المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فروع لها تعلق بالرواية بالمعنى - توجيه النظر إلى أصول الأثر - جـ ٢

[طاهر الجزائري]

فهرس الكتاب

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْغَزْو وَالسير

- ‌المبحث الثَّالِث فِي الحَدِيث الضَّعِيف

- ‌تَقْسِيم الحَدِيث الضَّعِيف إِلَى أقسامه الْمَشْهُورَة على طَريقَة الْمُحدثين

- ‌زِيَادَة بسط

- ‌وَهنا أُمُور يَنْبَغِي الانتباه لَهَا

- ‌بَيَان شاف للمعلل من الحَدِيث

- ‌بَيَان علل أَخْبَار رويت فِي الطَّهَارَة

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي الصَّلَاة

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الزَّكَاة وَالصَّدقَات

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الصَّوْم

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْمَنَاسِك

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْجَنَائِز

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْبيُوع

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي النِّكَاح

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْحُدُود

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي اللبَاس

- ‌بَاب علل أَخْبَار رويت فِي الْأَطْعِمَة

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي أُمُور شَتَّى

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْأَحْكَام والأقضية

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الزّهْد

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْمَنَاسِك

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْغَزْو وَالسير

- ‌علل أَخْبَار رويت فِي الْبيُوع

- ‌صلَة تتَعَلَّق بالضعيف وَهِي تشْتَمل على ثَلَاث مسَائِل

- ‌الْفَصْل السَّابِع فِي رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى وَمَا يتَعَلَّق بذلك

- ‌فروع لَهَا تعلق بالرواية بِالْمَعْنَى

- ‌فَوَائِد شَتَّى الْفَائِدَة الأولى

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّالِثَة

- ‌الْفَائِدَة الرَّابِعَة

- ‌الْفَائِدَة الْخَامِسَة

- ‌تَنْبِيهَات

- ‌الْفَائِدَة السَّابِعَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّامِنَة

- ‌الْفَائِدَة التَّاسِعَة

- ‌الْفَائِدَة الْعَاشِرَة

- ‌الْفَائِدَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة عشرَة

الفصل: ‌فروع لها تعلق بالرواية بالمعنى

‌فروع لَهَا تعلق بالرواية بِالْمَعْنَى

الْفَرْع الأول للْعُلَمَاء فِي اخْتِصَار الحَدِيث وَهُوَ حذف بعضه والاقتصار فِي الرِّوَايَة على بعضه أَقْوَال

القَوْل الأول الْمَنْع من ذَلِك مُطلقًا بِنَاء على الْمَنْع من الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لِأَن حذف بعض الحَدِيث وَرِوَايَة بعضه رُبمَا أحدث الْخلَل فِيهِ والمختصر لَا يشْعر

قَالَ عتبَة قلت لِابْنِ الْمُبَارك علمت أَن حَمَّاد بن سَلمَة كَانَ يُرِيد أَن يختصر الحَدِيث فينقلب مَعْنَاهُ قَالَ فَقَالَ لي أوفطنت لَهُ

وروى يَعْقُوب بن شيبَة عَن مَالك أَنه كَانَ لَا يرى أَن يختصر الحَدِيث إِذا كَانَ عَن رَسُول الله ص =

وَقَالَ أَشهب سَأَلت مَالِكًا عَن الْأَحَادِيث يقدم فِيهَا وَيُؤَخر وَالْمعْنَى وَاحِد قَالَ مَا كَانَ مِنْهَا من قَول رَسُول الله ص = فَإِنِّي أكره ذَلِك وأكره أَن يُزَاد فِيهَا وَينْقص مِنْهَا وَمَا كَانَ من قَول غير رَسُول الله ص = فَلَا أرى بذلك بَأْسا إِذا كَانَ الْمَعْنى وَاحِدًا

وَكَانَ عبد الْملك بن عُمَيْر وَغَيره لَا يجيزون أَن يحذف مِنْهُ حرف وَاحِد فَإِن كَانَ لشك فَهُوَ سَائِغ كَانَ مَالك يَفْعَله كثيرا

