَ الخفاجي لَا يجوز أَن تكون الثَّانِيَة أقصر من الأولى
الثَّانِي قَالُوا أحسن السجع مَا كَانَ قَصِيرا لدلالته على قُوَّة المنشىء وَأقله كلمتان نَحْو {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر} الْآيَات {والمرسلات عرفا} الْآيَات {والذاريات ذَروا} الْآيَات {وَالْعَادِيات ضَبْحًا} والآيات والطويل مَا زَاد عَن الْعشْر وَمَا / بَينهَا متوسط كآيات سُورَة الْقَمَر
الثَّالِث قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فيكشافة الْقَدِيم لَا تحسن الْمُحَافظَة على الفواصل لمجردها إِلَّا مَعَ بَقَاء الْمعَانِي على سردها على الْمنْهَج الَّذِي يَقْتَضِيهِ حسن النّظم والتئامه فَأَما أَن تهمل الْمعَانِي ويهتم بتحسين اللَّفْظ وَحده غير مَنْظُور فِيهِ إِلَى مورده فَلَيْسَ من قبيل البلاغة وَبنى على ذَلِك أَن التَّقْدِيم فِي {وبالآخرة هم يوقنون} لَيْسَ لمُجَرّد الفاصلة بل لرعاية الِاخْتِصَاص
الرَّابِع مبْنى الفواصل على الْوَقْف وَلِهَذَا سَاغَ مُقَابلَة الْمَرْفُوع بالمجرور وَبِالْعَكْسِ
كَقَوْلِه {إِنَّا خلقناهم من طين لازب} مَعَ قَوْله {عَذَاب واصب} و {شهَاب ثاقب}
وَقَوله {بِمَاء منهمر} مَعَ قَوْله {قد قدر} و {سحر مُسْتَمر}
وَقَوله {وَمَا لَهُم من دونه من وَال} مَعَ قَوْله {وينشئ السَّحَاب الثقال}
الْخَامِس كثر فِي الْقُرْآن ختم الفواصل بحروف الْمَدّ واللين وإلحاق النُّون وحكمته وجود التَّمَكُّن من التطريب بذلك كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهٍ إِنَّهُم إِذا تمنوا يلحقون الْألف وَالْيَاء وَالْوَاو وَالنُّون لأَنهم أَرَادوا مد الصَّوْت ويتركون ذَلِك إِذا لم يترنموا وَجَاء الْقُرْآن على أسهل موقف وأعذب مقطع
السَّادِس حُرُوف الفواصل إِمَّا متماثلة وَإِمَّا مُتَقَارِبَة فَالْأولى مثل {وَالطور وَكتاب مسطور فِي رق منشور وَالْبَيْت الْمَعْمُور} وَالثَّانِي مثل {الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين} {ق وَالْقُرْآن الْمجِيد بل عجبوا أَن جَاءَهُم مُنْذر مِنْهُم فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْء عَجِيب} قَالَ الإِمَام فَخر الدّين وَغَيره وفواصل الْقُرْآن لَا تخرج عَن هذَيْن الْقسمَيْنِ بل تَنْحَصِر فِي المتماثلة والمتقاربة ورعاية التشابه فِي الفواصل لَازِمَة
السَّابِع كثر فِي الفواصل التَّضْمِين والإيطاء لِأَنَّهُمَا ليسَا معيبين فِي النثر إِن كَانَا معيبين فِي النّظم فالتضمين أَن يكون مَا بعد الفاصلة مُتَعَلقا بهَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإِنَّكُمْ لتمرون عَلَيْهِم مصبحين وبالليل} والأيطاء تكَرر الفاصلة بلفظها كَقَوْلِه تَعَالَى فِي (الْإِسْرَاء){هَل كنت إِلَّا بشرا رَسُولا} وَختم بذلك الْآيَتَيْنِ بعْدهَا اه
