المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَأَجَازَ ذَلِك الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ وَجَمَاعَة مِنْهُم أَبُو بكر - توجيه النظر إلى أصول الأثر - جـ ٢

[طاهر الجزائري]

فهرس الكتاب

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْغَزْو وَالسير

- ‌المبحث الثَّالِث فِي الحَدِيث الضَّعِيف

- ‌تَقْسِيم الحَدِيث الضَّعِيف إِلَى أقسامه الْمَشْهُورَة على طَريقَة الْمُحدثين

- ‌زِيَادَة بسط

- ‌وَهنا أُمُور يَنْبَغِي الانتباه لَهَا

- ‌بَيَان شاف للمعلل من الحَدِيث

- ‌بَيَان علل أَخْبَار رويت فِي الطَّهَارَة

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي الصَّلَاة

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الزَّكَاة وَالصَّدقَات

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الصَّوْم

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْمَنَاسِك

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْجَنَائِز

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْبيُوع

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي النِّكَاح

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْحُدُود

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي اللبَاس

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي الْأَطْعِمَة

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي أُمُور شَتَّى

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْأَحْكَام والأقضية

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الزّهْد

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْمَنَاسِك

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْغَزْو وَالسير

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْبيُوع

- ‌صلَة تتَعَلَّق بالضعيف وَهِي تشْتَمل على ثَلَاث مسَائِل

- ‌الْفَصْل السَّابِع فِي رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى وَمَا يتَعَلَّق بذلك

- ‌فروع لَهَا تعلق بالرواية بِالْمَعْنَى

- ‌فَوَائِد شَتَّى الْفَائِدَة الأولى

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّالِثَة

- ‌الْفَائِدَة الرَّابِعَة

- ‌الْفَائِدَة الْخَامِسَة

- ‌تَنْبِيهَات

- ‌الْفَائِدَة السَّابِعَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّامِنَة

- ‌الْفَائِدَة التَّاسِعَة

- ‌الْفَائِدَة الْعَاشِرَة

- ‌الْفَائِدَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة عشرَة

الفصل: وَأَجَازَ ذَلِك الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ وَجَمَاعَة مِنْهُم أَبُو بكر

وَأَجَازَ ذَلِك الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ وَجَمَاعَة مِنْهُم أَبُو بكر الْخَطِيب غير أَن الْخَطِيب ذكر أَنه يشْتَرط أَن تكون نسخته نقلت من الأَصْل وَأَن يبين عِنْد الرِّوَايَة أَنه لم يُعَارض وَحكى عَن شَيْخه أبي بكر البرقاني أَنه سَأَلَ أَبَا بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ هَل للرجل أَن يحدث بِمَا كتب عَن الشَّيْخ وَلم يُعَارض بِأَصْلِهِ فَقَالَ نعم وَلَكِن لَا بُد أَن يبن أَنه لم يُعَارض

قَالَ وَهَذَا هُوَ مَذْهَب أبي بكر البرقاني فَإِنَّهُ روى لنا أَحَادِيث كَثِيرَة قَالَ فِيهَا أخبرنَا فلَان وَلم أعارض بِالْأَصْلِ

قَالَ ابْن الصّلاح وَلَا بُد من شَرط ثَالِث وَهُوَ أَن يكون ناقل النُّسْخَة من الأَصْل غير سقيم النَّقْل بل صَحِيح النَّقْل قَلِيل السقط

ثمَّ إِنَّه يَنْبَغِي أَن يُرَاعِي فِي كتاب شَيْخه بِالنِّسْبَةِ إِلَى من فَوْقه مثل مَا ذكرنَا أَنه يراعيه فِي كِتَابه وَلَا يكونن كطائفة من الطّلبَة إِذا رَأَوْا سَماع شيخ لكتاب قرؤوه عَلَيْهِ من أَي نُسْخَة اتّفقت

‌الْفَائِدَة الرَّابِعَة

قد ذكر أهل الْفَنّ فِي مَبْحَث كِتَابَة الحَدِيث وَضَبطه أمورا مهمة لَا يسع الطَّالِب جهلها

الْأَمر الأول يَنْبَغِي لكاتب الحَدِيث أَن يَجْعَل بَين كل حديثين دارة تفصل بَينهمَا وتميز أَحدهمَا عَن الآخر

والدارة حَلقَة منفرجة أَو منطبقة وَمِمَّنْ جَاءَ عَنهُ الْفَصْل بَين الْحَدِيثين بالدارة أَو الزِّنَاد وَأحمد بن حَنْبَل وَإِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق الْحَرْبِيّ وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَمن الْمُحدثين من لَا يقْتَصر عَلَيْهَا بل يتْرك بَقِيَّة السطر خَالِيا عَن الْكِتَابَة مُبَالغَة فِي الْفَصْل والتمييز وَكَذَا يفعل فِي التراجم ورؤوس الْمسَائِل وَمَا أشبه ذَلِك

وَاسْتحبَّ الْخَطِيب أَن تكون الدارات غفلا فَإِذا عَارض فَكل حَدِيث يفرغ من عرضه ينقط فِي الدارة الَّتِي تليه نقطة أَو يخط فِي وَسطهَا خطا قَالَ وَقد كَانَ بعض أهل الْعلم لَا يعْتد من سَمَاعه إِلَّا بِمَا كَانَ كَذَلِك أَو فِي مَعْنَاهُ

الْأَمر الثَّانِي يَنْبَغِي لِلْكَاتِبِ أَن يحافظ على كِتَابَة الثَّنَاء على الله تَعَالَى عِنْد ذكر

ص: 775

اسْمه نَحْو عز وجل وتبارك وَتَعَالَى وَكَذَلِكَ كِتَابَة الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم على النَّبِي ص = عِنْد ذكره وَلَا يسأم من تكَرر ذَلِك فَأَجره عَظِيم فَإِن كَانَ الثَّنَاء وَالصَّلَاة وَالتَّسْلِيم ثَابتا فِي أصل سَمَاعه أَو أصل الشَّيْخ فَالْأَمْر وَاضح وَإِن لم يكن فِي الأَصْل فَلَا يتَقَيَّد بِهِ وليكتبه وليتلفظ بِهِ عِنْد الْقِرَاءَة لِأَنَّهُ ثَنَاء وَدُعَاء يُثبتهُ لَا كَلَام يرويهِ

قَالَ ابْن الصّلاح وَمَا وجد فِي خطّ أبي عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل من إغفال ذَلِك عِنْد ذكر اسْم النَّبِي ص = فَلَعَلَّ سَببه أَنه كَانَ يرى التقيد فِي ذَلِك بالرواية وَعز عَلَيْهِ اتصالها فِي ذَلِك فِي جَمِيع من فَوْقه من الروَاة

قَالَ الْخَطِيب أَبُو بكر وَبَلغنِي أَنه كَانَ يُصَلِّي على النَّبِي ص = نطقا لَا خطأ قَالَ وَقد خَالفه غَيره من الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين فِي ذَلِك وَرَوَاهُ عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ وعباس بن عبد الْعَظِيم الْعَنْبَري قَالَا مَا تركنَا الصَّلَاة على النَّبِي ص = فِي كل حَدِيث سمعناه وَرُبمَا عجلنا فنبيض الْكتاب فِي كل حَدِيث حَتَّى يرجع إِلَيْهِ

قَالَ بَعضهم يُريدَان أَنَّهُمَا لم يتركا الصَّلَاة على النَّبِي ص = فِي كل حَدِيث سمعاه سَوَاء وَقعت الصَّلَاة فِي الرِّوَايَة أم لَا وَإِذا دعاهما الاستعجال إِلَى ترك كتَابَتهَا بيضًا لَهَا فِي الْكتاب ليتيسر لَهما كتَابَتهَا فِيمَا بعد

وَيحْتَمل أَن يكون إغفال أَحْمد بن حَنْبَل لَهُ للاستعجال إِمَّا لكَونه فِي حَال الرحلة أَو لنَحْو ذَلِك

وَالظَّاهِر مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الصّلاح من أَنه كَانَ يرى التقيد بِمَا فِي الرِّوَايَة وَيُؤَيّد ذَلِك مَا ذكره فِي مَبْحَث صفة الرِّوَايَة حَيْثُ قَالَ ثَبت عَن عبد الله بِهِ أَحْمد بن حَنْبَل أَنه رأى أَبَاهُ إِذا كَانَ فِي الْكتاب عَن النَّبِي فَقَالَ الْمُحدث عَن رَسُول الله ضرب وَكتب عَن رَسُول الله

وَقَالَ الْخَطِيب أَبُو بكر هَذَا غير لَازم وَإِنَّمَا اسْتحبَّ أَحْمد اتِّبَاع الْمُحدث فِي لَفظه وَإِلَّا فمذهبه الترخيص فِي ذَلِك ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ عَن صَالح بن أَحْمد بن

ص: 776

حَنْبَل قَالَ قلت لأبي يكون فِي الحَدِيث قَالَ رَسُول الله فَيَجْعَلهُ الْإِنْسَان قَالَ النَّبِي فَقَالَ أَرْجُو أَن لَا يكون بِهِ بَأْس

وَذكر الْخَطِيب بِسَنَدِهِ عَن حَمَّاد بن سَلمَة أَنه كَانَ يحدث وَبَين يَدَيْهِ عَفَّان وبهز فَجعلَا يغيران النَّبِي إِلَى رَسُول الله فَقَالَ لَهما حَمَّاد أما أَنْتُمَا فَلَا تفقهان أبدا

وَمَال ابْن دَقِيق الْعِيد إِلَى مَا جرى عَلَيْهِ أَحْمد فَإِنَّهُ قَالَ فِي الاقتراح وَالَّذِي نَمِيل إِلَيْهِ أَن تتبع الْأُصُول وَالرِّوَايَات فَإِن الْعُمْدَة فِي هَذَا الْبَاب هُوَ أَن يكون الْإِخْبَار مطابقا لما فِي الْوَاقِع فَإِذا دلّ اللَّفْظ على أَن الرِّوَايَة هَكَذَا وَلم يكن الْأَمر كَذَلِك لم تكن الرِّوَايَة مُطَابقَة لما فِي الْوَاقِع وَلِهَذَا أَقُول إِذا ذكرت الصَّلَاة لفظا من غير أَن تكون فِي الأَصْل فَيَنْبَغِي أَن تصحبها قرينَة تدل على ذَلِك مثل كَونه يرفع رَأسه عَن النّظر فِي الْكتاب بعد أَن كَانَ يقْرَأ فِيهِ وَيَنْوِي بِقَلْبِه أَنه هُوَ الْمُصَلِّي لَا حاكيا عَن غَيره

وعَلى هَذَا فَمن كتبهَا وَلم تكن فِي الرِّوَايَة فَيَنْبَغِي لَهُ أَن يُنَبه على ذَلِك وَعَلِيهِ جرى الإِمَام الْحَافِظ شرف الدّين أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن مُحَمَّد اليونيني فِي نُسْخَة صَحِيح البُخَارِيّ الَّتِي جمع فِيهَا بَين الرِّوَايَات فَإِنَّهُ يُشِير بالرمز إِلَيْهَا إِثْبَاتًا ونفيا

وَيَنْبَغِي أَن يجْتَنب فِي أَمر الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم شَيْئَيْنِ

أَحدهمَا أَن يجعلهما منقوصين فِي الْخط بِأَن يرمز إِلَيْهِمَا بحرفين أَو أَكثر نَحْو ص ل كَمَا يَفْعَله الْكسَائي من النساخ قَالَ بَعضهم وَقد وجد بِخَط الذَّهَبِيّ وَبَعض الْحفاظ كتابتهما هَكَذَا صلى الله علم

وَالْأولَى خِلَافه

وَقد وجدتهما بِخَطِّهِ كَمَا ذكر وَلم يكتبهما على أَصلهمَا فِي مَوضِع وَسبب ذَلِك فِيمَا يظْهر هُوَ الاستعجال والحرص على إِكْمَال مَا هُوَ بصدده

وَيُؤَيّد ذَلِك أَنه لم يكْتب عِنْد ذكر أحد من الصَّحَابَة رضي الله عنهم رَضِي الله

ص: 777

عَنهُ مَعَ أَنه من المعروفين بالحرص على ذَلِك

وَلَا يخفى أَن مثل هَذَا يُمكن تَدَارُكه فِيمَا بعد بِوَاسِطَة النَّاسِخ بِأَن يُقَال لَهُ اكْتُبْ عَلَيْهِ وَسلم على أَصلهمَا واكتب رضي الله عنه عِنْد ذكر اسْم كل صَحَابِيّ فَإِن كَانَ ذَلِك من جِهَة الْمُؤلف لم يكن من قبيل التَّصَرُّف فِي الأَصْل أصلا

وَالثَّانِي أَن يجعلهما منقوصين فِي اللَّفْظ بِأَن يقْتَصر على أَحدهمَا كَأَن يَقُول صلى الله عَلَيْهِ أَو عليه السلام فَإِن الْأَمر قد ورد بِالْأَمر بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيم مَعًا قَالَ الله سبحانه وتعالى {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا}

وَقَالَ بعض الْعلمَاء إِنَّمَا تظهر الْكَرَاهَة فِيمَا إِذا اقْتصر الْمَرْء على أَحدهمَا دَائِما وَأما من كَانَ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ تَارَة وبالتسليم تَارَة من غير إخلال بِوَاحِد مِنْهُمَا فَلَا تظهر الْكَرَاهَة فِيمَا أَتَى بِهِ وَلكنه خلاف الأولى إِذْ لَا يزاع فِي كَون الْجمع بَينهمَا مُسْتَحبا

وَيُؤَيّد ذَلِك وُقُوع الصَّلَاة مُفْردَة فِي رِسَالَة الإِمَام الشَّافِعِي وصحيح مُسلم والتنبيه لأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغير ذَلِك من كتب الْعلمَاء الْأَعْلَام

الْأَمر الثَّالِث يَنْبَغِي لطَالب الْعلم ضبط كِتَابه بالنقط والشكل ليؤديه كَمَا سَمعه فقد قيل إعجام الْمَكْتُوب يمْنَع من استعجامه وشكله يمْنَع من إشكاله

والإعجام هُوَ النقط تَقول أعجمت الْحَرْف إِذا أزلت عجمته وميزته عَن غَيره بالنقط

والاستعجام الاستغلاق يُقَال استعجم عَلَيْهِ الْكَلَام واستعلق واستبهم إِذا أريج عَلَيْهِ فَلم يقدر أَن يتَكَلَّم

والشكل هُوَ إِعْلَام الْحَرْف بالحركة تَقول شكلت الْكتاب شكلا إِذا أعلمته بعلامات الْإِعْرَاب

والإشكال الالتباس تَقول أشكل الْأَمر إِذا الْتبس

ص: 778

وَقد اتّفق الْعلمَاء على اسْتِحْسَان الضَّبْط إِلَّا أَنهم اخْتلفُوا فِي أَنه هَل يَنْبَغِي أَن يقْتَصر على ضبط الْمُشكل أَو يَنْبَغِي أَن يضْبط هُوَ وَغَيره

فَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا يشكل مَا يشكل وَلَا حَاجَة إِلَى الشكل مَعَ عدم الْإِشْكَال قَالَ عَليّ بن إِبْرَاهِيم الْبَغْدَادِيّ فِي كتاب سمات الْخط ورقومه إِن أهل الْعلم يكْرهُونَ الإعجام وَالْإِعْرَاب إِلَّا فِي الملتبس

وَقَالَ بَعضهم يَنْبَغِي أَن يشكل مَا يشكل وَمَا لَا يشكل وَذَلِكَ لِأَن الْمُبْتَدِئ وَغير المتبحر فِي الْعلم لَا يُمَيّز مَا يشكل مِمَّا لَا يشكل على أَنه قد يظنّ أَن الشَّيْء غير مُشكل لوضوحه فِي بادئ الرَّأْي وَهُوَ عِنْد التَّأَمُّل وإمعان النّظر يكون مُشكلا وَكَثِيرًا مَا يتهاون الطَّالِب الواثق بمعرفته فَيتْرك الضَّبْط فِي بعض الْمَوَاضِع لاعْتِقَاده أَنَّهَا وَاضِحَة ثمَّ يَبْدُو لَهُ بعد حِين إِشْكَال فِيهَا فيندم على تفريطه

والتهاون وخيم الْعَاقِبَة وَالْإِنْسَان معرض للنسيان وَأول نَاس أول النَّاس فالاحتياط إِنَّمَا هُوَ فِي شكل مَا يشكل وَمَا لَا يشكل وَفِي ذَلِك عُمُوم النَّفْع لجَمِيع الطَّبَقَات

وَيَنْبَغِي للطَّالِب أَن لَا يغْفل عَن ضبط الْأَسْمَاء فقد قَالَ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم النجيرمي أولى الْأَشْيَاء بالضبط أَسمَاء الرِّجَال لِأَنَّهَا لَا يدخلهَا الْقيَاس وَلَا قبلهَا وَلَا بعْدهَا شَيْء يدل عَلَيْهَا

وَذكر أَبُو عَليّ الغساني أَن عبد الله بن إِدْرِيس قَالَ لما حَدثنِي شُعْبَة بِحَدِيث أبي الْحَوْرَاء السَّعْدِيّ عَن الْحسن بن عَليّ كتبت تَحْتَهُ {وحور عين} لِئَلَّا أغلط يَعْنِي فيقرأه أَبَا الجوزاء بِالْجِيم وَالزَّاي

ص: 779

وَيسْتَحب فِي الْأَلْفَاظ المشكلة أَن يُكَرر ضَبطهَا بِأَن يضبطها فِي متن الْكتاب ثمَّ يَكْتُبهَا قبالة ذَلِك فِي الْحَاشِيَة مُفْردَة مضبوطة فَإِن ذَلِك أبلغ فِي الْحَاشِيَة مُفْردَة مضبوطة فَإِن ذَلِك أبلغ فِي إبانتها وَأبْعد من التباسها لِأَن المضبوط فِي أثْنَاء الأسطر رُبمَا دَاخله نقط غَيره وشكله مِمَّا فَوْقه أَو تَحْتَهُ لَا سِيمَا عِنْد ضيقها ودقة الْخط وأوضح من ذَلِك أَن يقطع حُرُوف الْكَلِمَة المشكلة فِي الْهَامِش لِأَنَّهُ يظْهر شكل الْحَرْف بكتابته مُفردا وَذَلِكَ فِي بعض الْحُرُوف كالباء وَالْيَاء بِخِلَاف مَا إِذا كتبت الْكَلِمَة مجتمعة والحرف الْمَذْكُور فِي أَولهَا أَو وَسطهَا

قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي الاقتراح وَمن عَادَة المتقنين أَن يبالغوا فِي إِيضَاح الْمُشكل فيفرقوا حُرُوف الْكَلِمَة فِي الْحَاشِيَة ويضبطوها حرفا حرفا فَلَا يبْقى بعده إِشْكَال

وَيَنْبَغِي التنبه لما يَقع من الضَّبْط نقطا أَو شكلا فِي خطّ الْعلمَاء الْأَعْلَام من جِهَة غَيرهم فَإِنَّهُ قد يخفى حَتَّى على الحذاق وَمن الْقَبِيح مَا يَفْعَله بَعضهم من ذَلِك قصدا لرفع نِسْبَة الْخَطَأ إِلَيْهِ فِيمَا وَقع مِنْهُ من قبل وأقبح من ذَلِك من يَفْعَله قصدا لنسبة الْخَطَأ إِلَيْهِم

الْأَمر الرَّابِع وكما يَنْبَغِي أَن تضبط الْحُرُوف الْمُعْجَمَة بالنقط يَنْبَغِي أَن نضبط الْحُرُوف الْمُهْملَة بعلامة تدل على عدم إعجامها

وسبيل النَّاس فِي ذَلِك مُخْتَلف فَمنهمْ من يقلب النقط فَيجْعَل النقط الَّتِي فَوق المعجمات تَحت مَا يشاكلها من المهملات فينقط تَحت الرَّاء وَالصَّاد والطاء وَالْعين وَنَحْوهَا من المهملات

وَقد اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة نقط السِّين الْمُهْملَة فَقَالَ بَعضهم يَنْبَغِي أَن تكون النقط الَّتِي تَحت السِّين الْمُهْملَة مبسوطة صفا وَالَّتِي فَوق الشين الْمُعْجَمَة كالأثافي هَكَذَا وَقَالَ بَعضهم يَنْبَغِي أَن تكون النقط الَّتِي تُوضَع تَحت السِّين على صُورَة النقط الَّتِي تُوضَع فَوق الشين وَالْأولَى أَن تكون مَقْلُوبَة هَكَذَا وَيسْتَثْنى من هَذَا

ص: 780

الْأَمر الْحَاء فَإِنَّهَا لَو نقطت من تَحت لالتبست بِالْجِيم

وَمن النَّاس من يَجْعَل عَلامَة الإهمال فَوق الْحُرُوف الْمُهْملَة كقلامة ظفر مضجعة على قفاها لتَكون فرجتها إِلَى فَوق

وَمِنْهُم من يَجْعَل عَلامَة الإهمال أَن يكْتب تَحت الْحَرْف المهمل مثله مُفردا فَيجْعَل تَحت الْحَاء الْمُهْملَة حاء مُهْملَة صَغِيرَة وَتَحْت الصَّاد صادا مُهْملَة صَغِيرَة وَكَذَا تَحت سَائِر الْحُرُوف الْمُهْملَة الملتبسة مثل ذَلِك فَهَذِهِ العلامات الثَّلَاثَة شائعة مَعْرُوفَة