القَوْل الثَّانِي الْجَوَاز مُطلقًا وَيَنْبَغِي تَقْيِيد الْإِطْلَاق بِمَا إِذا لم يكن الْمَحْذُوف مُتَعَلقا بالمأتي بِهِ تعلقا يخل حذفه بِالْمَعْنَى كالاستثناء وَالشّرط فَإِن كَانَ كَذَلِك لم يجز بِلَا خلاف وَهُوَ ظَاهر

القَوْل الثَّالِث أَنه إِن لم يكن رَوَاهُ التَّمام قبل ذَلِك هُوَ أَو غَيره لم يجز وَإِن كَانَ قد رَوَاهُ على التَّمام قبل ذَلِك هُوَ أَو غَيره جَازَ

القَوْل الرَّابِع أَنه يجوز ذَلِك للْعَالم الْعَارِف إِذا كَانَ مَا تَركه متميزا عَمَّا نَقله غير مُتَعَلق بِهِ بِحَيْثُ لَا يخْتل الْبَيَان وَلَا تخْتَلف الدّلَالَة فِيمَا نَقله بترك مَا تَركه

وَهَذَا يَنْبَغِي أَن يجوز حَتَّى عِنْد من لم يجز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لِأَن الْمَحْذُوف والمروي حِينَئِذٍ يكونَانِ بِمَنْزِلَة خبرين منفصلين وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا قَالَ ابْن الصّلاح

وَلَا فرق

ص: 703

فِي هَذَا بَين أَن يكون قد رَوَاهُ قبل على التَّمام أَولا

وَمحل جَوَاز رِوَايَته مُخْتَصرا مَا إِذا كَانَ الرَّاوِي رفيع الْمنزلَة مَشْهُورا بالضبط والإتقان بِحَيْثُ لَا يظنّ بِهِ زِيَادَة مَا لم يسمعهُ أَو نُقْصَان مَا سَمعه بِخِلَاف من لَيْسَ كَذَلِك

قَالَ الْخَطِيب إِن من روى حَدِيثا على التَّمام وَخَافَ إِن رَوَاهُ مرّة أُخْرَى على النُّقْصَان أَن يتهم بِأَنَّهُ زَاد فِي أول مرّة مَا لم يكن سَمعه أَو أَنه نسي فِي الثَّانِي بَاقِي الحَدِيث لقلَّة ضَبطه وَكَثْرَة غلطه فَوَاجِب عَلَيْهِ أَن يَنْفِي هَذِه الظنة عَن نَفسه

وَقَالَ سليم الرَّازِيّ إِن من روى بعض الْخَبَر ثمَّ أَرَادَ أَن ينْقل تَمَامه وَكَانَ مِمَّن يتهم بِأَنَّهُ زَاد فِي حَدِيثه كَانَ ذَلِك عذرا لَهُ فِي ترك الزِّيَادَة وكتمانها

قَالَ ابْن الصّلاح من هَذَا حَاله فَلَيْسَ لَهُ من الِابْتِدَاء أَن يروي الحَدِيث غير تَامّ إِذا كَانَ قد تعين عَلَيْهِ أَدَاء تَمَامه لِأَنَّهُ إِذا رَوَاهُ أَولا نَاقِصا أخرج بَاقِيه عَن حيّز الِاحْتِجَاج بِهِ وَدَار بَين أَن لَا يرويهِ أصلا فيضيعه رَأْسا وَبَين أَن يرويهِ مُتَّهمًا فِيهِ فتضيع ثَمَرَته لسُقُوط الْحجَّة فِيهِ

وَمِمَّنْ ذهب إِلَى جَوَاز اخْتِصَار الحَدِيث مُسلم وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك فِي مُقَدّمَة صَحِيحه حَيْثُ قَالَ

