المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفائدة الحادية عشرة - توجيه النظر إلى أصول الأثر - جـ ٢

[طاهر الجزائري]

فهرس الكتاب

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْغَزْو وَالسير

- ‌المبحث الثَّالِث فِي الحَدِيث الضَّعِيف

- ‌تَقْسِيم الحَدِيث الضَّعِيف إِلَى أقسامه الْمَشْهُورَة على طَريقَة الْمُحدثين

- ‌زِيَادَة بسط

- ‌وَهنا أُمُور يَنْبَغِي الانتباه لَهَا

- ‌بَيَان شاف للمعلل من الحَدِيث

- ‌بَيَان علل أَخْبَار رويت فِي الطَّهَارَة

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي الصَّلَاة

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الزَّكَاة وَالصَّدقَات

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الصَّوْم

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْمَنَاسِك

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْجَنَائِز

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْبيُوع

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي النِّكَاح

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْحُدُود

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي اللبَاس

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي الْأَطْعِمَة

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي أُمُور شَتَّى

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْأَحْكَام والأقضية

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الزّهْد

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْمَنَاسِك

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْغَزْو وَالسير

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْبيُوع

- ‌صلَة تتَعَلَّق بالضعيف وَهِي تشْتَمل على ثَلَاث مسَائِل

- ‌الْفَصْل السَّابِع فِي رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى وَمَا يتَعَلَّق بذلك

- ‌فروع لَهَا تعلق بالرواية بِالْمَعْنَى

- ‌فَوَائِد شَتَّى الْفَائِدَة الأولى

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّالِثَة

- ‌الْفَائِدَة الرَّابِعَة

- ‌الْفَائِدَة الْخَامِسَة

- ‌تَنْبِيهَات

- ‌الْفَائِدَة السَّابِعَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّامِنَة

- ‌الْفَائِدَة التَّاسِعَة

- ‌الْفَائِدَة الْعَاشِرَة

- ‌الْفَائِدَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة عشرَة

الفصل: ‌الفائدة الحادية عشرة

يكون مَعْذُورًا كمن لَا يدْرك دَلِيل صدق الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَا عذر مَعَ نصب الله تَعَالَى الْأَدِلَّة القاطعة

الصُّورَة الثَّانِيَة أَن لَا يكون قد بلغته بدعته وعقيدته فَترك الْإِجْمَاع لمُخَالفَته فَهُوَ مَعْذُور فِي خطئه وَغير مؤاخذ بِهِ وَكَأن الْإِجْمَاع لم ينتهض فِي حَقه كَمَا إِذا لم يبلغهُ الدَّلِيل النَّاسِخ لِأَنَّهُ غير مَنْسُوب إِلَى تَقْصِير بِخِلَاف الصُّورَة الأولى فَإِنَّهُ قَادر على الْمُرَاجَعَة والبحث فَلَا عذر لَهُ فِي تَركه

ثمَّ ذكر أَن للمرء طَرِيقا لمعْرِفَة مَا يكفر بِهِ غير أَن الْخطب فِي ذَلِك طَوِيل وَأَنه قد أَشَارَ إِلَى شَيْء مِنْهُ فِي كِتَابه فيصل التَّفْرِقَة بَين الْإِسْلَام والزندقة

‌الْفَائِدَة الْحَادِيَة عشرَة

الْقُرْآن هُوَ الإِمَام الْمُبين الَّذِي لَا تنزل بِأحد فِي الدّين نازلة إِلَّا وَفِيه الدَّلِيل على سَبِيل الْهدى فِيهِ قَالَ تَعَالَى {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم ولعلهم يتفكرون}