فَإِن قيل هَل يسوغ وضع عَلامَة تشعر بالتضمين يُقَال أما فِي السجع فَإِن ذَلِك يسوغ فِيهِ بل يسْتَحبّ وَمِثَال ذَلِك مَا كتبه بعض البلغاء موقعا بِهِ على كتاب ورد بمدح رجل وذم آخر إِذا كَانَ للمحسن من الْجَزَاء مَا يقنعه وللمسيء من النكال مَا يقمعه بذل المحسن مَا يجب عَلَيْهِ رَغْبَة وانقاد الْمُسِيء لما يكلفه رهبة
وَأما فِي الشّعْر فَلَا يسوغ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُوجب عدم التناسب فِي أَوَاخِر السطور
وَهُوَ مُهِمّ عِنْدهم مَعَ قلته فِي نَفسه وَقلة الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ نعم لَو قيل إِنَّه يسوغ وَضعهَا إِذا بعد عَن آخر السطر قَلِيلا مَعَ حفظ التناسب بَينهَا إِذا تَكَرَّرت لم يستبعد
قَالَ فيالعمدة فِي بَاب أَحْكَام القوافي فِي الْخط (1) إِذا صَارَت الْوَاو الْأَصْلِيَّة وصلا للقافية سَقَطت فِي الْخط كَمَا تسْقط وَاو الْوَصْل وياؤه وَذَلِكَ مثل وَاو يَغْزُو للْوَاحِد وَلم يغزوا للْجَمَاعَة إِذا كَانَت القافية على الزَّاي وَمثل وَاو يَغْزُو يَاء يقْضِي للْغَائِب وتقضي للمؤنثة الغائبة والمذكر الْمُخَاطب وَكَذَلِكَ يَاء القَاضِي والغازي إِذا كَانَا معرفين بِالْألف وَاللَّام هَذَا هُوَ الْوَجْه
فَإِن كتب بِإِثْبَات الْوَاو وَالْيَاء فعلى بَاب الْمُسَامحَة والأجود أَن تكون الْوَاو وَالْيَاء خَارِجا فِي الْغَرَض وَكَذَلِكَ يَاء الضَّمِير نَحْو غلامي إِذا كنت القافية الْمِيم فَالْوَجْه سُقُوط الْيَاء فَإِن كتبت الْمُسَامحَة فَفِي الْغَرَض كَمَا قدمت ق (2) وَمن الْعَرَب من يَقُول هَذَا الْغَاز ومررت بالقاض بِغَيْر يَاء وَهَذَا تَقْوِيَة لمَذْهَب من حذفهَا فِي الْخط إِذا كَانَت وصلا للقافية
وَإِن كَانَ فِي قوافي القصيدة مَا يكْتب بِالْيَاءِ وَمَا يكْتب بِالْألف كتبا / جَمِيعًا بِالْألف لتستوي القوافي وتشتبه صورتهَا فِي الْخط اه
ولفرط عناية الْكتاب برعاية التناسب بَين أَوَائِل السطور بَعْضهَا مَعَ بعض وَكَذَلِكَ أواخرها قَالَ بعض الأدباء فِي وصف المسطرة عَن لسانها
(أَنا لِلْكَاتِبِ اللبيب إِمَام
…
وَلما تبتغي يَدَاهُ قوام)
(فإذاما حددت للكتب حدا
…
وقفت عِنْد حدي الأقلام)
فَإِذا قيل هَل يسوغ أَن يوضع فِي أثْنَاء أَبْيَات الشّعْر علائم لوقف القارىء على مَوَاضِع الْوَقْف لَا ليقف عِنْدهَا بل لِئَلَّا يَقع لَهُ فِي بعض الْمَوَاضِع وهم يَحْجُبهُ عَن