وَهُنَاكَ من العلامات مَا هُوَ مَوْجُود فِي كثير من الْكتب الْقَدِيمَة وَلَا يفْطن لَهُ كَثِيرُونَ كعلامة من يَجْعَل فَوق الْحَرْف المهمل خطا صَغِيرا

قَالَ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ سَمِعت بعض أهل الحَدِيث يفتح الرَّاء من رضوَان فَقلت لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ لَيْسَ لَهُم رضوَان بِالْكَسْرِ فَقلت إِنَّمَا سمي بِالْمَصْدَرِ وَهُوَ بِالْكَسْرِ فَقَالَ وجدته بِخَط فلَان بِالْفَتْح وَسمي من لَا يحضرني ذكره الْآن

ثمَّ إِنِّي وجدت بعد ذَلِك فِي الْكتب الْقَدِيمَة هَذَا الِاسْم وفوقه فَتْحة فتأملت الْكتاب فَإِذا هُوَ يخط فَوق الْحَرْف المهمل خطا صَغِيرا فَعلمت أَنه عَلامَة الإهمال وَأَن الَّذِي قَالَه بِالْفَتْح من هَا هُنَا أُتِي

ص: 781

وَمن العلامات الَّتِي لم تشع عَلامَة من يَجْعَل تَحت الْحَرْف المهمل مثل النبرة والنبرة هِيَ كَمَا ذكر الْجَوْهَرِي وَابْن سَيّده الْهمزَة وَمِنْهُم من يَجْعَل ذَلِك فَوق الْحَرْف المهمل

وَمن النَّاس وهم الْأَكْثَر من يقْتَصر فِي بَيَان الْحُرُوف الْمُهْملَة على مَا هُوَ الأَصْل فِيهَا وَهُوَ إخلاؤها عَن الْعَلامَة

وَلَا يخفى أَن مخلفة مَا هُوَ الأَصْل لَا تنبغي إِلَّا إِذا دَعَا إِلَى ذَلِك دَاع وَهُوَ الْخَوْف من وُقُوع الِاشْتِبَاه فِي مَوضِع لَا يستبعد فِيهِ ذَلِك فَوضع عَلامَة الإهمال على مثل الرَّاء من رضوَان من قبيل وضع الشَّيْء فِي غير مَحَله

وَلم يتَعَرَّض أهل هَذَا الْفَنّ للكاف وَاللَّام وذكرهما المصنفون فِي الْخط فَقَالُوا إِ الْكَاف إِذا لم تكْتب مبسوطة يَجْعَل فِي وَسطهَا كَاف صَغِيرَة وَقد يختصرها بَعضهم حَتَّى تكون كالهمزة وَاللَّام يَجْعَل فِي وَسطهَا لَام أَي هَذِه الْكَلِمَة بِتَمَامِهَا لَا صُورَة ل

وَالْهَاء إِذا وَقعت فِي آخر الْكَلِمَة وَخيف اشتباهها بهاء التَّأْنِيث جعل فَوْقهَا هَاء مشقوقة

الْأَمر الْخَامِس قَالَ ابْن الصّلاح من شَأْن الحذاق المتقنين الْعِنَايَة بالتصحيح والتضبيب والتمريض

أما التَّصْحِيح فَهُوَ كِتَابَة صَحَّ على الْكَلَام أَو عِنْده وَلَا يفعل ذَلِك إِلَّا فِيمَا صَحَّ رِوَايَة وَمعنى غير أَنه عرضة للشَّكّ أَو للْخلاف فَيكْتب عَلَيْهِ صَحَّ ليعرف أَنه لم يغْفل عَنهُ وَأَنه قد ضبط وَصَحَّ على ذَلِك الْوَجْه

وَأما التضبيب وَيُسمى أَيْضا التمريض فَيجْعَل على مَا صَحَّ ورده كَذَلِك من جِهَة النَّقْل غير أَنه فَاسد لفظا أَو معنى أَو ضَعِيف أَو نَاقص مثل أَن يكون غير جَائِز من جِهَة الْعَرَبيَّة أَو يكون شاذا عِنْد أَهلهَا يأباه أَكْثَرهم أَو مُصحفا أَو ينقص

ص: 782

من جملَة الْكَلَام كلمة أَو أَكثر وَمَا أشبه ذَلِك

فيمد على مثل هَذَا خطّ أَوله مثل الصَّاد وَلَا يلزق بِالْكَلِمَةِ الْمعلم عَلَيْهَا كَيْلا يظنّ ضربا وَكَأَنَّهُ صَاد التَّصْحِيح بمدتها دون حائها كتبت كَذَلِك ليفرق بَين مَا صَحَّ مُطلقًا من جِهَة الرِّوَايَة وَغَيرهَا وَبَين مَا صَحَّ من جِهَة الرِّوَايَة دون غَيرهَا فَلم يكمل عَلَيْهِ التَّصْحِيح وَكتب حرف نَاقص على حرف نَاقص إشعارا بنقصه ومرضه مَعَ صِحَة نَقله وَرِوَايَته وتنبيها بذلك لمن ينظر فِي كِتَابه على أَنه قد وقف عَلَيْهِ وَنَقله على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَعَلَّ غَيره قد يخرج لَهُ وَجها صَحِيحا أَو يظْهر لَهُ بعد ذَلِك فِي صِحَّته مَا لم يظْهر لَهُ الْآن

وَلَو غير ذَلِك وَأَصْلحهُ على مَا عِنْده لَكَانَ متعرضا لما وَقع فِيهِ غير وَاحِد من المتجاسرين الَّذين غيروا ثمَّ ظهر الصَّوَاب فِيمَا أنكروه وَالْفساد فِيمَا أصلحوه

وَأما تَسْمِيَة ذَلِك ضبة فقد بلغنَا عَن أبي الْقَاسِم إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد اللّغَوِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الإفليلي أَن ذَلِك لكَون الْحَرْف مقفلا بهَا لَا يتَّجه لقِرَاءَة كَمَا أَن الضبة مقفل بهَا

قَالَ الْمُؤلف وَلِأَنَّهَا لما كَانَت على كَلَام فِيهِ خلل أشبهت الضبة الَّتِي تجْعَل على كسر أَو خلل فاستعير لَهَا اسْمهَا وَمثل ذَلِك غير مستنكر فِي بَاب الاستعارات

وَمن مَوَاضِع التضبيب أَن يَقع فِي الْإِسْنَاد إرْسَال أَو انْقِطَاع فَمن عَادَتهم تضبيب مَوضِع الْإِرْسَال والانقطاع وَذَلِكَ من قبيل مَا سبق ذكره من التضبيب على الْكَلَام النَّاقِص

وَيُوجد فِي بعض أصُول الحَدِيث الْقَدِيمَة فِي الْإِسْنَاد الَّذِي تَجْتَمِع فِيهِ جمَاعَة معطوفة أَسمَاؤُهُم بَعْضهَا على بعض عَلامَة تشبه الضبة فِيمَا بَين أسمائهم فيتوهم

ص: 783

من لَا خبْرَة لَهُ أَنَّهَا ضبة وَلَيْسَت بضبة وَكَأَنَّهَا عَلامَة وصل فِيمَا بَينهَا أَثْبَتَت تَأْكِيدًا للْعَطْف خوفًا أَن تجْعَل عَن مَكَان الْوَاو وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى

ثمَّ إِن بَعضهم رُبمَا اختصر عَلامَة التَّصْحِيح فَجَاءَت صُورَة تشبه صُورَة التضبيب والفطنة من خير مَا أوتيه الْإِنْسَان وَالله أعلم

وَقد اعْترض بَعضهم على مَا ذكره ابْن الصّلاح من أَن الضبة سميت بِهَذَا الِاسْم لِأَنَّهَا لما كَانَت على كَلَام فِيهِ خلل أشبهت الضبة الَّتِي تجْعَل على كسر أَو خلل فاستعير لَهَا اسْمهَا فَقَالَ هَذَا بعيد لِأَن ضبة الْقدح جعلت للجبر وَهَذِه لَيست جابرة وَإِنَّمَا هِيَ عَلامَة لكَون الرِّوَايَة هَكَذَا وَلم يتَّجه وَجههَا أَي عَلامَة لصِحَّة وُرُودهَا لِئَلَّا يظنّ الرَّائِي أَنَّهَا غلط فيصلحها وَقد يَأْتِي من بعد ذَلِك من يظْهر لَهُ وَجه ذَلِك وَقد غير بعض المتجاسرين مَا الصَّوَاب إبقاؤه

وَأجِيب عَن ذَلِك بِأَن وَجه الشّبَه بَينهمَا كَونهمَا مَوْضُوعَيْنِ على مَا فِيهِ خلل وَهَذَا كَاف فِي صِحَة التَّشْبِيه وَفِي صِحَة الِاسْتِعَارَة

على أَن فِي الْإِشَارَة إِلَى أَن فِي ذَلِك الْموضع خللا مَا نوعا من أَنْوَاع الْجَبْر وَإِن لم يكن خَبرا تَاما

وَقَالَ بعض الْعلمَاء التضبيب هُوَ كِتَابَة صُورَة ضَب فَوق مَا هُوَ ثَابت من جِهَة النَّقْل غير أَن فِيهِ خللا مَا

وَقد أشكل ذَلِك على بعض الباحثين فَقَالَ إِن الْمَعْرُوف أَن الضبة خطّ يكون أَوله مثل الصَّاد الْمُهْملَة وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون أَوله مثل الضَّاد الْمُعْجَمَة وعَلى هَذَا يجب أَن تُوضَع نقطة فَوْقه أَوله وَلم تجر عَادَتهم بذلك

ويرتفع الْإِشْكَال إِذا علم أَن واضعي العلائم التزموا أَن يجردوها مَا لَهُ نقطة عَن نقطته اختصارا من جِهَة ودفعا للالتباس من جِهَة أُخْرَى أَلا ترى أَن النُّحَاة جعلُوا عَلامَة السّكُون الْخَاء الْمَأْخُوذَة من أول خَفِيف وَلما لم ينقطوها صَارَت هَكَذَا (ح) وعلامة الْحَرْف المشدد الشين الْمَأْخُوذَة من أول شَدِيد وَلما لم ينقطوها صَارَت

ص: 784

هَكَذَا (س) وعلامة الكسرة الْيَاء وَلما لم ينقطوها صَارَت هَكَذَا (ى)

غير أَن أَكثر العلائم يلْحقهَا فِيمَا بعد تغير حَتَّى إِنَّه رُبمَا بَعدت عَن أَصْلهَا بعدا شَدِيدا

وَقد أَشَارَ سِيبَوَيْهٍ إِلَى شَيْء من ذَلِك فِي بَاب الْوَقْف حَيْثُ قَالَ وَلِهَذَا عَلَامَات فللإشمام نقطة وللذي أجري مجْرى الْجَزْم والإسكان الْخَاء ولروم الْحَرَكَة خطّ بَين يَدي الْحَرْف وللتضعيف الشين

وَقَالَ بعض الْكتاب التَّصْحِيح هُوَ وضع صَحَّ فَوق مَا صَحَّ من جِهَة الرِّوَايَة وَغَيرهَا وَهُوَ عرضة للشَّكّ إِشَارَة إِلَى أَنه كَانَ شاكا فِيهِ فبحث عَنهُ إِلَى أَن صَحَّ فخشي أَن يعاوده الشَّك فكتبها ليزول عَنهُ الشَّك فِيمَا بعد

والتضبيب هُوَ وضع الضبة وَهِي بعض صَحَّ تكْتب على شَيْء فِيهِ شكّ ليبحث عَنهُ فَإِذا تبين لَهُ صِحَّته أتمهَا بِضَم الْحَاء إِلَيْهَا فَتَصِير صَحَّ وَلَو جعل لَهَا عَلامَة غَيرهَا لتكلف الكشط لَهَا

وَكتب صَحَّ مَكَانهَا

وَإِن وَقع فِي الرِّوَايَة خطأ مَحْض لَا شكّ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَن يكْتب فَوْقه كَذَا بِخَط دَقِيق وَيبين الصَّوَاب فِي الْهَامِش

الْأَمر السَّادِس يَنْبَغِي الاعتناء بِأَمْر اللحق واللحق فِي اصْطِلَاح أهل الحَدِيث وَالْكِتَابَة مَا سقط من أصل الْكتاب فَألْحق بالحاشية

وَهُوَ بِفَتْح اللَّام والحاء وَيجوز بِسُكُون الْحَاء وَهُوَ فِي اللُّغَة الشَّيْء الرائد وكل شَيْء لحق شَيْئا

وَقد اسْتعْمل اللحق بِالْمَعْنَى الاصطلاحي بعض الشُّعَرَاء فَقَالَ كَأَنَّهُ بَين أسطر لحق

وَالْمُخْتَار فِي تَخْرِيج السَّاقِط فِي الْحَوَاشِي أَن يخط الْكَاتِب من مَوضِع سُقُوطه من السطر خطا صاعدا إِلَى فَوق ثمَّ يعطفه بَين السطرين عطفة يسيرَة إِلَى جِهَة الْحَاشِيَة الَّتِي يكْتب فِيهَا اللحق وَيبدأ فِي الْحَاشِيَة بكتبه اللحق مُقَابلا لِلْخَطِّ المنعطف وَليكن ذَلِك فِي الْحَاشِيَة ذَات الْيَمين وَإِن كَانَت تلِي وسط ورقة إِن اتسعت لَهُ فليكتبه صاعدا إِلَى أَعلَى الورقة لَا نازلا بِهِ إِلَى أَسْفَل

وَإِنَّمَا اختير كِتَابَة اللحق صاعدا إِلَى أَعلَى الورقة لِئَلَّا يخرج بعده نقص آخر فَلَا يجد مَا يُقَابله من الْحَاشِيَة فَارغًا لَهُ لَو كتب الأول نازلا إِلَى أَسْفَل وَإِذا كتب الأول صاعدا فَمَا يجد بعد ذَلِك من نقص يجد مَا يُقَابله من الْحَاشِيَة فَارغًا لَهُ

ص: 785

وَهَذَا إِن لم يزدْ اللحق على سطر فَإِن كَانَ اللحق سطرين أَو سطورا فَلَا يَبْتَدِئ بسطوره من أَسْفَل إِلَى أَعلَى بل يَبْتَدِئ بهَا من أَعلَى إِلَى أَسْفَل بِحَيْثُ يكون مُنْتَهَاهَا إِلَى جِهَة بَاطِن الورقة إِذا كَانَ التَّخْرِيج فِي جِهَة الْيَمين وَإِذا كَانَ فِي جِهَة الشمَال وَقع مُنْتَهَاهَا إِلَى جِهَة طرف الورقة

وَإِنَّمَا اختير تخرج اللحق فِي جِهَة الْيَمين لِأَنَّهُ لَو خرجه إِلَى جِهَة الشمَال فَرُبمَا ظهر بعده فِي السطر نَفسه نقص آخر فَإِن خرجه قدامه إِلَى جِهَة الشمَال أَيْضا وَقع بَين التخريجين إِشْكَال حَيْثُ يشْتَبه مَوضِع هَذَا السقط بِموضع ذَاك السقط وَإِن خرج الثَّانِي إِلَى جِهَة الْيَمين تقابلت عطفة التَّخْرِيج إِلَى جِهَة الشمَال وعطفة التَّخْرِيج إِلَى جِهَة الْيَمين وَرُبمَا تلاقتا فَأشبه ذَلِك الضَّرْب على مَا بَينهمَا بِخِلَاف مَا إِذا خرج الأول إِلَى جِهَة الْيَمين فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يخرج الثَّانِي إِلَى جِهَة الشمَال فَلَا يَلْتَقِيَانِ

وَلَا يلْزم إِشْكَال إِلَّا أَن يتَأَخَّر النَّقْص إِلَى آخر السطر فَلَا وَجه حِينَئِذٍ إِلَّا تَخْرِيجه إِلَى جِهَة الشمَال لقرب التَّخْرِيج من اللحق وَسُرْعَة لحاق النَّاظر بِهِ وللأمن من نقص يحدث بعده

نعم إِن ضَاقَ مَا بعد آخر السطر لقرب الْكِتَابَة من طرف الْوَرق لضيقه أَو لضيقه بالتجليد بِأَن يكون السقط فِي الصَّحِيفَة الْيُمْنَى فَلَا بَأْس حِينَئِذٍ بالتخريج إِلَى جِهَة الْيَمين وَقد وَقع ذَلِك فِي خطّ غير وَاحِد من أهل الْعلم

وَيَنْبَغِي أَن يكْتب عِنْد انْتِهَاء اللحق صَحَّ وَمِنْهُم من يكْتب مَعَ صَحَّ رَجَعَ وَمِنْهُم من يكْتب انْتهى اللحق

وَمِنْهُم من يكْتب فِي آخر اللحق الْكَلِمَة الْمُتَّصِلَة بِهِ دَاخل الْكتاب فِي مَوضِع التَّخْرِيج ليؤذن باتصال الْكَلَام

وَهَذَا اخْتِيَار بعض أهل الصَّنْعَة من أهل الْمغرب وَاخْتِيَار القَاضِي أبي مُحَمَّد بن خَلاد صَاحب كتاب الْفَاصِل بَين الرَّاوِي والواعي من أهل الْمشرق مَعَ طَائِفَة وَلَيْسَ ذَلِك بمرضى إِذْ قد يَقع فِي الْكَلَام مَا هُوَ مُكَرر مرَّتَيْنِ فَأكْثر لِمَعْنى صَحِيح فَإِذا كررت الْكَلِمَة لم يُؤمن أَن توَافق مَا يتَكَرَّر حَقِيقَة أَو يشكل

ص: 786

أمرهَا فَيحصل بذلك ارتياب وَزِيَادَة إِشْكَال فَالْأولى الِاقْتِصَار على كِتَابَة صَحَّ

وَذكر بعض أَرْبَاب النكت أَن كلمة صَحَّ قد يَنْتَظِم بهَا الْكَلَام بعْدهَا فيظن أَنَّهَا من أصل الْكتاب

وَأجِيب بِأَن هَذَا نَادِر بِالنِّسْبَةِ لما قبله على أَن الحذاق من الكتبة يكتبونها صَغِيرَة وَبَعْضهمْ يَكْتُبهَا بمداد أَحْمَر وَبَعْضهمْ لَا يتم كِتَابَة الْحَاء مِنْهَا

وَقَالَ بَعضهم الْأَحْسَن الرَّمْز لذَلِك بِشَيْء لَا يقْرَأ وَيحصل ذَلِك بطمس صَاد صَحَّ وَعدم تَعْرِيف حائها

وَاخْتَارَ ابْن خَلاد أَيْضا فِي عطفه خطّ التَّخْرِيج أَن تمد حَتَّى تلْحق بِأول اللحق فِي الْحَاشِيَة

وَهَذَا غير مرضِي لِأَن فِيهِ تسويدا للْكتاب لَا سِيمَا عِنْد كَثْرَة الإلحاقات مَعَ عدم الِاضْطِرَار لذَلِك فَإِن العطفة الْيَسِيرَة إِلَى جِهَة الْحَاشِيَة الَّتِي يكْتب فِيهَا اللحق كَافِيَة فِي رفع اللّبْس وَإِن كَانَ فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من مدها إِلَى أول اللحق زِيَادَة فِي رَفعه

قَالَ الْعِرَاقِيّ فَإِن لم يكن اللحق قبالة مَوضِع السُّقُوط بِأَن لَا يكون مَا يُقَابله خَالِيا وَكتب اللحق بِموضع آخر فَيتَعَيَّن حِينَئِذٍ جر الْخط إِلَى أول اللحق أَو يكْتب قبالته يتلوه كَذَا وَكَذَا فِي الْموضع الْفُلَانِيّ وَنَحْو ذَلِك لزوَال اللّبْس

وَقد رَأَيْت فِي خطّ غير وَاحِد مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ اتِّصَال الْخط إِذا بعد اللحق عَن مُقَابل مَوضِع النَّقْص وَهُوَ حِينَئِذٍ حسن وَالْأَصْل فِي التَّخْرِيج قَول زيد بن ثَابت فِي نزُول قَوْله تَعَالَى {غير أولي الضَّرَر} بعد نزُول {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ} كَمَا فِي سنَن أبي دَاوُد فَأَلْحَقْتهَا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ولكأني أنظر إِلَى مُلْحَقهَا عِنْد صدع فِي كتف

وَأما مَا يكْتب فِي حَاشِيَة الْكتاب من غير أصل الْكتاب فِي شرح أَو تَنْبِيه

ص: 787

على غلط أَو اخْتِلَاف رِوَايَة أَو نُسْخَة أَو نَحْو ذَلِك فَقَالَ بَعضهم إِنَّه لَا يَنْبَغِي أَن يخرج لَهُ لِئَلَّا يدْخل اللّبْس ويحسب من الأَصْل وَإنَّهُ لَا يخرج إِلَّا لما هُوَ من نفس الأَصْل لَكِن يَجْعَل على ذَلِك الْحَرْف الْمَقْصُود عَلامَة كالضبة والتصحيح لتدل عَلَيْهِ

وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن كلا من الضبة والتصحيح اصْطلحَ بِهِ لغير ذَلِك فخوف اللّبْس أَيْضا حَاصِل بل هُوَ فِيهِ أقرب