قَالَ بعض الْأَئِمَّة جَمِيع مَا حكم بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِمَّا فهمه من الْقُرْآن وَقَالَ بعض عُلَمَاء الْأُصُول مَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من شَيْء فَهُوَ فِي الْقُرْآن أَو فِيهِ أَصله قرب أَو بعد فهمه من فهمه وَعَمه عَنهُ من عَمه وَكَذَا كل مَا حكم بِهِ أَو قضي بِهِ وَإِنَّمَا يدْرك الطَّالِب من ذَلِك بِقدر اجْتِهَاده وبذل وَسعه وَمِقْدَار فهمه وَقَالَ سعيد بن جُبَير مَا بَلغنِي حَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على وَجهه إِلَّا وجدت مصداقة فِي كتاب الله

ص: 893

وَقد اتّفقت الْفرق المتتمية إِلَى الْإِسْلَام على وجوب الْأَخْذ بِالْكتاب وَالسّنة وَنقل عَن الْخَوَارِج أَنهم لَا يَأْخُذُونَ من السّنة بِمَا يكون مُخَالفا مَا لظَاهِر الْقُرْآن كَأَن يكون فِيهَا تَخْصِيص لما فِيهِ من الْعُمُوم وَنَحْو ذَلِك وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهَا بِمَا كَانَ فِيهِ بَيَان لما أجمل فِي الْقُرْآن وَذَلِكَ كأوقات الصَّلَاة وَعدد ركعاتها وَنَحْو ذَلِك

وَقد توقف بعض الْمُحَقِّقين فِي هَذَا النَّقْل حَيْثُ أَن الموردين لَهُ لم يذكرُوا أَنهم نقلوه من كتبهمْ على أَن الْفرق كلهَا قَلما يطمأن لما يَنْقُلهُ بَعضهم عَن بعض لِأَن كثيرا مِنْهُم قد يغلب عَلَيْهِ التعصب فَلَا ينْقل مَذْهَب الْمُخَالفين لَهُ على وَجهه بل رُبمَا كَانَ جلّ قَصده إِظْهَار الْفرق بَين الْفرق وَلَو كَانَ بِأَمْر مُخْتَلف وَلذَا قل الاطمئنان لى كثير مِمَّا يذكر فِي كتب الْملَل والنحل حَتَّى إِن بعض من ألفوا فِيهَا مَعَ كَونهم فِي أنفسهم ثِقَات لما اعتمدوا فِي بعض الْمَوَاضِع على مَا نَقله غَيرهم مِمَّن كَانَ من أهل التعصب وَلم يشعروا بحالهم وَقع فِي كَلَامهم هُنَاكَ زلل فَيَنْبَغِي الانتباه لمثل هَذَا الْأَمر

وَكَيف يتَوَقَّف عَن الْأَخْذ بِسنة النَّبِي صلى الله عليه وسلم مُطلقًا من يَأْخُذ بِالْكتاب / الْمنزل عَلَيْهِ وَهُوَ يَتْلُو مَا فِيهِ من الْآيَات الدَّالَّة على وجوب اتِّبَاعه قَالَ الله تَعَالَى {والنجم إِذا هوى مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَقَالَ تَعَالَى {من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله} وَقَالَ عز وجل (فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا) والآيات فِي هَذَا الْمَعْنى كَثِيرَة وَهِي صَرِيحَة ظَاهِرَة الدّلَالَة

وَمن ثمَّ ترى كل فرقة تَدعِي أَنَّهَا آخذة بِالْكتاب وَالسّنة وَأَشد الْفرق ادِّعَاء

ص: 894

لذَلِك الظاهرون غير أَنهم لم يقتصروا على ذَلِك بل نسبوا غَيرهم من الْفرق إِلَى الْإِعْرَاض عَن السّنة حَتَّى لم ينج مِنْهُم كثير مِمَّن يرجع إِلَيْهِ فِي علم الحَدِيث وَأَكْثرُوا من التشنيع وَأعظم الْأَسْبَاب قَول مخالفيهم بِالْقِيَاسِ وهم ينكرونه إنكارا شَدِيدا وَأَشد الْقَوْم إفراطا فِي ذمّ الْمُخَالفين لَهُم ابْن حزم فَإِن لَهُ فيهم أقوالا تستك مِنْهَا المسامع