ثمَّ إِنَّا إِن شَاءَ الله مبتدئون فِي تَخْرِيج مَا سَأَلت عَنهُ وتأليفه على شريطة سَوف أذكرها وَهُوَ أَنا نعمد إِلَى جملَة مَا أسْند من الْأَخْبَار عَن رَسُول الله ص = فنقسمها على ثَلَاثَة أَقسَام وَثَلَاث طَبَقَات من النَّاس على غير تكْرَار إِلَّا أَن يَأْتِي مَوضِع لَا يسْتَغْنى فِيهِ عَن ترداد حَدِيث فِيهِ زِيَادَة معنى أَو إِسْنَاد يَقع إِلَى جنب إِسْنَاد لعِلَّة تكون هُنَاكَ لِأَن الْمَعْنى الزَّائِد فِي الحَدِيث الْمُحْتَاج إِلَيْهِ يَقُول مقَام حَدِيث تَامّ فَلَا بُد من إِعَادَة الحَدِيث الَّذِي فِيهِ مَا وَصفنَا من الزِّيَادَة أَو أَن يفصل ذَلِك الْمَعْنى من جملَة الحَدِيث على اختصاره إِذا أمكن وَلَكِن تَفْصِيله رُبمَا عسر من جملَته

ص: 704

فإعادته بهيئته إِذا ضَاقَ ذَلِك أسلم

فَأَما مَا وَجَدْنَاهُ بدا من إِعَادَته بجملته من غير حَاجَة منا إِلَيْهِ فَلَا نتولى فَصله إِن شَاءَ الله تَعَالَى

قَالَ بعض الشُّرَّاح عِنْد قَوْله أَو أَن يفصل ذَلِك الْمَعْنى من جملَة الحَدِيث هَذِه مَسْأَلَة اخْتلف الْعلمَاء فِيهَا وَهِي رِوَايَة بعض الحَدِيث فَمنهمْ من مَنعه مُطلقًا بِنَاء على منع الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى وَمنعه بَعضهم وَإِن جَازَت الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى إِذا لم يكن رَوَاهُ هُوَ أَو غَيره بِتَمَامِهِ قبل هَذَا وَجوزهُ جمَاعَة مُطلقًا وَنسبه القَاضِي عِيَاض إِلَى مُسلم

وَالصَّحِيح الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور والمحققون من أَصْحَاب الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول التَّفْصِيل وَجَوَاز ذَلِك من الْعَارِف إِذا كَانَ مَا تَركه غير مُتَعَلق بِمَا رَوَاهُ بِحَيْثُ لَا يخْتل الْبَيَان وَلَا تخْتَلف الدّلَالَة بِتَرْكِهِ سَوَاء جَوَّزنَا الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى أم لَا وَسَوَاء رَوَاهُ قبل تَاما أم لَا

هَذَا إِن ارْتَفَعت مَنْزِلَته عَن التُّهْمَة فَأَما من رَوَاهُ تَاما ثمَّ خَافَ إِن رَوَاهُ ثَانِيًا نَاقِصا أَن يتهم بِزِيَادَة أَولا أَو نِسْيَان لغفلة وَقلة ضبط ثَانِيًا فَلَا يجوز النُّقْصَان ثَانِيًا وَلَا ابْتِدَاء إِن كَانَ قد تعين عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ

وَأما تقطيع المصنفين الحَدِيث الْوَاحِد فِي الْأَبْوَاب فَهُوَ بِالْجَوَازِ أولى بل يبعد طرد الْخلاف فِيهِ وَقد اسْتمرّ عَلَيْهِ علم الْأَئِمَّة الْحفاظ الجلة من الْمُحدثين وَغَيرهم من أَصْنَاف الْعلمَاء

وَهَذَا معنى قَول مُسلم أَو أَن يفصل ذَلِك الْمَعْنى من جملَة الحَدِيث على اختصاره إِذا أمكن

وَقَوله إِذا أمكن يَعْنِي إِذا وجد الشَّرْط الَّذِي ذَكرْنَاهُ على مَذْهَب الْجُمْهُور من التَّفْصِيل