وَقَالَ بَعضهم يَنْبَغِي أَن يخرج لَهُ لَكِن على نفس الْكَلِمَة الَّتِي من أجلهَا كتبت الْحَاشِيَة لَا بَين الْكَلِمَتَيْنِ

قَالَ ابْن الصّلاح التَّخْرِيج أولى وأدل وَفِي نفس هَذَا الْمخْرج مَا يمْنَع الالتباس

ثمَّ هَذَا التَّخْرِيج يُخَالف التَّخْرِيج لما هُوَ من نفس الأَصْل فِي أَن خطّ ذَاك الخريج يَقع بَين الْكَلِمَتَيْنِ بَينهمَا سقط السَّاقِط وَخط هَذَا التَّخْرِيج يَقع على نفس الْكَلِمَة الَّتِي من أجلهَا خرج الْمخْرج فِي الْحَاشِيَة وَالله أعلم

وَقد جرت عَادَة كثير من الْكتاب أَن يشيروا إِلَى الْحَاشِيَة بِالْحَاء الْمُهْملَة مُفْردَة وَقد يمدونها وَقد يَكْتُبُونَ لفظ حَاشِيَة بِدُونِ نقط

وَإِلَى النُّسْخَة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة مُفْردَة ويلتزمون نقطها لِئَلَّا تشتبه بالحاشية وَقد يَكْتُبُونَ لفظ نُسْخَة وَالْأَكْثَر كتَابَتهَا على صُورَة غير وَاضِحَة مَعَ عدم النقط لتَكون كالرمز

وَيَنْبَغِي أَن يُلَاحظ فِي الْحَوَاشِي عدم كتَابَتهَا بَين السطور لَا سِيمَا إِن كَانَت ضيقَة وَترك شَيْء من جَوَانِب الورقة وَنَحْو ذَلِك وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي الْحَث على اقتناء الْكتب الجيدة الْخط والضبط

(خير مَا يقتني اللبيب كتاب

مُحكم النَّقْل متقن التَّقْيِيد)

(خطه عَارِف نبيل وعاناه

فصح التبييض بالتسويد)

(لم يخفه إتقان نقط وشكل

لَا وَلَا عابه لحاق الْمَزِيد)

(فَكَأَن التَّخْرِيج فِي طرتيه

طرر صففت ببيض الخدود)

ص: 788

القَوْل الثَّامِن قَول من أجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى للصحابة وَالتَّابِعِينَ فَقَط وَمنع من ذَلِك غَيرهم

قَالَ لِأَن الحَدِيث إِذا قَيده الْإِسْنَاد وَجب أَن لَا يخْتَلف لَفظه فيدخله الْكَذِب وَذَلِكَ لِأَن الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لَا سِيمَا إِن تعدد الراوون بهَا توجب رِوَايَة الحَدِيث على وُجُوه شَتَّى مُخْتَلفَة فِي اللَّفْظ وَالِاخْتِلَاف فِي اللَّفْظ كثيرا مَا يُوجب الِاخْتِلَاف فِي الْمَعْنى وَإِن كَانَ يَسِيرا بِحَيْثُ لَا يشْعر بِهِ إِلَّا قَلِيل من أهل الْفضل والنبل وَالِاخْتِلَاف فِي الْمَعْنى يدل على أَن ذَلِك الحَدِيث لم يرو كَمَا يَنْبَغِي بل وَقع خطأ فِي بعض رواياته أَو فِي جَمِيعهَا فَيكون فِيهَا مَا لم يقلهُ النَّبِي ص =

وَهَذَا الْمَحْذُور إِنَّمَا يظْهر بعد تدوين الحَدِيث وتقييده بِالْإِسْنَادِ فَإِذا منع أَتبَاع التَّابِعين فَمن بعدهمْ من الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لم يظْهر ذَلِك الْمَحْذُور هَذَا فحوى كَلَامه

هَذَا وَقد كَانَ التابعون فريقين فريق يُورد الْأَحَادِيث بألفاظها وفريق يوردها بمعانيها رُوِيَ عَن ابْن عون أَنه قَالَ كَانَ الْحسن وَإِبْرَاهِيم وَالشعْبِيّ يأْتونَ بِالْحَدِيثِ على الْمعَانِي وَكَانَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَابْن سِيرِين ورجاء بن حَيْوَة يعيدون الحَدِيث على حُرُوفه

وَرُوِيَ عَن سُفْيَان أَنه قَالَ كَانَ عَمْرو بن دِينَار يحدث الحَدِيث على الْمَعْنى وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن ميسرَة لَا يحدث إِلَّا على مَا سمع

وَهنا تمت الْأَقْوَال الثَّمَانِية الَّتِي قيلت فِي أَمر الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى

وَقد ذكر بَعضهم قولا تاسعا وَهُوَ قَول من قَالَ تجوز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى إِن كَانَ مُوجب الحَدِيث علما فَإِن كَانَ مُوجبه عملا لم تجز فِي بعض كَحَدِيث أبي دَاوُد وَغَيره مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور وتحليلها التَّسْلِيم

وَحَدِيث الصَّحِيحَيْنِ خمس من الدَّوَابّ كُلهنَّ فواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم الْغُرَاب والحدأة وَالْعَقْرَب والفأرة وَالْكَلب الْعَقُور

وَتجوز فِي بعض وَقد أشكل هَذَا القَوْل على كثير من الباحثين وَذَلِكَ لِأَن مُوجب الحَدِيث كَانَ علما يجب الِاحْتِيَاط فِيهِ كثيرا لِأَن الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى كثيرا مَا لَا تكون وافية

ص: 789

(فيناجيك شخصه من قريب

وينايك نَصه من بعيد)

(فاصحبنه تَجدهُ خير جليس

واختبره تَجدهُ أنس الفريد)

وَقَالَ بَعضهم فِي الْحَث على نسخ الْكتب النافعة

(فَوَائِد نسخ الْكتب شَتَّى كَثِيرَة

وكل على نهج السداد يُعينهُ)

(فَلَو لم يكن مِنْهَا سوى ترك غيبَة

وصحبة من يردي الْفَتى ويشينه)

(لَكَانَ جَدِيرًا باللبيب الْتِزَامه

وَإِن سئمت فِي الطرس مِنْهُ يَمِينه)

(وَمِنْهَا اكْتِسَاب الْقُوت من وَجه حلّه

وغنيته عَن ذِي نوال يمونه)

(وَمِنْهَا اكْتِسَاب الْعلم وَهُوَ أجلهَا

وَعلم الْفَتى يسمو بِهِ ويزينه)

(وَمِنْهَا بَقَاء الذّكر بعد وَفَاته

إِذا نسياه إلفه وقرينه)

(وَهَذَا إِذا مَا كَانَ فِي الْخَيْر خطه

وَإِلَّا فَفِي يَوْم الْمعَاد يخونه)

الْأَمر السَّابِع إِذا وَقع فِي الْكتاب مَا لَيْسَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَن ينفى عَنهُ ذَلِك إِمَّا بِالضَّرْبِ عَلَيْهِ والحك لَهُ أَو المحو وَالضَّرْب خير من الحك والمحو

قَالَ ابْن خَلاد قَالَ أَصْحَابنَا الحك تُهْمَة وَقَالَ غَيره كَانَ الشُّيُوخ يكْرهُونَ حُضُور السكين مجْلِس السماع حَتَّى لَا يبشر شَيْء لِأَن مَا يبشر مِنْهُ رُبمَا يَصح فِي رِوَايَة أُخْرَى وَقد يسمع الْكتاب مرّة أُخْرَى على شيخ آخر يكون مَا بشر وحك من رِوَايَة هَذَا صَحِيحا فِي رِوَايَة الآخر فَيحْتَاج إِلَى إِلْحَاقه بعد أَن بشر وحك وَهُوَ إِذا خطّ عَلَيْهِ من رِوَايَة الأول وَصَحَّ عِنْد الآخر اكْتفى بعلامة الآخر عَلَيْهِ بِصِحَّتِهِ

وَقَالَ بعض الْعلمَاء إِن تحقق كَون غَلطا سبق إِلَيْهِ الْقَلَم فالكشط أولى لِئَلَّا يتَوَهَّم بِالضَّرْبِ أَن لَهُ أصلا وَإِلَّا فَلَا على أَن الكشط فِيهِ مزِيد تَعب مَعَ إِضَاعَة الْوَقْت وَرُبمَا أفسد الورقة وَمَا تنفذ إِلَيْهِ وَكثير من الْوَرق يُفْسِدهُ الكشط

ص: 789

والكشط مَأْخُوذ من قَوْلهم كشط الْبَعِير إِذا نزع جلده وَلَا يُقَال فِيهِ سلخ وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِك فِي الشَّاة تَقول سلخ الشَّاة إِذا نزع جلدهَا

ومرادهم بالكشط هُنَا الحك والبشر والبشر مَأْخُوذ من قَوْلهم بشرت الْأَدِيم إِذا قشرت وَجهه

وَالْأَكْثَر من الِاسْتِعْمَال لفظ الحك لإشعاره بالرفق بالقرطاس وَقد وَقع الكشط فِي قَول الشَّاعِر فِي ذمّ كَاتب

(حذقك فِي الكشط دَلِيل على

أَنَّك فِي الْخط كثير الْغَلَط)

وَأما المحو فَإِنَّهُ يسود غَالِبا القرطاس وَهُوَ لَا يُمكن إِلَّا إِذا كَانَت الْكِتَابَة فِي لوح أَو رق أَو ورق صقيل جدا وَكَانَ الْمَكْتُوب فِي حَال الطراوة

وتتنوع طرق المحو فَتَارَة يكون بالإصبع وَتارَة يكون بخرقه

وَمن أغربها مَعَ أَنه أسلمها مَا رُوِيَ عَن سَحْنُون بن سعد أحد الْأَئِمَّة من فُقَهَاء الْمَالِكِيَّة أَنه كَانَ رُبمَا كتب الشَّيْء ثمَّ لعقه

وَهَذَا يُومِئ إِلَى مَا رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه كَانَ يَقُول من الْمُرُوءَة أَن يرى فِي ثوب الرجل وشفتيه مداد

وَذكر عَن أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ أَن ثِيَابه كَانَت كَأَنَّمَا أمْطرت مدادا وَكَانَ لَا يأنف من ذَلِك

وَذكر عَن عبيد الله بن سُلَيْمَان أَنه رأى على ثَوْبه أثر صفرَة فَأخذ من مداد الدواة وطلاه بِهِ ثمَّ قَالَ المداد بِنَا أحسن من الزَّعْفَرَان وَأنْشد

(إِنَّمَا الزَّعْفَرَان عطر العذارى

ومداد الدوي عطر الرِّجَال)

ويحكى عَن بعض الْفُضَلَاء أَنه كَانَ يَأْكُل طَعَاما فَوَقع مِنْهُ على ثَوْبه فَكَسَاهُ حبرًا وَقَالَ هَذَا أثر علم وَذَاكَ أثر شَره

وللأديب أبي الْحسن الفنجكردي

ص: 790

(مداد الْفَقِيه على ثَوْبه

أحب إِلَيْنَا من الغالية)

(وَمن طلب الْفِقْه ثمَّ الحَدِيث

فَإِن لَهُ همة عالية)

(وَلَو تشتري النَّاس هذي الْعُلُوم

بأرواحهم لم تكن غَالِيَة)

(رُوَاة الْأَحَادِيث فِي عصرنا

نُجُوم وَفِي الأعصر الخالية)

وَأما الضَّرْب فَلَا مَحْذُور فِيهِ وَهُوَ عَلامَة بَيِّنَة فِي إِلْغَاء الْمَضْرُوب عَلَيْهِ مَعَ السَّلامَة من التُّهْمَة لِإِمْكَان قِرَاءَته بعد الضَّرْب وَلذَلِك قَالُوا أَجود الضَّرْب أَن لَا يطمس الْمَضْرُوب عَلَيْهِ بل يخط من فَوْقه خطا جيدا بَينا يدل على إِبْطَاله وَيقْرَأ من تَحْتَهُ مَا خطّ عَلَيْهِ

وَقد اخْتلفُوا فِي الضَّرْب على خَمْسَة أَقْوَال

القَوْل الأول أَن يخط فَوق الْمَضْرُوب عَلَيْهِ خطا مختلطا بالكلمات الْمَضْرُوب عَلَيْهَا وَيُسمى هَذَا الضَّرْب عِنْد أهل الْمشرق والشق عِنْد أهل الْمغرب

وَمِثَال ذَلِك على هَذَا القَوْل

القَوْل الثَّانِي أَن يخط فَوق الْمَضْرُوب عَلَيْهِ خطا لَا يكون مختلطا بالكلمات الْمَضْرُوب عَلَيْهَا بل يكون فَوْقهَا مُنْفَصِلا عَنْهَا لكنه يعْطف طرفِي الْخط على أول الْمَضْرُوب عَلَيْهِ وَآخره بِحَيْثُ يكون كالباء المقلوبة

وَمِثَال ذَلِك على هَذَا القَوْل

القَوْل الثَّالِث أَن يكْتب فِي أول الزَّائِد لَا وَفِي آخِره إِلَى

وَقد يكْتب عوضا من لفظ لَا لفظ من أَو لفظ زَائِد وَقد يقْتَصر بَعضهم على الزَّاي مِنْهَا

قَالَ بعض الْعلمَاء وَمثل هَذَا يحسن فِيمَا صَحَّ فِي رِوَايَة وَسقط فِي رِوَايَة أُخْرَى

وَقد يُضَاف إِلَيْهِ الرَّمْز لمن أثْبته أَو لمن نَفَاهُ من الروَاة

وَقد يقْتَصر على الرَّمْز لَكِن حَيْثُ يكون الزَّائِد كلمة أَو نَحْوهَا

ص: 791

القَوْل الرَّابِع أَن يحوق على أول الْكَلَام الْمَضْرُوب عَلَيْهِ بِنصْف دَائِرَة كالهلال وَكَذَلِكَ على آخِره (وَمِثَال ذَلِك على هَذَا القَوْل)

القَوْل الْخَامِس أَن تكْتب أول الزِّيَادَة دَائِرَة صَغِيرَة وَكَذَلِكَ فِي آخرهَا وَقد سَمَّاهَا واضعها صفرا لخلو مَا أُشير إِلَيْهِ بهَا من الصِّحَّة كَمَا سَمَّاهَا الْحساب بذلك لخلو موضعهَا من الْعدَد وَمِثَال ذَلِك على هَذَا القَوْل ثمَّ إِذا أُشير إِلَى الزَّائِد بِنصْف دَائِرَة أَو بصفر فَلْيَكُن ذَلِك فِي كل جَانب فِي أصل الْكتاب فَإِن ضَاقَ الْمحل فلتجعل فِي الْأَعْلَى مِثَال ذَلِك فِي نصف الدائرة مِثَال ذَلِك فِي الصفر

وَإِذا كثرت سطور الزَّائِد فلك على هَذِه القوال الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة أَن تكَرر عَلامَة الْإِبْطَال بِأَن تضعها فِي أول كل سطر وَآخره لما فِي ذَلِك من زِيَادَة الْبَيَان وَلَك أَن لَا تكررها بِأَن تكتفي بوضعها فِي أول الزَّائِد وَآخره

وَقد اخْتلفُوا فِي الضَّرْب على الْحَرْف المكرر

فَقَالَ بَعضهم أولاهما بالإبطال الثَّانِي لِأَن الأول كتب على الصَّوَاب وَالثَّانِي كتب على الْخَطَأ وَالْخَطَأ أولى بالإبطال

وَقَالَ بَعضهم أولاهما بالإبقاء أجودهما صُورَة وأدلهما على قِرَاءَته

وَفصل بَعضهم تَفْصِيلًا حسنا فَقَالَ إِن تكَرر الْحَرْف فِي أول السطر فَيَنْبَغِي أَن يضْرب على الثَّانِي صِيَانة لأوّل السطر عَن التسويد والتشويه وَإِن تكَرر فِي آخر السطر فَيَنْبَغِي أَن يضْرب على أَولهمَا صِيَانة لآخر السطر عَن ذَلِك فَإِن أَوَائِل السطور وأواخرها أولى بالصيانة عَن ذَلِك فَإِن اتّفق أَن يكون أَحدهمَا فِي آخر السطر وَالْآخر فِي أول السطر الآخر فَيَنْبَغِي أَن يضْرب على الَّذِي يكون فِي آخر السطر فَإِن أول السطر أولى بالمراعاة

فَإِن كَانَ التكرر فِي الْمُضَاف أَو فِي الْمُضَاف إِلَيْهِ أَو فِي الصّفة أَو فِي الْمَوْصُوف أَو نَحْو ذَلِك لم يراع حِينَئِذٍ أول السطر وَآخره بل يُرَاعى الِاتِّصَال بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ وَنَحْوهمَا فِي الْخط فَلَا يفصل بِالضَّرْبِ بَينهمَا وَيضْرب على الْحَرْف المتطرف من المتكرر دون الْمُتَوَسّط

وَإِذا وَقع فِي الْكتاب تَقْدِيم وَتَأْخِير فَيَنْبَغِي أَن

ص: 792

يشار إِلَى ذَلِك فَمنهمْ من يكْتب أول الْمُتَقَدّم كِتَابَة يُؤَخر وَأول الْمُتَأَخر يقدم كل ذَلِك بِأَصْل الْكتاب إِذا اتَّسع وَإِلَّا فبالهامش وَمِنْهُم من يرمز إِلَى ذَلِك بِصُورَة م وَهَذَا حسن إِن لم يكن الْمحل قَابلا لتوهم أَن الْمِيم رمز لكتاب مُسلم

الْأَمر الثَّامِن يَنْبَغِي للطَّالِب إِذا كَانَ الْكتاب مرويا بروايتين أَو أَكثر وَوَقع فِي بَعْضهَا اخْتِلَاف وَأَرَادَ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك أَن يحْتَرز مِمَّا يُوقع فِي اللّبْس

قَالَ ابْن الصّلاح فِي الْأَمر الرَّابِع عشر من الْأُمُور المفيدة فِي كِتَابَة الحَدِيث وَضَبطه ليكن فِيمَا تخْتَلف فِيهِ الرِّوَايَات قَائِما بضبط مَا يخْتَلف فِيهِ فِي كِتَابه جيد التَّمْيِيز كَيْلا تختلط وتشتبه فَيفْسد عَلَيْهِ أمرهَا وسبيله أَن يَجْعَل أَولا متن كِتَابه على رِوَايَة خَاصَّة ثمَّ مَا كَانَت من زِيَادَة لرِوَايَة أُخْرَى ألحقها أَو من نقص أعلم عَلَيْهِ أَو من خلاف كتبه إِمَّا فِي الْحَاشِيَة وَإِمَّا فِي غَيرهَا معينا فِي كل ذَلِك من رَوَاهُ ذَاكِرًا اسْمه بِتَمَامِهِ فَإِن رمز إِلَيْهِ بِحرف أَو أَكثر فَعَلَيهِ مَا قدمنَا ذكره من أَنه يبين المُرَاد بذلك فِي أول كِتَابه أَو آخِره كَيْلا يطول عَهده بِهِ فينساه أَو يَقع كِتَابه إِلَى غَيره فَيَقَع من رموزه فِي حيرة وعمى

وَقد يدْفع إِلَى الِاقْتِصَار على الرموز عِنْد كَثْرَة الرِّوَايَات الْمُخْتَلفَة

وَاكْتفى بَعضهم فِي التَّمْيِيز بِأَن خص الرِّوَايَة الملحقة بالحمرة فعل ذَلِك أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ من المشارقة وَأَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ من المغاربة مَعَ كثير من الْمَشَايِخ وَأهل التَّقْيِيد فَإِذا كَانَ فِي الرِّوَايَة الملحقة زِيَادَة على الَّتِي فِي متن الْكتاب كتبهَا بالحمرة وَإِن كَانَ فِيهَا نقص وَالزِّيَادَة فِي الرِّوَايَة الَّتِي فِي متن الْكتاب حوق عَلَيْهَا بالحمرة ثمَّ على فَاعل ذَلِك تبين من لَهُ الرِّوَايَة المعلمة بالحمرة فِي أول الْكتاب أَو آخِره على مَا سبق وَالله أعلم

وَالَّذِي سبق هُوَ مَا ذكره فِي الْأَمر الرَّابِع حَيْثُ قَالَ لَا يَنْبَغِي أَن يصطلح مَعَ نَفسه فِي كِتَابه بِمَا لَا يفهمهُ غَيره فيوقع غَيره فِي حيرة كَفعل من يجمع فِي كِتَابه بَين

ص: 793

رِوَايَات مُخْتَلفَة ويرمز إِلَى رِوَايَة كل راو بِحرف وَاحِد من اسْمه أَو حرفين وَمَا أشبه ذَلِك فَإِن بَين فِي أول كِتَابه أَو آخِره مُرَاده بِتِلْكَ العلامات والرموز فَلَا بَأْس وَمَعَ ذَلِك الأولى أَن يتَجَنَّب الرَّمْز وَيكْتب عِنْد كل رِوَايَة اسْم راويها بِكَمَالِهِ مُخْتَصرا وَلَا يقْتَصر على الْعَلامَة بِبَعْضِهَا وَالله أعلم

تَنْبِيه لَا يسوغ لِلْكَاتِبِ أَن يكْتب الْحَوَاشِي فِي كتاب لَا يملكهُ إِلَّا بِإِذن مَالِكه