وَقد امتعض من ذَلِك من ذَلِك مخالفوهم فوصفوهم بالجمود وجعلوهم فِي بَاب الْإِجْمَاع بِمَنْزِلَة الْعَوام الَّذين لَا يعْتد بخرفهم حَتَّى إِن بَعضهم لم يسْتَثْن من ذَلِك من ينْسب إِلَيْهِ هَذَا الْمَذْهَب وَهُوَ الإِمَام الْمَشْهُور أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد بن عَليّ الْأَصْفَهَانِي الْمَعْرُوف بالظاهري قَالَ بعض عُلَمَاء الْأُصُول لَا يعْتد بِخِلَاف من أنكر الْقيَاس لِأَن من أنكرهُ لَا يعرف طرق الِاجْتِهَاد وَإِنَّمَا هُوَ ممتسك بالظواهر فَهُوَ كالعامي الَّذِي لَا معرفَة لَهُ وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور

وَقَالَ بعض الْفُقَهَاء إِن مُخَالفَة دَاوُد لَا تقدح فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع على الْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ والمحققون وَقَالَ صَاحب الْمُفْهم قَالَ جلّ الْفُقَهَاء والأصوليين إِنَّه لَا يعْتد بخلافهم بل هم جملَة الْعَوام وَإِن من اعْتد بهم فَإِنَّمَا ذَلِك لِأَن مذْهبه يعْتَبر خلاف الْعَوام فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع وَالْحق خِلَافه

وَقد استنكر بعض أهل الْأُصُول القَوْل بِعَدَمِ الِاعْتِدَاد بقول دَاوُد فِي الْإِجْمَاع مَعَ أَنه كَانَ فِي الدرجَة الْعليا فِي سَعَة الْعلم وسداد النّظر وَمَعْرِفَة أَقْوَال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْقُدْرَة على الاستنباط مَعَ الزّهْد والورع وَقد دونت كتبه وَكَثُرت أَتْبَاعه وَقد بلغ مَا أَلفه ثَمَانِيَة عشر ألف ورقة وَكَانَ مولده بِالْكُوفَةِ ومنشأه بِبَغْدَاد وَبهَا توفّي سنة 270

وَقد تصدى ابْن حزم لبَيَان من يعْذر فِي الْخَطَأ فِي هَذَا الْموضع وَمن لَا يعْذر وَقد أحببنا أَن نورد نبذا مِمَّا ذكره ليطلع عَلَيْهِ من يُرِيد الْوَقْف على رَأْيه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة المهعمة وَهَا هُوَ ذَلِك

ص: 895

قَالَ فِي الْبَاب الموفي أَرْبَعِينَ من كتاب الإحكام لأصول الْأَحْكَام وَهُوَ آخر الْكتاب إِن أَحْكَام الشَّرِيعَة كلهَا قد بَينهَا الله تَعَالَى بِلَا خلاف فَهِيَ كلهَا مَضْمُونَة الْوُجُود لعامة الْعلمَاء وَإِن تعذر وجود بَعْضهَا على بعض النَّاس فمحال أَن يتَعَذَّر وجوده على كلهم لِأَن الله لَا يكلفنا مَا لَيْسَ فِي وسعنا قَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وتكليف إِصَابَة مَا لَا سَبِيل إِلَى وجود حرج

وَقد اتّفق الْعلمَاء على أَن الْقُرْآن وَالسّنَن مَوَاضِع لوُجُود أَحْكَام النَّوَازِل ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَت طَائِفَة لَا مَوضِع آلبته لطلب حكم النَّوَازِل من الشَّرِيعَة وَلَا لوُجُوده غير ذَلِك وَقَالَ آخَرُونَ بل هَا هُنَا مَوَاضِع أخر يطْلب فِيهَا حكم النَّازِلَة وَهِي دَلِيل الْخطاب وَالْقِيَاس وَقَول أَكثر / الْعلمَاء وَعمل أهل الْمَدِينَة وَغير ذَلِك مِمَّا شرحناه وَبينا حكمه فِيمَا سلف من كتَابنَا هَذَا

