المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع في رواية الحديث بالمعنى وما يتعلق بذلك - توجيه النظر إلى أصول الأثر - جـ ٢

[طاهر الجزائري]

فهرس الكتاب

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْغَزْو وَالسير

- ‌المبحث الثَّالِث فِي الحَدِيث الضَّعِيف

- ‌تَقْسِيم الحَدِيث الضَّعِيف إِلَى أقسامه الْمَشْهُورَة على طَريقَة الْمُحدثين

- ‌زِيَادَة بسط

- ‌وَهنا أُمُور يَنْبَغِي الانتباه لَهَا

- ‌بَيَان شاف للمعلل من الحَدِيث

- ‌بَيَان علل أَخْبَار رويت فِي الطَّهَارَة

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي الصَّلَاة

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الزَّكَاة وَالصَّدقَات

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الصَّوْم

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْمَنَاسِك

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْجَنَائِز

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْبيُوع

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي النِّكَاح

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْحُدُود

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي اللبَاس

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي الْأَطْعِمَة

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي أُمُور شَتَّى

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْأَحْكَام والأقضية

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الزّهْد

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْمَنَاسِك

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْغَزْو وَالسير

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْبيُوع

- ‌صلَة تتَعَلَّق بالضعيف وَهِي تشْتَمل على ثَلَاث مسَائِل

- ‌الْفَصْل السَّابِع فِي رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى وَمَا يتَعَلَّق بذلك

- ‌فروع لَهَا تعلق بالرواية بِالْمَعْنَى

- ‌فَوَائِد شَتَّى الْفَائِدَة الأولى

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّالِثَة

- ‌الْفَائِدَة الرَّابِعَة

- ‌الْفَائِدَة الْخَامِسَة

- ‌تَنْبِيهَات

- ‌الْفَائِدَة السَّابِعَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّامِنَة

- ‌الْفَائِدَة التَّاسِعَة

- ‌الْفَائِدَة الْعَاشِرَة

- ‌الْفَائِدَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة عشرَة

الفصل: ‌الفصل السابع في رواية الحديث بالمعنى وما يتعلق بذلك

‌الْفَصْل السَّابِع فِي رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى وَمَا يتَعَلَّق بذلك

اخْتلف الْعلمَاء فِي رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى فَذهب قوم إِلَى عدم جَوَاز ذَلِك مُطلقًا مِنْهُم ابْن سِيرِين وثعلب وَأَبُو بكر الرَّازِيّ وَغَيرهم ويروى ذَلِك عَن ابْن عمر وَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى جَوَاز ذَلِك إِذا كَانَ الرَّاوِي عَارِفًا بدقائق الْأَلْفَاظ بَصيرًا بِمِقْدَار التَّفَاوُت بَينهَا خَبِيرا بِمَا يحِيل مَعَانِيهَا فَإِذا أبدل اللَّفْظ الَّذِي بلغه بِلَفْظ آخر يقوم مقَامه بِحَيْثُ يكون مَعْنَاهُ مطابقا لِمَعْنى اللَّفْظ الَّذِي بلغه جَازَ ذَلِك

وَقد تعرض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة عُلَمَاء الْأُصُول وَلما كَانَت من الْمسَائِل المهمة جدا أَحْبَبْت أَن أورد من عباراتهم هُنَا مَا يكون فِيهِ كِفَايَة لمطالع كتَابنَا قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي اللمع بَاب القَوْل فِي حَقِيقَة الرِّوَايَة وَمَا يتَّصل بهَا وَالِاخْتِيَار فِي الرِّوَايَة أَن يروي الْخَبَر بِلَفْظِهِ لقَوْله ص = نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سمع قرب حَامِل فقه إِلَى مَا هُوَ أفقه مِنْهُ

فَإِن أورد الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى نظر فَإِن كَانَ مِمَّن لَا يعرف معنى الحَدِيث لم يجز لِأَنَّهُ لَا يُؤمن أَن يُغير معنى الحَدِيث

وَإِن كَانَ مِمَّن يعرف معنى الحَدِيث نظر فَإِن كَانَ ذَلِك فِي خبر مُحْتَمل لم يجز أَن يروي بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ رُبمَا نَقله بِلَفْظ لَا يُؤَدِّي مُرَاد الرَّسُول ص = فَلَا يجوز أَن يتَصَرَّف فِيهِ وَإِن كَانَ خَبرا ظَاهرا فَفِيهِ وَجْهَان من أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ التَّعَبُّد بِاللَّفْظِ كتكبير الصَّلَاة وَالثَّانِي أَنه يجوز وَهُوَ الْأَظْهر

ص: 671

لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ فَقَامَ مقَامه وَلِهَذَا رُوِيَ عَن النَّبِي ص = أَنه قَالَ إِذا أصبت الْمَعْنى فَلَا بَأْس

وَهَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ ابْن مَنْدَه فِي معرفَة الصَّحَابَة وَالطَّبَرَانِيّ فِي المعجم الْكَبِير من حَدِيث عبد الله بن سُلَيْمَان بن أكيمَة اللَّيْثِيّ قَالَ قلت يَا رَسُول الله إِنِّي أسمع مِنْك الحَدِيث لَا أَسْتَطِيع أَن أوديه كَمَا أسمعهُ مِنْك يزِيد حرفا أَو ينقص حرفا فَقَالَ إِذا لم تحلوا حَرَامًا وَلم تحرموا حَلَال وأصبتم الْمَعْنى فَلَا بَأْس

فَذكر ذَلِك لِلْحسنِ فَقَالَ لَوْلَا هَذَا مَا حَدثنَا

وَذكر بعض أهل الْأَثر أَن أُنَاسًا من المجوزين للرواية بِالْمَعْنَى استأنسوا بِحَدِيث مَرْفُوع فِيهِ قُلْنَا يَا رَسُول الله إِنَّا نسْمع مِنْك الحَدِيث فَلَا نقدر أَن نؤديه فَقَالَ إِذا لم تحلوا حَرَامًا وَلم تحرموا حَلَالا وأصبتم الْمَعْنى لَا بَأْس

قَالَ وَهُوَ حَدِيث مُضْطَرب لَا يَصح بل ذكره الجوزقاني وَابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات وَفِي ذَلِك نظر

وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى دون اللَّفْظ حرَام على الْجَاهِل بمواقع الْخطاب ودقائق الْأَلْفَاظ أما الْعَالم بِالْفرقِ بَين الْمُحْتَمل وَغير الْمُحْتَمل وَالظَّاهِر وَالْأَظْهَر وَالْعَام والأعم فقد جوز لَهُ الشَّافِعِي وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وجماهير الْفُقَهَاء أَن يَنْقُلهُ على الْمَعْنى إِذا فهمه

وَقَالَ فريق لَا يجوز لَهُ إِلَّا إِبْدَال اللَّفْظ بِمَا يرادفه ويساويه فِي الْمَعْنى كَمَا يُبدل الْقعُود بِالْجُلُوسِ وَالْعلم بالمعرفة والاستطاعة بِالْقُدْرَةِ والإبصار بالإحساس بالبصر والحظر بِالتَّحْرِيمِ وَسَائِر مَا لَا يشك فِيهِ وعَلى الْجُمْلَة مَا لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ

ص: 672

تفَاوت بالاستنباط والفهم وَإِنَّمَا ذَلِك فِيمَا فهمه قطعا لَا فِيمَا فهمه بِنَوْع استلال يخْتَلف فِيهِ الناظرون

وَيدل على جَوَاز ذَلِك للْعَالم الْإِجْمَاع على جَوَاز شرح الشَّرْع للعجم بلسانهم إِذا جَازَ إِبْدَال الْعَرَبيَّة بعجمية ترادفها فَلِأَن يجوز إِبْدَال عَرَبِيَّة بعربية ترادفها وتساويها أولى وَكَانَ سفراء رَسُول الله ص = فِي الْبِلَاد يبلغونهم أوامره بلغتهم وَكَذَلِكَ من سمع شَهَادَة الرَّسُول ص = فَلهُ أَن يشْهد على شَهَادَته بلغَة أُخْرَى وَهَذَا لأَنا نعلم أَنه لَا تعبد فِي اللَّفْظ وَإِنَّمَا الْمَقْصُود فهم الْمَعْنى وإيصاله إِلَى الْحق وَلَيْسَ فِي ذَلِك كالتشهد وَالتَّكْبِير وَمَا تعبد فِيهِ بِاللَّفْظِ

فَإِن قيل فقد قَالَ ص = نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها فأداها كَمَا سَمعهَا فَرب مبلغ أوعى من سامع وَرب حَامِل فقد لَيْسَ بفقيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ

قُلْنَا هَذَا هُوَ الْحجَّة لِأَنَّهُ ذكر الْعلَّة وَهُوَ اخْتِلَاف النَّاس فِي الْفِقْه فَمَا لَا يخْتَلف النَّاس فِيهِ من الْأَلْفَاظ المترادفة فَلَا يمْنَع مِنْهُ

وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه قد نقل بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَالْمعْنَى وَاحِد وَإِن أمكن أَن تكون جَمِيع تِلْكَ الْأَلْفَاظ قَول رَسُول الله ص = فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة لَكِن الْأَغْلَب أَنه حَدِيث وَاحِد وَنقل بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة فَإِنَّهُ رُوِيَ رجم الله امْرأ ونضر الله امْرأ

وَرُوِيَ وَرب حَامِل فقه لَا فقه لَهُ وَرب حَامِل فقه غير فَقِيه وَكَذَلِكَ الْخطب المتحدة والوقائع المتحدة رَوَاهَا الصَّحَابَة رضي الله عنهم بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة فَدلَّ ذَلِك على الْجَوَاز

وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ فِي الْمَحْصُول يجوز نقل الْخَبَر بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَذْهَب الْحسن الْبَصْرِيّ وَأبي حنيفَة خلافًا لِابْنِ سِيرِين وَبَعض الْمُحدثين وَلَكِن بشرائط ثَلَاث إِحْدَاهَا أَن لَا تكون التَّرْجَمَة قَاصِرَة عَن الأَصْل فِي إِفَادَة الْمَعْنى

وَثَانِيها أَن لَا يكون فِيهَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان

وَثَالِثهَا أَن تكون التَّرْجَمَة مُسَاوِيَة للْأَصْل فِي الْجلاء

ص: 673

والخفاء لِأَن الْخطاب يَقع تَارَة بالمحكم وَتارَة بالمتشابه لحكم وأسرار اسْتَأْثر الله بعلمها فَلَا يجوز تغييرها عَن وصفهَا

لنا وُجُوه الأول أَن الصَّحَابَة نقلوا قصَّة وَاحِدَة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة مَذْكُورَة فِي مجْلِس وَاحِد وَلم يُنكر بَعضهم على بعض فِيهِ وَذَلِكَ يدل على قَوْلنَا

الثَّانِي أَنه يجوز شرح الشَّرْع للعجم بلسانهم فَإِذا جَازَ إِبْدَال الْعَرَبيَّة بالعجمية فبأن يجوز إبدالها بعربية أُخْرَى أولى وَمن أنصف علم أَن التَّفَاوُت بَين الْعَرَبيَّة وترجمتها بِالْعَرَبِيَّةِ أقل مِمَّا بَينهَا وَبَين العجمية

الثَّالِث أَنه رُوِيَ عَنهُ عليه السلام أَنه قَالَ إِذا أصبْتُم الْمَعْنى فَلَا بَأْس

وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه كَانَ إِذا حَدِيث قَالَ قَالَ رَسُول الله كَذَا أَو نَحوه

الرَّابِع وَهُوَ الْأَقْوَى أَنا نعلم بِالضَّرُورَةِ أَن الصَّحَابَة الَّذين رووا عَن رَسُول الله ص = فِي ذَلِك الْمجْلس بل كَمَا سمعوها يذكرونها وَمَا ذكروها إِلَّا بعد الْأَعْصَار والسنين وَذَلِكَ يُوجب الْقطع بتعذر رِوَايَتهَا على تِلْكَ الْأَلْفَاظ