الْفَهم فقد ذكرْتُمْ (1) أَن السَّيِّد المرتضى قَالَ فِي بَيت الْكُمَيْت الْمَذْكُور آنِفا إِنَّه يجب الْوُقُوف على الطير ثمَّ يبْدَأ بهمه
يُقَال إِنَّا لم نصادف فِيمَا رَأينَا من الدَّوَاوِين وضع علائم لذَلِك وَمن أهمه هَذَا الْأَمر يَتَيَسَّر لَهُ أَن يُشِير إِلَى ذَلِك فِي الْحَاشِيَة ويخشى من فتح هَذَا الْبَاب أَن يدْخل فِي هَذَا الْأَمر الدَّقِيق من لَيْسَ لَهُ أَهلا فَيَضَع العلائم فِي غير موَاضعهَا فَيكون الضَّرَر أكبر من النَّفْع لَكِن لَو قَامَ بِهِ من يحسن لم يكن فِي ذَلِك شَيْء وعَلى ذَلِك يكْتب الْبَيْت هَكَذَا
(وَمَا أَنا مِمَّن يزْجر الطير همه
…
أصاح غراب أم تعرض ثَعْلَب)
فَإِن قيل هَل يسوغ وضع عَلامَة فِي آخر الشّطْر الأول إِذا وجد فِيهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِك لَا سِيمَا إِن وضعت بَعيدا عَنهُ قَلِيلا بِحَيْثُ لَا تخل بالتناسب بَين أَوَاخِر الشّطْر الأول وَلَا أَوَائِل الشّطْر الثَّانِي
يُقَال إِنَّه لَا يظْهر ملجىء إِلَى ذَلِك إِلَّا إِذا وَقع فِي الْبَيْت إدماج وَنَشَأ مِنْهُ التباس والإدماج هُوَ أَن يَأْتِي الشَّاعِر بِكَلِمَة يكون بَعْضهَا جُزْءا من الشّطْر الأول وَبَعضهَا جُزْءا من الشّطْر الثَّانِي وَقد قصر بعض شراحالحماسة فِي تَعْرِيفه حَيْثُ قَالَ عِنْد ذكر قَول الشَّاعِر
(وَمَا غَمَرَات الْمَوْت إِلَّا نزالك الكمي على لحم الكمي المقطر
…
)
فِي هَذَا الْبَيْت إدماج والإدماج أَن تكون عَلامَة التَّعْرِيف فِي النّصْف الأول من الْبَيْت والمعرف فِي النّصْف الثَّانِي وَهُوَ يقل فِي الأوزان الطوَال وَيكثر فِي الْقصار كَقَوْل الْأَعْشَى
(اسْتَأْثر الله بالمكارم والع
…
دلّ وَولى الْمَلَامَة الرجلا)
(وَالشعر قلدته سَلامَة ذَا ال
…
إفضال وَالشَّيْء حَيْثُمَا جعلا)
فَإِذا وَقع فِي الْبَيْت إدماج اضْطر الْكَاتِب فِي الْغَالِب إِلَى تجزئة الْكَلِمَة إِلَى جزئين وَوضع كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي مَوْضِعه فَإِذا نَشأ من ذَلِك إِشْكَال تعيّنت إِزَالَته فَإِذا كَانَت الْعَلامَة وافية بالغرض لم يكن بُد مِنْهَا
والكلمات من جِهَة التجزئة أَقسَام فَمِنْهَا مَا تسهل فِيهِ التجزئة وَمِنْهَا مَا تعسر فِيهِ وَمِنْهَا مَا تكَاد تتعذر فِيهِ
ولبعض الْكتاب مهارة فِي أَمر التجزئة حَتَّى إِن بَعضهم لَا يكَاد يَقع اشْتِبَاه فِيمَا جزأه وَقد أحببنا أَن نورد من هَذَا النَّوْع أَمْثِلَة كَثِيرَة لشدَّة الْحَاجة إِلَيْهِ وَتَركنَا تَمْيِيز كل قسم مِنْهُ من غَيره للمطالعين فمما وَقع فِيهِ الإدماج قَول بعض الشُّعَرَاء فِي وصف الْقَلَم
(ناحل الْجِسْم لَيْسَ يعرف مذكا
…