وَقَوله وَلَكِن تَفْصِيله رُبمَا عسر من جملَته فإعادته بهيئته إِذا

ص: 705

ضَاقَ ذَلِك أسلم

يَعْنِي مَا ذكرنَا وَهُوَ أَنه لَا يفصل إِلَّا مَا لَيْسَ مرتبطا بِالْبَاقِي وَقد يعسر هَذَا فِي بعض الْأَحَادِيث فَيكون كُله مرتبطا بِالْبَاقِي أَو يشك فِي ارتباطه فَفِي هَذِه الْحَالة يتَعَيَّن ذكره بِتَمَامِهِ وهيئته لكَون أسلم مَخَافَة من الْخَطَأ والزلل وَالله أعلم

وَقد تعرض ابْن الصّلاح فِي مَبْحَث اخْتِصَار الحَدِيث لحكم تقطيعه فَقَالَ وَأما تقطيع المُصَنّف متن الحَدِيث الْوَاحِد وتفريقه فِي الْأَبْوَاب فَهُوَ إِلَى الْجَوَاز أقرب وَمن الْمَنْع أبعد وَقد فعله مَالك وَالْبُخَارِيّ وَغير وَاحِد من أَئِمَّة الحَدِيث وَلَا يَخْلُو من كَرَاهِيَة وَالله أعلم

وَمِمَّنْ نسب إِلَيْهِ فعل ذَلِك أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَقد أشكل نِسْبَة ذَلِك إِلَى مَالك وَأحمد

أما مَالك فَلَمَّا نقل أَشهب عَنهُ أَنه كَانَ يكره النَّقْص من الحَدِيث وَقد ذكرنَا عِبَارَته بلفظها قَرِيبا وَأما أَحْمد فَلَمَّا نقل الْخلال عَنهُ أَنه قَالَ إِنَّه يَنْبَغِي أَن لَا يفعل

وَقد يُجَاب عَن ذَلِك بِأَنَّهُمَا رُبمَا كَانَا يفرقان بَين الرِّوَايَة وَغَيرهَا فيمنعان ذَلِك فِي حَال الرِّوَايَة ويجيزانه فِي حَال الاستشهاد لَا سِيمَا إِن كَانَ الْمَعْنى المستنبط من الْقطعَة الَّتِي يُرَاد الاستشهاد بهَا مِمَّا يدق على الأفكار فَإِن إيرادها وَحدهَا أقرب إِلَى الْفَهم وَأبْعد من الْوَهم

وَاخْتَارَ بعض الْمُحَقِّقين التَّفْصِيل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَالَ إِن حصل الْقطع بِأَن الْمَحْذُوف لَا يخل بِالْبَاقِي فَلَا كَرَاهَة فِي ذَلِك وَإِن لم يحصل ذَلِك فَلَا يَخْلُو الْأَمر من كَرَاهَة إِلَّا أَن درجاتها تخْتَلف باخْتلَاف حَاله فِي ظُهُور ارتباط بعضه بِبَعْض وخفائه

وَقد تبَاعد مُسلم عَن ذَلِك فَإِنَّهُ لكَونه لم يقْصد مَا قَصده البُخَارِيّ من استنباط الْأَحْكَام أورد كل حَدِيث بِتَمَامِهِ من غير تقطيع لَهُ وَلَا اخْتِصَار إِذا لم يقل فِيهِ مثل حَدِيث فلَان أَو نَحوه

الْفَرْع الثَّانِي إِذا روى الْمُحدث الحَدِيث بِإِسْنَاد ثمَّ أتبعه بِإِسْنَاد آخر وَقَالَ عِنْد انتهائه مثله أَو نَحوه فَهَل للراوي عَنهُ أَن يقْتَصر على الْإِسْنَاد الثَّانِي ويسوق

ص: 706

لفظ الحَدِيث الْمَذْكُور عقيب الْإِسْنَاد الأول فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال

أَحدهَا الْمَنْع وَهُوَ قَول شُعْبَة فقد رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ فلَان عَن فلَان مثله لَا يُجزئ وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ قَول الرَّاوِي نَحوه شكّ