احْتج الْمُخَالف بِالنَّصِّ والمعقول

أما النَّص فَقَوله عليه الصلاة والسلام رحم الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمعهَا

قَالُوا وأداؤه كَمَا سمع هُوَ أَدَاء اللَّفْظ المسموع

وَنقل الْفَقِيه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ مَعْنَاهُ وَالله أعلم أَن الأفطن رُبمَا فطن بِفضل فقهه من فَوَائِد اللَّفْظ بِمَا لم يفْطن لَهُ الرَّاوِي لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ دونه فِي الْفِقْه

وَأما الْمَعْقُول فِيمَن وَجْهَيْن

الأول أَنا لما جربنَا رَأينَا أَن الْمُتَأَخر رُبمَا استنبط من فَوَائِد بِآيَة أَو خبر مَا لم يتَنَبَّه لَهُ أهل الْأَعْصَار السالفة من الْعلمَاء الْمُحَقِّقين فَعلمنَا أَنه لَا يجب فِي كل مَا كَانَ من فَوَائِد اللَّفْظ أَن يتبنه لَهُ السَّامع فِي الْحَال وَإِن كَانَ فَقِيها ذكيا نَفسه فَلَو جَوَّزنَا النَّقْل بِالْمَعْنَى فَرُبمَا حصل التَّفَاوُت الْعَظِيم مَعَ أَن الرَّاوِي يظنّ أَن لَا تفَاوت

ص: 674

الثَّانِي أَنه لَو جَازَ للراوي تَبْدِيل لفظ الرَّسُول بِلَفْظ نَفسه كَانَ للراوي الثَّانِي تَبْدِيل اللَّفْظ الَّذِي سَمعه بِلَفْظ نَفسه بل هَذَا أولى لِأَن تَبْدِيل لفظ الرَّاوِي أولى بِالْجَوَازِ من تَبْدِيل لفظ الشَّارِع وَإِن كَانَ ذَلِك فِي الطَّبَقَة الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة فَذَلِك يقْضِي إِلَى سُقُوط الْكَلَام الأول لِأَن الْإِنْسَان وَإِن اجْتهد فِي تطبيق التَّرْجَمَة لَكِن لَا يَنْفَكّ عَن تفَاوت وَإِن قل فَإِذا توالت هَذِه التفاوتات كَانَ التَّفَاوُت الْأَخير تَفَاوتا فَاحِشا بِحَيْثُ لَا يبْقى بَين الْكَلَام الْأَخير وَبَين الأول نوع مُنَاسبَة

وَالْجَوَاب عَن الأول أَن من أدّى كَلَام الرجل فَإِنَّهُ يُوصف بِأَنَّهُ أدّى كَمَا سمع وَإِن اخْتلف الْأَلْفَاظ وَهَكَذَا الشَّاهِد والترجمان يَقع عَلَيْهِمَا الْوَصْف بِأَنَّهُمَا أديا كَمَا سمعا وَإِن كَانَ لفظ الشَّاهِد خلاف لفظ الْمَشْهُود عَلَيْهِ ولغة المترجم غير لُغَة المترجم عَنهُ

وَعَن الثَّانِي وَالثَّالِث مَا تقدم قبل

وَقَالَ الْقَرَافِيّ فِي شرح تَنْقِيح الْفُصُول فِي الْأُصُول وَنقل الْخَبَر بِالْمَعْنَى عِنْد أبي الْحُسَيْن وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ جَائِز خلافًا لِابْنِ سِيرِين وَبَعض الْمُحدثين بِشُرُوط أَن لَا تزيد التَّرْجَمَة وَلَا تنقص وَلَا تكون أخْفى وَلَا أجلى لِأَن الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ إِيصَال الْمعَانِي فَلَا يضر فَوَات غَيرهَا

وَمَتى زَادَت عبارَة الرَّاوِي أَو نقصت فقد زَاد فِي الشَّرْع أَو نقص وَذَلِكَ حرَام إِجْمَاعًا وَمَتى كَانَت عبارَة الحَدِيث جلية فغيرها بِعِبَارَة خُفْيَة فقد أوقع فِي الحَدِيث وهنأ يُوجب تَقْدِيم غَيره عَلَيْهِ بِسَبَب خفائه فَإِن الْأَحَادِيث إِذا تَعَارَضَت فِي الحكم الْوَاحِد يقدم أجلاها على أخفاها فَإِذا كَانَ أصل الحَدِيث جليا فأبدله بخفي فقد أبطل مِنْهُ مزية حَسَنَة تخل بِهِ عِنْد التَّعَارُض

وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الحَدِيث خَفِي الْعبارَة فأبدلها بأجلى مِنْهَا فقد أوجب لَهُ حكم التَّقْدِيم على غَيره وَحكم الله لَا يقدم غَيره عَلَيْهِ عِنْد التَّعَارُض فقد تسبب بِهَذَا التَّغْيِير فِي الْعبارَة إِلَى تَغْيِير حكم الله تَعَالَى وَذَلِكَ لَا يجوز

فَهَذَا هُوَ مُسْتَند هَذِه

ص: 675

الشُّرُوط فَإِذا حصلت هَذِه الشُّرُوط فَحِينَئِذٍ يجْرِي الْخلاف فِي الْجَوَاز أما عِنْد عدمهَا فَلَا يجوز إِجْمَاعًا

حجَّة الْجَوَاز أَن الصَّحَابَة رضي الله عنهم كَانُوا يسمعُونَ الْأَحَادِيث وَلَا يكتبونها وَلَا يكررون عَلَيْهَا ثمَّ يروونها بعد السنين الْكَثِيرَة وَمثل هَذَا يجْزم الْإِنْسَان فِيهِ بِأَن نفس الْعبارَة لَا تنضبط بل الْمَعْنى فَقَط وَلِأَن أَحَادِيث كَثِيرَة وَقعت بعبارات مُخْتَلفَة وَذَلِكَ مَعَ اتِّحَاد الْقِصَّة وَهُوَ دَلِيل جَوَاز النَّقْل بِالْمَعْنَى وَلِأَن لفظ السّنة لَيْسَ متعبدا بِهِ بِخِلَاف لفظ الْقُرْآن فَإِذا ضبط الْمَعْنى فَلَا يضر فَوَات مَا لَيْسَ بمقصود

حجَّة الْمَنْع قَوْله عليه الصلاة والسلام رحم الله أَو نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فأداها كَمَا سَمعهَا فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب حَامِل فقه إِلَى من لَيْسَ بفقيه

فَقَوله فأداها كَمَا سَمعهَا يَقْتَضِي أَن يكون اللَّفْظ الْمُؤَدى كاللفظ المسموع عملا بكاف التَّشْبِيه

والمسموع فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ اللَّفْظ وَسَمَاع الْمَعْنى تبع لَهُ والتشبيه وَقع بالمسموع فَلَا يُشبههُ حِينَئِذٍ إِلَّا المسموع أما الْمَعْنى فَلَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنه عليه الصلاة والسلام أوجب نقل مثل مَا سَمعه لَا خِلَافه وَهُوَ الْمَطْلُوب

قَالَ صَاحب ميزَان الْعُقُول فِي الْأُصُول مَسْأَلَة نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى هَل يجوز أم لَا أَجمعُوا أَنه إِذا كَانَ لفظا مُشْتَركا أَو مُجملا أَو مُشكلا فَإِنَّهُ لَا يجوز إِقَامَة لفظ آخر مقَامه

أما إِذا كَانَ لفظا ظَاهرا مُفَسرًا فإقامة لفظ آخر مثله بِأَن قَالَ قعد رَسُول الله ص = على رَأس الرَّكْعَتَيْنِ فِي صَلَاة الظّهْر مَكَان مَا رُوِيَ أَنه جلس على رَأس الرَّكْعَتَيْنِ هَل يجوز فَعِنْدَ أَصْحَابنَا يجوز وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَقد رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ كَذَلِك

وَقَالَ بعض أَصْحَاب الحَدِيث إِنَّه لَا يجوز

وَقيل هُوَ اخْتِيَار ثَعْلَب من أَئِمَّة اللُّغَة وَحجَّة هَؤُلَاءِ حَدِيث رَسُول الله ص = فَإِنَّهُ قَالَ نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها وأداها كَمَا سَمعهَا

وَلِأَن النَّبِي عليه الصلاة والسلام مَخْصُوص بِكَمَال الفصاحة والبلاغة كَمَا رُوِيَ أَنه قَالَ أَنا أفْصح الْعَرَب وَلَا فَخر

وَرُوِيَ

ص: 676

عَنهُ أَنه قَالَ أُوتيت خمْسا لم يُؤْتَهُنَّ أحدا قبلي وَذَلِكَ مِنْهَا وَأُوتِيت جَوَامِع الْكَلم

وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَلَا شكّ أَن فِي النَّقْل إِلَى لفظ آخر احْتِمَال الاختلال فِي الْمَعْنى فَيجب الِاقْتِصَار على اللَّفْظ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَلِهَذَا الطَّرِيق لَا يجوز نقل الْقُرْآن بِالْمَعْنَى فَكَذَا هَذَا

وَوجه قَول الْعَامَّة مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود وَغَيره أَن النَّبِي عليه الصلاة والسلام قَالَ هَكَذَا أَو نَحوا مِنْهُ أَو قَرِيبا مِنْهُ

وَهَذَا نقل بِالْمَعْنَى وَقد اشْتهر عَن الصَّحَابَة أَنهم قَالُوا أمرنَا رَسُول الله ص = بِكَذَا ونهانا عَن كَذَا

وَهَذَا نقل من حَيْثُ الْمَعْنى وَإِجْمَاع الصَّحَابَة حجَّة

وَالْمعْنَى فِي الْمَسْأَلَة هُوَ أَن الِامْتِنَاع إِمَّا أَن يكون لأجل اللَّفْظ أَو لأجل الْمَعْنى وَالْأول فَاسد فَإِن سنة النَّبِي عليه الصلاة والسلام وضعت لبَيَان الْأَحْكَام وَهُوَ الْغَرَض وَهَذَا لَا يخْتَص بِلَفْظ دون لفظ وَلِأَنَّهُ لم يتَعَلَّق شَيْء من الْغَرَض بِلَفْظ الحَدِيث لِأَنَّهُ لَيْسَ بمعجز وَلَا يتَعَلَّق الثَّوَاب وَجَوَاز الصَّلَاة بِهِ بِخِلَاف الْقُرْآن فَإِنَّهُ معجز وَقد تعلق بتلاوته الثَّوَاب وَجَوَاز الصَّلَاة

فلئن كَانَ لَا يجوز نقل الْقُرْآن من لفظ إِلَى لفظ فَلم ذَا لَا يجوز فِي الحَدِيث مَعَ أَن ثمَّ جَاءَ النَّقْل بطرِيق الرُّخْصَة أَيْضا كَمَا رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه سمع رجلا يَقُول طَعَام الْيَتِيم

وَلم يُمكنهُ أَن يَقُول طَعَام الأثيم

فَقَالَ لَهُ قل طَعَام الْفَاجِر فَلِأَن يجوز فِي الحَدِيث أولى

وَإِن كَانَ لأجل الْمَعْنى فَالْمَعْنى لَا يخْتَلف وَلَا يخْتل بِالنَّقْلِ إِلَى لفظ مثله فِي الْمَعْنى نَحْو قَوْلهم قعد مَكَان جلس وَلِهَذَا كَانَ نقل كلمة الشَّهَادَة من اللَّفْظ الْمَرْوِيّ بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَى كل لِسَان جَائِز لما كَانَ الْغَرَض هُوَ الْمَعْنى دون اللَّفْظ فَكَذَا هَذَا بِخِلَاف الْأَذَان وَالتَّشَهُّد حَيْثُ لَا يجوز النَّقْل عَن ألفاظهما إِلَى غَيرهمَا لِأَن الشَّرْع جَاءَ بِتِلَاوَة ألفاظهما وعلق بهما الثَّوَاب الْخَاص على أَن الْأَذَان شرع للإعلام وَإنَّهُ لَا يحصل إِلَّا بالألفاظ الْمَعْرُوفَة وَلِهَذَا لم يجوزوا النَّقْل من اللَّفْظ الْمُشْتَرك والمجمل إِلَى لفظ آخر لما فِيهِ من احْتِمَال الْإِخْلَال بِالْمَعْنَى