فَإِن قيل فَهَل يسوغ ذَلِك وجود عبارَة فِي الأَصْل تخَالف معتقده ويخشى إِذا لم يكْتب حَاشِيَة تَتَضَمَّن الْإِشَارَة إِلَيْهَا أَو الرَّد عَلَيْهَا أَن تضر بعض المطالعين

يُقَال لَا فَإِن لَهُ مندوحة عَن كِتَابَة الْحَاشِيَة فِي نفس الْكتاب بكتابتها فِي فرخة تُوضَع هُنَاكَ على أَنه كثيرا مَا تصدى لمثل هَذَا الْأَمر من لَيْسَ لَهُ بِأَهْل مِمَّن يظنّ أَنه لَهُ أهل حَتَّى رُبمَا كَانَ إفساده أكبر من إِصْلَاحه حَتَّى صَحَّ أَن يُقَال كم حَاشِيَة أَتَت بغاشية

وَقد وَقع فِي ذَلِك الْقَدِيم والْحَدِيث

الْأَمر التَّاسِع يَنْبَغِي لكاتب الحَدِيث تَحْقِيق الْخط وتجويده دون الْمشق وَالتَّعْلِيق

قَالَ بعض الْأَئِمَّة شَرّ الْكِتَابَة الْمشق وَشر الْقِرَاءَة الْهَذْرَمَةُ وأجود الْخط أبينه

وَقَالَ بَعضهم الْخط عَلامَة فَكلما كَانَ أبين كَانَ أحسن

وَقَالَ بَعضهم وزن الْخط وزن الْقِرَاءَة وأجود الْقِرَاءَة أبينها وأجود الْخط أبينه

والمشق سرعَة الْكِتَابَة قَالَه الْجَوْهَرِي

وَقَالَ بَعضهم الْمشق خفَّة الْيَد وإرسالها مَعَ بعثرة الْحُرُوف وَعدم إِقَامَة الْأَسْنَان

وَالتَّعْلِيق خلط الْحُرُوف الَّتِي يَنْبَغِي تفرقها وإذهاب أَسْنَان مَا يَنْبَغِي إِقَامَة أَسْنَانه وطمس مَا يَنْبَغِي إِظْهَار بياضه فيجتمعان فِي عدم إِقَامَة الْأَسْنَان وينفرد التَّعْلِيق بخلط الْحُرُوف وَضمّهَا والمشق ببعثرتها وإيضاحها بِدُونِ القانون المألوف وَهُوَ مُفسد لخط الْمُبْتَدِي وَدَلِيل على تهاون غَيره

وَأهل الْعلم وَإِن لم يستقبحوا الْمشق وَالتَّعْلِيق وإغفال النقط والشكل فِي

ص: 794

المكاتبات إِذا كَانَ الْمَكْتُوب إِلَيْهِ مِمَّن لَا يستعجم عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يعدون ذَلِك فِي كتب الْعلم مستقبحا

وَتَحْقِيق الْخط هُوَ أَن تميز كل حرف بصورته المميزة لَهُ

وتجويد الْخط تحسينه

وَالْحسن فِي أَي شي كَانَ مِمَّا تميل إِلَيْهِ النَّفس طبعا وَكَثِيرًا مَا دَعَا حسن الْخط إِلَى المطالعة فِي كتاب لَا يمِيل الْمطَالع إِلَيْهِ

وَسَأَلَ الصُّوفِي بعض الْكتاب عَن الْخط مَتى يسْتَحق أَن يُوصف بالجودة فَقَالَ إِذا اعتدلت أقسامه وطالت أَلفه ولامه واستقامت سطوره وضاهى صُعُوده حدوره وتفتحت عيونه وَلم تشتبه راؤه ونونه وأشرق قرطاسه وأظلمت أنقاسه وأسرع إِلَى الْعُيُون تصَوره وَإِلَى الْقُلُوب تنوره وقدرت فصوله واندمجت أُصُوله وتناسب دقيقه وجليله وتساوت أطنابه واستدارت أهدابه وصغرت نَوَاجِذه وانفتحت محاجره وَخرج عَن نمط الوراقين وَبعد عَن تصنع المحررين وخيل إِلَيْك أَنه يَتَحَرَّك وَهُوَ سَاكن

وَلَا تحصل جودة الْخط إِلَّا بِإِعْطَاء كل حرف مَا يسْتَحقّهُ من التقوس والانحناء والانبطاح وَغير ذَلِك من الطول أَو الْقصر والرقة أَو الغلظة ومراعاة الْمُنَاسبَة بَين الْحُرُوف بَعْضهَا مَعَ بعض وَبَين الْكَلِمَات كَذَلِك إِلَى غير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أَهله

وَمن تَتِمَّة ذَلِك مُرَاعَاة الفواصل وَحسن التدبر فِي فصل الْكَلِمَات

قَالَ عُلَمَاء الْأَثر يكره فِي مثل عبد الله بن فلَان أَن يكْتب عبد فِي آخر

ص: 795

السطر وَالْبَاقِي فِي أول السطر الآخر وَمثل ذَلِك مَا أشبهه مِمَّا يستقبح صُورَة وَإِن كَانَ غير مَقْصُود نَحْو قَاتل فلَان فِي النَّار

فَلَا يكْتب قَاتل فِي آخر سطر وَمَا بعده فِي أول السطر الآخر

وتشتد الْكَرَاهَة إِن وَقع عبد وَنَحْوه فِي آخر الصَّحِيفَة الْيُسْرَى وَمَا بعده فِي أول الصَّحِيفَة الْيُمْنَى الَّتِي تَلِيهَا فَإِن النَّاظر فِيهَا رُبمَا يَبْتَدِئ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا كَذَلِك من غير تَأمل وَإِذا انتبه لذَلِك احْتَاجَ إِلَى قلب الورقة ليرى مَا كتب فِي الصَّحِيفَة الْيُسْرَى السَّابِقَة

وَجعل ذَلِك ابْن دَقِيق الْعِيد من بَاب الْأَدَب لَا من بَاب الْوُجُوب

وَحسن الْخط تَتَفَاوَت درجاته تَفَاوتا شَدِيدا وَذَلِكَ على حس تفَاوت رِعَايَة النِّسْبَة الْمَطْلُوبَة فِيهِ وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك بَعضهم فِي أثْنَاء الْبَحْث عَن فن تركيب الْحُرُوف حَيْثُ قَالَ كَمَا أَن للحروف حسنا مَخْصُوصًا فِي حَال إفرادها كَذَلِك لَهَا حسن مَخْصُوص فِي حَال تركيبها من تناسب الشكل وَنَحْوه

ومبادئ ذَلِك أُمُور استحسانية ترجع إِلَى رِعَايَة النِّسْبَة الطبيعية فِي الأشكال وَله استمداد من الهندسة وَلذَلِك قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْخط هندسة روحانية وَإِن ظَهرت بِآلَة جسمانية

وَالنَّاس كثيرا مَا يختلون فِي تَرْجِيح بعض الخطوط على بعض فِي الْحسن وَهُوَ غير مستغرب فَإِنَّهُ نَظِير اخْتلَافهمْ فِي تَرْجِيح بعض النَّاس على بعض فِي ذَلِك

وَالِاسْتِحْسَان كثيرا مَا يخْتَلف باخْتلَاف الإلف وَالْعَادَة والمزاج إِلَّا أَن الْمرجع فِي ذَلِك إِلَى أَرْبَاب الْفَنّ مِمَّن عرف بسلامة الطَّبْع ودقة النّظر وفرط البراعة فِيهِ

وَاعْلَم أَن الْخط الْعَرَبِيّ يُمكن فِيهِ من السرعة مَا لَا يُمكن فِي غَيره وَيحْتَمل من تَكْبِير الْحُرُوف وتصغيرها مَا لَا يحْتَمل غَيره وَيقبل من النَّوْع مَا لَا يقبله غَيره وَلذَلِك كثرت أَنْوَاع الْخط الْعَرَبِيّ وَالْمَشْهُور مِنْهَا عِنْد الْمُتَأَخِّرين سِتَّة أَنْوَاع وَهِي الثُّلُث والنسخ وَالتَّعْلِيق وَالريحَان والمحقق والرقاع

وَالْمرَاد بِالتَّعْلِيقِ هُنَا خطّ وَضعه بعض الْفرس ثمَّ عنوا بِهِ عناية شَدِيدَة حَتَّى

ص: 796

صَار يُقَال لَهُ الْخط الْفَارِسِي وَيُقَال لَهُ أَيْضا الْخط الْمُعَلق وَهُوَ خطّ تعصب الإجادة فِيهِ وَهُوَ غير قديم الْعَهْد فَلَا يَنْبَغِي أَن يتَوَهَّم من قَول الْمُتَقَدِّمين بِكَرَاهَة الْخط الْمُعَلق أَنهم يعنون هَذَا بل مُرَادهم بِهِ الْخط الَّذِي أذهبت أَسْنَانه وخلط فِيهِ بَين الْحُرُوف الَّتِي يَنْبَغِي تفرقها وطمس فِيهِ بَيَاض مَا يَنْبَغِي إِظْهَار بياضه

وَيُشبه هَذَا الْخط من وَجه الْخط المسلسل وَهُوَ خطّ مُتَّصِل الْحُرُوف لَيْسَ فِي حُرُوفه شَيْء مُنْفَصِل

وَأما المتقدمون فقد اشْتهر عِنْدهم أَنْوَاع كَثِيرَة من أَنْوَاع الْخط الْعَرَبِيّ وَقد تصدى لذكرها أَبُو الْفرج مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْبَغْدَادِيّ الْمَعْرُوف بِابْن النديم فِي كتاب الفهرست وَقد أَحْبَبْت إِيرَاد شَيْء مِمَّا ذكره على طَرِيق التَّلْخِيص قَالَ فِي الْمقَالة الأولى فِي وصف لُغَات الْأُمَم من الْعَرَب والعجم ونعوت أقلامها وأنواع خطوطها وأشكال كتاباتها

أول الخطوط الْعَرَبيَّة الْخط الْمَكِّيّ وَبعده الْمدنِي ثمَّ الْبَصْرِيّ ثمَّ الْكُوفِي فَأَما الْمَكِّيّ وَالْمَدَنِي فَفِي ألفاته تعويج إِلَى يمنة الْيَد وَأَعْلَى الْأَصَابِع وَفِي شكله إضجاع يسير

ثمَّ استخرج الأقلام الْأَرْبَعَة واشتق بَعْضهَا من بعض قُطْبَة وَكَانَ أكتب النَّاس على الأَرْض بِالْعَرَبِيَّةِ وَكَانَ فِي أَيَّام بني أُميَّة

ثمَّ جَاءَ الضَّحَّاك بعده فَزَاد على قُطْبَة وَكَانَ أكتب الْخلق بعده وَكَانَ فِي أول خلَافَة بني الْعَبَّاس

ثمَّ ذكر من جَاءَ بعدهمَا وأتبع ذَلِك بِذكر أَرْبَعَة وَعشْرين قَلما وَذكر أَن مخرجها كلهَا من أَرْبَعَة أَقْلَام قلم الْجَلِيل وقلم الطومار الْكَبِير وقلم النّصْف الثقيل وقلم الثُّلُث الْكَبِير الثقيل وَأَن مخرج هَذِه الأقلام الْأَرْبَعَة من الْقَلَم الْجَلِيل وَهُوَ أَبُو الأقلام

نقل ذَلِك من خطّ أبي الْعَبَّاس بن ثوابة

ثمَّ نقل عَن غَيره أَنه قَالَ وَلم يزل النَّاس يَكْتُبُونَ على مِثَال الْخط الْقَدِيم الَّذِي ذَكرْنَاهُ إِلَى أول الدولة العباسية فحين ظهر الهاشميون اخْتصّت الْمَصَاحِف بِهَذِهِ

ص: 797

الخطوط وَحدث خطّ يُسمى الْعِرَاقِيّ وَهُوَ الْمُحَقق الَّذِي يُسمى الوراقي وَلم يزل يزِيد وَيحسن حَتَّى انْتهى الْأَمر إِلَى الْمَأْمُون فَأخذ أَصْحَابه وَكتابه بتجويد خطوطهم فتفاخر النَّاس فِي ذَلِك

وَظهر رجل يعرف بالأحوال الْمُحَرر من صنائع البرامكة عَارِف بمعاني الْخط وأشكاله فَتكلم على رسومه وقوانينه وَجعله أنواعا وَكَانَ هَذَا الرجل يحرر الْكتب النافذة من السُّلْطَان إِلَى مُلُوك الْأَطْرَاف فِي الطوامير وَكَانَ فِي نِهَايَة الحرفة والوسخ وَكَانَ مَعَ ذَلِك سَمحا لَا يَلِيق على شَيْء فَلَمَّا نَشأ ذُو الرياستين الْفضل بن سهل اخترع قَلما وَهُوَ أحسن الأقلام وَيعرف بالرياسي وَيتَفَرَّع إِلَى عدَّة أَقْلَام

وَفِي أَيَّام المقتدر ظهر إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم التَّمِيمِي ويكنى بِأبي الْحُسَيْن وَكَانَ يعلم المقتدر وَأَوْلَاده وَله رِسَالَة فِي الْخط سَمَّاهَا تحفة الوامق وَلم ير فِي زَمَانه أحسن مِنْهُ خطا وَلَا أعرف بِالْكِتَابَةِ وَأَخُوهُ أَبُو الْحسن نَظِيره ويسلك طَرِيقَته وَابْنه إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق وَابْنه الْقَاسِم بن إِسْمَاعِيل وَمن وَلَده أَبُو الْعَبَّاس عبد الله بن أبي إِسْحَاق وَهَؤُلَاء كَانُوا فِي نِهَايَة حسن الْخط والمعرفة بِالْكِتَابَةِ

وَمِمَّنْ كتب بالمداد من الوزراء الْكتاب أَبُو أَحْمد الْعَبَّاس بن الْحسن وَأَبُو الْحسن عَليّ بن عِيسَى وَأَبُو عَليّ مُحَمَّد بن عَليّ بن مقلة ولد سنة 272 وَتُوفِّي سنة 328

ص: 798

وَمِمَّنْ كتب بالحبر أَخُوهُ أَبُو عبد الله الْحسن بن عَليّ ولد سنة 278 وَتُوفِّي سنة 338

وَهَذَانِ رجلَانِ لم ير مثلهمَا فِي الْمَاضِي إِلَى وقتنا هَذَا وعَلى خطّ أَبِيهِمَا مقلة كتبا وَاسم مقلة عَليّ بن الْحسن بن عبد الله ومقلة لقب

وَقد كتب فِي زمانهما جمَاعَة وبعدهما من ألهما وأولادهما فَلم يقاربوهما وَإِنَّمَا ينْدر من الْوَاحِد مِنْهُم الْحَرْف بعد الْحَرْف والكلمة بعد الْكَلِمَة وَإِنَّمَا الْكَمَال كَانَ لأبي عَليّ وَأبي عبد الله

وَقد رَأَيْت مُصحفا بِخَط مقلة

قَالَ بعض الْكتاب يظنّ كثير من النَّاس أَن الْوَزير أَبَا عَليّ هُوَ أول من ابتدع هَذَا الْخط الْمَعْرُوف وَلَيْسَ كَذَلِك فقد وجد من الْكتب فِيمَا قبل المئتين مَا لَيْسَ على صُورَة الْكُوفِي بل يبعد عَنهُ إِلَى بعض هَذِه الأوضاع المتداولة الْآن وَإِن كَانَ هُوَ إِلَى الْكُوفِي أقرب مِنْهَا وأميل لقُرْبه من أَصله الْمَنْقُول عَنهُ

نعم إِن ابْن مقلة قد زَاد فِي التأنق فِي هندسة الْحُرُوف وَفِي إجادة تحريرها وَمِنْه انْتَشَر الْخط

ثمَّ جَاءَ بعده عَليّ بن هِلَال الْمَعْرُوف بِابْن البواب فَزَاد فِي التأنق

ص: 799

فازداد الْخط بهجة وطلاوة ولشهرة خطه بالْحسنِ الباهر

قَالَ أَبُو الْعَلَاء المعري

(ولاح هِلَال مثل نون أجادها

يجاري النضار الْكَاتِب بن هِلَال)

وَقد اخترع كثيرا من الأقلام وَكَانَت وَفَاته سنة 413 ورثاه بعض الشُّعَرَاء فَقَالَ

(استشعر الْكتاب فقدك سالفا

وقضت بِصِحَّة ذَلِك الْأَيَّام)

(فلذاك سودت الدوي وجوهها

أسفا عَلَيْك وَشقت الأقلام)

ثمَّ جَاءَ بعدهمَا كثير مِمَّن اتبعهما بِإِحْسَان وهم مذكورون فِي طَبَقَات الخطاطين

وَقد تعرض بعض الْمُتَأَخِّرين من الْكتاب لذكر الأقلام على حسب مَا وقف عَلَيْهِ فَقَالَ اعْلَم أَن أصل الأقلام اثْنَان ومنهما تستنبط بَقِيَّة الأقلام

الأول الْمُحَقق وَهُوَ أصل بِذَاتِهِ وَيُقَال إِنَّه أول قلم وضع وَالريحَان مستنبط مِنْهُ ويكتبان بالقلم المحرف وَهُوَ مَا كَانَ ذَا سنّ مُرْتَفعَة من الْجِهَة الْيُمْنَى ارتفاعا كثيرا إِذا كَانَ مكبوبا وَذَلِكَ لِأَن الفركات وَهِي رقة الزوايا تظهر بِهِ أَكثر ويرقق المنتصبات كالألف وَرَأس اللَّام كَمَا أَن المدور يثخنها

والمدور هُوَ مَا اسْتَوَى سناه

وخصا بِأَن لَا يطمس فيهمَا عين وَلَا فَاء وَلَا قَاف وَلَا مِيم وَلَا وَاو وَأَن يَكُونَا منيرين

وَالْفرق بَينهمَا أالريحان بقلمه مفتح الْأَعْين والمحقق بِغَيْرِهِ

وَقَالَ ابْن البواب نِسْبَة الريحان إِلَى الْمُحَقق كنسبة الْحَوَاشِي إِلَى النّسخ

والنسخ مستنبط من الريحان وَالْفرق بَينهمَا أَن النّسخ إعرابه أقل من الريحان وَفِيه تَعْلِيق وطمس فَقرب من الرّقاع وَيكْتب النّسخ بالقلم المدور وَكَذَلِكَ التواقيع الصغار والمراسلات

وَالثَّانِي الثُّلُث هُوَ أصل بِذَاتِهِ وقلم التوقيع مستنبط مِنْهُ والرقاع مستنبط من التوقيع فحد التوقيع أَن لَا يحْتَمل الْإِعْرَاب وَإِلَّا فَهُوَ ثلث خَفِيف وَلعدم

ص: 800

استدعائه الْإِعْرَاب قصرت أَلفه فَإِن قيل لم وفرت شحمته قيل ليزِيد مَعَ تدويره فِي تثخين منتصباته وإخفاء فركاته

والمؤنق وَهُوَ قلم الْأَشْعَار مستنبط من الْمُحَقق وَالثلث على رَأْي جمَاعَة فلك إِذا أَن تكتبه بقطة قلم الْمُحَقق وَإِن شِئْت بقطة قلم الثُّلُث لتركبه مِنْهُمَا وَالثلث يكْتب بالقلم الَّذِي يكون بَين التحريف والتدوير وَهُوَ مَا كَانَ ذَا سنّ مُرْتَفعَة من الْجِهَة الْيُمْنَى ارتفاعا يَسِيرا إِذا كَانَ مكبوبا وَيكْتب بِهَذَا الْقَلَم أَيْضا التواقيع الشبيهة بِالثُّلثِ

وَقَالَ ابْن البواب هُوَ أصل بِذَاتِهِ وَأنكر على من جعله مركبا مِنْهُمَا فَقَالَ المؤنق وَهُوَ قلم الْأَشْعَار لَيْسَ مركبا من الْمُحَقق وَالثلث كَمَا يخيل لبَعض المبتدئين وَإِنَّمَا وَقع الِاشْتِبَاه لمشاكلة بعض حُرُوفه حُرُوف الْمُحَقق وَبَعضهَا حُرُوف الثُّلُث لَكِن بَينهمَا مباينة يُدْرِكهَا حذاق هَذِه الصِّنَاعَة

والمحقق من أحسن الخطوط وأصعبها على الْكتاب وَقل من يقدر على كِتَابَته بِحَيْثُ لَا يمزج شَيْئا من حُرُوفه بحروف المؤنق

وَالثلث مِمَّا تقَوِّي المداومة عَلَيْهِ الْيَد وتعينها على بَقِيَّة الأقلام

وَمِمَّا يبين الْفرق أَن الرَّاء وَالنُّون وَالْوَاو وَالْيَاء الْمُفْردَات إِذا كَانَت فِي المؤنق لم تخل عَن قصر وعماقة والمحقق بِالْعَكْسِ فِي هَذِه الْحُرُوف الْأَرْبَعَة وَإِذا كَانَت فِي الثُّلُث كَانَت أعمق وأقصر فَتبين بِمَا ذكر أَن المؤنق لَيْسَ مركبا من الْمُحَقق وَالثلث فَمن قَامَ فِي هَذِه الثَّلَاثَة على الصِّرَاط وجانب طرفِي التَّفْرِيط والإفراط فَهُوَ الْكَامِل فِي علم الْكِتَابَة الْمشَار إِلَيْهِ بالإصابة