وَالثَّانِي جَوَاز ذَلِك إِذا عرف أَن الرَّاوِي لذَلِك ضَابِط متحفظ يذهب إِلَى تَمْيِيز الْأَلْفَاظ وعد الْحُرُوف فَإِن لم يعرف مِنْهُ ذَلِك لم يجز وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ

الثَّالِث جَوَاز ذَلِك فِي قَوْله مثله وَعدم جَوَاز ذَلِك فِي قَوْله نَحوه وَهُوَ قَول يحيى بن معِين وعَلى هَذَا يدل كَلَام الْحَاكِم حَيْثُ يَقُول إِن مِمَّا يلْزم الحديثي من الضَّبْط والإتقان أَن يفرق بَين أَن يَقُول مثله أَو يَقُول نَحوه فَلَا يحل لَهُ أَن يَقُول مثله إِلَّا بعد أَن يعلم أَنَّهُمَا على لفظ وَاحِد وَيحل لَهُ أَن يَقُول نَحوه إِذا كَانَ على مثل مَعَانِيه

وَهَذَا على مَذْهَب من لَا يُجِيز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فَأَما على مَذْهَب من يجيزها فَلَا فرق بَين مثله وَنَحْوه

وَكَانَ غير وَاحِد من أهل الْعلم إِذا أَرَادَ رِوَايَة مثل هَذَا يُورد الْإِسْنَاد الثَّانِي ثمَّ يَقُول مثل حَدِيث قبله مَتنه كَذَا ثمَّ يَسُوقهُ وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْمُحدث قد قَالَ نَحوه

وَإِذا ذكر الْمُحدث إِسْنَاد الحَدِيث وطرفا من الْمَتْن وَأَشَارَ إِلَى بَقِيَّته بقوله الحَدِيث أَو وَذكر الحَدِيث وَنَحْو ذَلِك فَلَيْسَ للراوي عَنهُ أَن يروي الحَدِيث عَنهُ بِكَمَالِهِ بل يقْتَصر على مَا سمع مِنْهُ وَهَذَا أولى بِالْمَنْعِ من الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا لِأَن الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا قد سَاق فِيهَا جَمِيع الْمَتْن قبل ذَلِك بِإِسْنَاد آخر وَفِي هَذِه الصُّورَة لم يسْبق إِلَّا هَذَا الْقدر من الحَدِيث

وَسَأَلَ بعض الْمُحدثين الْأُسْتَاذ الْمُقدم فِي الْفِقْه وَالْأُصُول أَبَا إِسْحَاق الإسفرائيني عَن ذَلِك فَقَالَ لَا يجوز لمن سمع على هَذَا الْوَصْف أَن يروي الحَدِيث بِمَا فِيهِ من الْأَلْفَاظ على التَّفْصِيل

وَسَأَلَ البرقاني الْفَقِيه الْحَافِظ أَبَا بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ عَمَّن قَرَأَ إِسْنَاد حَدِيث على

ص: 707

الشَّيْخ ثمَّ قَالَ وَذكر الحَدِيث فَهَل يجوز أَن يحدث بِجَمِيعِ الحَدِيث فَقَالَ إِذا عرف الْمُحدث والقارئ ذَلِك الحَدِيث فأرجو أَن يجور ذَلِك وَالْبَيَان أولى أَن يَقُول كَمَا كَانَ

والطريقة المثلى أَن يقْتَصّ مَا ذكره الشَّيْخ على وَجهه فَيَقُول قَالَ وَذَلِكَ الحَدِيث بِطُولِهِ ثمَّ يَقُول والْحَدِيث بِطُولِهِ هُوَ كَذَا وَكَذَا ويسوقه إِلَى آخِره

وَهَذَا الْفَرْع مِمَّا تشتد إِلَى مَعْرفَته حَاجَة المعتنين بِصَحِيح مُسلم لِكَثْرَة تكَرر مثله وَنَحْوه وَنَحْو ذَلِك فِيهِ