ص: 677

وَأما الحَدِيث فَنَقُول لَا حجَّة فِي الحَدِيث لِأَن من نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى من كل وَجه يُقَال إِنَّه أدّى كَمَا سمع فَإِنَّهُ يُقَال للمترجم من لُغَة إِلَى لُغَة قد أدّى كَمَا سمع

على أَن المُرَاد بِالْحَدِيثِ إِذا كَانَ لفظ الحَدِيث مُشْتَركا أَو مُشكلا أَو مُجملا يُمكن احْتِمَال الْخلَل فِيهِ بِالنَّقْلِ إِلَى لفظ آخر وَنحن نمْنَع النَّقْل فِي مثل هَذَا الْموضع لهَذَا الْوَهم وَفِي الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه

وَمَا لَا يشْتَبه من الْأَلْفَاظ وَلَا يخْتَلف اجْتِهَاد الْمُجْتَهدين فِيهِ يَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِيه وَغير الْفَقِيه والكامل فِي الْفَقِيه والناقص

وَقَالَ بعض عُلَمَاء الْحَنَابِلَة تجوز رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى المطابق للفظ للعارف بمقتضيات الْأَلْفَاظ الْفَارِق بَينهَا وَمنع مِنْهُ ابْن سِيرِين لقَوْله عليه الصلاة والسلام فأداها كَمَا سَمعهَا وَلقَوْله عليه الصلاة والسلام للبراء حِين قَالَ وَرَسُولك الَّذِي أرْسلت

قَالَ قل وَنَبِيك الَّذِي أرْسلت

وَلنَا جَوَاز شرح الحَدِيث وَالشَّهَادَة على الشَّهَادَة الْعَرَبيَّة بالعجمية وَعَكسه فَهَذَا أولى وَلِأَن التَّعَبُّد بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ بِخِلَاف الْقُرْآن وَلِأَنَّهُ جَائِز فِي غير السّنة فَكَذَا فِيهَا إِذْ الْكَذِب حرَام فيهمَا والراوي بِالْمَعْنَى المطابق مؤد كَمَا سمع

ثمَّ المُرَاد مِنْهُ من لَا يفرق وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ

وَفَائِدَة قَوْله عليه الصلاة والسلام للبراء مَا ذكر عدم الالتباس بِجِبْرِيل أَو الْجمع بَين لفظتي النُّبُوَّة والرسالة

قَالَ أَبُو الْخطاب وَلَا يُبدل لفظا بأظهر مِنْهُ إِذْ الشَّارِع رُبمَا قصد إِيصَال الحكم بِاللَّفْظِ الْجَلِيّ تَارَة وبالخفي أُخْرَى

قلت وَكَذَا بِالْعَكْسِ وَهُوَ أولى

وَقد فهم هَذَا من قَوْلنَا الْمَعْنى المطابق

وَالله أعلم

وَقَالَ ابْن حزم فصل قَالَ عَليّ وَحكم الْخَبَر عَن النَّبِي ص = أَن يُورد بِنَصّ لَفظه لَا يُبدل وَلَا يُغير إِلَّا فِي حَال وَاحِدَة وَهِي أَن يكون الْمَرْء

ص: 678

قد تثبت فِيهِ وَعرف مَعْنَاهُ يَقِينا فَيسْأَل فيفتي بِمَعْنَاهُ وموجبه فَيَقُول حكم رَسُول الله بِكَذَا وَنهى عَن كَذَا وَحرم كَذَا وَالْوَاجِب فِي هَذِه الْقَضِيَّة مَا صَحَّ عَن النَّبِي ص = وَهُوَ كَذَا وَكَذَلِكَ الحكم فِيمَا جَاءَ من الحكم فِي الْقُرْآن وَلَا فرق

وَجَائِز أَن يخبر الْمَرْء بِمُوجب الْآيَة وبحكمها بِغَيْر لَفظهَا وَهَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ من أحد فِي أَن ذَلِك مُبَاح كَمَا ذكرنَا

وَأما من حدث وَأسْندَ القَوْل إِلَى النَّبِي ص = وَقصد التَّبْلِيغ لما بلغه عَن النَّبِي ص = فَلَا يحل لَهُ إِلَّا تحري الْأَلْفَاظ كَمَا سَمعهَا لَا يُبدل حرفا مَكَان آخر وَإِن كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا وَلَا يقدم حرفا وَلَا يُؤَخر آخر وَكَذَلِكَ من قصد تِلَاوَة آيَة أَو تعلمهَا وَلَا فرق

وبرهان ذَلِك أَن النَّبِي ص = علم الْبَراء بن عَازِب دُعَاء وَفِيه وَنَبِيك الَّذِي أرْسلت

فَلَمَّا أَرَادَ الْبَراء أَن يعرض ذَلِك الدُّعَاء على النَّبِي ص = قَالَ وبرسولك الَّذِي أرْسلت فَقَالَ النَّبِي ص = لَا وبنبيك الَّذِي أرْسلت

فَأمره عليه الصلاة والسلام أَن لَا يضع لَفْظَة رَسُول فِي مَوضِع لَفْظَة نَبِي وَذَلِكَ حق لَا يحِيل معنى وَهُوَ عليه السلام رَسُول وَنَبِي

فَكيف يسوغ للجهال المغفلين أَن يَقُولُوا إِنَّه عليه الصلاة والسلام كَانَ يُجِيز أَن يوضع فِي الْقُرْآن مَكَان عَزِيز حَكِيم غَفُور رَحِيم أَو سميع عليم

وَهُوَ يمْنَع من ذَلِك فِي دُعَاء لَيْسَ قُرْآنًا وَالله يَقُول مخبرا عَن نبيه {مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي} وَلَا تَبْدِيل أَكثر من وضع كلمة مَكَان أُخْرَى

أم كَيفَ يسوغ إِبَاحَة الْقِرَاءَة الْمَفْرُوضَة فِي الصَّلَاة بالأعجمية مَعَ مَا ذكرنَا وَمَعَ إِجْمَاع الْأمة أَن إنْسَانا لَو قَرَأَ أم الْقُرْآن فَقدم آيَة على أُخْرَى أَو قَالَ الشُّكْر للصمد مولى الْخَلَائق وَزعم أَن ذَلِك فِي الْقُرْآن لعد مِمَّن يفتري على الله الْكَذِب وَمَعَ قَوْله تَعَالَى {لِسَان الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ أعجمي وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين}

فَفرق تَعَالَى

ص: 679

بَينهمَا وَأخْبر أَن الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيّ لَا العجمي وَأمر بِقِرَاءَة الْقُرْآن فِي الصَّلَاة فَمن قَرَأَ بالأعجمية فَلم يقْرَأ الْقُرْآن بِلَا شكّ

وَاحْتج بَعضهم فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} وبخطابه تَعَالَى لنا بِالْعَرَبِيَّةِ حاكيا كَلَام مُوسَى عليه السلام

قَالَ عَليّ وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الَّذِي فِي زبر الْأَوَّلين إِنَّمَا هُوَ معنى الْقُرْآن لَا الْقُرْآن وَلَو كَانَ الْقُرْآن فِي زبر الْأَوَّلين لما كَانَ مُحَمَّد ص = مَخْصُوصًا بِهِ وَلَا كَانَت لَهُ فِيهِ آيَة

وَهَذَا خلاف النَّص

وَأما حكايته تَعَالَى لنا كَلَام مُوسَى وَغَيره بلغتنا فَلم يلْزمنَا تَعَالَى بِقِرَاءَة ألفاظهم بنصها وَلَا نمْنَع نَحن تَفْسِير الْقُرْآن بالأعجمية لمن يترجم لَهُ وَإِنَّمَا نمْنَع من تِلَاوَته فِي الصَّلَاة أَو على سَبِيل التَّقَرُّب بتلاوته إِلَى الله تَعَالَى بِغَيْر اللَّفْظ الَّذِي أنزل بِهِ لَا بِكَلَام أعجمي وَلَا بِغَيْر تِلْكَ الْأَلْفَاظ وَإِن وافقتها فِي الْعَرَبيَّة وَلَا بِتَقْدِيم تِلْكَ الْأَلْفَاظ بِعَينهَا وَلَا بتأخيرها وَإِنَّمَا نجيز التَّرْجَمَة الَّتِي أجازها النَّص على سَبِيل التَّعْلِيم والإفهام فَقَط لَا على سَبِيل التِّلَاوَة الَّتِي يقْصد بهَا الْقرْبَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق

وَمن حدث بِحَدِيث فَبَلغهُ إِلَى غَيره كَمَا بلغه إِيَّاه غَيره وَأخذ عَنهُ فَلَيْسَ أَن يكرره أبدا فقد أدّى مَا عَلَيْهِ بتبليغه

وَأما اللّحن فِي الحَدِيث فَإِن كَانَ شَيْئا لَهُ وَجه فِي لُغَة بعض الْعَرَب فليروه كَمَا سَمعه وَلَا يُبدلهُ وَلَا يردهُ إِلَى أفْصح مِنْهُ وَلَا إِلَى غَيره وَإِن كَانَ شَيْئا لَا وَجه لَهُ فِي لُغَة الْعَرَب الْبَتَّةَ فَحَرَام على كل مُسلم أَن يحدث باللحن عَن رَسُول الله ص = فَإِن فعل فَهُوَ كَاذِب عَلَيْهِ لأَنا قد أيقنا أَنه عليه السلام لم يلحن قطّ وَفرض عَلَيْهِ أَن يصلحه ويبشره يكشطه من كِتَابه ويكتبه معربا وَيحدث بِهِ معربا وَلَا يلْتَفت إِلَى مَا وجد فِي كِتَابه من لحن وَلَا إِلَى مَا حَدثهُ بِهِ شُيُوخه ملحونا

وَلِهَذَا لزم من طلب الْفِقْه أَن يتَعَلَّم النَّحْو واللغة وَإِلَّا فَهُوَ نَاقص منحط

ص: 680

لَا تجوز لَهُ الْفتيا فِي دين الله عز وجل وَكَانَ ابْن عمر يضْرب وَلَده على اللّحن

وَقد رُوِيَ عَن شُعْبَة أَو عَن حَمَّاد بن سَلمَة الشَّك مني أَنه قَالَ من حدث عني بلحن فقد كذب عَليّ

وَكَانَ شُعْبَة وَحَمَّاد وخَالِد بن الْحَارِث وَبشر بن الْمفضل وَالْحسن الْبَصْرِيّ لَا يلحنون الْبَتَّةَ

وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

وَقَالَ ابْن المطهر الْحلِيّ فِي نِهَايَة الْوُصُول فِي الْبَحْث الْحَادِي عشر فِي نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى اخْتلف النَّاس فِي أَنه هَل يجوز نقل الحَدِيث الْمَرْوِيّ عَن النَّبِي عليه الصلاة والسلام بِالْمَعْنَى فجوزه الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَأكْثر الْفُقَهَاء وَبَعض الْمُحدثين

والمجوزون شرطُوا أمورا ثَلَاثَة الأول أَن لَا تكون التَّرْجَمَة قَاصِرَة عَن الأَصْل فِي إِفَادَة الْمَعْنى

الثَّانِي أَن لَا يكون فِيهَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان

الثَّالِث أَن تكون التَّرْجَمَة مُسَاوِيَة للْأَصْل فِي الْجلاء والخفاء لِأَن الْخطاب قد يَقع بالمحكم والمتشابه لحكمة خُفْيَة فَلَا يجوز تغييرها عَن وصفهَا

والمانعون جوزوا إِبْدَال اللَّفْظ بمرادفه ومساويه فِي الْمَعْنى كَمَا يُبدل الْقعُود بِالْجُلُوسِ وَالْعلم بالمعرفة والاستطاعة بِالْقُدْرَةِ والحظر بِالتَّحْرِيمِ