وَاعْلَم أَن لكل قلم من السَّبْعَة شَيْئا يخْتَص بِهِ

فالمحقق وَالريحَان بالمصاحف والأدعية والنسخ بالتفسير والْحَدِيث وَنَحْوهمَا وَالثلث بالتعليم والتوقيع بالتواقيع الْكِبَار الَّتِي لِلْأُمَرَاءِ والقضاة والأكابر والرقاع بالتواقيع الصغار والمراسلات والمؤنق بِكِتَابَة الشّعْر

ولنرجع إِلَى ذكر مَا يكره فِي الْخط فَنَقُول قد عرفت أَنهم يكْرهُونَ فِيهِ التَّعْلِيق والمشق وكما يكْرهُونَ فِيهِ ذَلِك يكْرهُونَ فِيهِ التدقيق لِأَن الْخط الدَّقِيق لَا ينْتَفع بِهِ

ص: 801

من فِي نظره ضعف وَرُبمَا ضعف نظر كَاتبه بعد ذَلِك فَلَا ينْتَفع بِهِ قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل لِابْنِ عَمه حَنْبَل بن إِسْحَاق وَقد رَآهُ يكْتب خطا دَقِيقًا لَا تفعل فَإِنَّهُ يخونك أحْوج مَا تكون إِلَيْهِ

وَقَالَ أَبُو حكيمة كُنَّا نكتب الْمَصَاحِف بِالْكُوفَةِ فيمر بِنَا عَليّ بن أبي طَالب فَيقوم علينا فَيَقُول اجل قلمك قَالَ فقططت مِنْهُ ثمَّ كتبت فَقَالَ هَكَذَا نوروا مَا نور الله عز وجل

وَكَانَ بعض الْمَشَايِخ إِذا رأى خطا دَقِيقًا قَالَ هَذَا خطّ لَا يُوقن بالخلف من الله

يُرِيد أَنه لَو يعلم أَن مَا عِنْده من الْوَرق لَو توسع فِيهِ لأتاه الْخلف من الله لم يحرص عَلَيْهِ ذَلِك الْحِرْص فَكَأَن تَدْقِيقه الْخط لعدم إيقانه بالخلف من الله تَعَالَى

وَقَالَ بعض الْعلمَاء إِن الَّذِي يكْتب الْخط الدَّقِيق رُبمَا يكون قصير الأمل لَا يؤمل أَن يعِيش طَويلا

وَقد يُقَال إِنَّه قد يكون طَوِيل الأمل غير أَنه لَا يخْطر بِبَالِهِ ضعف الْبَصَر فِي الْكبر

وَقد كَانَ أنَاس مولعين بتدقيق الْخط حَتَّى بعد تقدمهم فِي السن مِنْهُم الْحَافِظ شمس الدّين ابْن الْجَزرِي

وَمِنْهُم من الْمُتَقَدِّمين أَبُو عبد الله الصُّورِي فَإِنَّهُ كتب صَحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم فِي مُجَلد لطيف وَبيع بِعشْرين دِينَارا

ص: 802

وَذكر بَعضهم أَن فِي تدقيق الْخط رياضة لِلْبَصَرِ كَمَا يراض كل عُضْو بِمَا يَخُصُّهُ وَأَن من لم يفعل ذَلِك وأدمن على سواهُ رُبمَا تصعب عَلَيْهِ معاناته فِيمَا بعد إِذا دَعَاهُ إِلَى ذَلِك دَاع فَيكون كمن ترك الرياضة بِالْمَشْيِ فَإِنَّهُ يحصل لَهُ مشقة فِيهِ فِيمَا بعد بِخِلَاف من اعتاده أَحْيَانًا

وَهَذِه الْكَرَاهَة إِنَّمَا تكون فِيمَا إِذا كَانَ ذَلِك بِغَيْر عذر فَإِن كَانَ ثمَّ عذر كَأَن لَا يكون فِي الْوَرق سَعَة أَو يكون رحالا يُرِيد حمل كتبه مَعَه لتَكون خَفِيفَة الْمحمل لم يكره ذَلِك قَالَ مُحَمَّد بن الْمسيب الأرغياني كنت أَمْشِي فِي مصر وَفِي كمي مئة جُزْء فِي كل جُزْء ألف حَدِيث

وَقيل لأبي بكر عبد الله الْفَارِسِي وَكَانَ يكْتب خطا دَقِيقًا لم تفعل هَذَا فَقَالَ لقلَّة الْوَرق وَالْوَرق وخفة الْحمل على الْعُنُق

ص: 805

الْأَمر الْعَاشِر كَمَا وَقع التَّصْحِيف فِي غير الحَدِيث وَقع التَّصْحِيف فِي الحَدِيث وَقد عرفت أَن التَّصْحِيف الْمُتَعَلّق بِالْحَدِيثِ مِنْهُ مَا يتَعَلَّق بِالْمَتْنِ وَمِنْه مَا يتَعَلَّق بِالْإِسْنَادِ

وَقد ألف كثير من الْعلمَاء الْأَعْلَام كتبا فِي ذَلِك فَمنهمْ من تعرض لبَيَان التَّصْحِيف مُطلقًا

وَمِنْهُم من اقْتصر على بَيَان التَّصْحِيف الَّذِي وَقع فِي غير الحَدِيث من كتب الْأَدَب وَنَحْوهَا

وَمِنْهُم من اقْتصر على بَيَان التَّصْحِيف الَّذِي وَقع فِي كتب الحَدِيث فَقَط

وَلَيْسَ مُرَاد من ألف فِي ذَلِك الطعْن فِي المصحفين والوضع من قدرهم فَإِن فيهم من وَقع ذَلِك مِنْهُ نَادرا وَهُوَ من أهل التثبت لَا سِيمَا إِن كَانَ فِي مَوضِع تعسر فِيهِ السَّلامَة من الْخَطَأ وَلذَا قَالَ بعض الْحفاظ إِن كثيرا من التَّصْحِيف الْمَنْقُول عَن الأكابر الجلة لَهُم فِيهِ أعذار لم ينقلها ناقلوه وَمن يعرى عَن الْخَطَأ والنبيل من عدت غلطاته بل مُرَادهم بَيَان الصَّوَاب والتنبيه على مَا يخْشَى أَن يزل فِيهِ من لم ينتبه لَهُ من الطلاب

والتصحيف قِسْمَانِ تَصْحِيف بصر وَهُوَ الْأَكْثَر وَذَلِكَ كتصحيف بشر ببسر وتصحيف سمع كتصحيف عَاصِم الْأَحول بواصل الأحدب

قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَدِيث لعاصم الْأَحول رَوَاهُ بَعضهم فَقَالَ عَن وَاصل الأحدب هَذَا من تَصْحِيف السّمع لَا من تَصْحِيف الْبَصَر يُرِيد أَن ذَلِك مِمَّا لَا يشْتَبه من حَيْثُ الْكِتَابَة وَإِنَّمَا أَخطَأ فِيهِ سمع من رَوَاهُ

والتصحيف ينشأ غَالِبا من الْأَخْذ من الصُّحُف من غير تدريب الأساتذة حَتَّى قيل إِنَّه مَأْخُوذ مِنْهَا فَإِذا قيل صحف كَذَا فَكَأَنَّهُ قيل أَخذه من الصَّحِيفَة وَيُقَال لَهُ الصحفي

قَالَ بعض اللغويين الصَّحِيفَة قِطْعَة من جلد أَو قرطاس كتب فِيهِ وَإِذا نسب إِلَيْهَا قيل رجل صحفي بِفتْحَتَيْنِ يُرِيدُونَ أَنه يَأْخُذ الْعلم مِنْهَا دون الْمَشَايِخ

ص: 806

والتصحيف تَغْيِير اللَّفْظ حَتَّى يتَغَيَّر الْمَعْنى المُرَاد من الْموضع يُقَال صحفه فتصحف أَي غَيره فَتغير حَتَّى الْتبس

وَنقل عَن الْحَافِظ الْمزي وَكَانَ من أبعد النَّاس عَن التَّصْحِيف وَمن أحْسنهم أَدَاء للإسناد والمتن أَنه كَانَ يَقُول إِذا أغرب عَلَيْهِ أحد بِرِوَايَة مِمَّا يذكرهُ بعض شرَّاح الحَدِيث وَكَانَ ذَلِك على خلاف الْمَشْهُور عِنْده هَذَا من التَّصْحِيف الَّذِي لم يقف صَاحبه إِلَّا على مُجَرّد الصُّحُف وَلم يَأْخُذ إِلَّا مِنْهَا

وَقد ذكر بعض من تعرض لبَيَان علل الحَدِيث الَّتِي تعرض لَهُ فتحيل مَعْنَاهُ أَن من جملَة ذَلِك نقل الحَدِيث من الصُّحُف دون السماع من أئمته وَأَن كثيرا من النَّاس يعول على إجَازَة الشَّيْخ لَهُ دون لِقَائِه والتلقي مِنْهُ ثمَّ يَأْخُذ بعد ذَلِك علمه من الصُّحُف والكتب الَّتِي لَا يعلم صِحَّتهَا من سقمها وَرُبمَا كَانَت مُخَالفَة لرِوَايَة شَيْخه فيصحف الْحُرُوف ويبدل الْأَلْفَاظ وينسب جَمِيع ذَلِك إِلَى شَيْخه وَهُوَ لَهُ ظَالِم

وَمن ثمَّ وَجب على النقاد المليين بِمَعْرِِفَة الصَّحِيح من السقيم إِذا ورد عَلَيْهِم حَدِيث يُخَالف الْمَشْهُور لَا سِيمَا إِن كَانَ مِمَّا ينبو عَنهُ السّمع أَن ينْظرُوا أَولا فِي سَنَده فَإِن وجدوا فِي رُوَاته من لَا يوثق بِهِ لم يعولوا عَلَيْهِ وَإِن لم يَجدوا ذَلِك رجعُوا إِلَى التَّأْوِيل فَإِن أمكن تَأْوِيله بِغَيْر تعسف قبلوه وَلم ينكروه وَإِلَّا ردُّوهُ وحملوا مَا وَقع فِيهِ على وهم عرض لبَعض الروَاة

والتحريف الْعُدُول بالشَّيْء من جِهَته

وحرف الْكَلَام تحريفا عدل بِهِ عَن جِهَته وَهُوَ قد يكون بِالزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْص مِنْهُ وَقد يكون بتبديل بعض كَلِمَاته وَقد يكون بِحمْلِهِ على غير المُرَاد مِنْهُ

فالتحريف أَعم من التَّصْحِيف

وَخص الأدباء التَّصْحِيف بتبديل الْكَلِمَة بِكَلِمَة أُخْرَى تشابهها فِي الْخط وتخالفها فِي النقط وَذَلِكَ كتبديل العذل بِالْعَدْلِ والغدر بالعذر وَالْعَيْب بالعتب

والتحريف بتبديل الْكَلِمَة بِكَلِمَة أُخْرَى تشابهها فِي الْخط والنقط مَعًا وتخالفها فِي الحركات كتبديل الْخلق بالخلق والفلك بالفلك والقدم بالقدم

ص: 807

وَقد كَانَ الْخط الْعَرَبِيّ فِي أول الْأَمر خَالِيا من النقط والشكل فَكَانَ لَا يُؤمن فِيهِ التَّصْحِيف والتحريف على كل قَارِئ ثمَّ وضع بعد ذَلِك النقط والشكل

أما النقط فللتمييز بَين بعض الْحُرُوف الْمُشْتَركَة فِي صُورَة وَاحِدَة فأمن بذلك من التَّصْحِيف

وَأما الشكل فلبيان الحركات الَّتِي للحروف فأمن بذلك من التحريف فَصَارَ الْخط الْعَرَبِيّ مَعَ حسن الصُّورَة وافيا بالغرض الْمَطْلُوب من الْخط

وَإِنَّمَا اخْتَارُوا جعل الشكل مُسْتقِلّا لما أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي بعض رسائلنا فِي الْخط حَيْثُ قُلْنَا قد اخْتلفت مناهج أَرْبَاب الْكِتَابَة فِي أَمر الحركات فَمنهمْ من لم يتَّخذ لَهَا علائم فِي الْخط كالسامرة

وَمِنْهُم من اتخذ لَهَا علائم

وَهَؤُلَاء أَقسَام مِنْهُم من اتخذ لَهَا علائم مُتَّصِلَة بالحروف حَتَّى تَتَغَيَّر صُورَة الْحَرْف بِتَغَيُّر حركته كَأَهل الْحَبَشَة فَإِن لكل حرف عِنْدهم صورا شَتَّى تخْتَلف باخْتلَاف حركته وَمِنْهُم من اتخذ لَهَا علائم لَا تَتَغَيَّر صُورَة الْحَرْف بتغيرها

وَهَؤُلَاء قِسْمَانِ قسم اخْتَارُوا أَن تكون علائم الحركات فِي أثْنَاء الْكَلِمَة فرسموا حَرَكَة كل حرف متحرك بعده فِي أثْنَاء السطر كاليونانيين واللاتينيين

وَكَأن هَؤُلَاءِ جعلُوا الْحَرَكَة جزأ من الْكَلِمَة فِي الْكِتَابَة وَبِذَلِك سهلت الْقِرَاءَة وصعبت الْكِتَابَة وَذَلِكَ أَن الكابت بهَا يَغْدُو كَأَنَّهُ يكْتب الْكَلِمَة مرَّتَيْنِ

وَقسم اخْتَارُوا أَن تجْعَل علائم الحركات مُسْتَقلَّة خَارِجَة عَن السطر فتوضع عَلامَة الْحَرَكَة فَوق الْحَرْف المحرك بهَا أَو تَحْتَهُ كالعرب والعبرانيين والسريانيين

وَهَؤُلَاء قد جعلُوا زِمَام الحركات فِي أَيْديهم وَبِذَلِك يَتَيَسَّر لَهُم أَن يجروا على مُقْتَضى الْحَال من الشكل عِنْد الْإِشْكَال وَتَركه عِنْد عدم الْإِشْكَال وَتَركه أَو شدَّة الاستعجال

وَقد بلغ الْخط الْعَرَبِيّ من الْكَمَال مَا لَا يخفى على من نظر فِي الْكتب الَّتِي غفل عَنْهَا الزَّمَان فَلم يصبهَا بِآفَة فَبَقيت إِلَى هَذَا الْعَهْد فَإِن كثيرا مِنْهَا كتب بِخَط يروق الطّرف مَعَ حسن الضَّبْط وَوضع علائم الْوَقْف بِحَيْثُ يقْرَأ فِيهَا كل قَارِئ بِدُونِ أدنى توقف

ص: 808

وَقد توهم بعض أهل الْأَدَب من أهل الأندلس أَن فِي الْخط الْعَرَبِيّ من الْأَشْيَاء مَا لَا يُوجد فِي غَيره من الخطوط متلقفا ذَلِك من أنَاس لم يقفوا على حَقِيقَة الْأَمر ثمَّ ظهر بعد أعصر أنَاس من غير أهل الْأَدَب فزعموا ذَلِك وَقد شعروا بِشَيْء يُقَال فِي الْخط الْعَرَبِيّ فبادروا للاعتراض عَلَيْهِ والإزراء بِهِ وظنوا أَن ذَلِك يشْعر بنباهتهم ويقربهم عِنْد الْأُمَم الْأُخْرَى وهم فِي الْأَكْثَر لَا يحسنون خطوطهم

وبينما هم ينتظرون الشُّكْر وَحسن الذّكر عِنْدهم إِذا بِكَثِير من أَرْبَاب تِلْكَ الخطوط والمهيمنين عَلَيْهَا قد ردوا عَلَيْهِم وسددوا سِهَام اللوم إِلَيْهِم وَقَالُوا لَهُم قفوا مَكَانكُمْ فَمَا لكم ولأمر لم تخبروه وأبانوا أَن شكايتهم لَيست من نفس الْخط الْعَرَبِيّ كَمَا فعل أُولَئِكَ الأغمار بل من بعض أَنْوَاع السقيمة الشَّدِيدَة الِاشْتِبَاه الَّتِي ألفها كثير من النَّاس وحثوا على الاعتناء بالخط الْمُحَقق والتزام الشكل وَلَو يما يشكل فَقَط وَوضع العلائم الدَّالَّة على الْوَقْف وَنَحْوه

وَلَا يخفى أَنه يُوجد فِي بعض أَنْوَاع الْخط الْعَرَبِيّ مَا تعسر قِرَاءَته حَتَّى على كثير من الحذاق كالخط المسلسل وَهُوَ الَّذِي تتصل حُرُوفه وَلَا ينْفَصل مِنْهَا شَيْء وَكَأن وَاضعه قصد بِهِ أَن يَجعله من قبيل الإلغاز فِي الْخط فَلَا يَنْبَغِي أَن تكْتب بِهِ وَبِمَا شابهه فِي عسر الْحل إِلَّا المذكرات الَّتِي يحب صَاحبهَا أَن لَا يطلع عَلَيْهَا غَيره ويسوغ أَن تكْتب بِهِ المراسلات الْخَاصَّة إِذا كَانَ الْمُرْسل إِلَيْهِ من العارفين بِهِ لَا سِيمَا إِن كَانَا يُحِبَّانِ أَن لَا يطلع عَلَيْهَا غَيرهمَا والحكيم من وضع كل شَيْء فِي مَوْضِعه

وَلَيْسَ الِاعْتِرَاض على الْخط واللغة وَنَحْوهمَا مُنْكرا بل هُوَ مَطْلُوب إِذا كَانَ على وَجهه فَإِن بَيَان النَّقْص فِي الشَّيْء رُبمَا دَعَا إِلَى إِزَالَته فَيكون من مُوجبَات الْكَمَال وَإِنَّمَا الْمُنكر التهافت عل الِاعْتِرَاض من غير معرفَة وَلَا اختبار كَمَا يَفْعَله كثير من الأغمار

وَقد وقفت على مقالات فِيهَا بَيَان حَال الْخط الْعَرَبِيّ وَمَا قَالَه أهل الْمعرفَة فِيهِ وَهِي صادرة مِمَّن خبر كَمَا خبر غَيره من خطوط الْأُمَم الْمَشْهُورَة

وَقد أَحْبَبْت أَن أورد هُنَا مَا ذكر فِيهَا بعد الْجمع بَينهَا مَعَ الِاخْتِصَار والتنقيح وَهَا هُوَ ذَلِك

ص: 809

رَأَوْا أَن صور الْحُرُوف اللاتينية لَا تشْتَمل على جَمِيع حروفهم فَجعلُوا لكل حرف من الْحُرُوف المختصة بهم صُورَتَيْنِ أَو أَكثر من صور الْحُرُوف اللاتينية

انْظُر إِلَى الشين مثلا وَهِي مِمَّا لَا يُوجد فِي اللاتينية فترى بَعضهم يصورها بِالسِّين وَالْهَاء وَبَعْضهمْ بِالسِّين وَالزَّاي وَبَعْضهمْ بِالْكَاف وَالْهَاء وَبَعْضهمْ بِالسِّين وَالْكَاف وَالْهَاء وَبَعْضهمْ بِغَيْر ذَلِك وَقس عَلَيْهِ سَائِر الْحُرُوف الَّتِي تُوجد فِي لغتهم وَلَا تُوجد فِي لُغَة اللاتين وليتهم كَانُوا سلكوا فِي ذَلِك مسلكا وَاحِدًا حَتَّى لَا يَقع الْمطَالع فِي كثير من الْمَوَاضِع فِي الْحيرَة

وَقد أظهر الْعَرَب فِيمَا استعاروه لهَذِهِ الأحرف من الصُّور حِكْمَة بَالِغَة تظهر مِمَّا قَرَّرَهُ العارفون باللغات السامية وَهُوَ أَن اللُّغَة الْعَرَبيَّة والسريانية والعبرانية قد نشأت من أصل وَاحِد هُوَ لَهُنَّ بِمَنْزِلَة الْأُم وَهِي اللُّغَة الآرامية نِسْبَة إِلَى آرام أحد أَبنَاء سَام وَهَذِه اللُّغَات الثَّلَاث بِمَنْزِلَة الْأَخَوَات وَمِمَّا يدل على ذَلِك كَثْرَة التشابه بَينهُنَّ

وَلما كَانَ الْأَمر كَذَلِك أَحبُّوا أَن يراعوا فِي أَمر تَصْوِير هَذِه الْحُرُوف جَانب الْأُخْتَيْنِ إِلَّا أَن مُرَاعَاتهمْ لجَانب السريانية الَّتِي أخذُوا هَذَا الْخط من أَرْبَابهَا كَانَ أَكثر وَذَلِكَ أَن الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة الَّتِي فِيهَا صَاد وَهِي مَوْجُودَة فِي السريانية والعبرانية تجْعَل السريانيون ضادها عينا والعبرانيون صادا نَحْو أَرض وضان وضاق وَقبض فَإِنَّهَا فِي السريانية أرع وعان وعاق وقبع والعبرانية أرص وصان وصاق وقبص فاستعاروا للضاد صُورَة للصاد مجاراة للعبرانيين الَّذين يجْعَلُونَ الضَّاد صادا وَلم يستعيروا لَهَا صُورَة الْعين مجاراة للسريانيين الَّذين يجْعَلُونَ الضَّاد عينا لما بَين الضَّاد وَالْعين من الْبعد فِي اللَّفْظ