الْفَرْع الثَّالِث قَالَ ابْن الصّلاح إِذا كَانَ الحَدِيث عِنْد الرَّاوِي عَن اثْنَيْنِ أَو أَكثر وَبَين روايتيهما تفَاوت فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَاحِد كَانَ لَهُ أَن يجمع بَينهمَا فِي الْإِسْنَاد ثمَّ يَسُوق الحَدِيث على لفظ أَحدهمَا خَاصَّة وَيَقُول أخبرنَا فلَان وَفُلَان وَاللَّفْظ لفُلَان أَو وَهَذَا لفظ فلَان قَالَ أَو قَالَا أخبرنَا فلَان أَو مَا أشبه ذَلِك من الْعبارَات

وَلمُسلم صَاحب الصَّحِيح مَعَ هَذَا فِي ذَلِك عبارَة أُخْرَى حَسَنَة مثل قَوْله حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَأَبُو سعيد الْأَشَج كِلَاهُمَا عَن أبي خَالِد قَالَ أَبُو بكر حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن الْأَعْمَش وسَاق الحَدِيث فإعادته ثَانِيًا ذكر أَحدهمَا خَاصَّة إِشْعَار بِأَن اللَّفْظ الْمَذْكُور لَهُ

فَأَما إِذا لم يخص لفظ أَحدهمَا بِالذكر بل أَخذ من لفظ هَذَا وَمن لفظ ذَاك وَقَالَ أخبرنَا فلَان وَفُلَان وتقاربا فِي الْمَعْنى قَالَا أخبرنَا فلَان

فَهَذَا غير مُمْتَنع على مَذْهَب تَجْوِيز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى

وَقَول أبي دَاوُد صَاحب السّنَن حَدثنَا مُسَدّد وَأَبُو تَوْبَة قَالَا حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص مَعَ أشباه لهَذَا فِي كِتَابه يحْتَمل أَن يكون من قبيل الأول فَيكون اللَّفْظ لمسدد وَيُوَافِقهُ أَبُو تَوْبَة فِي الْمَعْنى وَيحْتَمل أَن يكون من قبيل الثَّانِي فَلَا يكون قد أورد لفظ أَحدهمَا خَاصَّة بل رَوَاهُ بِالْمَعْنَى عَن كليهمَا وَهَذَا الِاحْتِمَال يقرب فِي قَوْله حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمَعْنى وَاحِد قَالَا حَدثنَا أبان

ص: 708

وَأما إِذا جمع بَين جمَاعَة رُوَاة قد اتَّفقُوا فِي الْمَعْنى وَلَيْسَ مَا أوردهُ لفظ كل وَاحِد مِنْهُم وَسكت عَن الْبَيَان لذَلِك فَهَذَا مِمَّا عيب بِهِ البُخَارِيّ أَو غَيره وَلَا بَأْس بِهِ على مَذْهَب تَجْوِيز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى

وَإِذا سمع كتابا مصنفا من جمَاعَة ثمَّ قَابل نسخته بِأَصْل بَعضهم دون بعض وَأَرَادَ أَن يذكر جَمِيعهم فِي الْإِسْنَاد وَيَقُول وَاللَّفْظ لفُلَان كَمَا سبق فَهَذَا يحْتَمل أَن يجوز كَالْأولِ لِأَن مَا أوردهُ قد سَمعه بنصه مِمَّن ذكر أَنه بِلَفْظِهِ وَيحْتَمل أَن لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا علم عِنْده بكيفية رِوَايَة الآخرين حَتَّى يخبر عَنْهَا بِخِلَاف مَا سبق فَإِنَّهُ اطلع على رِوَايَة غير من نسب اللَّفْظ إِلَيْهِ وَهُوَ على موافقتهما من حَيْثُ الْمَعْنى فَأخْبر بذلك وَالله أعلم