وَبِالْجُمْلَةِ مَا لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ تفَاوت فِي الاستنباط والفهم وَإِنَّمَا ذَلِك فِيمَا فهم قطعا لَا فِيمَا فهم بِنَوْع من الِاسْتِدْلَال الَّذِي يخْتَلف فِيهِ الناظرون

وَاتَّفَقُوا على منع الْجَاهِل بمواقع الْخطاب ودقائق الْأَلْفَاظ وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْعَالم الْفَارِق بَين الْمُحْتَمل وَغَيره وَالظَّاهِر وَالْأَظْهَر وَالْعَام والأعم

وَالْوَجْه الْجَوَاز لنا وُجُوه الأول الصَّحَابَة نقلوا قصَّة وَاحِدَة مَذْكُورَة فِي مجْلِس وَاحِد بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَلم يُنكر بَعضهم على بعض فِيهِ وَهُوَ يدل على قبُوله وَفِيه نظر لِأَنَّهُ حِكَايَة حَال فلعلهم عرفُوا أَن الرَّاوِي قصد نقل الْمَعْنى وَنبهَ بِمَا يدل عَلَيْهِ

الثَّانِي يجوز شرح الشَّرْع للعجمي بِلِسَانِهِ وَهُوَ إِبْدَال الْعَرَبيَّة بالعجمية فبالعربية أولى وَمَعْلُوم أَن التَّفَاوُت بَين الْعَرَبيَّة وترجمتها أقل مِمَّا بَينهَا وَبَين العجمية

ص: 681

وَفِيه نظر فَإِن السَّامع للتَّرْجَمَة يعلم أَن المسموع لَيْسَ كَلَام النَّبِي عليه الصلاة والسلام

الثَّالِث رُوِيَ عَنهُ عليه الصلاة والسلام إِذا أصبْتُم الْمَعْنى فَلَا بَأْس

وَفِيه نظر إِذْ المُرَاد نفي الْبَأْس فِي الْعَمَل بِمُقْتَضى مَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث لَا النَّقْل عَنهُ

الرَّابِع كَانَ ابْن مَسْعُود إِذا حدث قَالَ قَالَ رَسُول الله كَذَا أَو نَحوه

وَفِيه نظر إِذْ الْفرق وَاقع بَين مَا إِذا أطلق أَو قَالَ كَذَا أَو نَحوه فَإِن فِيهِ تَصْرِيحًا بِنَقْل الْمَعْنى وَأَن اللَّفْظ مِنْهُ

الْخَامِس نعلم قطعا أَن الصَّحَابَة لم يكتبوا مَا نقلوه وَلَا كرروا عَلَيْهِ بل كَمَا سمعُوا أهملوا إِلَى وَقت الْحَاجة بعد مدد متباعدة وَذَلِكَ يُوجب الْقطع بِأَنَّهُم لم ينقلوا نقس اللَّفْظ بل الْمَعْنى

السَّادِس اللَّفْظ غير مَقْصُود لذاته وَإِنَّمَا الْقَصْد الْمَعْنى وَاللَّفْظ أَدَاة فِي استعلامه فَلَا فرق لإِثْبَات ذَلِك الْمَعْنى بِأَيّ لفظ اتّفق

وَاحْتج الْمُخَالف بِوُجُوه الأول قَوْله عليه الصلاة والسلام نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها فأداها كَمَا سَمعهَا فَرب مبلغ أوعى من سامع وَرب حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ

وأداؤه كَمَا سمع هُوَ أَدَاء اللَّفْظ المسموع وَنقل الْفِقْه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ مَعْنَاهُ أَن الأفقه قد يتفطن بِفضل مَعْرفَته من فَوَائِد اللَّفْظ لما لَا يتفطن إِلَيْهِ غير الْفَقِيه الَّذِي رَوَاهُ

الثَّانِي التجربة دلّت على أَن الْمُتَأَخر يسْتَخْرج من فَوَائِد أَلْفَاظ النَّبِي عليه الصلاة والسلام مَا لم يسْبقهُ الْمُتَقَدّم إِلَيْهِ فَعرفنَا أَن السَّامع لَا يجب أَن يتَنَبَّه لفوائد اللَّفْظ فِي الْحَال وَإِن كَانَ فَقِيها ذكيا فَجَاز أَن يتَوَهَّم فِي اللَّفْظ الْمُبدل أَنه مسَاوٍ للْآخر وَبَينهمَا تفَاوت لم يتفطن لَهُ

الثَّالِث لَو جَازَ للراوي تَبْدِيل لفظ الرَّسُول بِلَفْظ من عِنْده لجَاز للراوي عَن الرَّاوِي تَبْدِيل لفظ الأَصْل بل هُوَ أولى فَإِن تَبْدِيل لفظ الرَّاوِي أولى من تَبْدِيل

ص: 682

لفظ الشَّارِع وَلَو جَازَ ذَلِك لجَاز للثَّالِث الرَّاوِي عَن الثَّانِي وللرابع الرَّاوِي عَن الثَّالِث وَهَكَذَا وَذَلِكَ يسْتَلْزم سُقُوط الْكَلَام الأول بِالْكُلِّيَّةِ فَإِن الْمعبر إِذا ترْجم وَبَالغ فِي الْمُطَابقَة تعذر عَلَيْهِ الْإِتْيَان بِلَفْظ لَيْسَ بَينه وَبَين اللَّفْظ الأول تفَاوت بِالْكُلِّيَّةِ فتنتفي الْمُنَاسبَة بَين كَلَام النَّبِي عليه الصلاة والسلام وَكَلَام الرَّاوِي الْأَخير

وَالْجَوَاب أَن من أدّى الْمَعْنى بِتَمَامِهِ يُوصف بِأَنَّهُ أدّى كَمَا سمع وَإِن اخْتلفت الْأَلْفَاظ وَلِهَذَا يُوصف الشَّاهِد والمترجم بأَدَاء مَا سمعا وَإِن عبرا بِلَفْظ مرادف على أَن هَذَا الحَدِيث حجَّة لنا فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام ذكر الْعلَّة وَهِي اخْتِلَاف النَّاس فِي الْفِقْه فَمَا لَا يخْتَلف فِيهِ النَّاس كالألفاظ المترادفة لَا يمْنَع مِنْهُ

على أَن هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه قد نقل بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَالْمعْنَى وَاحِد يرْوى رحم الله امْرأ ونضر الله امْرأ وَرب حَامِل فقه لَا فقه لَهُ وَغير فَقِيه

وَهَذِه الْأَلْفَاظ وَإِن أمكن أَن يكون جَمِيعهَا قَول الرَّسُول فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة لَكِن الْأَغْلَب أَنه حَدِيث وَاحِد

وَقد رَأَيْت بعض من ألف فِي أصُول الحَدِيث أَو أصُول الْفِقْه قد أَطَالَ فِي بَيَان مَا قيل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَأَحْبَبْت أَن أورد من كَلَامهم هُنَا مَا يزِيد الْمَسْأَلَة جلاء فَأَقُول

ذهبت طَائِفَة من الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا تجوز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى مُطلقًا وَنقل ذَلِك عَن كثير من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء وَأهل الْأُصُول وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة وَنقل عَن عبد الله بن عمر وَجَمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم ابْن سِيرِين وَبِه قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرائيني وَأَبُو بكر الرَّازِيّ

قَالَ الْقُرْطُبِيّ وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب مَالك وَيدل على ذَلِك قَوْله لَا أكتب إِلَّا على رجل يعرف مَا يخرج من رَأسه وَذَلِكَ فِي جَوَاب من قَالَ لَهُ لم لم تكْتب عَن النَّاس وَقد أدركتهم متوافرين وَكَذَلِكَ تَركه الْأَخْذ عَمَّن لَهُم فضل وَصَلَاح إِذا كَانُوا لَا يعْرفُونَ مَا يحدثُونَ بِهِ

قَالَ بعض الْعلمَاء وَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى انتشار الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فِي عصره وَقد

ص: 683

كَانَ الحَدِيث فِي الصُّدُور فخشي مَالك أَن يخلطوا فِيمَا يحدثُونَ بِهِ فَترك الرِّوَايَة عَنْهُم لذَلِك وَلَو كَانُوا يحفظون لفظ الحَدِيث لم يتْرك الْأَخْذ عَنْهُم

وَنقل الْبَيْهَقِيّ والخطيب وَغَيرهمَا عَن مَالك أَنه منع الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فِي الحَدِيث وَأَجَازَ ذَلِك فِي غَيره

وَقد شدد بعض المانعين من الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى أعظم تَشْدِيد حَتَّى لم يجيزوا أَن يُبدل حرف بآخر وَإِن كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا وَلَا أَن تقدم كلمة على أُخْرَى وَإِن كَانَ الْمَعْنى لَا يخْتَلف فِي ذَلِك بل زَاد بَعضهم فِي التَّشْدِيد فَمنع من تثقيل خَفِيف أَو تَخْفيف ثقيل وَنَحْو ذَلِك وَلَو خَالف اللُّغَة الفصحى

وَذَلِكَ لما فِي تَبْدِيل اللَّفْظ الْمَرْوِيّ من خوف الدُّخُول فِي الْوَعيد حَيْثُ نسب إِلَى النَّبِي ص = لفظا لم يقلهُ وَلِأَن النَّبِي عليه الصلاة والسلام قد أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لَهُ الْكَلَام اختصارا وَغَيره وَلَو كَانَ من أَرْبَاب الفصاحة والبلاغة لَا يبلغ دَرَجَته

وَكَثِيرًا مَا يظنّ الرَّاوِي بِالْمَعْنَى أَنه قد أَتَى بِلَفْظ يقوم مقَام الآخر وَلَا يكون كَذَلِك فِي نفس الْأَمر كَمَا ظهر ذَلِك فِي كثير من الْأَحَادِيث

وَانْظُر إِلَى مَا وَقع لشعبة مَعَ جلالته وإتقانه فَإِنَّهُ سمع عَن إِسْمَاعِيل بن علية حَدِيث النَّهْي عَن أَن يتزعفر الرجل فَرَوَاهُ عَنهُ بِالْمَعْنَى بِلَفْظ نهي عَن التزعفر

فَأنْكر إِسْمَاعِيل ذَلِك عَلَيْهِ لدلَالَة رِوَايَته على الْعُمُوم مَعَ أَن الرِّوَايَة فِي الأَصْل إِنَّمَا تدل على اخْتِصَاص النَّهْي بِالرِّجَالِ فانتبه إِسْمَاعِيل لما لم يتَنَبَّه لَهُ شُعْبَة مَعَ أَن رِوَايَة شُعْبَة عَنهُ إِنَّمَا هِيَ من قبيل رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر

وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قد رد على من علمه مَا يَقُول إِذا أَخذ مضجعه إِذْ قَالَ وَرَسُولك فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لَا وَنَبِيك

وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ نضر الله امْرأ سمع منا حَدِيثا فأداه كَمَا سَمعه

وَقد اعتنى مُسلم فِي صَحِيحه بِبَيَان اخْتِلَاف الروَاة حَتَّى فِي حرف من الْمَتْن رُبمَا لَا يتَغَيَّر بِهِ الْمَعْنى بِخِلَاف البُخَارِيّ

وَقَالَ بَعضهم كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا الْمَذْهَب هُوَ الْوَاقِع وَلَكِن لم يتَّفق ذَلِك

ص: 684

وَذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى جَوَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لمن يحسن ذَلِك بِشَرْط أَن يكون جَازِمًا بِأَنَّهُ أدّى معنى اللَّفْظ الَّذِي بلغه