ن نعيما وَلَيْسَ يعرف ضرا) / وَقَول بَعضهم
(إِن حَشْو الْكَلَام من لكنة المر 00
…
00 ء وإيجازه من التَّقْوِيم)
وَقَول بَعضهم - وَكَانَ بعض الْأَئِمَّة الْعِظَام يكثر إنشاده وَقد ينْسب إِلَيْهِ -
(فَلَا تفش سرك إِلَّا إِلَيْك
…
فَإِن لكل نصيح نصيحا)
(وَإِنِّي رَأَيْت غواة الرجا 00
…
00 ل لَا يتركون أديما صَحِيحا)
وَمِمَّا وَقع فِيهِ الإدماج قَول بَعضهم الإِمَام الزكي والفارس المع 00
…
00 تَحت العجاج غير الكهام (1))
(رَاعيا كَانَ مسجحا (29 ففقدنا
…
هـ وفقد المسيم فقد المسام (3))
وَقَول بَعضهم
(إِن شرخ الشَّبَاب وَالشعر الأس 00
…
00 ود مالم يعاص كَانَ جنونا)
وَقَول بَعضهم
(وأزجر الْكَاشِح الْعَدو إِذا اغ 00
…
00 تابك عِنْدِي زجرا على أضم)
وَمِمَّا وَقع فِيهِ الإدماج قَول بَعضهم
(أحل وامرر وضر وانفع وَلم وَأَخ 00
…
00 شن ورش وَابْن وانتدب للمعالي)
وَقَول بَعضهم
(فوحق الْبَيَان يعضده الْبر 00
…
00 هان فِي مأقط (2) أَلد الْخِصَام)
(مَا رَأينَا سوى السماحة شَيْئا
…
جمع الْحسن كُله فِي نظام)
(هِيَ تجْرِي مجْرى الإ صابة فِي الرأ 00
…
00 ي ومجرى الْأَرْوَاح فِي الْأَجْسَام)
وَمِمَّا وَقع فِيهِ الإدماج قَول بَعضهم
(الألمعي الَّذِي يظنّ بك الظ 00
…
00 ن كَأَن قد رأى وَقد سمعا)
وَقَول بَعضهم
(خير إخوانك المشارك فِي الضّر 00
…
00 وَأَيْنَ الشَّرِيك فِي الضّر أَيّنَا
وَقَول بَعضهم
(قربا مربط النعامة مني
…
لقحت حَرْب وَائِل عَن حِيَال)
(لَا بجير أغْنى فتيلا وَلَا ره 00
…
00 ط كُلَيْب تزاجروا عَن ضلال)
(لم أكن من جناتها علم الل
…
هـ وَإِنِّي بحرها الْيَوْم صالي)
وَقَول بَعضهم
(احذر مَوَدَّة ماذق
…
مزج المرارة بالحلاوة)
/ يحصي الذُّنُوب عَلَيْك أَيَّام الصداقة للعداوة
وَيَنْبَغِي الانتباه هُنَا لأمرين
أَحدهمَا أَن بَعْضًا من الْمَوَاضِع قد يظنّ فهيا إدماج فيجزىء الْكَاتِب الْكَلِمَة مَعَ أَنه لَا إدماج هُنَالك وَذَلِكَ مثل قَول بَعضهم
(بنى عَلَيْك بتقوى الْإِلَه
…
فَإِن العواقب للمتقي)
(وَإنَّك مَا تأت من وَجهه
…
تَجِد بَابه غير مستغلق)
(عَدوك ذُو الْعقل أبقى عَلَيْك
…
من الصاحب الْجَاهِل الأخرق)
وَقد يعرض الْوَهم لِلْكَاتِبِ الشَّاعِر فِي بعض الْمَوَاضِع وَلَا يَزُول عَنهُ ذَلِك إِلَّا إِذا وزن الْبَيْت بميزانه
الثَّانِي أَن بعض الكتبة قد يَقع لَهُم بِسَبَب الذهول أَو عدم الْمعرفَة أَن يجزئوا الْكَلِمَة فِي الأبيات الَّتِي وَقع فِيهَا إدماج تجزئة غير صَحِيحَة فَيَنْبَغِي الانتباه إِلَى ذَلِك وَانْظُر إِلَى لفظ (النَّاس) مثلا فَإِنَّهُ قد يكون آخر جزئها الأول هِيَ النُّون الأولى وَهِي النُّون الساكنة المنقلبة عَن لَام التَّعْرِيف وَأول جزئها الثَّانِي هِيَ النُّون المتحركة وَهِي النُّون الْأَصْلِيَّة وَقد يكون آخر جزئها الأول هِيَ الْألف وَأول جزئها الثَّانِي هِيَ السِّين فَمن الأول قَول بَعضهم