هَذَا وَمَا ذكره ابْن الصّلاح من أَن إِعَادَة مُسلم لذَلِك أحد الراويين خَاصَّة يشْعر بِأَن اللَّفْظ الْمَذْكُور لَهُ هُوَ الظَّاهِر الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن مَعَ احْتِمَال أَن تكون الْإِعَادَة لمُجَرّد بَيَان أَن الرَّاوِي الَّذِي أُعِيد ذكر اسْمه ثَانِيًا قد صرح بِالتَّحْدِيثِ دون الرَّاوِي الَّذِي لم يعد ذكر اسْمه فَيَنْبَغِي الانتباه لذَلِك

وَقد استبعد بَعضهم مَا ذكره ابْن الصّلاح من أَن قَول أبي دَاوُد حَدثنَا مُسَدّد وأو تَوْبَة الْمَعْنى قَالَا حَدثنَا الْأَحْوَص فِيهِ احْتِمَال لِئَلَّا يكون قد أورد لفظ أَحدهمَا خَاصَّة بل رَوَاهُ بِالْمَعْنَى عَن كليهمَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يدل على أَن المأتي بِهِ حِينَئِذٍ هُوَ لفظ ثَالِث غير لَفْظِي من روى عَنْهُمَا مَعَ أَن الْغَالِب الْمَعْرُوف فِي مثل ذَلِك أَن الْمُحدث لَا بُد أَن يُورد الحَدِيث بِلَفْظ مَرْوِيّ لَهُ بِرِوَايَة وَاحِدَة وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ

وَقَالَ بَعضهم هَذَا أَمر غير مستبعد وقصارى الْأَمر فِيهِ أَن يكون مُلَفقًا مِنْهُمَا والتلفيق قد جرى عَلَيْهِ كثير من الْمُحدثين

وَمِنْه نوع قد ذكره الْقَوْم فِي آخر مَبْحَث صفة الرِّوَايَة كَمَا ذكرُوا الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فِي أَثْنَائِهِ ولنورد ذَلِك لمناسبته لما نَحن فِيهِ فَنَقُول قَالُوا وَإِذا سمع بعض حَدِيث من شيخ وَبَعضه من شيخ آخر فخلطه وَعَزاهُ جملَة إِلَيْهِمَا مُبينًا أَن بعضه عَن أَحدهمَا وَبَعضه عَن الآخر من غير تَمْيِيز لما سَمعه من كل شيخ من الآخر جَازَ

ص: 709

وَمن أَمْثِلَة ذَلِك حَدِيث الْإِفْك فِي الصَّحِيح من رِوَايَة الزُّهْرِيّ فَإِنَّهُ قَالَ حَدثنِي عُرْوَة وَسَعِيد بن الْمسيب وعلقمة بن وَقاص وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن عَائِشَة قَالَ وكل قد حَدثنِي طَائِفَة من حَدِيثهَا وَدخل حَدِيث بَعضهم فِي بعض وَأَنا أوعى لحَدِيث بَعضهم من بعض فَذكر الحَدِيث

وَمَا من شَيْء من ذَلِك الحَدِيث الْمَرْوِيّ على تِلْكَ الصّفة إِلَّا وَهُوَ فِي الحكم كَأَنَّهُ رَوَاهُ عَن أحد الرجلَيْن على الْإِبْهَام حَتَّى إِذا كَانَ أَحدهمَا مجروحا لم يجز الِاحْتِجَاج بِشَيْء من ذَلِك الحَدِيث لِأَنَّهُ مَا قطعه مِنْهُ إِلَّا وَيجوز أَن تكون عَن ذَلِك الرَّاوِي الْمَجْرُوح وَلَا يجوز لأحد بعد اخْتِلَاط ذَلِك أَن يسْقط ذكر أحد الراويين ويروي الحَدِيث عَن الآخر وَحده بل يجب ذكرهمَا جَمِيعًا مَقْرُونا بالإفصاح

وَكَثِيرًا مَا يسْتَعْمل التلفيق أَرْبَاب الْمَغَازِي وَالسير

وَقد انتقدوا التلفيق على الزُّهْرِيّ وَهُوَ أول من فعل ذَلِك فَقَالُوا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يفرد حَدِيث كل وَاحِد مِنْهُم عَن الآخر وَالْأَمر فِيهِ سهل إِذا كَانَ الْكل ثِقَات