وَهَؤُلَاء المجيزون

مِنْهُم من شَرط أَن يَأْتِي بِلَفْظ مرادف كالجلوس مَكَان الْقعُود أَو الْعَكْس

وَمِنْهُم من شَرط أَن يكون مَا جَاءَ بِهِ مُسَاوِيا للْأَصْل فِي الْجلاء والخفاء

وَقَالَ أَبُو بكر الصَّيْرَفِي إِذا كَانَ الْمَعْنى مودعا فِي جملَة لَا يفهمها الْعَاميّ إِلَّا بأَدَاء تِلْكَ الْجُمْلَة فَلَا تجوز رِوَايَة تِلْكَ الْجُمْلَة إِلَّا بلفظها

وَمِنْهُم من شَرط أَن لَا يكون الحَدِيث من قبيل الْمُتَشَابه كأحاديث الصِّفَات وَقد حكى بَعضهم الْإِجْمَاع على هَذَا وَذَلِكَ لِأَن اللَّفْظ الَّذِي تكلم بِهِ النَّبِي ص = لَا يدْرِي هَل يُسَاوِيه اللَّفْظ الَّذِي تكلم بِهِ الرَّاوِي وَيحْتَمل مَا يحْتَملهُ من وُجُوه التَّأْوِيل أم لَا

وَمِنْهُم من شَرط أَن لَا يكون الحَدِيث من جَوَامِع الْكَلم كَقَوْلِه عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ

وَقَوله من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه

وَقَوله الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَنَحْو ذَلِك

وَقَالَ بعض الْعلمَاء للرواية بِالْمَعْنَى ثَلَاث صور أَحدهَا أَن يُبدل اللَّفْظ بمرادفه كالجلوس بالقعود وَهَذَا جَائِز بِلَا خلاف

وَثَانِيها أَن يظنّ دلَالَته على مثل مَا دلّ عَلَيْهِ الأول من غير أَن يقطع بذلك فَهَذَا لَا خلاف فِي عدم جَوَاز التبديل فِيهِ

وَثَالِثهَا أَن يقطع بفهم الْمَعْنى ويعبر عَمَّا فهم بِعِبَارَة يقطع بِأَنَّهَا تدل على ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي فهمه من غير أَن تكون الْأَلْفَاظ مترادفة

فَهَذَا مَوضِع الْخلاف وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه مَتى حصل الْقطع بفهم الْمَعْنى مُسْتَندا إِلَى اللَّفْظ إِمَّا بِمُجَرَّدِهِ أَو إِلَيْهِ مَعَ الْقَرَائِن الْتحق بالمترادف

ص: 685

وَقد تبين من الْبَحْث فِي هَذِه الْمَسْأَلَة والتتبع لما قيل فِيهَا أَن للمجيزين للرواية بِالْمَعْنَى ثَمَانِيَة أَقْوَال

القَوْل الأول قَول من فرق بَين الْأَلْفَاظ الَّتِي لَا مجَال للتأويل فِيهَا وَبَين الْأَلْفَاظ الَّتِي للتأويل فِيهَا مجَال فَأجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فِي الأولى دون الثَّانِيَة نقل ذَلِك أَبُو الْحُسَيْن الْقطَّان عَن بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي

وَيقرب من هَذَا القَوْل قَول من فرق بَين الْمُحكم وَغَيره كالمجمل والمشترك فَأجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فِي الأول دون الثَّانِي

القَوْل الثَّانِي قَول من فرق بَين الْأَوَامِر والنواهي وَبَين غَيرهمَا فَأجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فِي الأولى دون الثَّانِيَة

قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَشرط الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى أَن يكون مَا جَاءَ بِهِ مُسَاوِيا للْأَصْل فِي الْجلاء والخفاء وَإِلَّا فَيمْتَنع كَقَوْلِه ص = لَا طَلَاق فِي إغلاق

فَلَا يجوز التَّعْبِير عَن الإغلاق بِالْإِكْرَاهِ وَإِن كَانَ هُوَ مَعْنَاهُ لِأَن الشَّارِع لم يذكرهُ كَذَلِك إِلَّا لمصْلحَة

وَجعلا مَحل الْخلاف فِي غير الْأَوَامِر والنواهي وجزما بِالْجَوَازِ فيهمَا ومثلا الْأَمر بقوله عليه الصلاة والسلام اقْتُلُوا الأسودين الْحَيَّة وَالْعَقْرَب

فَيجوز أَن يُقَال أَمر بِقَتْلِهِمَا وَالنَّهْي بقوله عليه الصلاة والسلام لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء

فَيجوز أَن يُقَال نهي عَن بيع الذَّهَب بِالذَّهَب إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء

القَوْل الثَّالِث قَول من فرق بَين من يستحضر لفظ الحَدِيث وَبَين من لَا يستحضر لَفظه بل نَسيَه وَإِنَّمَا بَقِي فِي ذهنه مَعْنَاهُ فَأجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى للثَّانِي دون الأول وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورا بأَدَاء الحَدِيث كَمَا سَمعه وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بروايته بِاللَّفْظِ فَلَمَّا عجز عَن ذَلِك بِسَبَب نسيانه لم يبْق فِي وَسعه إِلَّا رِوَايَته بِالْمَعْنَى فَإِذا أَتَى بِلَفْظ يُؤَدِّي ذَلِك الْمَعْنى فقد أَتَى بِمَا فِي وَسعه قَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا}

وَهَذَا القَوْل أقوى الْأَقْوَال لِأَن الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى إِنَّمَا أجازها من أجازها من الْعلمَاء الْأَعْلَام للضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة إِلَّا فِي هَذِه الصُّورَة وَإِلَّا فَلَا يظنّ بِذِي كَمَال

ص: 686

فِي الْعقل وَالدّين أَن يُجِيز تَبْدِيل الْأَلْفَاظ الْوَاقِعَة فِي كَلَام النَّبِي ص = مَعَ استحضاره لَهَا بِأَلْفَاظ من عِنْده ثمَّ ينسبها إِلَى النَّبِي ص = بِلَفْظ صَرِيح فِي صدورها مِنْهُ

قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي لَا تجوز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لمن يحفظ اللَّفْظ لزوَال الْعلَّة الَّتِي رخص فِيهَا بِسَبَبِهَا وَتجوز لغيره لِأَنَّهُ تحمل اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَعجز عَن أَحدهمَا فَلَزِمَهُ أَدَاء الآخر لَا سِيمَا إِن كَانَ فِي تَركه كتم للْأَحْكَام فَإِن لم ينسه لم يجز أَن يُورِدهُ بِغَيْرِهِ لِأَن فِي كَلَام النَّبِي ص = من الفصاحة مَا لَيْسَ فِي غَيره

القَوْل الرَّابِع قَول من فرق بَينهمَا غير أَنه عكس الحكم فَأجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لمن يستحضر اللَّفْظ لتمكنه حِينَئِذٍ من التَّصَرُّف فِيهِ بإيراد أَلْفَاظ تقوم مقَام تِلْكَ الْأَلْفَاظ فِي الْمَعْنى وَلم يجزها لمن لَا يستحضر اللَّفْظ لعدم تمكنه من ذَلِك وَلم يكتف بِوُجُود الْمَعْنى فِي الذِّهْن لاحْتِمَال أَن يكون ذَلِك الْمَعْنى أَزِيد مِمَّا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ الَّذِي نَسيَه أَو أنقص مِنْهُ وَلذَا منع الْعلمَاء من وضع الْعَام فِي مَوضِع الْخَاص وَالْمُطلق فِي مَوضِع الْمُقَيد وَمن الْعَكْس وَذَلِكَ لاشتراطهم أَن يكون مَا جَاءَ الرَّاوِي مُسَاوِيا للْأَصْل

القَوْل الْخَامِس قَول من أجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى بِشَرْط أَن يقْتَصر فِي ذَلِك على إِبْدَال اللَّفْظ بمرادفه مَعَ بَقَاء تركيب الْكَلَام على حَاله وَذَلِكَ لِأَن تَغْيِير تركيب الْكَلَام كثيرا مَا يخل بالمرام بِخِلَاف إِبْدَال اللَّفْظ بمرادفه فَإِنَّهُ يَفِي بِالْمَقْصُودِ من غير مَحْذُور فِيهِ وَهُوَ قَول قوي وَقد ادّعى بعض الْعلمَاء أَن هَذَا جَائِز بِلَا خلاف

وَمِثَال ذَلِك إِبْدَال القَتَّات بالنمام وَالْعَكْس

قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه حَدثنَا شَيبَان بن فروخ وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء الضبعِي قَالَا حَدثنَا مهْدي وَهُوَ ابْن مَيْمُون قَالَ حَدثنَا وَاصل الأحدب عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة أَنه بلغه أَن رجلا ينم الحَدِيث فَقَالَ حُذَيْفَة سَمِعت رَسُول الله ص = يَقُول لَا يدْخل الْجنَّة نمام

ص: 687

حَدثنَا عَليّ بن حجر السَّعْدِيّ وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم قَالَ إِسْحَاق أخبرنَا جرير عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن همام بن الْحَارِث قَالَ كَانَ رجل ينْقل الحَدِيث إِلَى الْأَمِير قَالَ فجَاء حَتَّى جلس إِلَيْنَا فَقَالَ حُذَيْفَة سَمِعت رَسُول الله ص = يَقُول لَا يدْخل الْجنَّة قَتَّات

القَوْل السَّادِس قَول من فرق بَين من يُورد الحَدِيث على قصد الِاحْتِجَاج أَو الْفتيا وَبَين من يُورِدهُ لقصد الرِّوَايَة فَأجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى للْأولِ دون الثَّانِي

القَوْل السَّابِع قَول من أجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى للصحابة خَاصَّة وَذَلِكَ لأمرين أَحدهمَا كَونهم من أَرْبَاب اللِّسَان الواقفين على مَا فِيهِ من أسرار الْبَيَان

وَثَانِيهمَا سماعهم أَقْوَال النَّبِي ص = مَعَ مشاهدتهم لأفعاله ووقوفهم على أَحْوَاله بِحَيْثُ وقفوع على مقْصده جملَة فَإِذا رووا الحَدِيث بِالْمَعْنَى استوفوا الْمَقْصد كُله

على أَنهم لم يَكُونُوا يروون بِالْمَعْنَى إِلَّا حَيْثُ لم يستحضروا اللَّفْظ وَإِذا رووا بِالْمَعْنَى أشاروا فِي أَكثر الأحيان إِلَى ذَلِك فَصَارَت النَّفس مطمئنة لما يَرْوُونَهُ بِالْمَعْنَى بِخِلَاف من بعدهمْ فَإِنَّهُم لم يَكُونُوا فِي درجتهم فِي معرفَة اللِّسَان وَالْوُقُوف بالطبع على أسرار الْبَيَان مَعَ عدم سماعهم لشَيْء من أَقْوَاله عليه الصلاة والسلام وَلَا مشاهدتهم لشَيْء من أَفعاله وَلَا وقوفهم على حَال من أَحْوَاله

وَقد حكى هَذَا القَوْل الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وجزما بِأَنَّهُ لَا يجوز لغير الصَّحَابِيّ الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى وَجعلا الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة فِي الصَّحَابِيّ دون غَيره

وَقد اسْتدلَّ على أَن بعض الصَّحَابَة كَانُوا يروون الْأَحَادِيث بِالْمَعْنَى كَمَا رُوِيَ عَن بعض التَّابِعين أَنه قَالَ لقِيت أُنَاسًا من الصَّحَابَة فَاجْتمعُوا فِي الْمَعْنى وَاخْتلفُوا عَليّ فِي اللَّفْظ فَقلت ذَلِك لبَعْضهِم فَقَالَ لَا بَأْس بِهِ مَا لم يخل مَعْنَاهُ حَكَاهُ الشَّافِعِي

وَبِمَا رُوِيَ عَن جَابر بن عبد الله عَن حُذَيْفَة أَنه قَالَ إِنَّا قوم عرب نورد الْأَحَادِيث فنقدم ونؤخر

وَبِمَا رُوِيَ عَن بعض الصَّحَابَة كَابْن مَسْعُود أَنه كَانَ يَقُول فِي بعض مَا يرويهِ قَالَ رَسُول الله ص = كَذَا أَو نَحوه