(أَيهَا الفارغ المريد لعيب ال
…
نَاس مهلا عَن المغيبة مهلا) (إِن فِي نَفسك الَّتِي بَين جَنْبي
…
ك عَن النَّاس لَو تفكرت شغلا)
وَمن الثَّانِي قَول بَعضهم
(تَرَكتنِي صُحْبَة النا
…
س وَمَالِي من رَفِيق)
(لم أجد إشفاق ندما
…
ني كإشفاق الصّديق)
وَمِمَّا يعد من علائم الْوَقْف الْألف وَالْهَاء فقد جرت عَادَة كثير من الْمُتَأَخِّرين أَنهم إِذا نقلوا عبارَة عَن أحد أَن يكتبوا فِي آخرهَا ألفا وَرَأس هَاء إِشَارَة إِلَى لفظ
انْتهى وَكَانَ حَقهم أَن يكتفوا بِرَأْس الْهَاء فَقَط لِأَن قَاعِدَة أَرْبَاب العلائم أَنهم يكتفون بِأَقَلّ مَا يحصل بِهِ الْمَقْصُود وَلَا يسوغون الزِّيَادَة عَلَيْهِ فَلَو كَانَ رَأس الْهَاء قد جعل عَلامَة على شَيْء آخر واضطروا إِلَيْهَا ساع لَهُم أَن يزِيدُوا الْألف للتمييز بَينهمَا وَلم يَقع ذَلِك وَلذَا ذهب أنَاس الْآن إِلَى الرُّجُوع إِلَى مُقْتَضى الْقَاعِدَة فاقتصروا على رَأس الْهَاء وَرُبمَا وضع بَعضهم قبلهَا نقطة
وَأما المتقدمون فقد كَانُوا يصرحون بِمَا يدل على الِانْتِهَاء فَيَقُولُونَ انْتهى مَا ذكره فلَان أَو هَذَا آخر كَلَام فلَان أَو نَحْو ذَلِك وَلَا يكتفون بقَوْلهمْ انْتهى مَا ذكره من غير تَصْرِيح بِالِاسْمِ
وَالظَّاهِر أَن الدَّاعِي لَهُم إِلَى ذَلِك أَنه قد يكون فِي الْعبارَة المنقولة عبارَة أُخْرَى نقلهَا الْمَنْقُول عَنهُ عَن غَيره فَلَو اكتفوا بذلك من غير تَصْرِيح بِالِاسْمِ حصل اشْتِبَاه فِي كثير من الْمَوَاضِع وَلم يدر الْمطَالع لمن يرجع الضَّمِير فالتزموا التَّصْرِيح دفعا لذَلِك وَلذَلِك قد يتركونه فِي مَوَاضِع لَا يَقع فِيهَا اشْتِبَاه بل قد يتركون الْإِشَارَة إِلَى انْتِهَاء الْعبارَة فِي مثل ذَلِك
والاختصار وَمِنْه الْإِضْمَار إِنَّمَا يستجيزه البلغاء فِي الْمَوَاضِع الَّتِي لَا يَقع فِيهَا اشْتِبَاه وَلَا إخلال بالفهم إِلَّا إِذا كَانَ الْمقَام يَقْتَضِي ذَلِك لنكتة مهمة
وَاعْلَم أَنه قد جرت عَادَة النقلَة أَنهم إِذا نقلوا عبارَة من الْعبارَات غير أَنه دعاهم الْحَال إِلَى حذف شَيْء مِنْهَا مِمَّا وَقع فِي أَثْنَائِهَا لعدم تعلق الْغَرَض بِهِ أَن يشيروا إِلَى ذَلِك بقَوْلهمْ ثمَّ قَالَ ثمَّ يَأْتُوا بتتمة الْعبارَة المروم نقلهَا مِمَّا تعلق بِهِ غرضهم وَبِذَلِك يعلم الْمطَالع أَنه قد طوي شَيْء فِيمَا بَين مَا قبل ثمَّ قَالَ وَبَين مَا بعده وَقد يحذفون ثمَّ ويقتصرون على قَالَ