وَقد كَانَت فِي ذَلِك أَقْوَال لقوم من أهل الْكَلَام قد درست مثل قَول بَعضهم الْوَاجِب أَن يُقَال بِأول مَا يَقع فِي النَّفس فِي أول الْفِكر وَقَول بَعضهم الْوَاجِب أَن يُقَال بالأثقل لِأَنَّهُ خلاف الْهوى وَقَول بَعضهم الْوَاجِب أَن يُقَال بالأخف لقَوْله تَعَالَى {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر}

وَهَذِه أَقْوَال فَاسِدَة يُعَارض بَعْضهَا بَعْضًا وكل مَا ألزمنا الله فَهُوَ يسر وَإِن ثقل علينا وكل شَرِيعَة نكلف بهَا فَهِيَ خلاف الْهوى لِأَن تَركهَا كَانَ مُوَافقا للهوى وَمَا يَقع فِي أَوَائِل الْفِكر قد يكون من قبيل الوسواس فَلَا لَازم لنا إِلَّا مَا ألزمنا الله تَعَالَى سَوَاء وَقع فِي النَّفس أَو لم يَقع وساء كَانَ أخف أَو أثقل

وَقد أوضحنا فِيمَا سلف الْبَرَاهِين الضرورية على ان الْحق لَا يكون فِي قَوْلَيْنِ مُخْتَلفين فِي حكم وَاحِد فِي وَقت وَاحِد فِي إِنْسَان وَاحِد فِي وَجه وَاحِد ونتوقف

ص: 896

فِيمَا لم يقم على حكمه عندنَا دَلِيل وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصّفة فَلَا تحل الْفتيا فِيهِ لمن لم يلح لَهُ وَجهه وَلَا شكّ أَن عِنْد غَيرنَا بَيَان مَا جهلناه كَمَا ان عندنَا بَيَان كثير مِمَّا جَهله غَيرنَا وَلم يعر بشر من نقص أَو نِسْيَان أَو غَفلَة

وَإِذا قَامَ الْبُرْهَان عِنْد الْمَرْء على صِحَة قَول مَا قيَاما صَحِيحا فحقه التدين بِهِ والفتيا بِهِ وَالْعَمَل بِهِ وَالدُّعَاء إِلَيْهِ وَالْقطع بِأَنَّهُ الْحق عِنْد الله عز وجل وَلَيْسَ من هَذَا الحكم بِشَهَادَة العدلين وهما قد يكونَانِ فِي بَاطِن أَمرهمَا عِنْد الله كاذبين أَو مغفلين إِذْ لم يكلفنا الله تَعَالَى معرفَة بَاطِن مَا سهدا بِهِ لَكِن كلفنا الحكم بِشَهَادَتِهِمَا

وَقد علمنَا أَنه لَا يُمكن أَن يخفى الْحق فِي الدّين على جَمِيع الْمُسلمين بل لَا بُد أَن يَقع طَائِفَة من الْعلمَاء على صِحَة حكمه بِيَقِين لما قدمنَا من أَن الدّين مَضْمُون بَيَانه وَرفع الْإِشْكَال عَنهُ بقول الله تَعَالَى {تبيانا لكل شَيْء} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَلَكِن قد قَالَ الله تَعَالَى (وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ) فصح بِالنَّصِّ أَن الْخَطَأ مَرْفُوع عَنَّا

فَمن حكم بقول وَلم يعرف أَنه خطأ وَهُوَ عِنْد الله تَعَالَى خطأ فقد أَخطَأ وَلم يتَعَمَّد الحكم بِمَا يدْرِي أَنه خطأ فَهَذَا لَا جنَاح عَلَيْهِ فِي ذَلِك عِنْد الله تَعَالَى {تبيانا لكل شَيْء} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى [لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم) وَلَكِن قد قَالَ الله تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} فصح بِالنَّصِّ أَن الْخَطَأ مَرْفُوع عَنَّا