وَقد فعلوا عكس ذَلِك فِي الظَّاء فَإِنَّهُم لم يصوروها بالصَّاد كَمَا يلفظها العبرانيون وَلَكِن صورها بِالطَّاءِ كَمَا يلفظها السريانيون وَذَلِكَ لِأَن الْبعد مَا بَين الظَّاء وَالصَّاد أَكثر من الْبعد مَا بَين الظَّاء والطاء وَلِأَن صُورَة الصَّاد قد استعيرت لصورة الضَّاد وَلِأَن مجاراة من أخذُوا عَنْهُم الْخط أولى

ص: 811

والألفاظ الْعَرَبيَّة الَّتِي فِيهَا ذال وَهِي مَوْجُودَة فيهمَا يَجْعَل السريانيون ذالها دَالا والعبرانيون زايا نَحْو ذكر وَذهب وذراع فَإِنَّهَا فِي السريانية دكر ودهب ودراع وَفِي العبرانية زكر وزهب وزراع

والألفاظ الْعَرَبيَّة الَّتِي فِيهَا ثاء وَهِي مَوْجُودَة فيهمَا يَجْعَل السريانيون ثاءها تَاء والعبرانيون شينا نَحْو ثلج وثعلب وَثقل وثور ووثب وَاثْنَانِ وَثَلَاثَة

وَقد نَشأ من الِاسْتِعَارَة الْمَذْكُورَة أَن صَار لاثني عشر حرفا سِتّ صور يشْتَرك فِي كل صُورَة مِنْهَا حرفان فَحصل بذلك التباس وَزَاد بِجعْل الْحَاء كالجيم وَالزَّاي كالراء والشين كالسين وَالْقَاف كالفاء مَعَ التَّشْرِيك بَين التَّاء وَالْبَاء وَالْيَاء وَالنُّون فِي صُورَة وَاحِدَة إِذا كن فِي غير آخر الْكَلِمَة فَصَارَ الالتباس شَدِيدا

وَكَيف لَا والحروف الْعَرَبيَّة ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ والصور الدَّالَّة عَلَيْهَا فِي الْكِتَابَة سَبْعَة عشر

وبقوا على ذَلِك حينا من الدَّهْر ثمَّ حزبهم الْأَمر إِلَى ربع الالتباس فاخترعوا طَريقَة النقط فامتاز كل حرف بِصُورَة لَا يُشَارِكهُ فِيهَا غَيره إِلَّا أَنه بعد اختراع هَذِه الطَّرِيقَة قد كتبت كتب كَثِيرَة بِدُونِ نقط جَريا على الطَّرِيقَة الْقَدِيمَة إِلَّا أَنهم الْآن قَلما يَكْتُبُونَ شَيْئا بِغَيْر نقط إِلَّا أَسْمَاءَهُم فِي بعض الْمَوَاضِع كالرسائل وَنَحْوهَا فَإِن أحدهم إِذا كتب رِسَالَة إِلَى غَيره أَو كتبت من طرفه فَإِنَّهُ يضع اسْمه فِي آخرهَا بِغَيْر نقط وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُونَ ذَلِك فِي الشَّهَادَات والصكوك وَيُسمى ذَلِك عِنْدهم بالإمضاء وَهُوَ من الْأُمُور الَّتِي تنكر عَلَيْهِم

وَقد جرى الْعَرَب فِي أول الْأَمر على مَا جرى عَلَيْهِ الْأُمَم السامية من عدم وضع علائم للحركات فَكَانُوا يَكْتُبُونَ الْحُرُوف فَقَط ثمَّ بعد حِين اخترعوا لَهَا عَلَامَات وجعلوها فَوق الْحُرُوف أَو تحتهَا وَلم يدخلوها فِي صفها كَمَا فعل كثير من الْأُمَم غير السامية إِلَّا أَنهم انتبهوا من أول الْأَمر لأمر الْمَدّ فَجعلُوا لَهُ عَلامَة تدل عَلَيْهِ واعتنوا بِهِ حَتَّى جعلُوا الْعَلامَة حرفا من الْحُرُوف يوضع بعد الْحَرْف الْمَمْدُود دَاخِلا مَعَه فِي الصَّفّ فَإِن كَانَ الْمَمْدُود مَفْتُوحًا جعلُوا عَلامَة مده الْألف وَإِن كَانَ

ص: 812

مضموما جعلُوا عَلامَة مده الْوَاو وَإِن كَانَ مكسورا جعلُوا عَلامَة مده الْيَاء

وَقد غفل عَن هَذَا الْأَمر الَّذِي انتبه لَهُ الْعَرَب من أول الْأَمر كثير من الْأُمَم الَّتِي لَهَا عناية شَدِيدَة بِأَمْر الْكِتَابَة حَتَّى إِنَّهُم لم يضعوا لَهُ عَلامَة أصلا

وَقد أصبح الْخط الْعَرَبِيّ بعد وضع علائم الحركات مَعَ النقط وافيا بِتمَام الْغَرَض بِحَيْثُ صَارَت الْكَلِمَات الْعَرَبيَّة يقْرؤهَا الْوَاقِف على حروفها وحركاتها من غير توقف

وَهَذِه المزية قَلما تُوجد فِي خطّ أمة من الْأُمَم حَتَّى إِن بعض الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة فِي الْعُلُوم والمعارف يحْتَاج الْمَرْء بعد تعلم خطها أَن يتَعَلَّم قِرَاءَة جلّ الْكَلِمَات الَّتِي فِي لغتهم كلمة كلمة حَتَّى يَتَيَسَّر لَهُ بعد ذَلِك أَن يقْرَأ فِي كتبهمْ قِرَاءَة خَالِيَة من الشوائب إِلَّا أَن كِتَابَة مثل اللُّغَة الفارسية بهَا لَا يَخْلُو من إِشْكَال لمُخَالفَة طباع اللُّغَات السامية لطباع غَيرهَا من سَائِر اللُّغَات

وَمِمَّا يستغرب أَن الْأُمَم الغربية مَعَ اتِّفَاقهم فِي صور الْحُرُوف الهجائية قد اخْتلفُوا فِي لفظ كثير مِنْهَا فترى كثيرا من الْأَلْفَاظ إِذا كتبت بحروفهم يقْرؤهَا كل فريق مِنْهُم على وَجه يُخَالف غَيره

وعَلى ذَلِك فَلَا تستغرب اخْتلَافهمْ فِي أَسمَاء كثير من المدن وَنَحْوهَا

وَقد نَشأ من ذَلِك أَن صَار أغلب الْأَلْفَاظ المصورة بحررفهم إِذا كَانَ من اللُّغَات الغربية عِنْدهم كالصينية والهندية والفارسية مَجْهُولا لَا يعرف كَيفَ يلفظ بِهِ عِنْد أَهله وَذَلِكَ أَن الَّذين تلقوا أَولا تِلْكَ الْأَلْفَاظ من العارفين بهَا قد كتبوها على مُقْتَضى اصطلاحهم فَإِذا قَرَأَهَا غَيرهم من الْأُمَم الْأُخْرَى قَرَأَهَا كل فريق مِنْهُم على مُقْتَضى اصْطِلَاحه

فَنَشَأَ من ذَلِك اخْتِلَاف فِي اللَّفْظ وَكَانَ الْوَاجِب عَلَيْهِم كَمَا اتَّفقُوا فِي صور الْحُرُوف مَعَ اخْتِلَاف لغاتهم أَن يتفقوا على مَا تدل عَلَيْهِ بِحَيْثُ إِنَّه إِذا كتبت كلمة بحروفهم أَن تكون قراءتهم لَهَا على وَجه وَاحِد واتفاقهم فِي هَذَا الْأَمر أهم من

ص: 813

اتِّفَاقهم فِي أُمُور تتَعَلَّق بِالْأَكْلِ وَالشرب واللباس وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يتَعَلَّق ضَرَر عَظِيم باختلافه

وَقد نَشأ من اخْتلَافهمْ اخْتِلَاف كتبة الْعَرَب فِي هَذَا الْعَصْر فِي بعض الْأَلْفَاظ الأعجمية الْمَأْخُوذَة من اللاتينية أَو اليونانية فَإِن كل فريق مِنْهُم ينْطق بهَا كَمَا ينْطق بهَا الْقَوْم الَّذين تلقى عَنْهُم ذَلِك وَهُوَ مُخْتَلفُونَ فِيهِ

وَقد تصدى بَعضهم لتغيير بعض الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة فِي الْكتب الْعَرَبيَّة الْقَدِيمَة مَعَ أَنَّهَا أقرب إِلَى الأَصْل فليحذر من ذَلِك وليترك الْقَدِيم على حَاله ولينتبه إِلَى غَيره حَتَّى لَا يبعد عَن أَصله بعدا شاسعا

ولنذكر لَك أمرا رُبمَا تستغربه جدا وَهُوَ أَن اللُّغَة اللاتينية وَهِي اللُّغَة العلمية الْمُتَّفق عَلَيْهَا بَينهم لَا يتفقون فِي أَمر التَّلَفُّظ بهَا حَتَّى إِنَّه قد يتكالم بهَا اثْنَان مِنْهُم فَلَا يفهم أَحدهمَا مَا يَقُول لَهُ الآخر وَهَذِه عَثْرَة لَا تقال

وَقد وَقع فِي خطّ السريانيين شَيْء من الشوائب توجب الْإِشْكَال فِيهِ فِي كثير من الْمَوَاضِع وَهُوَ أَنهم كثيرا مَا يَكْتُبُونَ من الْحُرُوف مَا لَا يقْرَأ وَذَلِكَ أَن لغتهم كَانَ قد أَصَابَهَا مَعَ طول الْعَهْد بعض تغير فَسقط بعض الْحُرُوف من بعض الْكَلِمَات غير أَن الكتبة لم يُحِبُّوا أَن يسقطوا تِلْكَ الْحُرُوف من الْكِتَابَة لِئَلَّا يخالفوا من كَانَ قبلهم من أسلافهم فِي كتَابَتهَا فأبقوها على حَالهَا غير أَنهم يسقطونها حَال الْقِرَاءَة وَلَا يلفظون بهَا وَهَذَا يدل على أَنهم كَانُوا يَكْتُبُونَ قبل سُقُوط تِلْكَ الْحُرُوف فَيكون أَمر الْكِتَابَة عِنْدهم قديم الْعَهْد

وَأما العبرانيون فَإِنَّهُم كالعرب لَا يَكْتُبُونَ إِلَّا مَا يلفظون بِهِ وَمَا وَقع من الْعَرَب على خلاف ذَلِك فَإِنَّهُ قَلِيل لَا يذكر وَذَلِكَ كواو أُولَئِكَ وَألف مائَة

وَأما الْأُمَم الْأُخْرَى فقد أفرطت فِي ذَلِك فَكَأَنَّهَا جعلت الأَصْل فِي الْكِتَابَة تَصْوِير اللَّفْظ بصورته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا من قبل فَصَارَ من يُرِيد أَن يتَعَلَّم الْقِرَاءَة فِي لغتهم يحْتَاج بعد إتقان مبادئ الْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة أَن يتَعَلَّم قِرَاءَة مَا لَا يُحْصى من الْكَلِمَات كلمة كلمة حَتَّى تتيسر لَهُ الْقِرَاءَة على وَجه لَا شَائِبَة فِيهِ فحاكوا بذلك

ص: 814

أهل الصين

وَقد سعت فِئَة من عُلَمَائهمْ فِي إصْلَاح هَذَا الْخلَل الْعَظِيم فَلم يجد سَعْيهمْ شَيْئا

وَقد اعْترض كثير من عُلَمَاء الْآثَار على الْمُتَأَخِّرين من كتاب اللُّغَة الْعَرَبيَّة من ثَلَاثَة أوجه

الأول تصرفهم فِي الْخط الْقَدِيم الَّذِي كَانَ يكْتب بِهِ على وَجه جعله أدنى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي التناسب والوضوح حَتَّى إِن حُرُوف خطهم أمست غير متناسبة فِي الْمِقْدَار والشكل وَصَارَ كثير مِنْهَا شَدِيد الِاشْتِبَاه بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ إِن الْقَارئ يحْتَاج إِلَى إمعان النّظر فِي كثير من الْحُرُوف حَتَّى يَهْتَدِي إِلَى قرَاءَتهَا

الثَّانِي تَركهم الشكل إِلَّا قَلِيلا جدا وَنَشَأ من ذَلِك أَن يصير الْقَارئ إِن لم يكن بارعا فِي الْعَرَبيَّة لَا سِيمَا إِن لم يكن من أَهلهَا فِي اضْطِرَاب شَدِيد حِين الْقِرَاءَة لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يقْرَأ الْكَلِمَات المحتملة لوجوه شَتَّى بِأَيّ وَجه اتّفق لَهُ فَيكون خَطؤُهُ أَكثر من صَوَابه وَإِمَّا أَن يقف وَهُوَ حائر حَتَّى يجد من يزِيل حيرته إِن تيَسّر ذَلِك

الثَّالِث تَركهم علائم الْفَصْل بَين الْجمل حَتَّى صَار الْقَارئ لَا سِيمَا إِن كَانَ يقْرَأ بِسُرْعَة لَا يدْرِي أَن يقف وَرُبمَا وقف فِي مَوضِع لَيْسَ مَوضِع الْوَقْف فيضطر حِينَئِذٍ إِلَى الْبَحْث عَن مَوضِع الْوَقْف فِيمَا مضى أَو فِيمَا يَأْتِي وَكَثِيرًا مَا يحِيل ذَلِك الْمَعْنى وَكَثِيرًا مَا يضْطَر الْمطَالع إِلَى قِرَاءَة الصَّحِيفَة كلهَا أَو الْفَصْل كُله حَتَّى يجد مَا يَطْلُبهُ هُنَاكَ من المطالب

وَقد جرى على آثَارهم فِي هَذَا الْأَمر الْمُنكر أَرْبَاب المطابع عِنْدهم بل زادوا عَلَيْهِم فِي ذَلِك فَإِن النساخ فِي كثير من الأحيان يعلمُونَ بحبر أَحْمَر أَو بِغَيْرِهِ على مَا يرونه جَدِيرًا بِأَن ينتبه إِلَيْهِ أَو يُوقف عَلَيْهِ

وَذكر بَعضهم وَجها آخر وَهُوَ أَنهم لم يضعوا لإحدى الحركات وَهِي الفتحة الممالة إِلَى الكسرة عَلامَة مَعَ قلَّة الحركات عِنْدهم بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْد غَيرهم

ص: 815

وَقد نسب بَعضهم النَّقْص إِلَى لغتهم من هَذِه الْجِهَة وَإِن كَانَ هَذَا النَّقْص لَيْسَ بِشَيْء يذكر بِالنّظرِ إِلَى مَا لَهَا من المحاسن الوافرة فَإِنَّهُ لَا يُوجد شَيْء وَلَو كَانَ جم المزايا فائقا على غَيره فِي ذَلِك إِلَّا وَفِيه نقص من جِهَة

وَذَلِكَ أَن الحركات عِنْد الْعَرَب أَرْبَعَة الضمة والكسرة والفتحة الْخَالِصَة والفتحة المشوبة وَهِي الممالة إِلَى الكسرة إِلَّا أَن أَكثر النُّحَاة يَجْعَلهَا ثَلَاثَة وَيسْقط الفتحة الممالة لعدم وجودهَا عِنْد جَمِيع قبائل الْعَرَب وَلعدم وُقُوعهَا فِي كَلَام الفصحاء مِنْهُم

والحركات عِنْد العبرانيين والسريانيين وَالْفرس خَمْسَة وَهِي الْأَرْبَعَة السَّابِقَة مَعَ الضمة الممالة إِلَى الفتحة

وَقد تبين من الْبَحْث والتتبع أَن هَذِه الْحَرَكَة كَانَت فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة قَدِيما

وَمن الْغَرِيب أَن الضمة الممالة إِلَى الفتحة والفتحة الممالة إِلَى الكسرة قد رَجعْنَا إِلَى لِسَان جَمِيع أَبنَاء الْعَرَب فِي أَكثر الأقطار بِحَيْثُ ينْدر من يَخْلُو كَلَامه عَنْهُمَا وَسبب ذَلِك سهولتهما مَعَ تَأْثِير اللُّغَات الْأُخْرَى وتأثير اللُّغَات بَعْضهَا فِي بعض مِمَّا لَا يُنكر

والحركات عِنْد غير الساميين قد تبلغ إِلَى ثَمَانِيَة

انْتهى مَا أردنَا إِيرَاده من تِلْكَ المقالات

وَقد وَقع فِيهَا مَا لَا يَخْلُو عَن شَيْء مِمَّا لَا تَخْلُو عَنهُ مقَالَة وَإِن عني صَاحبهَا بأمرها كثيرا

فَمن ذَلِك مَا ذكر فِيهَا من أَن كِتَابَة الفارسية وَنَحْوهَا بالخط الْعَرَبِيّ لَا يَخْلُو عَن إِشْكَال فَإِن الاختبار دلّ على خلاف ذَلِك

وَقد علمنَا ذَلِك علم الْيَقِين لوقوفنا عَلَيْهَا وعَلى أَحْوَال كثير مِمَّن يقْرَأ بهَا على اخْتِلَاف درجاتهم ولفرط استسهالهم الْقِرَاءَة بهَا ترك أَكْثَرهم الشكل حَتَّى إِنَّه ينْدر أَن يُوجد ذَلِك فِي كتبهمْ

وَقد استعاروا للحروف الَّتِي تُوجد عِنْدهم وَلَا تُوجد فِي الْعَرَبيَّة صُورَة أقرب الْحُرُوف إِلَيْهَا مخرجا وَجعلُوا لَهَا عَلامَة تميزها وَهِي أَرْبَعَة

ص: 816

الْبَاء المشوبة بِالْفَاءِ وتكتب على صُورَة الْبَاء وَيُوضَع تحتهَا ثَلَاث نقط

وَالْجِيم المشوبة بالشين وتكتب على صُورَة الْجِيم وَيُوضَع تحتهَا ثَلَاث نقط

وَالزَّاي المشوبة بالصَّاد وتكتب على صُورَة الزَّاي وَيُوضَع فَوْقهَا ثَلَاث نقط

وَالْكَاف المتولدة بَين الْغَيْن وَالْقَاف وَهِي الْمَعْرُوفَة بِالْجِيم المصرية وتكتب على صُورَة الْكَاف وَيُوضَع فَوْقهَا نقطة وَإِنَّمَا لم يكتبوها بِصُورَة الْغَيْن لكَون الْغَيْن منقوطة فيحتاجون للتمييز بَينهمَا إِلَى زِيَادَة النقط وَهِي كَثِيرَة الْوُجُود عِنْدهم فَيكون فِي ذَلِك كلفة

وَمِنْهَا مَا ذكر فِيهَا من نِسْبَة النَّقْص إِلَى اللُّغَة الْعَرَبيَّة من جِهَة قلَّة الحركات فِيهَا بِالنّظرِ إِلَى غَيرهَا من اللُّغَات فَإِن مُجَرّد قلَّة الحركات فِي لُغَة لَا يُوجب نقصا فِيهَا لَا سِيمَا إِن كَانَت الحركات الْوَاقِعَة فِيهَا هِيَ أحسن الحركات بل رُبمَا جعلت كَثْرَة الحركات هِيَ الْمُوجبَة للنقص لَا سِيمَا إِن وَقعت فِيهَا حركات ثَقيلَة منصبة على أَن اللُّغَة الْعَرَبيَّة يُوجد فِيهَا جلّ الحركات الْمَعْرُوفَة فِي اللُّغَات الْمَشْهُورَة وَإِن كَانَ بَعْضهَا خَاصّا بِبَعْض الْقَبَائِل إِلَّا أَن ذَلِك أَمر خَفِي لم يقف عَلَيْهِ إِلَّا قَلِيل من أَئِمَّة اللُّغَة الَّذين صرفُوا عمرهم فِي التنقيب عَنْهَا والبحث فِي أسرارها

ولنذكر لَك مِمَّا يتَعَلَّق بالحركات مَا يُمكن إِيرَاده فِي مثل هَذَا الْوَضع فَنَقُول الْكَلَام هُوَ اللَّفْظ الْمُفِيد ويتركب من الْكَلِمَات

والكلمات تتركب من الْحُرُوف وَقد تكون الْكَلِمَة على حرف واحدث مثل ق وَهَذِه الْحُرُوف الَّتِي تتركب مِنْهَا الْكَلِمَات تسمى حُرُوف المباني وحروف الهجاء

ثمَّ إِن الْحَرْف لَا يَخْلُو من حَرَكَة أَو سُكُون

فالحركة هِيَ كَيْفيَّة عارضة للحرف يُمكن مَعهَا أَن يُوجد عقبَة حرف من حُرُوف الْمجد وَذَلِكَ كَمَا فِي الْمِيم من من فَإِنَّهُ يُمكن مدها فَيُقَال فِي حَال فتحهَا مان وَفِي حَال ضمهَا مون وَفِي حَال كسرهَا مين

وَبِهَذَا يظْهر أَن الْحَرَكَة ثَلَاثَة أَنْوَاع فَتْحة وضمة وكسرة

فالفتحة هِيَ الْحَرَكَة الَّتِي إِذا مدت تولد مِنْهَا الْألف

والضمة هِيَ الْحَرَكَة الَّتِي إِذا مدت تولد

ص: 817

مِنْهَا الْوَاو

والكسرة هِيَ الْحَرَكَة الَّتِي إِذا مدت تولد مِنْهَا الْيَاء

وَيُقَال لهَذِهِ الْحُرُوف الثَّلَاثَة فِي مثل هَذَا الْموضع حُرُوف الْمَدّ

والسكون هُوَ كَيْفيَّة عارضة للحرف يمْتَنع مَعهَا أَن يُوجد عقبه أحد حُرُوف الْمَدّ وَذَلِكَ كَمَا فِي النُّون من من فَإِنَّهُ وَهُوَ على حَاله من السّكُون لَا يُمكن أَن يحدث بعده حرف من حُرُوف الْمَدّ