وَهَذَا أَمر يلام من أخل بِهِ عِنْدهم إِلَّا أَن يُصَرح بِأَنَّهُ قد تصرف فِي الْعبارَة
وَالظَّاهِر أَن تصريحه بذلك لَا يرفع عَنهُ اللوم فِي كثير من الْمَوَاضِع مَعَ إِمْكَان الْإِشَارَة إِلَى مَوَاضِع الْحَذف
وَأرى أَن المختصرين الَّذين يحبونَ أَن يحافظوا على الْأَلْفَاظ الْوَاقِعَة فِي الأَصْل وَلم يبدلونها بِأَلْفَاظ من عِنْدهم غير أَنهم يرَوْنَ حذف بعض الْعبارَات الَّتِي لَا يتَعَلَّق بهَا غرضهم أَن يضعوا فِي مَوَاضِع الْحَذف رَأس الْقَاف إِشَارَة إِلَى ذَلِك وَهِي مذكرة بِلَفْظ قَالَ الَّتِي جرت عَادَتهم باستعمالها فِي مثل هَذَا الْموضع وَكنت قَدِيما أَضَع رَأس الْفَاء إِشَارَة للفظ الْحَذف على أَنه لَو لم تُوضَع نقطة أصلا لم يكن بَأْس لامتياز هَذِه الصُّورَة بِنَفسِهَا وَهَذِه الْعَلامَة مهمة فَإِنَّهُ قد يعرض فِي بعض الْمَوَاضِع إِشْكَال للمطالع فَلَا يدْرِي هَل هُوَ ناشيء من حذف شَيْء هُنَاكَ لَو بَقِي لم يكن ثمَّ إِشْكَال أَو ناشيء من الأَصْل وَالْغَالِب أَنه ينْسبهُ للمختصر فَيتْرك السَّعْي فِي حلّه لتصوره أَن ذَلِك نَشأ من إخلال الْمُخْتَصر مَعَ أَن ذَلِك الْموضع رُبمَا كَانَ من الْمَوَاضِع الَّتِي لم يحذف فِيهَا شَيْء بل قد يعرض الْإِشْكَال للمختصر فِي وَقت لَا يَتَيَسَّر لَهُ فِيهِ الرُّجُوع إِلَى الأَصْل فيندم على تَقْصِيره حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ ندمه فَإِذا وضعت هَذِه الْعَلامَة كَانَ الْخطب أسهل وهاك مِثَال ذَلِك قَالَ أوحد عصره أَبُو عُثْمَان عَمْرو بن بَحر الجاحظ فِي أول الْبَيَان والتبيين
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من فتْنَة القَوْل كَمَا نَعُوذ بك من فتْنَة الْعَمَل ونعوذ بك من التَّكَلُّف لما لَا نحسن كَمَا نَعُوذ بك من العجببما نحسن ونعوذ بك من السلاطة والهذر كَمَا نَعُوذ بك من العي والحصر وقديما تعوذوا بِاللَّه من شرهما وَتَضَرَّعُوا إِلَى الله فِي السَّلامَة مِنْهُمَا قَالَ النمر بن تولب
(أعذني رب من حصر وعي
…
وَمن نفس أعالجها علاجا)
وَقد ذكر الله جميل بلائه فِي تَعْلِيم الْبَيَان وعظيم نعْمَته فِي تَقْوِيم اللِّسَان فَقَالَ {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن خلق الْإِنْسَان علمه الْبَيَان} وَقَالَ {هَذَا بَيَان للنَّاس}
) ومدح الْقُرْآن بِالْبَيَانِ والإفصاح وَبِحسن التَّفْصِيل والإيضاح وبجودة الإفهام وَحِكْمَة الإبلاغ وَسَماهُ فرقانا وَقَالَ {عَرَبِيّ مُبين} وَقَالَ {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} وَقَالَ {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} وَقَالَ {وكل شَيْء فصلناه تَفْصِيلًا}