ص: 688

بِالْمَقْصُودِ فَكيف تسوغ الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فِيهِ مُطلقًا مَعَ أَن كثيرا من الْعلمَاء قد شَدَّدُوا فِي أَمر الْعلم يُرِيدُونَ بذلك مَا يتَعَلَّق بالاعتقاد مَا لم يشددوا فِي غَيره فَقَالُوا لَا يقبل فِيهِ إِلَّا الدَّلِيل الْقطعِي وَذَلِكَ إِمَّا آيَة صَرِيحَة فِيهِ أَو حَدِيث متواتر كَذَلِك أَو دَلِيل عَقْلِي لَيْسَ فِيهِ شُبْهَة

وَقد تعرض الْأُسْتَاذ الْأَجَل أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن فَارس لأمر الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فِي رسَالَته الَّتِي سَمَّاهَا مَأْخَذ الْعلم فَقَالَ فِي بَاب القَوْل فِي اللّحن ذهب أنَاس إِلَى أَن الْمُحدث إِذا روى فلحن لم يجز للسامع أَن يحدث عَنهُ إِلَّا لحنا كَمَا سَمعه وَقَالَ آخَرُونَ بل على السَّامع أَن يرويهِ إِذا كَانَ عَالما بِالْعَرَبِيَّةِ معربا صَحِيحا مُقَومًا بِدَلِيل نقُوله وَهُوَ أَنه مَعْلُوم أَن رَسُول الله ص = كَانَ أفْصح الْعَرَب وأعربها وَقد نزهه الله عز وجل عَن اللّحن وَإِذا كَانَ كَذَا فَالْوَجْه أَن يرْوى كَلَامه مهذبا من كل لحن وَكَانَ شَيخنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن إِبْرَاهِيم الْقطَّان يكْتب الحَدِيث على مَا سَمعه لحنا وَيكْتب على حَاشِيَة كِتَابه كَذَا قَالَ يَعْنِي الَّذِي حَدثهُ وَالصَّوَاب كَذَا وَهَذَا أحسن مَا سَمِعت فِي هَذَا الْبَاب

فَإِن قيل قَائِل فَمَا تَقول فِي الَّذِي حدثكموه عَليّ بن إِبْرَاهِيم عَن مُحَمَّد بن يزِيد حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير حَدثنَا أبي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن عبد السَّلَام عَن الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه قَالَ قَامَ رَسُول الله ص = بالخيف من منى فَقَالَ نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فبلغها كَمَا سمع فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ

وَقد أَمر رَسُول الله ص = أَن يبلغ الْمبلغ كَمَا سمع

قيل لَهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَن يبلغهُ فِي صِحَة الْمَعْنى واستقامة المُرَاد بِهِ من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان يغيران الْمَعْنى فَأَما أَن يسمع اللّحن فيؤديه فَلَا

وَبعد فمعلوم أَن النَّبِي ص = كَانَ لَا يلحن فَيَنْبَغِي أَن تُؤَدّى مقَالَته عَنهُ فِي صِحَة كَمَا سمع مِنْهُ

ص: 690

وَقَالَ فِي بَاب الْإِجَازَة وَاعْلَم أَن جمَاعَة من النَّاس سلكوا فِيمَا تقدم ذكرنَا لَهُ مسلكا لَعَلَّ غَيره أسهل مِنْهُ وَأقرب من التعمق والتنطع فَقَالُوا إِن حدث الْمُحدث جَازَ أَن يُقَال حَدثنَا وَإِن قرئَ عَلَيْهِ لم يجز أَن يُقَال حَدثنَا وَلَا أخبرنَا وَإِن حدث جمَاعَة لم يجز للمحدث عَنهُ أَن يَقُول حَدثنِي وَإِن حدث بِلَفْظِهِ لم يجز أَن يتَعَدَّى ذَلِك اللَّفْظ وَإِن كَانَ قد أصَاب الْمَعْنى

قَالَ أَحْمد بن فَارس وَهَذَا عندنَا شَدِيد لَا وَجه لَهُ لِأَن من الْعلمَاء من كَانَ يتبع اللَّفْظ فيؤديه وَمِنْهُم من كَانَ يحدث بِالْمَعْنَى وَإِن تغير اللَّفْظ وبلغنا أَن الْحسن كَانَ يحدث عَن الْمعَانِي والتثبت حسن لَكِن أهل الْعلم قد يتساهلون إِذا أَدّوا الْمَعْنى وَيَقُولُونَ لَو كَانَ أَدَاء اللَّفْظ وَاجِبا حَتَّى لَا يغْفل مِنْهُ حرف لأمرهم رَسُول الله ص = بِإِثْبَات مَا يسمعونه مِنْهُ كَمَا أَمرهم بِإِثْبَات الْوَحْي الَّذِي لَا يجوز تَغْيِير مَعْنَاهُ وَلَا لَفظه فَلَمَّا لم يَأْمُرهُم بِإِثْبَات ذَلِك دلّ على أَن الْأَمر بِالتَّحْدِيثِ أسهل وَإِن كَانَ أَدَاء ذَلِك بِاللَّفْظِ الَّذِي سَمعه أحسن

وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

وَقَالَ فِي بَاب الْفرق بَين قَول الْمُحدث حَدثنَا وَبَين قَوْله أخبرنَا ذهب أَكثر عُلَمَائِنَا إِلَى أَنه لَا فرق بَين قَول الْمُحدث حَدثنَا وَبَين قَوْله أَنبأَنَا

وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن قَوْله حَدثنَا دَال على أَنه سَمعه لفظا وَأَن قَوْله أَنبأَنَا يدل على أَنه سَمعه قِرَاءَة عَلَيْهِ وَهَذَا عندنَا بَاب من التعمق وَالْأَمر فِي ذَلِك كُله وَاحِد

سَمِعت عَليّ بن أبي خَالِد يَقُول مَا سَمِعت مُحَمَّد بن أَيُّوب يَقُول فِي حَدِيثه إِلَّا أَنبأَنَا وَمَا سمعناه يَقُول حَدثنَا وَابْن أَيُّوب عندنَا من كبار الْمُحدثين وَالَّذِي حكيناه عَنهُ دَلِيل على مَا قُلْنَاهُ من أَن التحديث والإخبار وَاحِد

فَأَما الْعَرَب فَلَا فرق عِنْدهم بَين قَول الْقَائِل حَدثنِي وَبَين قَوْله أَخْبرنِي وَقد سمى الله تَعَالَى كِتَابه حَدِيثا مرّة ونبأ مرّة والنبأ هُوَ الْخَبَر ثمَّ عَن الشَّاعِر يَقُول مرّة هَذَا وَمرَّة هَذَا

أَنْشدني أبي قَالَ أَنْشدني أَبُو إِسْحَاق الْخَطِيب

(وخبرتماني أَن تيماء منزل

لليلى إِذا مَا الصَّيف ألْقى المراسيا)

ص: 691

وأنشدنيه غَيره وحدثتماني

وأنشدني الطّيب بن مُحَمَّد التَّمِيمِي قَالَ أنشدنا القصباني لكعب بن سعد الغنوي

(وحدثتماني إِنَّمَا الْمَوْت بالقرى

فَكيف وهاتا هضبة وقليب)

وأنشدني غَيره وخبرتماني

وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر فِي شرح نخبة الْفِكر وَأما الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فَالْخِلَاف فِيهَا شهير وَالْأَكْثَر على الْجَوَاز وَمن أقوى حججها الْإِجْمَاع على جَوَاز شرح الشَّرِيعَة للعجم بلسانهم للعارف بِهِ فَإِذا جَازَ الْإِبْدَال بلغَة أُخْرَى فجوازه باللغة الْعَرَبيَّة أولى وَقيل إِنَّمَا تجوز فِي الْمُفْردَات دون المركبات وَقيل إِنَّمَا تجوز لمن يستحضر اللَّفْظ ليتَمَكَّن من التَّصَرُّف فِيهِ وَقيل إِنَّمَا تجوز لمن كَانَ يحفظ الحَدِيث فنسي لَفظه وَبَقِي مَعْنَاهُ مرتسما فِي ذهنه فَلهُ أَن يرويهِ بِالْمَعْنَى لمصْلحَة تَحْصِيل الحكم مِنْهُ بِخِلَاف من كَانَ مستحضرا للفظه

وَجَمِيع مَا تقدم يتَعَلَّق بِالْجَوَازِ وَعَدَمه

وَلَا شكّ أَن الأولى إِيرَاد الحَدِيث بألفاظه دون التَّصَرُّف فِيهِ قَالَ القَاضِي عِيَاض يَنْبَغِي سد بَاب الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لِئَلَّا يتسلط من لَا يحسن مِمَّن يظنّ أَنه يحسن كَمَا وَقع لكثير من الروَاة قَدِيما وحديثا وَالله الْمُوفق

وَأَشَارَ بعض من أمعن النّظر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى أَن الْأَدِلَّة الَّتِي يوردها المجيزون للرواية بِالْمَعْنَى إِنَّمَا تدل على جَوَاز ذَلِك للضَّرُورَة

وَذَلِكَ إِذا لم يستحضر الرَّاوِي لفظ الحَدِيث وَإِنَّمَا بَقِي فِي ذهنه مَعْنَاهُ وَمَعَ ذَلِك فقد كَانَ المحتاطون فِي الْأَمر يشيرون إِلَى أَن الرِّوَايَة إِنَّمَا كَانَت بِالْمَعْنَى

قَالَ ابْن الصّلاح يَنْبَغِي لمن يروي حَدِيثا بِالْمَعْنَى أَن يتبعهُ بِأَن يَقُول أَو كَمَا قَالَ أَو نَحْو هَذَا وَمَا أشبه ذَلِك من الْأَلْفَاظ رُوِيَ ذَلِك من الصَّحَابَة عَن ابْن مَسْعُود وَأبي الدَّرْدَاء وَأنس

ص: 692

قَالَ الْخَطِيب وَالصَّحَابَة أَرْبَاب اللِّسَان وَأعلم الْخلق بمعاني الْكَلَام وَلم يَكُونُوا يَقُولُونَ ذَلِك إِلَّا تخوفا من الزلل لمعرفتهم بِمَا فِي الرِّوَايَة على الْمَعْنى من الْخطر

وَأما استدلالهم بِالْإِجْمَاع على جَوَاز شرح الشَّرِيعَة للعجم بلسانهم للعارف بِهِ وَأَنه إِذا جَازَ ذَلِك بلغَة أُخْرَى فجوازه بِالْعَرَبِيَّةِ أولى فَفِيهِ أَمْرَانِ

الْأَمر الأول أَن ذَلِك إِنَّمَا أُجِيز للضَّرُورَة وَهُوَ شرح الشَّرْع لمن لَا يحسن الْعَرَبيَّة بِلِسَانِهِ الَّذِي يُحسنهُ لَا سِيمَا إِن كَانَ مِمَّن دخل فِي الدّين حَدِيثا وَلم يكن لَهُ إِلْمَام بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ يعرف الدّين أَولا بلغته ثمَّ يُؤمر بِأَن يتَعَلَّم من الْعَرَبيَّة مَا يعرف بِهِ مَا يلْزمه من أَمر الدّين رَأْسا من غير احْتِيَاج إِلَى تَرْجَمَة وَذَلِكَ تَقْدِيمًا للأهم على المهم

قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي فِي الرسَالَة فِي أصُول الْفِقْه فَإِن قَالَ قَائِل مَا الْحجَّة فِي أَن كتاب الله مَحْض بِلِسَان الْعَرَب لَا يخالطه فِيهِ غَيره فالحجة فِيهِ كتاب الله قَالَ الله تبارك وتعالى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم}

فَإِن قَالَ قَائِل فَإِن الرُّسُل قبل مُحَمَّد ص = كَانُوا يرسلون إِلَى قَومهمْ خَاصَّة وَإِن مُحَمَّدًا ص = بعث إِلَى النَّاس كَافَّة

فقد يحْتَمل أَن يكون بعث بِلِسَان قومه خَاصَّة وَيكون على النَّاس كَافَّة أَن يتعلموا لِسَانه أَو مَا أطاقوه مِنْهُ وَيحْتَمل أَن يكون بعث بألسنتهم