قَالَ بعض الْحُكَمَاء إِن الَّذِي تدل عَلَيْهِ الْجِيم أَو الْمِيم مثلا لَا يُمكن أَن ينْطق بِهِ مُفردا وَكَذَلِكَ مَا تدل عَلَيْهِ الضمة أَو الفتحة أَو الكسرة وَإِنَّمَا يحدث الصَّوْت بمجموعهما وَذَلِكَ أَن الصَّوْت المتميز فِي السّمع يحدث من شَيْئَيْنِ أَحدهمَا يتنزل مِنْهُ منزلَة الْمَادَّة وَهُوَ الَّذِي يُسمى حرفا غير مصوت وَالثَّانِي يتنزل مِنْهُ منزلَة الصُّورَة وَهُوَ الَّذِي يُسمى حرفا مصوتا ويسميه أهل لساننا حَرَكَة

وَالْحَرَكَة قِسْمَانِ مُفْردَة وَغير مُفْردَة فالمفردة هِيَ مَا كَانَت خَالِصَة غير مشوبة بغَيْرهَا وَهِي ثَلَاثَة الضمة والفتحة والكسرة وَغير المفردة هِيَ مَا كَانَت مشوبة بغَيْرهَا بِأَن تكون بَين حركتين غير خَالِصَة إِلَى إِحْدَاهمَا وَتسَمى بالحركة المشوبة كَمَا تسمى الأولى بالحركة الْمَحْضَة وَهِي أَيْضا ثَلَاثَة

وَحَيْثُ كَانَ الْمرجع بالحركات إِلَى أصوات مَخْصُوصَة لم يَنْبغ الْقطع بانحصارها مُطلقًا فِي عدد وَإِنَّمَا نقُول إِن الَّذين بحثوا عَن اللُّغَات الْمَشْهُورَة قد استقرؤوا الحركات فوجدوها تبلغ ثَمَانِيَة وَقد أوردناها فِي رسائلنا فِي الْخط على طَرِيق التَّفْصِيل إِلَّا أَنه لغموض هَذَا المبحث رُبمَا لم يهتد لفهم مَا هُنَالك كثير من المطالعين لذكر الْعبارَات الْمُخْتَلفَة فِي الظَّاهِر فأحببنا إِيرَاد ذَلِك هُنَا على طَرِيق الْإِجْمَال وَهَا هُوَ ذَلِك

الحركات فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة تبلغ سِتا

قَالَ الْعَلامَة ابْن جني إِن مَا فِي أَيدي النَّاس فِي ظَاهر الْأَمر ثَلَاث وَهِي الضمة والكسرة والفتحة ومحصولها فِي الْحَقِيقَة

ص: 818

سِتّ وَذَلِكَ أَن بَين كل حركتين حَرَكَة فالتي بَين الفتحة والكسرة هِيَ الفتحة قبل الْألف الممالة نَحْو فَتْحة عين عَالم وَكَاتب وكما أَن الْألف الَّتِي بعْدهَا بَين الْألف وَالْيَاء وَالَّتِي بَين الفتحة والضمة هِيَ الَّتِي قبل ألف التفخيم نَحْو الفتحة الَّتِي قبل الْألف فِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة والحياة وَكَذَلِكَ قَالَ وَعَاد الَّتِي بَين الكسرة والضمة ككسرة قَاف قيل وسين سير هَذِه الكسرة المشمة ضما وَمثلهَا الضمة المشمة كسرا نَحْو ضمة قَاف فِي المنقر وضمة عين ابْن مذعور وباء ابْن بور فَهَذِهِ ضمة أشربت كسرة كَمَا أَنَّهَا فِي قيل وسير كسرة أشربت ضما فهما لذَلِك كالصوت الْوَاحِد لَكِن لَيْسَ فِي كَلَامهم ضمة مشربَة فَتْحة وَلَا كسرة مشربَة فَتْحة

وَيدل على أَن هَذِه الحركات مُعْتَد بهَا اعْتِدَاد سِيبَوَيْهٍ بِأَلف الإمالة والتفخيم

وَقد عد الكسرة المشمة ضما والضمة المشمة كسرا شَيْئا وَاحِدًا لكَونهَا كالصوت الْوَاحِد وَلم يذكر فَتْحة الإمالة الصُّغْرَى إِلْحَاقًا لَهَا بِإِحْدَى الحركتين الْوَاقِعَة هِيَ بَينهمَا فَإِذا زِدْنَا مَا ذكر كَانَت الحركات ثَمَانِيَة

وَقد أحببنا ذكرهَا على طَرِيق التَّفْصِيل فَنَقُول

الْحَرَكَة الأولى الضمة الْمَحْضَة وَهِي الْحَرَكَة الَّتِي تحدث عِنْد ضم الضفتين ضما شَدِيدا وَهِي الْمَعْرُوفَة باسم الضمة عِنْد الْعَرَب بِحَيْثُ إِذا ذكرت لم يخْطر فِي بالهم غَيرهَا

ص: 819

الْحَرَكَة الثَّانِيَة الضمة المشوبة بالفتحة وَهِي حَرَكَة خَفِيفَة شائعة فِي اللُّغَات الْمَشْهُورَة ولخفتها وشيوعها كثر نطلق الْعَرَب بهَا حَتَّى كَادُوا ينسون الضمة الْمَحْضَة الَّتِي هِيَ الضمة الْعَرَبيَّة وَمن الْغَرِيب أَن جلّ من تُؤْخَذ عَنْهُم الْعَرَبيَّة ينطقون بهَا كَذَلِك حِين تلقي النَّاس عَنْهُم فَيَقُولُونَ خُذ وكل وَقل بضمة مشوبة بالفتحة

غير أَن الْقُرَّاء لما وجدوا أَن الْأَمر قد تفاقم شَدَّدُوا الْإِنْكَار فِي ذَلِك ففازوا بعد عناء وَشدَّة وَصَارَ كثير من النَّاس يتَنَبَّه لذَلِك وَيَأْتِي بالضمة الْمَحْضَة حِين الْقِرَاءَة وَهَذِه الضمة مَوْجُودَة فِي بعض لُغَات الْعَرَب

قَالَ الْعَلامَة ابْن جني فِي سر الصِّنَاعَة وَأما الفتحة الممالة نَحْو الضمة فالتي تكون قبل ألف التفخيم وَذَلِكَ نَحْو الصَّلَاة وَالزَّكَاة ودعا وَعزا وَقَامَ وصاغ وكما أَن الْحَرَكَة هُنَا قبل الْألف لَيست فَتْحة مَحْضَة بل هِيَ مشوبة بِشَيْء من الضمة فَكَذَلِك الْألف الَّتِي بعْدهَا لَيست ألفا مَحْضَة لِأَنَّهَا تَابِعَة لحركة هَذِه صفتهَا فَجرى عَلَيْهِ حكمهَا

وَقَالَ الْعَلامَة السكاكي فِي الْمِفْتَاح التفخيم هُوَ أَن تكسي الفتحة ضمة فَتخرج بَين بَين إِذا كَانَ بعْدهَا ألف منقلبة عَن الْوَاو لتميل تِلْكَ الْألف إِلَى الأَصْل كَقَوْلِك الصَّلَاة وَالزَّكَاة

وَقد سمى سِيبَوَيْهٍ الْألف الَّتِي هُنَا بِأَلف التفخيم كَمَا سمى ألف الإمالة بِأَلف التَّرْخِيم

والترخيم تليين الصَّوْت

وَهَذِه الْحَرَكَة وَاقعَة فِي كَلَام الفصحاء ذكر ذَلِك الْعَلامَة عبد القاهر الْجِرْجَانِيّ فِي شرح الْإِيضَاح حَيْثُ قَالَ فِي بَاب مخارج الْحُرُوف اعْلَم أَن هَذِه الْحُرُوف يَأْخُذ بَعْضهَا شبه بعض ويكتسي طرفا من مذاقته فيتولد من ذَلِك فروع وَتلك

ص: 820

الْفُرُوع أَرْبَعَة عشر سِتَّة مِنْهَا مستحسنة يُؤْخَذ بهَا فِي التَّنْزِيل وَالشعر وَالْكَلَام الفصيح

أَولهَا ألف الأمالة نَحْو عَالم وعابد جنحت إِلَى الْيَاء وتشبهت بهَا فَصَارَت كَأَنَّهَا حرف آخر

الثَّانِي ألف التفخيم وَهِي الْألف الَّتِي يسري فِيهَا شَيْء من الضمة كَقَوْلِهِم الصَّلَاة وَالزَّكَاة ولميلها إِلَى الْوَاو كتبت بِالْوَاو كَمَا كتبت ألف الإمالة فِي نَحْو فقضيهن بِالْيَاءِ لميلها إِلَيْهِ

وَقد وجدت هَذِه الضمة فِي لُغَة الْفرس وَذَلِكَ فِي نَحْو بِمَعْنى الْقُوَّة

وَقد أَشَارَ إِلَيْهَا سِيبَوَيْهٍ حَيْثُ قَالَ فِي بَاب اضطراد الْإِبْدَال فِي الفارسية الْبَدَل مضطرد فِي كل حرف لَيْسَ من حروفهم يُبدل مِنْهُ مَا قرب مِنْهُ من حُرُوف الأعجمية وَمثل ذَلِك تغييرهم الْحَرَكَة فِي مثل زور وآشوب فَيَقُولُونَ زور وآشوب وَهُوَ التَّخْلِيط لِأَن هَذَا لَيْسَ من كَلَامهم

وَتسَمى هَذِه الضمة عِنْدهم بالضمة المجهولة وَالْوَاو الَّتِي بعْدهَا بِالْوَاو المجهولة وَقد يزِيدُونَ بعد الْوَاو ألفا إِشَارَة إِلَى كَون الضمة هُنَا مشوبة بالفتحة وَذَلِكَ فِي نَحْو خواجه وخواب وَكَأَنَّهُم جروا فِي هَذِه على مَنْهَج من يكْتب الرِّبَا بواو وَيجْعَل بعْدهَا ألفا

قَالَ بعض الأفاضل وَكِتَابَة الْألف بعد الْوَاو فِي الرِّبَا جَار على مَذْهَب من يكْتب زيد يَدْعُو بِالْألف فَإِن فِي كتَابَتهَا ثَلَاثَة مَذَاهِب تكْتب مُطلقًا وَلَا تكْتب مُطلقًا تكْتب فِي الْجمع وَلَا تكْتب فِي الْفَرد وَالْمذهب الثَّالِث هُوَ الْمَشْهُور

وكتبت فِي الْمُصحف بواو بعده ألف على لغتين يَقُول ربوا وهم أهل الْحيرَة الَّذين تعلمت الْعَرَب الْكِتَابَة مِنْهُم وَكَانَ أُولَئِكَ يَكْتُبُونَ هَكَذَا على لغتهم فَتَبِعهُمْ

ص: 821

الصَّحَابَة رضي الله عنهم فِي كِتَابَته كَذَلِك وَإِن لم يكن ذَلِك لغتهم ذكره الْفراء وَحَكَاهُ عَن النَّوَوِيّ فِي التَّحْرِير وَيكْتب فِي الرَّسْم الاصطلاحي بِالْألف

وَمن قبيل خواجه لفظ خوارزم فِي لُغَة أَهلهَا

قَالَ فِي مُعْجم الْبلدَانِ هِيَ محركة الأول بحركة بَين الضمة والفتحة وَالْألف مسترقة مختلسة لَيست بِأَلف صَحِيحَة هَكَذَا يتلفظون بِهِ قَالَ الْخَطِيب الْمُوفق الْمَكِّيّ ثمَّ الْخَوَارِزْمِيّ يتشوق إِلَيْهَا

(أأبكاك لما أَن بَكَى فِي رَبًّا نجد

سَحَاب ضحوك الْبَرْق منتحب الرَّعْد)

(لَهُ قطات كاللآلئ فِي الثرى

ولي عبرات كالعقيق على خدي)

(تلفت مِنْهَا نَحْو خوارزم والها

حَزينًا وَلَكِن أَيْن خوارزم من نجد)

وَالْأولَى فِي مثل هَذَا الْموضع أَن تكْتب بِدُونِ وَاو هَكَذَا خارزم وَعَلِيهِ جرى المراعون للْقِيَاس وَأما من كتبهَا بواو بعْدهَا ألف فغالبهم مِمَّن يَقُول خوارزم بواو مَفْتُوحَة بعْدهَا ألف فَلَا يكون فِيمَا فعلوا مُخَالفَة للْقِيَاس

الْحَرَكَة الثَّالِثَة الضمة المشوبة بالكسرة وَهِي الضمة الَّتِي قد أشمت شَيْئا من الكسرة قَالَ فِي سر الصِّنَاعَة وَأما الضمة المشوبة بالكسرة فنحو قَوْلك فِي الإمالة مَرَرْت بمذعور وَهَذَا ابْن بور نحوت بضمة الْعين وَالْبَاء نَحْو كسرة الرَّاء فأشممتها شَيْئا من الكسرة وكما أَن هَذِه الْحَرَكَة قبل هَذِه الْوَاو لَيست ضمة مَحْضَة وَلَا كسرة مُرْسلَة فَكَذَلِك الْوَاو أَيْضا بعْدهَا هِيَ مشوبة بروائح الْيَاء

وَهَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ وَهُوَ الصَّوَاب لِأَن هَذِه الْحُرُوف تتبع الحركات قبلهَا فَكَمَا أَن الْحَرَكَة مشوبة غير مخلصة فالحرف اللَّاحِق بهَا أَيْضا فِي حكمهَا

وَأما أَبُو الْحسن فَكَانَ يَقُول مَرَرْت بمذعور وَهَذَا ابْن بور فيشم الضمة قبل الْوَاو رَائِحَة الكسرة ويخلص الْوَاو واوا مَحْضَة الْبَتَّةَ وَهَذَا تكلّف فِيهِ شدَّة فِي

ص: 822

النُّطْق وَهُوَ مَعَ ذَلِك ضَعِيف فِي الْقيَاس فَهَذَا وَنَحْوه مِمَّا لَا بُد فِي أَدَائِهِ وتصحيحه للسمع من مشافهة توضحه وَتكشف عَن غامض سره

فَإِن قيل فَلم جَازَ فِي الفتحة أَن ينحى بهَا نَحْو الكسرة والضمة وَفِي الكسرة أَن ينحى بهَا نَحْو الضمة وَفِي الضمة أَن ينحى بهَا نَحْو الكسرة على مَا قدمت ومثلت وَلم يجز فِي وَاحِدَة من الكسرة والضمة أَن ينحى بهَا نَحْو الفتحة

فَالْجَوَاب فِي ذَلِك أَن الفتحة أول الحركات وأدخلها فِي الْحلق والكسرة بعْدهَا والضمة بعد الكسرة فَإِذا بدأت بالفتحة وتصعدت تطلب صدر الْفَم والشفتين اجتازت فِي مرورها بمخرج الْيَاء وَالْوَاو فَجَاز أَن تشمها شَيْئا من الكسرة أَو الضمة لتطرقها إيَّاهُمَا وَلَو تكلفت أَن تشم الكسرة أَو الضمة رَائِحَة من الفتحة لاحتجت إِلَى الرُّجُوع إِلَى أول الْحلق فَكَانَ فِي ذَلِك انْتِقَاض عَادَة الصَّوْت بتراجعه إِلَى وَرَاءه وَتَركه التَّقَدُّم إِلَى صدر الْفَم والنفوذ بَين الشفتين فَلَمَّا كَانَ فِي إشمام الكسرة أَو الضمة رَائِحَة الفتحة هَذَا الانقلاب والنقض ترك ذَلِك فَلم يتَكَلَّف الْبَتَّةَ

فَإِن قلت فقد نراهم نَحوا بالضمة نَحْو الكسرة فِي مذعور وَابْن بور وَنَحْوهمَا والضمة كَمَا تعلم فَوق الكسرة فَكَمَا جَازَ لَهُم التراجع فِي هَذَا فَهَلا جَازَ أَيْضا فِي الكسرة والضمة أَن ينحى بهما نَحْو الفتحة

فَالْجَوَاب أَن بَين الضمة الكسرة من الْقرب والتناسب مَا لَيْسَ بَينهمَا وَبَين الفتحة فَجَاز أَن يتَكَلَّف نَحْو ذَلِك بَين الضمة والكسرة لما بَينهمَا من التجانس فِيمَا قد تقدم ذكره فِي صدر هَذَا الْكتاب وَفِيمَا سَنذكرُهُ أَيْضا فِي أماكنه وَهُوَ مَعَ ذَلِك قَلِيل مستكره أَلا ترى إِلَى كَثْرَة قيل وَبيع وغيض وَقلة نَحْو مَرَرْت بمذعور وَابْن بور

ص: 823

وَلَعَلَّ أَبَا الْحسن أَيْضا إِلَى هَذَا نظر فِي امْتِنَاعه من إعلال الْوَاو فِي نَحْو مذعور وَتركهَا واوا مَحْضَة لِأَن لَهُ أَن يَقُول إِن الْحَرَكَة الَّتِي قبل الْوَاو لم تتمكن فِي الإعلال والإشمام تمكن الفتحة فِي الإشمام فِي نَحْو عَالم وَقَامَ وَلَا تمكن الكسرة فِي قيل وَبيع فَلَمَّا كَانَ الإشمام فِي مذعور وَنَحْوه عِنْده خلسا خفِيا لم يقوا عل إعلال الْوَاو بعده كَمَا أعلت الْألف فِي نَحْو عَالم وَقَامَ والكسرة فِي نَحْو قيل وغيض فَلذَلِك لم تعتل عِنْده الْوَاو فِي مذعور وَابْن بور وأخلصها واوا مَحْضَة فَهَذَا قَول من الْقُوَّة على مَا ترَاهُ

ثمَّ قَالَ وَقد كَانَ يجب على أَصْحَابنَا إِذْ ذكرُوا فروع الْحُرُوف نَحْو ألف الإمالة وَألف التفخيم وهمزة بَين بَين أَن يذكرُوا أَيْضا الْيَاء فِي نَحْو قيل وَبيع وَالْوَاو فِي نَحْو مذعور وَابْن وبور على أَنه قد يُمكن الْفَصْل بَين الْيَاء وَالْوَاو وَبَين الْألف بِأَنَّهَا لَا بُد أَن تكون تَابِعَة وأنهما قد لَا يتبعان مَا قبلهمَا وَمَا علمت أَن أحدا من أَصْحَابنَا خَاضَ فِي هَذَا الْفَنّ هَذَا الْخَوْض وَلَا أشبعه هَذَا الإشباع وَمن وجد قولا قَالَه وَالله يعين على الصَّوَاب بقدرته

الْحَرَكَة الرَّابِعَة الكسرة المشوبة بالضمة وَهِي الكسرة الَّتِي قد أشمت شَيْئا من الضمة

قَالَ فِي سر الصِّنَاعَة وَأما الكسرة المشوبة بالضمة فنحو قيل وَبيع وغيض وسيق وكما أَن الْحَرَكَة قبل هَذِه الْيَاء مشوبة بالضمة فالياء بعْدهَا مشوبة بروائح الْوَاو على مَا تقدم فِي الْألف

قَالَ بعض الْمُحَقِّقين تشم الكسرة ضمة فِي نَحْو قيل وَجِيء وسيء فِي لُغَة أَسد وَقيس وَعقيل فَإِنَّهُم يقربون كسرة الأول من الضمة إِشَارَة إِلَى الأَصْل والإشمام فِي مثل هبت يَا زيد إِذا أُرِيد أَنه صَار مهيبا أحسن من الإشمام فِي هيب لفصله بَين

ص: 824

الْفِعْل الْمَبْنِيّ للْفَاعِل من الْفِعْل الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول وَقد أشمت الكسرة ضمة فِي مثل تغزين إِشَارَة إِلَى الأَصْل فَإِنَّهُ كَانَ تغزوين

وَقَالَ بعض الْقُرَّاء حَقِيقَة الإشمام فِي نَحْو سيء وسيئت وَقيل وغيض وسيق وحيل أَن ينحى بكسرة أَوَائِل هَذِه الْأَفْعَال نَحْو الضمة يَسِيرا ليدل بذلك على أَن الضَّم الْخَالِص أَصْلهَا كَمَا ينحى بالفتحة الممالة نَحْو الكسرة قَلِيلا ليدل بذلك أَيْضا على انقلاب الْألف عَن الْيَاء أَو لتقرب بذلك من كسرة قبلهَا أَو بعْدهَا

وَقَالَ بعض عُلَمَاء الْعَرَبيَّة للْعَرَب فِي الْفِعْل الْمَجْهُول من نَحْو قَالَ وَبَاعَ ثَلَاث لُغَات الأولى قيل وَبيع بالكسرة وَهِي فِي اللُّغَات أشهر وورودها فِي الْآثَار أَكثر

الثَّانِيَة قيل وَبيع بالإشمام وَهِي وَإِن كَانَت قَليلَة فَهِيَ فصيحة الثَّالِثَة قَول وبوع بِالضَّمِّ وَهِي لُغَة غير فصيحة