ومدار الْأَمر على الْبَيَان والتبيين وعَلى الإفهام والتفهيم وَكلما كَانَ اللِّسَان أبين كَانَ أَحْمد كَمَا أَنه كلما كَانَ الْقلب أَشد استبانة كَانَ أَحْمد وَمن أجل الْحَاجة إِلَى حسن الْبَيَان وَإِعْطَاء الْحُرُوف حُقُوقهَا من الفصاحة رام أَبُو حُذَيْفَة وَاصل بن عَطاء وَكَانَ ألثغ إِسْقَاط الرَّاء من كَلَامه وإخراجها من حُرُوف مَنْطِقه فَلم يزل يكابد ذَلِك ويغالبه حَتَّى صَار لغرابته مثلا ولظرافته معلما
إرشاد لَا يَنْبَغِي أَن تُوضَع عَلامَة من العلائم فِي مَوضِع من الْمَوَاضِع إِلَّا بعد أَن يَدْعُو إِلَيْهَا دَاع مُهِمّ ويتحقق أَن ذَلِك الْموضع من موَاضعهَا وَقد جرت عَادَة بعض الْكتاب أَن يضعوا كثيرا من العلائم مَعَ عدم الدَّاعِي إِلَيْهَا فكأنهم يظنون أَن فِيهِ وَأما الَّذين يضعونها فِي غير موَاضعهَا فهم مسيئون جدا لإيقاعهم القاريء فِي شرك الْوَهم المبعد لَهُ عَن الْفَهم وَكَأن هَؤُلَاءِ يظنون أَن العلائم من قبيل الزِّينَة فِي الْخط
وَقد وَقع هَذَا الظَّن لكثير مِمَّن عني بالخط من الْمُتَأَخِّرين من غير بحث عَمَّا يتَعَلَّق بِهِ فَكَانُوا يرَوْنَ فِي كثير من الخطوط علائم وضعت لأمر خَاص فظنوها من قبيل الزِّينَة فصاروا يضعونها كَيفَ مَا اتّفق وَإِذا سئلوا عَن ذَلِك قَالُوا إِن هَذَا من
تَتِمَّة الصِّنَاعَة وَقد رَأينَا أساتذتنا يَفْعَلُونَهُ وَلَا يسعنا إِلَّا اتباعهم فَكل خير فِي اتِّبَاع من سلف
فَإِن قلت إِنَّهُم كثيرا مَا يضعون عَلامَة للاستفهام وعلامة للتعجب فَهَل يحسن ذَلِك يُقَال يحسن ذَلِك إِذا كَانَ فِي الْعبارَة احْتِمَال لغَيْرِهِمَا أما فِي الِاسْتِفْهَام فَفِي نَحْو مَا يكْتب زيد وَأما فِي التَّعَجُّب فَفِي نَحْو مَا أحسن هَذَا الْفَتى
غير أَن كثيرا مِنْهُم يضعون عَلامَة الِاسْتِفْهَام فِي مثل أأسيء إِلَيْهِ وَقد أحسن إِلَيّ مَعَ أَنه لَا اسْتِفْهَام هُنَا فِي الْحَقِيقَة ويضعون عَلامَة التَّعَجُّب فِي مَوَاضِع لَا يجد النَّاظر فِيهَا شَيْئا يتعجب مِنْهُ غير وضع تِلْكَ الْعَلامَة
وَأما وضع عَلامَة قبل مقول القَوْل للدلالة عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يحسن فِي بعض الْمَوَاضِع بِسَبَب دَاع يَدْعُو إِلَيْهِ كَأَن يفصل بَين القَوْل وَالْمقول شَيْء رُبمَا ينشأ عَنهُ التباس
ومبحث العلامات وَمَا يتَعَلَّق بهَا مَبْحَث وَاسع الْأَطْرَاف جدير بِأَن يفرد بالتأليف وَقد دللناك على الطَّرِيق فاسلك فِيهِ أَن شِئْت حَتَّى تصل إِلَى الْغَايَة