فَمن حكم بقول وَلم يعرف أَنه خطأ وَهُوَ عِنْد الله تَعَالَى خطأ فقد أَخطَأ وَلم يتَعَمَّد الحكم بِمَا يدْرِي أَنه خطأ فَهَذَا لَا جنَاح عَلَيْهِ فِي ذَلِك عِنْد الله تَعَالَى وَهَذِه الْآيَة عُمُوم دخل فِيهِ الْمفْتُون والحكام والعاملون والمعتقدون فارتفع الْجنَاح عَن هَؤُلَاءِ بِنَصّ الْقُرْآن فِيمَا قَالُوهُ أَو علمُوا بِهِ مِمَّا هم مخطئون فِيهِ وَصَحَّ أَن الْجنَاح إِنَّمَا هُوَ على من تعمد بِقَلْبِه الْفتيا أَو التدين أَو الحكم أَو الْعَمَل بِمَا يدْرِي أَنه لَيْسَ حَقًا أَو بِمَا لم يقدره إِلَيْهِ دَلِيل أصلا

وَمن جَاءَهُ من ربه الْهدى وَهُوَ الْبُرْهَان الْحق فَلَا يحل لَهُ تَركه وَاتِّبَاع مَا هويت نَفسه وَظن أَنه الْحق وَسَوَاء فِي هَذَا الْمقَام عَلَيْهِ الْبُرْهَان فِي فتياه أَو فِي معتقده فِي

ص: 897

اعتزاله أَو تشيعه أَو إرجائه أَو شرايته وَمن جوز الشَّك فِي الْبُرْهَان وَتَمَادَى على مُخَالفَته وَقطع بظنه فِي أَنه لَعَلَّ هُنَا برهانا آخر يبطل هَذَا الْبُرْهَان الَّذِي أقيم عَلَيْهِ فَهَذَا مُبْطل للحقائق كلهَا وَقَوله يَقُود إِلَى ان لَا يُحَقّق شَيْئا من الشَّرَائِع إِلَّا بِالظَّنِّ فَقَط

وَأما من اعْتقد قولا اتبَاعا لمن نَشأ بَينهم فَهُوَ مَذْمُوم صَادف الْحق أَو لم يصادفه لِأَنَّهُ لم يَقْصِدهُ من حَيْثُ أَمر من اتِّبَاع النُّصُوص وَمن قَالَ إِن هَذِه الْآيَة أَو الْخَبَر قد نسخهما الله عز وجل أَو خصهما أَو خص مِنْهُمَا أَو لم يلْزمنَا أَو أَرَادَ بهما غير مَا يفهم مِنْهُمَا وَلم يَأْتِ على دَعْوَاهُ بِنَصّ صَحِيح فقد قَالَ على الله مَا لم يعلم

وَلَيْسَ هُوَ كمن تعلق بِنَصّ لم يبلغهُ ناسخة وَلَا مَا خصّه وَلَا مَا زيد / بِهِ عَلَيْهِ لِأَن هَذَا قد أحسن وَلزِمَ مَا بلغه وَلَيْسَ عَلَيْهِ غير ذَلِك حَتَّى يبلغهُ خِلَافه من نَص آخر فَمن لم يتَعَلَّق بِشَيْء أصلا بل تحكم فِي الدّين فَهُوَ على خطر عَظِيم جدا وَمن قَالَ بِهَذَا مِمَّن نشاهده وهلا سَاهِيا غير عَارِف بِمَا اقتحم فِيهِ من الدَّعْوَى فَهُوَ مَعْذُور بجهله مَا لم يُنَبه على خطئه فَإِن نبه عَلَيْهِ فَثَبت على خلاف مَا بلغه عَامِدًا فَهَذَا غير مَعْذُور لِأَنَّهُ خَالف الْحق بعد بُلُوغه إِلَيْهِ