وَحَقِيقَة الإشمام هُنَا هُوَ أَن تنحو بالكسرة نَحْو الضمة فتميل الْيَاء الساكنة بعْدهَا نَحْو الْوَاو قَلِيلا إِذْ هِيَ تَابِعَة لحركة مَا قبلهَا هَذَا هُوَ مُرَاد الْقُرَّاء والنحاة بالإشمام فِي هَذَا الْموضع

وَقَالَ بَعضهم الإشمام هُنَا كالإشمام فِي حَالَة الْوَقْف يعنون ضم الشفتين فَقَط مَعَ بَقَاء الْكسر على حَاله غير مشوب بِشَيْء من الضَّم

وَهَذَا خلاف الْمَشْهُور عِنْد الْفَرِيقَيْنِ

وَقَالَ بَعضهم هُوَ أَن تَأتي بضمة خَالِصَة بعْدهَا يَاء سَاكِنة

وَهَذَا أَيْضا غير مَشْهُور عِنْدهم لِأَن الإشمام عِنْدهم هُنَا هُوَ حَرَكَة بَين حركتي الضَّم وَالْكَسْر بعْدهَا حرف بَين الْوَاو وَالْيَاء

وَقَالَ فِي الْجَوْهَر الزَّاهِر قرأن ابْن عمر سيق وحيل وسيء وسيئت بإشمام الضَّم على اللُّغَة الأَسدِية وروى عَنهُ هِشَام الإشمام فِي قيل وَجِيء وغيض عَلَيْهَا

ص: 825

لاتباع الْأَثر وروى عَنهُ ابْن ذكْوَان إخلاص الْكسر فِيهَا لاتباع الْأَثر وَفِي ذَلِك الْجمع بَين اللُّغَة القرشية والأسدية

وَكَيْفِيَّة التَّلَفُّظ بالإشمام أَن تلفظ فَاء الْكَلِمَة بحركة تَامَّة مركبة من حركتين إفرازا لَا شيوعا بِحَيْثُ يكون جُزْء الضمة وَهُوَ الْأَقَل مقدما وجزء الكسرة وَهُوَ الْأَكْثَر تاليا لَهُ وتنظير بَعضهم لَهُ بالإمالة يُوهم الشُّيُوع

وَقيل يشار بِالضَّمِّ مَعَ الْفَاء أَو قبلهَا أَو بعْدهَا وكل ذَلِك بَاطِل أما الأول فَلِأَن الْكسر يَقْتَضِي التسفل وَالضَّم يَقْتَضِي الانطباق فَكيف يَجْتَمِعَانِ مَعًا وَأما الثَّانِي وَهُوَ الْإِشَارَة بِالضَّمِّ قبل الْفَاء فَإِنَّهُ لم يسمع وَلَا قَارِئ بِهِ وَأما الثَّالِث فَإِن الْيَاء تمنع من ذَلِك

وَقيل الإشمام هُنَا صَرِيح الضَّم

وَلَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ إِن كَانَ مَعَ الْوَاو فلغة لم يقْرَأ بهَا وَإِن كَانَ مَعَ الْيَاء فخروج عَن كَلَام الْعَرَب

فَإِن قيل هَل تسمع الْإِشَارَة إِلَى الضَّم أَو ترى وَهل يحكم على الْحَرْف الَّذِي أشمت حركته بِالضَّمِّ أَو بِالْكَسْرِ

فَإِن قيل هَل تسمع الْإِشَارَة إِلَى الضَّم أَو ترى وَهل يحكم على الْحَرْف الَّذِي أشمت حركته بِالضَّمِّ أَو بِالْكَسْرِ

يُقَال إِن الْإِشَارَة إِلَى الضَّم تسمع وَترى فِي نفس الْحَرْف الأول هُنَا والحرف الأول مَحْكُوم عَلَيْهِ بِالْكَسْرِ مَعَ الْإِشَارَة إِلَى الضَّم

وَمَا ذكر من كَون الإشمام هُوَ الْإِتْيَان بحركة تَامَّة مركبة من حركتين على طَرِيق الْإِفْرَاز هُوَ قَول بعض الْمُتَأَخِّرين

وَظَاهر كَلَام الْفراء والنحويين أَنه الْإِتْيَان بحركة تَامَّة ممتزجة من حركتين وهما الكسرة والضمة على طَرِيق الشُّيُوع

وَإِذا أمعن النّظر وجد هَذَا من قبيل اخْتِلَاف الْعبارَات لاخْتِلَاف الاعتبارات قَالَ الإِمَام أَبُو عَليّ الْفَارِسِي فِي كتاب حجج الْقرَاءَات حجَّة من أَشمّ الضَّم الْكسر وَمَال بِهِ نَحوه فِي هَذِه الْأَفْعَال وَهِي قيل وغيض وسيء وحيل وسيق وَجِيء أَن ذَلِك أدل على فعل أَلا تراهم قَالُوا كيد زيد يفعل وَمَا زيل زيد يفعل فَإِذا حركوا الْفَاء بِهَذِهِ الْحَرَكَة أمنُوا التباس الْفِعْل الْمَبْنِيّ للْفَاعِل بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول وانفصل مِنْهُ وَكَانَ أَشد إبانة للمعنى الْمَقْصُود

ص: 826

وَمن الْحجَّة فِيهِ أَنهم قد أشموا رد وَشد وشبهة من المضعف الْمَبْنِيّ على فعل مَعَ أَن الضمة تلْحق فاءه فَإِذا كَانُوا قد تركُوا الضَّم الْخَالِص إِلَى هَذِه فِي الْمَوَاضِع الَّذِي يَصح فِيهَا الضَّم فلزومها حَيْثُ يلْزم الْكسر فِيهِ فِي أَكثر اللُّغَات أَجْدَر وَدلّ استعمالهم هَذِه الْحَرَكَة فِي رد وَنَحْوه من المضعف على تمكنها فِي قيل وَشبهه وَكَونهَا أَمارَة للْفِعْل وَلَوْلَا ذَلِك لم تتْرك الضمة الْخَالِصَة إِلَيْهَا فِي رد وَشبهه

وَمن الْحجَّة فِي ذَلِك أَنهم قَالُوا أَنْت تغزين فأشموا الزَّاي الضَّم وزاي تغزين كقاف قيل فَكَمَا الْتزم الإشمام هُنَاكَ الْتزم فِي قيل وَكَذَا فِي اختير أشمت التَّاء مِنْهُ لما كَانَت كقاف قيل وكما أَشمّ تغزين لينفصل من بَاب ترمين أَشمّ قيل وَنَحْوه ليمتاز من الْفِعْل الْمَبْنِيّ للْفَاعِل نَحْو كيد وزيل وليكون أدل على فعل

وَمِمَّا يُقَوي قَول من أَشمّ قيل أَن هَذِه الضمة المنحو بهَا محو الكسرة قد جَاءَت فِي قَوْلهم شربت من المنقر وَهَذَا ابْن مذعور فأمالوا هَذِه الضمات نَحْو الكسرة لتَكون أَشد مشاكلة لما بعْدهَا وأشبه بِهِ وَهُوَ كسر الرَّاء فَإِذا أخذُوا بِهَذَا لتشاكل الْأَلْفَاظ وَحَيْثُ لَا يُمَيّز معنى من معنى آخر فَأن يلتزموا ذَلِك حَيْثُ يزِيل ويخلص معنى من معنى أَجْدَر وَأولى الْحَرَكَة الْخَامِسَة الكسرة الْمَحْضَة وَهِي الكسرة الْخَالِصَة الَّتِي لَا يشوبها شَيْء من غَيرهَا وَذَلِكَ كحركة من وَفِي وحركة أَوَائِل قيل وَبيع وهيب إِذا لم تشم

الْحَرَكَة السَّادِسَة الفتحة الْمَحْضَة وَهِي الفتحة الْخَالِصَة الَّتِي لَا يشوبها شَيْء من غَيرهَا كفتحة مَا وَمن

وَقد شَاب أَكثر النَّاس الفتحة الْمَحْضَة إِمَّا بالكسرة وَذَلِكَ فِي نَحْو خيل وليل وسيل وميل وَإِمَّا بالضمة وَذَلِكَ فِي نَحْو يَوْم وَقوم ونوم

كَمَا شابوا الكسرة الْمَحْضَة بالفتحة وَذَلِكَ فِي نَحْو صل وَأحسن وأنعم وأبشر وَبشر

ص: 827

من ضمة أَو فَتْحة أَو كسرة بغَيْرهَا فِي كثير من الْمَوَاضِع فَيَنْبَغِي الانتباه لذَلِك

الْحَرَكَة السَّابِعَة الفتحة الممالة وَهِي حَرَكَة بَين الفتحة الْمَحْضَة والكسرة الْمَحْضَة

والإمالة عِنْدهم هُوَ أَن ينحى بالفتحة نَحْو الكسرة وَذَلِكَ مثل فَتْحة النُّون فِي النَّاس وَالْبَاء فِي الْكبر عِنْد من أمال ذَلِك

وَلَيْسَت الإمالة لُغَة جَمِيع الْعَرَب فَإِن أهل الْحجاز لَا يميلون وَلَكِن يفخمون إِلَّا أَنه قد تقع مِنْهُم الإمالة قَلِيلا

وأرباب الإمالة هم تَمِيم وَمن جاورهم من سَائِر أهل نجد كأسد وَقيس

وَلَا يُقَال إمالة إِلَّا إِذا بولغ فِي إمالة الفتحة نَحْو الكسرة وَمَا لم يُبَالغ فِيهِ يُقَال الترقيق والإمالة بَين بَين وَقد يُسَمِّي بَعضهم الترقيق إمالة صغرى وَمَا بولغ فِيهِ إمالة كبرى

وَهَذِه الْحَرَكَة مَوْجُودَة فِي اللُّغَة الفارسية وَتسَمى عِنْد أَهلهَا بالكسرة المجهولة

وَإِذا مدت ظهر بعْدهَا حرف هُوَ إِلَى الْيَاء أقرب مِنْهُ إِلَى الْألف وَيُسمى بِالْيَاءِ المجهولة وَيكْتب بِالْيَاءِ وَذَلِكَ نَحْو سير بإمالة كسرة السِّين وَهُوَ بِمَعْنى الشبعان والنطق بِهِ كالنطق بِلَفْظ سَار فِي الْعَرَبيَّة إِذا أميل إمالة كبرى فَإِن كَانَ بإخلاص كسرة السِّين كَانَ بِمَعْنى الثوم لِأَن الإمالة فِي الْعَرَبيَّة طارئة والتفخيم هُوَ الأَصْل

قَالُوا وَيدل على ذَلِك أَن كل مَا يمال لَو فخمته لم تكن لاحنا فَإِنَّهُ مَا من كلمة تمال إِلَّا وَفِي الْعَرَب من يفخمها فَدلَّ اطراد الْفَتْح على أصالته وفرعيتها

وَلَو أملت كل مفخم كنت لاحنا فَإِن الإمالة لَا تكون إِلَّا بِسَبَب فَإِن فقد امْتنعت الإمالة وَتعين الْفَتْح

على أَنه يُمكن أَن يُقَال إِنَّمَا كتبوها بِالْألف رِعَايَة للغة قُرَيْش الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودَة بِالْأَصَالَةِ

وَكَثِيرًا مَا يفرق الْفرس بَين معنى الْكَلِمَة بِمثل ذَلِك نَحْو شير فَإِنَّهُ بِالْكَسْرِ الْمَحْض بِمَعْنى اللَّبن وبالكسر الممال إِلَى الْفَتْح بِمَعْنى الْأسد

وَنَظِير ذَلِك رُوِيَ فَإِنَّهُ بِالضَّمِّ الْمَحْض بِمَعْنى الْوَجْه وبالضم المشوب بِالْفَتْح بِمَعْنى الصفر وَهُوَ نوع من

ص: 828

النّحاس

وَإِنَّمَا لم تكْتب أَلفه الإمالة فِي الْعَرَبيَّة بِالْيَاءِ مَعَ أَنَّهَا إِلَى الْيَاء أقرب مِنْهَا إِلَى الْألف

وَمِمَّا جَاءَ بالإمالة فِي لُغَة قُرَيْش لَا فِي إمالا قَالَ فِي النِّهَايَة جَاءَ فِي حَدِيث بيع الثَّمر إمالا فَلَا تبايعوا حَتَّى يَبْدُو صَلَاح الثَّمَرَة

هَذِه الْكَلِمَة ترد فِي المحاورات كثيرا وَقد جَاءَت فِي غير مَوضِع من الحَدِيث وَأَصلهَا إِن وَمَا وَلَا فأدغمت النُّون فِي الْمِيم وَمَا زَائِدَة فِي اللَّفْظ لَا حكم لَهَا وَقد أمالت الْعَرَب لَا إمالة خَفِيفَة والعوام يشبعون إمالتها فَتَصِير ألفها يَاء وَهُوَ خطأ وَمَعْنَاهَا إِن لم تَفعلُوا هَذَا فَلْيَكُن هَذَا

وَأما الفتحة المشوبة بالضمة فَهِيَ الفتحة الَّتِي تكون قبل ألف التفخيم وَذَلِكَ نَحْو فَتْحة اللَّام فِي الصَّلَاة وَالْكَافِي فِي الزَّكَاة عِنْد من يشوبها بِشَيْء من الضمة وَقد سبق ذكرهَا فَإِنَّهَا عين الْحَرَكَة الثَّانِيَة الْمُسَمَّاة بالضمة المشوبة بالفتحة

وَالْمَشْهُور عِنْد الْجُمْهُور تَسْمِيَتهَا بالفتحة المشوبة بالضمة وَذَلِكَ أَنهم لاحظوا أَن الأَصْل فِيهَا أَن تكون فَتْحة بِدَلِيل أَنَّهَا فِي أَكثر لُغَات الْعَرَب هِيَ كَذَلِك فَيكون شوبها بالضمة أمرا طارئا عَلَيْهَا وَلم يلتفتوا إِلَى أَن الضَّم صَار فِيهَا أظهر من الْفَتْح وَلَا إِلَى أَن الشائبين لَهَا بِالضَّمِّ قد كتبُوا بعْدهَا الْوَاو دون الْألف فَيَنْبَغِي الانتباه لمثل ذَلِك فقد وَقع فِي مَبْحَث الحركات مَعَ شدَّة غموضه من اخْتِلَاف الْعبارَات إِمَّا لاخْتِلَاف الاعتبارات أَو لغير ذَلِك مَا رُبمَا يُوقع النبيه فِي حيرة شَدِيدَة

هَذَا وَقد ذكر سِيبَوَيْهٍ ألف التفخيم وَالْألف الَّتِي تمال إمالة شَدِيدَة فِي الْحُرُوف الفرعية الَّتِي تستحسن

الْحَرَكَة الثَّامِنَة الفتحة المرققة وَهِي المتوسطة بَين الفتحة الْمَحْضَة والفتحة الممالة

قَالَ بعض الْقُرَّاء الإمالة قِسْمَانِ شَدِيدَة ومتوسطة والمتوسطة هِيَ الَّتِي

ص: 829

تكون بَين الْفَتْح الْمُتَوَسّط والإمالة الشَّدِيدَة

وَيَنْبَغِي أَن يجْتَنب فِي الشَّدِيدَة الْقلب الْخَالِص والإشباع المبالغ فِيهِ وكلا الإمالتين جَائِز فِي الْقِرَاءَة غير أَنِّي أخْتَار الإمالة الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ بَين بَين لِأَن الْغَرَض من الإمالة حَاصِل بهَا

وَقَالَ بعض عُلَمَاء الرَّسْم الإمالة هِيَ أَن ينحى بالفتحة نَحْو الكسرة وبالألف إِن كَانَت بعْدهَا نَحْو الْيَاء فَإِن كَانَ جُزْء الكسرة أَكثر سميت مَحْضَة وَرُبمَا عبر عَنْهَا بِالْكَسْرِ وَإِن كَانَ جُزْء الكسرة أقل سميت تقليلا وَإِن تَسَاويا سميت بَين بَين

وَهَذَا يدل على أَن بَين الفتحة والكسرة ثَلَاثَة حركات وَمَا سبق يدل على أَن بَينهمَا حركتين وَإِذا أمعنت النّظر تبين لَك أَن هَذَا من قبيل اخْتِلَاف الْعبارَات لاخْتِلَاف الاعتبارات

وَالْمرَاد بالفتحة الْمَحْضَة الفتحة الَّتِي تنشأ عَن فتح الْفَم بِلَا تكلّف

قَالَ بعض الْقُرَّاء الْفَتْح وَيُقَال لَهُ التفخيم يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ فتح شَدِيد وَفتح متوسط

فالفتح الشَّديد هُوَ نِهَايَة فتح الْقَارئ فَمه بِلَفْظ الْحَرْف المفتوح وَهُوَ مَعْدُوم فِي لُغَة الْعَرَب والقراء يعدلُونَ عَنهُ وَأكْثر مَا يُوجد فِي أَلْفَاظ أهل خُرَاسَان وَمن قرب مِنْهُم فِيمَا إِذا كَانَ بعد الْفَتْح ألف وَهُوَ مَكْرُوه عِنْد الْقُرَّاء معيب فِي الْقِرَاءَة غير أَن الْكَرَاهَة فِي ذَلِك أخف من الْكَرَاهَة فِيمَا لَيْسَ بعده ألف وَذَلِكَ مثل مَا يَفْعَله بعض النَّاس فِي لَام عَلَيْهِم ودال لديهم

وَالْفَتْح الْمُتَوَسّط هُوَ مَا يكون بَين الْفَتْح الشَّديد والإمالة الصُّغْرَى وَهُوَ الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ أهل الْفَتْح من الْقُرَّاء وَإِنَّمَا نبهنا عل هَذِه لما ذكره بعض الجهابذة من أَن بعض من يسْتَعْمل الْفَتْح الشَّديد يزْعم أَنه الْفَتْح الْمُتَوَسّط وينسب من اسْتعْمل الْفَتْح الْمُتَوَسّط إِلَى الإمالة

وَقد حذر بعض أَرْبَاب الْفَنّ من تفخيم الْعَجم وترقيق الْعَرَب وَالْمرَاد بتفخيم الْعَجم الْفَتْح الشَّديد الَّذِي اعتاده أهل التفخيم مِنْهُم وَالْمرَاد بترقيق الْعَرَب

ص: 830

الإمالة الصُّغْرَى الَّتِي هِيَ لُغَة لبَعض قبائل الْعَرَب فَإِن من الْعَرَب من لَا يمِيل أصلا وَمِنْهُم من يمِيل فِي بعض الْمَوَاضِع إمالة كبرى وَمِنْهُم من يسْتَعْمل فِي موضعهَا الإمالة الصُّغْرَى

وَأما الْحَرَكَة المختلسة فَهِيَ حَرَكَة غير متميزة فِي الْحس وَتسَمى الْحَرَكَة المجهولة وَبهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرو {فتوبوا إِلَى بارئكم}

قَالَ ابْن جني وَأما الْحَرَكَة الضعيفة المختلسة كحركة همزَة بَين بَين وَغَيرهَا من الْحُرُوف الَّتِي يُرَاد اختلاس حركاتها تَخْفِيفًا فَلَيْسَتْ حَرَكَة مشمة شَيْئا من غَيرهَا من الحركتين وَإِنَّمَا أَضْعَف اعتمادها فأخفيت لضرب من التَّخْفِيف وَهِي بزنتها إِذا وفت وَلم تختلس

وَقد تقدّمت الدّلَالَة على أَن همزَة بَين بَين كَغَيْرِهَا من سَائِر المتحركات فِي ميزَان الْعرُوض الَّذِي هُوَ حَاكم وعيار على السَّاكِن والمتحرك وَكَذَلِكَ غير هَذِه الْهمزَة من الْحُرُوف المخفاة الحركات نَحْو قَوْله عز اسْمه {مَا لَك لَا تأمنا} وَغير ذَلِك كُله محرك وَإِن كَانَ مختلسا

وَيدل على حركته قَوْله تَعَالَى {شهر رَمَضَان} فِيمَن أخْفى فَلَو كَانَت الرَّاء الأولى سَاكِنة وَالْهَاء قبلهَا سَاكِنة لاجتمع ساكنان فِي الأَصْل لَيْسَ الأول مِنْهُمَا حرف لين وَالثَّانِي مدغما نَحْو دَابَّة وشابة

وَقَالَ أَبُو عَليّ حَرَكَة الْبناء وَالْإِعْرَاب يسْتَعْمل فِي الضمة والكسرة مِنْهُمَا وَجْهَان الإشباع والاختلاس وَلَيْسَ فِي الفتحة إِلَّا الإشباع والاختلاس وَإِن كَانَ صَوته أَضْعَف من الإشباع وأخفى فالحرف المختلس حركته بزنة المتحرك فَمن روى الإسكان عَن أبي عَمْرو فِي {بارئكم} فَلَعَلَّهُ سَمعه يختلس فطنة لضعف الصَّوْت وَالْحَرَكَة أَنه سكن وعَلى هَذَا يَأْمُركُمْ ويشعركم وَنَحْوه كُله على الاختلاس مُسْتَقِيم حسن وَقد جَاءَ إسكان مثل هَذَا فِي الشّعْر

وَقَالَ بعض الْقُرَّاء إِذا كَانَت الْقِرَاءَة بِشَيْء مِمَّا شاع وذاع وَقد تَلَقَّتْهُ الْأَئِمَّة بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح الَّذِي هُوَ الرُّكْن الْأَعْظَم فِي ذَلِك لم يضر خلاف مُخَالف فكم من

ص: 831