فَإِن قَالَ قَائِل فَهَل من دَلِيل على أَنه بعث بِلِسَان قومه خَاصَّة دون أَلْسِنَة الْعَجم قَالَ الشَّافِعِي فالدلالة على ذَلِك بَيِّنَة فِي كتاب الله عز وجل فِي غير مَوضِع فَإِذا كَانَت الْأَلْسِنَة مُخْتَلفَة بِمَا لَا يفهمهُ بَعضهم عَن بعض فَلَا بُد أَن يكون بَعضهم تبعا لبَعض وَأَن يكون الْفضل فِي اللِّسَان المتبع على التَّابِع

وَأولى النَّاس بِالْفَضْلِ فِي اللِّسَان من لِسَانه لِسَان النَّبِي ص = وَلَا يجوز وَالله تَعَالَى أعلم أَن يكون أهل لِسَانه أتباعا لأهل لِسَان غير لِسَانه فِي

ص: 693

حرف وَاحِد بل كل لِسَان تبع لِلِسَانِهِ وكل أهل دين قبله فَعَلَيْهِم اتِّبَاع دينه

وَقد بَين الله تَعَالَى ذَلِك فِي غير آيَة من كِتَابه قَالَ الله عز ذكره {وَإنَّهُ لتنزيل رب الْعَالمين نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك لتَكون من الْمُنْذرين بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} وَقَالَ {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حكما عَرَبيا} وَقَالَ {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك قُرْآنًا عَرَبيا لتنذر أم الْقرى وَمن حولهَا} وَقَالَ تَعَالَى {حم وَالْكتاب الْمُبين إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون}

ثمَّ قَالَ فعلى كل مُسلم أَن يتَعَلَّم من لِسَان الْعَرَب مَا بلغه جهده حَتَّى يشْهد بِهِ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَيَتْلُو بِهِ كتاب الله تَعَالَى وينطق بِالذكر فِيمَا افْترض عَلَيْهِ من التَّكْبِير وَأمر بِهِ من التَّسْبِيح وَالتَّشَهُّد وَغير ذَلِك وَمَا ازْدَادَ من الْعلم بِاللِّسَانِ الَّذِي جعله الله لِسَان من ختم بِهِ نبوته وَأنزل بِهِ آخر كتبه كَانَ خيرا لَهُ كَمَا عَلَيْهِ أَن يتَعَلَّم الصَّلَاة وَالذكر فِيهَا وَيَأْتِي الْبَيْت وَمَا أَمر بإتيانه وَيتَوَجَّهُ لما وَجه لَهُ وَيكون تبعا فِيمَا افْترض عَلَيْهِ لَا متبوعا

الْأَمر الثَّانِي أَن استدلالهم بِمَا ذكر غير ظَاهر وَذَلِكَ أَنهم إِن أَرَادوا أَن الحَدِيث حَيْثُ جَازَ إِبْدَال أَلْفَاظه بِأَلْفَاظ أُخْرَى من اللُّغَة الأعجمية على طَرِيق التَّرْجَمَة يكون إِبْدَال أَلْفَاظه بِأَلْفَاظ أُخْرَى من اللُّغَة الْعَرَبيَّة على طَرِيق الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى أولى بِالْجَوَازِ ورد عَلَيْهِم الْقُرْآن فَإِنَّهُم أَجَازُوا إِبْدَال أَلْفَاظه بِأَلْفَاظ أُخْرَى من اللُّغَة الأعجمية على طَرِيق التَّرْجَمَة وَلم يجز أحد إِبْدَال أَلْفَاظه بِأَلْفَاظ أُخْرَى من اللُّغَة الْعَرَبيَّة على طَرِيق الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى

وَلَهُم أَن يَقُولُوا إِن بَينهمَا فرقا من وَجْهَيْن

أَحدهمَا أَن الْقُرْآن معجز والإعجاز فِيهِ يتَعَلَّق بِاللَّفْظِ وَالْمعْنَى فَإِذا أُجِيز إِبْدَال أَلْفَاظه بِأَلْفَاظ أُخْرَى من اللُّغَة الْعَرَبيَّة على طَرِيق الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى وَقع إخلال بِأَمْر الإعجاز من وَجه مَعَ حُصُول الالتباس على كثير من النَّاس مَعَ عدم الِاضْطِرَار إِلَى ذَلِك

ص: 694

فَإِن أشكل شَيْء مِنْهُ على من يعرف الْعَرَبيَّة أزيل إشكاله بطرِيق التَّفْسِير أَو التَّأْوِيل بِخِلَاف إِبْدَال أَلْفَاظه بِأَلْفَاظ أُخْرَى من اللُّغَة الأعجمية على طَرِيق التَّرْجَمَة لمن لَا يحسن الْعَرَبيَّة فَإِنَّهُ مَعَ الِاضْطِرَار إِلَى ذَلِك لَيْسَ فِيهِ مَا ذكر من الالتباس

وَأما الحَدِيث فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِك فَلَا مَحْذُور فِي إِبْدَال أَلْفَاظه بِأَلْفَاظ أُخْرَى سَوَاء كَانَت من اللُّغَة الْعَرَبيَّة أَو الأعجمية

الثَّانِي أَن الْقُرْآن متواتر مَشْهُور عِنْد الْأمة بِحَيْثُ لَا يخفى أمره على أحد مِنْهُم فَلَا دَاعِي لروايته بِالْمَعْنَى لِأَنَّهَا إِنَّمَا أجيزت للضَّرُورَة وَإِن أطلق الْإِجَازَة أنَاس لم يمعنوا النّظر فِي الْمَسْأَلَة وَلَا ضَرُورَة تلجئ إِلَى ذَلِك فِي الْقُرْآن

وَأما الحَدِيث فكثير مِنْهُ من قبيل أَخْبَار الْآحَاد الَّتِي يخْتَص بمعرفتها فَرد أَو بضع أَفْرَاد فَإِذا منع من لَا يستحضر اللَّفْظ من رِوَايَته بِالْمَعْنَى رُبمَا ضَاعَ كثير من الْأَحْكَام المهمة الَّتِي وَردت فِيهِ فسوغ الْجُمْهُور ذَلِك إِلَّا أَنه يُقَال إِن كثيرا مِمَّن منع الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى كَأَهل الظَّاهِر قد جروا على طَريقَة قويمة لَا يضيع فِيهَا شَيْء من الْأَحْكَام وَقد سبق ذكرهَا فِي مقَالَة ابْن حزم

وَقَالَ الطَّيِّبِيّ فِي الْخُلَاصَة فِي أصُول الحَدِيث قَالَ فِي شرح السّنة

ذهب قوم إِلَى اتِّبَاع لفظ الحَدِيث مِنْهُم ابْن عمر وَهُوَ قَول الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَابْن سِيرِين ورجاء بن حَيْوَة وَمَالك بن أنس وَابْن عُيَيْنَة وَعبد الْوَارِث وَيزِيد بن زُرَيْع ووهب وَبِه قَالَ أَحْمد وَيحيى

وَذهب جمَاعَة إِلَى الرُّخْصَة فِي نَقله بِالْمَعْنَى مِنْهُم الْحسن وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ

قَالَ ابْن سِيرِين كنت أسمع الحَدِيث من عشرَة اللَّفْظ مُخْتَلف وَالْمعْنَى وَاحِد

وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ إِن قلت إِنِّي أحدثكُم كَمَا سَمِعت فَلَا تصدقوني فَإِنَّمَا هُوَ الْمَعْنى

وَقَالَ وَكِيع إِن لم يكن الْمَعْنى وَاسِعًا فقد هلك النَّاس

ص: 695

وَقَالَ ابْن الصّلاح من لَيْسَ عَالما بالألفاظ ومقاصدها وَلَا خَبِيرا بِمَا يخل بمعانيها لَا تجوز لَهُ الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى بِالْإِجْمَاع بل يتَعَيَّن اللَّفْظ الَّذِي سَمعه وَإِن كَانَ عَالما بذلك فقد مَنعه قوم من أَصْحَاب الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول وَقَالُوا لَا يجوز إِلَّا بِلَفْظِهِ

وَقَالَ قوم لَا تجوز فِي حَدِيث النَّبِي ص = وَتجوز فِي غَيره

وَقَالَ جُمْهُور السّلف وَالْخلف من الطوائف تجوز فِي الْجَمِيع إِذا قطع بأَدَاء الْمَعْنى وَهَذَا فِي غير المصنفات أما المُصَنّف فَلَا يجوز تَغْيِير لَفظه أصلا وَإِن كَانَ بِمَعْنَاهُ

أَقُول قَول من ذهب إِلَى التَّفْصِيل هُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ أفْصح من نطق بالضاد وَفِي تراكيبه أسرار ودقائق لَا يُوقف عَلَيْهَا إِلَّا بهَا كَمَا هِيَ فَإِن لكل تركيب من التراكيب معنى بِحَسب الْفَصْل والوصل والتقديم وَالتَّأْخِير لَو لم يراع ذَلِك لذهب مقاصدها بل لكل كلمة مَعَ صاحبتها خاصية مُسْتَقلَّة كالتخصيص والإجمال وَغَيرهمَا

وَكَذَا الْأَلْفَاظ الَّتِي ترى مُشْتَركَة أَو مترادفة إِذْ لَو وضع كل مَوضِع الآخر لفات الْمَعْنى الَّذِي قصد بِهِ وَمن ثمَّ قَالَ صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ نضر الله عبدا سمع مَقَالَتي فحفظها ووعاها وأداها فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ

رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود

ص: 696

وَكفى بِهَذَا الحَدِيث لفظا وَمعنى شَاهد صدق على مَا نَحن بصدده فَإنَّك إِن أَقمت مقَام كل لَفْظَة مَا يشاكلها أَو يرادفها اخْتَلَّ الْمَعْنى وَفَسَد

ص: 697

فَإنَّك لَو وضعت مَوضِع نضر الله رحم الله أَو غفر الله وَمَا شاكلهما أبعدت المرمى فَإِن من حفظ مَا سَمعه وَأَدَّاهُ من غير تَغْيِير فَإِنَّهُ جعل الْمَعْنى غضا طريا وَمن بدل وَغير فقد جعله مبتذلا ذاويا

وَكَذَا لَو أنبت امْرأ مناب العَبْد فَاتَ الْمَعْنى لِأَن الْعُبُودِيَّة هِيَ الاستكانة والمضي لأمر الله وَرَسُوله بِلَا امْتنَاع وَلَا استنكاف من أَدَاء مَا سمع إِلَى من هُوَ أعلم مِنْهُ

وخصت الْمقَالة بِالذكر من بَين الْكَلَام وَالْخَبَر لِأَن حَقِيقَة القَوْل هُوَ الْمركب من الْحُرُوف المبرزة ليدل على وجوب أَدَاء اللَّفْظ المسموع

وإرداف وعاها حفظهَا مشْعر بمزيد التَّقْرِير لِأَن الوعي إدامة الْحِفْظ وَعدم النسْيَان

وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فأداها كَمَا سَمعهَا

أوثر أَدَّاهَا على رَوَاهَا وَبَلغهَا وَنَحْوهمَا دلَالَة على أَن تِلْكَ الْمقَالة مستودعة عِنْده وَاجِب أَدَاؤُهَا إِلَى من هُوَ أَحَق بهَا وَأَهْلهَا غير مُغيرَة وَلَا متصرف فِيهَا

وَكَذَا تَخْصِيص ذكر الْفِقْه دون الْعلم للإيذان بِأَن الْحَامِل غير عَار من الْعلم إِذْ الْفِقْه علم بدقائق مستنبطة من الأقيسة والنصوص وَلَو قيل غير عَالم لزم جَهله