وَأما من رُوِيَ عَنهُ شَيْء من ذَلِك مِمَّن سلف مِمَّن كَانَ أَن يظنّ بِهِ أَنه سمع فِي ذَلِك نصا لَهُ فِيهِ وَهُوَ مِمَّن يظنّ بِهِ أحسن الظَّن فَهُوَ مَعْذُور وَلَا يَقِين عندنَا أَنه تحكم فِي الدّين بِلَا شُبْهَة دخلت عَلَيْهِ

وَأما من شَاهَدْنَاهُ أَو لم نشاهده مِمَّن صَحَّ عندنَا يَقِين حَاله فَنحْن على يَقِين أَنه لَيْسَ عِنْده فِي ذَلِك أَكثر من الدَّعْوَى وَالْقَوْل على الله تَعَالَى بِمَا لَا يعلم وَمن ادّعى فِي حَدِيث صَحِيح قد أقرّ بِصِحَّتِهِ أَو بِصِحَّة مثله فِي إِسْنَاده نسخا أَو تَخْصِيصًا أَو تَخْصِيصًا مِنْهُ أَو ندبا فَكَمَا قُلْنَا فِي مدعي ذَلِك فِي الْآيَات وَلَا فرق

وَمن تعلق بقول لم يجد فِيهِ مُخَالفا وَلم يقطع بِأَنَّهُ إِجْمَاع فَهَذَا إِن ترك لذَلِك

ص: 898

عُمُوم نَص صَحِيح أَو خُصُوص نَص صَحِيح فمعذور مأجور مرّة وَإِن خطأ مَا لم يُوقف على ذَلِك النَّص فَإِن وقف عَلَيْهِ فتمادى على خِلَافه فَهُوَ مِمَّن تَمَادى على مُخَالفَة أَمر الله تَعَالَى

وَمن تعلق بِدَلِيل الْحطاب أَو الْقيَاس فَهُوَ مخطيء يَقِينا إِلَّا انه مَعْذُور مأجور مرّة مَا لم تقم الْحجَّة عَلَيْهِ فِي بطلانهما وَمن تعلق بِالرَّأْيِ فَظن أَنه مُصِيب فِي ذَلِك فَهُوَ مَعْذُور مأجور مرّة إِلَّا أَن تقوم عَلَيْهِ الْحجَّة بِبُطْلَانِهِ فَإِن قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة بِبُطْلَانِهِ فَثَبت على القَوْل بِهِ فَهُوَ مِمَّن يحكم فِي الدّين بِمَا لم يَأْذَن بِهِ الله تَعَالَى

وَالْحكم بِالرَّأْيِ أَضْعَف من كل مَا تقدم وَقد تعلق الْقَائِلُونَ بِهِ بِالْحَدِيثِ الْمَنْسُوب إِلَى معَاذ وَهُوَ حَدِيث واه سَاقِط

وَأما الْوُجُوه الَّتِي لَا نقطع فِيهَا بخطأ مخالفنا بل نقُول نَحن على الْحق عِنْد أَنْفُسنَا ومخالفنا عندنَا مخطيء مأجور فَثَلَاثَة

الْوَجْه الأول وَهُوَ أدق ذَلِك وأغمضه ان ترد آيتان عامتان أَو حديثان صَحِيحَانِ عامان أَو آيَة عَامَّة وَحَدِيث صَحِيح عَام وَفِي كل وَاحِدَة من الْآيَتَيْنِ أَو فِي كل وَاحِد من الْحَدِيثين أَو فِي كل وَاحِد من الْآيَة والْحَدِيث تَخْصِيص لبَعض مَا فِي عُمُوم النَّص الآخر مِنْهُمَا وَذَلِكَ كَقَوْل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِأم الْقُرْآن مَعَ قَوْله وَقد ذكر الإِمَام وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا

الْوَجْه الثَّانِي أَن يرد حديثان صَحِيحَانِ متعارضان أَو آيتان متعارضتان أَو آيَة مُعَارضَة لحَدِيث صَحِيح تَعَارضا متقاوما فِي أحد النصين منع وَفِي الثَّانِي إِيجَاب فِي ذَلِك الشَّيْء بِعَيْنِه لَا زِيَادَة فِي أحد النصين منع وَفِي الثَّانِي إِيجَاب فِي ذَلِك الشَّيْء بِعَيْنِه لَا زِيَادَة فِي أحد النصين على الآخر وَلَا بَيَان فِي أَيهمَا

ص: 899

النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ كالنص الْوَارِد أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم شرب قَائِما وَالنَّص الْوَارِد أَنه عليه الصلاة والسلام نهى عَن الشّرْب قَائِما

فَإِن من ترك الْخَبَرَيْنِ مَعًا وَرجع إِلَى الأَصْل الَّذِي كَانَ يجب لَو لم يرد ذَلِك الخبران أَو رجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الْمعَارض لَهُ بِكَثْرَة رُوَاته أَو بِأَنَّهُ رَوَاهُ من هُوَ أعدل مِمَّن روى الآخر وأحفظ وَمَا أشبه هَذَا من وُجُوه الترجيحات الَّتِي أوردناها فِي بَاب الْكَلَام فِي الْأَخْبَار / من ديواننا هَذَا وَبَيَان وُجُوه الصَّوَاب مِنْهَا من الْخَطَأ فَإِن هَذَا أَيْضا مَكَان يخفى بَيَان الْخَطَأ فِيهِ جدا

وَأما نَحن فَنَقُول بِالْأَخْذِ بِالزَّائِدِ شرعا إِلَّا أننا نقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن من مَال إِلَى أحد هَذِه الْوُجُوه فِي مَكَان م تَركه فِي مثل ذَلِك الْمَكَان واخذ بِالْوَجْهِ الآخر مُقَلدًا أَو مستحسنا فَمَا دَامَ لم يُوقف على تناقضه وَفَسَاد حكمه فمعذور مأجور حَتَّى إِذا وقف على ذَلِك فتمادى فَهُوَ مُتبع لهواه

الْوَجْه الثَّالِث ان يتَعَلَّق بِحَدِيث ضَعِيف لم يتَبَيَّن لَهُ ضعفه أَو بِحَدِيث مُرْسل أَو ادّعى تجريحا فِي رَاوِي حَدِيث صَحِيح إِمَّا بتدليس أَو نَحوه أَو ادّعى أَن النَّاقِل أَخطَأ فِيهِ فَمن اعْتقد صِحَة مَا ذكر من ذَلِك فَهُوَ مَعْذُور مأجور

فَإِذا ترك فِي مَكَان آخر مثل ذَلِك الحَدِيث أَو رد مُرْسلا آخر إرْسَاله فَقَط وَأخذ بِحَدِيث آخر فِيهِ من التَّعْلِيل كَمَا فِي الَّذِي قد رده فِي مَكَان آخر ووقف على ذَلِك - فتمادى - فَهُوَ مُتبع لهواه لإقدامه على الحكم فِي الدّين بِمَا قد سهد لِسَانه بِبُطْلَانِهِ وَإِن لم نقطع بِأَنَّهُ مخطيء لِإِمْكَان أَن يكون قد صَادف الْحق

فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ تَقولُونَ فِيمَن بلغه نَص قُرْآن أَو سنة صَحِيحَة بِخَبَر لَيْسَ من بَاب الْأَمر إِلَّا أَنه قد جَاءَ ذَلِك الْخَبَر فِي نَص آخر باستثناء مِنْهُ أَو زِيَادَة عَلَيْهِ وَلم يبلغهُ النَّص الثَّانِي

فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن هَذَا بِخِلَاف الْأَمر لِأَن الْأَوَامِر قد ترد نَاسِخا

ص: 900