وَكَذَا تَكْرِير رب وإناطة كل بِمَعْنى يَخُصهَا فَإِن السَّامع أحد رجلَيْنِ إِمَّا أَن لَا يكون فَقِيها فَيجب عَلَيْهِ أَن لَا يغيرها لِأَنَّهُ غير عَارِف بالألفاظ المتشاكلة فيخطئ فِيهِ أَو يكون عَارِفًا بهَا لكنه غير بليغ فَرُبمَا يضع أحد المترادفين مَوضِع الآخر وَلَا يقف على رِعَايَة المناسبات بَين لفظ وَلَفظ

فَإِن الْمُنَاسبَة لَهَا خَواص وَمَعَان لَا يقف عَلَيْهِمَا إِلَّا ذُو دربة بأساليب النّظم كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي شرح التِّبْيَان فِي قسم الفصاحة وَالله أعلم

ص: 698

وَاعْلَم أَن الحَدِيث الْمَرْوِيّ بِالْمَعْنَى إِنَّمَا يستشهد بِهِ فِيمَا يتَعَلَّق بِأَصْل الْمَعْنى فَقَط فاستدلال بَعضهم بِنَحْوِ تَقْدِيم كلمة على أُخْرَى فِيهِ أَو نَحْو وُرُود الْعَطف فِيهِ بِالْفَاءِ دون الْوَاو أَو بِالْعَكْسِ لَيْسَ فِي مَحَله

وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَال بَعضهم بِهِ فِي الْأُمُور الْمُتَعَلّقَة بالألفاظ وتركيبها وَذَلِكَ لِأَن كثيرا مِمَّن كَانَ يروي بِالْمَعْنَى كَانَ لَا يهتم حِين الرِّوَايَة بمراعاة ذَلِك بل كَانَ بَعضهم لَيْسَ لَهُ وقُوف تَامّ على اللُّغَة الْعَرَبيَّة فضلا عَن أسرارها الَّتِي يخْتَص بمعرفتها أنَاس من أَئِمَّة اللِّسَان

ص: 699

وَقد ذكر الْعَلامَة جلال الدّين السُّيُوطِيّ حكم الْأَحَادِيث المروية بِالْمَعْنَى عِنْد عُلَمَاء الْعَرَبيَّة فِي كتاب الاقتراح فِي أصُول النَّحْو فَقَالَ فصل

وَأما كَلَامه ص = فيستدل مِنْهُ بِمَا ثَبت أَنه قَالَه على اللَّفْظ الْمَرْوِيّ وَذَلِكَ نَادِر جدا وَإِنَّمَا يُوجد فِي الْأَحَادِيث الْقصار على قلَّة أَيْضا فَإِن غَالب الْأَحَادِيث مروية بِالْمَعْنَى وَقد تداولتها الْأَعَاجِم والمولدون قبل تدوينها فرووها بِمَا أدَّت إِلَيْهِ عبارتهم فزادوا ونقصوا وَقدمُوا وأخروا وأبدلوا ألفاظا بِأَلْفَاظ وَلِهَذَا ترى الحَدِيث الْوَاحِد فِي الْقِصَّة الْوَاحِدَة مرويا على أوجه شَتَّى بعبارات مُخْتَلفَة وَمن ثمَّ أنكر على ابْن مَالك إثْبَاته الْقَوَاعِد النحوية بالألفاظ الْوَارِدَة فِي الحَدِيث

وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي شرح التسهيل قد أَكثر هَذَا المُصَنّف من الِاسْتِدْلَال بِمَا وَقع فِي الْأَحَادِيث على إِثْبَات الْقَوَاعِد الْكُلية فِي لِسَان الْعَرَب وَمَا رَأَيْت أحدا من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين سلك هَذِه الطَّرِيقَة غَيره على أَن الواضعين الْأَوَّلين لعلم النَّحْو المستقرئين للْأَحْكَام من لِسَان الْعَرَب كَأبي عَمْرو بن الْعَلَاء وَعِيسَى بن عمر والخليل وسيبويه من أَئِمَّة الْبَصرِيين وَالْكسَائِيّ وَالْفراء وَعلي بن مبارك الْأَحْمَر وَهِشَام الضَّرِير من أَئِمَّة الْكُوفِيّين لم يَفْعَلُوا ذَلِك وتبعهم على هَذَا المسلك الْمُتَأَخّرُونَ من الْفَرِيقَيْنِ وَغَيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بَغْدَاد وَأهل الأندلس

وَقد جرى الْكَلَام فِي ذَلِك مَعَ بعض الْمُتَأَخِّرين الأذكياء فَقَالَ إِنَّمَا ترك الْعلمَاء ذَلِك لعدم وثوقهم بِأَن ذَلِك لفظ الرَّسُول ص = إِذْ لَو وثقوا بذلك لجرى مجْرى الْقُرْآن فِي إِثْبَات الْقَوَاعِد الْكُلية وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لأمرين

أَحدهمَا أَن الروَاة جوزوا النَّقْل بِالْمَعْنَى فتجد قصَّة وَاحِدَة قد جرت فِي زَمَانه ص = لم تنقل بِتِلْكَ الْأَلْفَاظ جَمِيعهَا نَحْو مَا رُوِيَ من قَوْله زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن

ملكتكها بِمَا مَعَك

خُذْهَا بِمَا مَعَك

وَغير ذَلِك من الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة فِي هَذِه الْقِصَّة

فنعلم يَقِينا أَنه ص = لم يلفظ بِجَمِيعِ هَذِه الْأَلْفَاظ بل نجزم

ص: 700

بِأَنَّهُ قَالَ بَعْضهَا إِذْ يحْتَمل أَنه قَالَ لفظا مرادفا لهَذِهِ الْأَلْفَاظ غَيرهَا فَأَتَت الروَاة بالمرادف وَلم تأت بِلَفْظِهِ إِذْ الْمَعْنى هُوَ الْمَطْلُوب وَلَا سِيمَا مَعَ تقادم السماع وَعدم ضَبطه بِالْكِتَابَةِ والاتكال على الْحِفْظ

وَالضَّابِط مِنْهُم من ضبط الْمَعْنى وَأما ضبط اللَّفْظ فبعيد جدا لَا سِيمَا فِي الْأَحَادِيث الطوَال وَقد قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ إِن قلت لكم إِنِّي أحدثكُم كَمَا سَمِعت فَلَا تصدقوني إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنى

وَمن نظر فِي الحَدِيث أدنى نظر علم الْعلم الْيَقِين أَنهم إِنَّمَا يروون بِالْمَعْنَى

الْأَمر الثَّانِي أَنه وَقع اللّحن كثيرا فِيمَا رُوِيَ من الحَدِيث لِأَن كثيرا من الروَاة كَانُوا غير عرب بالطبع وَلَا يعلمُونَ لِسَان الْعَرَب بصناعة النَّحْو فَوَقع اللّحن فِي كَلَامهم وهم لَا يعلمُونَ ذَلِك وَقد وَقع فِي كَلَامهم وروايتهم غير الفصيح من لِسَان الْعَرَب

ونعلم قطعا من غير شكّ أَن رَسُول الله ص = كَانَ أفْصح النَّاس فَلم يكن ليَتَكَلَّم لَا بأفصح اللُّغَات وَأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها وَإِذا تكلم بلغَة غير لغته فَإِنَّمَا يتَكَلَّم بذلك مَعَ أهل تِلْكَ اللُّغَة على طَرِيق الإعجاز وَتَعْلِيم الله ذَلِك لَهُ من غير معلم وَالْمُصَنّف قد أَكثر من الِاسْتِدْلَال بِمَا ورد فِي الْأَثر متعقبا بِزَعْمِهِ على النَّحْوِيين وَمَا أمعن النّظر فِي ذَلِك وَلَا صحب من لَهُ التَّمْيِيز وَقد قَالَ لنا قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين بن جمَاعَة وَكَانَ مِمَّن أَخذ عَن ابْن مَالك قلت لَهُ يَا سَيِّدي هَذَا الحَدِيث رِوَايَة الْأَعَاجِم وَوَقع فِيهِ من روايتهم مَا يعلم أَنه لَيْسَ من لفظ الرَّسُول ص = فَلم يجب بِشَيْء

قَالَ أَبُو حَيَّان وَإِنَّمَا أمعنت الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لِئَلَّا يَقُول الْمُبْتَدِئ مَا بَال النَّحْوِيين يستدلون بقول الْعَرَب وَفِيهِمْ الْمُسلم وَالْكَافِر وَلَا يستدلون بِمَا رُوِيَ فِي الحَدِيث بِنَقْل الْعُدُول كالبخاري وَمُسلم وأضرابهما فَمن طالع مَا ذَكرْنَاهُ أدْرك السَّبَب الَّذِي لأَجله لم يسْتَدلّ النُّحَاة بِالْحَدِيثِ

انْتهى كَلَام أبي حَيَّان بِلَفْظِهِ

وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الضائع فِي شرح الْجمل تَجْوِيز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى هُوَ السَّبَب عِنْدِي فِي ترك الْأَئِمَّة كسيبويه وَغَيره الاستشهاد على إِثْبَات اللُّغَة بِالْحَدِيثِ واعتمدوا

ص: 701

فِي ذَلِك على الْقُرْآن وصريح النَّقْل عَن الْعَرَب وَلَوْلَا تَصْرِيح الْعلمَاء بِجَوَاز النَّقْل بِالْمَعْنَى فِي الحَدِيث لَكَانَ الأولى فِي إِثْبَات فصيح اللُّغَة كَلَام النَّبِي ص = لِأَنَّهُ أفْصح الْعَرَب

قَالَ وَكَانَ ابْن خروف يستشهد بِالْحَدِيثِ كثيرا فَإِن كَانَ على وَجه الِاسْتِظْهَار والتبرك بالمروي فَحسن وَإِن كَانَ يرى أَن من قبله أغفل شَيْئا وَجب عَلَيْهِ استدراكه فَلَيْسَ كَمَا رأى

انْتهى

وَمثل ذَلِك قَول صَاحب ثمار الصِّنَاعَة النَّحْو علم يستنبط بِالْقِيَاسِ والاستقراء من كتاب الله تَعَالَى وَكَلَام فصحاء الْعَرَب فَقَصره عَلَيْهِمَا وَلم يذكر الحَدِيث

نعم اعْتمد عَلَيْهِ صَاحب البديع فَقَالَ فِي أفعل التَّفْضِيل لَا يلْتَفت إِلَى قَول من قَالَ إِنَّه لَا يعْمل لِأَن الْقُرْآن وَالْأَخْبَار والأشعار نطقت بِعَمَلِهِ ثمَّ أورد آيَات

وَمن الْأَخْبَار حَدِيث مَا من أَيَّام أحب إِلَى الله فِيهَا الصَّوْم

وَمِمَّا يدل على صِحَة مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن الضائع وَأَبُو حَيَّان أَن ابْن مَالك اسْتشْهد على لُغَة أكلوني البراغيث بِحَدِيث الصَّحِيحَيْنِ يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ

وَأكْثر من ذَلِك حَتَّى صَار يسميها لُغَة يتعاقبون

وَقد اسْتدلَّ بِهِ السُّهيْلي

ثمَّ قَالَ لكني أَقُول إِن الْوَاو فِيهِ عَلامَة إِضْمَار لِأَنَّهُ حَدِيث مُخْتَصر رَوَاهُ الْبَزَّار مطولا مجودا قَالَ فِيهِ إِن لله مَلَائِكَة يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ

وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي الْإِنْصَاف فِي منع أَن فِي خبر كَاد وَأما حَدِيث كَاد الْفقر أَن يكون كفرا

فَإِنَّهُ من تغييرات الروَاة لِأَنَّهُ ص = أفْصح من نطق بالضاد

انْتهى كَلَام السُّيُوطِيّ

وَحَدِيث كَاد الْفقر أَن يكون كفرا

ضَعِيف قَالَ بعض الْمُحدثين أخرج أَبُو نعيم فِي الْحِلْية وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن أنس مَرْفُوعا كَاد الْفقر أَن يكون كفرا وَكَاد الْحَسَد أَن يغلب الْقدر

وَفِي لفظ أَن يسْبق الْقدر

وَفِي سَنَده يزِيد الرقاشِي وَهُوَ ضَعِيف وَله شَوَاهِد ضَعِيفَة

ص: 702