وَأما مَا عيب بِهِ البُخَارِيّ فَلَيْسَ بِعَيْب عِنْد الْجُمْهُور الَّذِي يُجِيز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى هَذَا عبد الله بن وهب لم يتَأَخَّر البُخَارِيّ وَلَا غَيره من الْأَئِمَّة عَن التَّخْرِيج لَهُ مَعَ كَونه كَانَ يفعل ذَلِك وَأما حَمَّاد فَإِن البُخَارِيّ لم يتْرك الِاحْتِجَاج بِهِ لكَونه كَانَ يفعل ذَلِك بل لكَونه قد سَاءَ حفظه وَلذَا لم يخرج لَهُ فِي الْأُصُول وَاقْتصر مُسلم فِيمَا قَالَه الْحَاكِم على رِوَايَته عَن ثَابت مَعَ أَنه كَانَ من الْأَئِمَّة الْأَثْبَات الموصوفين بِأَنَّهُم بلغُوا دَرَجَة الأبدال فتفريق البُخَارِيّ بَينه وَبَين ابْن وهب إِنَّمَا يرجع لما يتَعَلَّق بالإتقان وَالْحِفْظ فَإِن ابْن وهب كَانَ أَشد إتقانا لما يرويهِ وأحفظ

وَمَا قيل من أَن البُخَارِيّ كَانَ لَا يعرج على الْبَيَان وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ هُوَ مَبْنِيّ على الْغَالِب وَإِلَّا فقد عرج على الْبَيَان فِي بعض الأحيان كَقَوْلِه فِي تَفْسِير الْبَقَرَة حَدثنَا يُوسُف بن رَاشد حَدثنَا جرير وَأَبُو أُسَامَة وَاللَّفْظ لجرير فَذكر حَدِيثا

وَفِي الصَّيْد والذبائح حَدثنَا يُوسُف بن رَاشد أخبرنَا وَكِيع وَيزِيد بن هَارُون وَاللَّفْظ ليزِيد

وَقد رَأَيْت هُنَا أَن أستطرد لأَرْبَع مسَائِل

ص: 710

الْمَسْأَلَة الأولى قد ذكرنَا فِيمَا سبق أَنه قد ثَبت تَرْجِيح صَحِيح البُخَارِيّ على صَحِيح مُسلم فِيمَا يتَعَلَّق بِأَمْر الصِّحَّة وَأما مَا يتَعَلَّق بِغَيْر ذَلِك فَرُبمَا كَانَ فِي صَحِيح مُسلم مَا يرجح بِهِ على صَحِيح البُخَارِيّ وَقد عرفت فِي هَذَا الْفَرْع أَن من روى عَن اثْنَيْنِ فَأكْثر وَكَانَ بَين روايتيهما تفَاوت فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَاحِد فَلهُ أَن يجمع بَينهمَا فِي الْإِسْنَاد ثمَّ يَسُوق الحَدِيث على لفظ أَحدهمَا غير أَن الأولى فِي ذَلِك أَن يعين صَاحب اللَّفْظ الَّذِي اقْتصر عَلَيْهِ وَأَن مُسلما الْتزم ذَلِك بِخِلَاف البُخَارِيّ فَإِنَّهُ جرى على خلاف الأولى فِي ذَلِك فِي أَكثر الْمَوَاضِع

وَقد ذكر بعض المعتنين بِصَحِيح مُسلم شَيْئا من هَذَا الْقَبِيل فَأَحْبَبْت إِيرَاده

1 -

فَمن ذَلِك كَونه أسهل متناولا من حَيْثُ إِنَّه جعل لكل حَدِيث موضعا وَاحِدًا يَلِيق بِهِ وَجمع فِيهِ طرقه وَأورد أسانيده المتعددة وَأَلْفَاظه الْمُخْتَلفَة فَصَارَ اسْتِخْرَاج الحَدِيث مِنْهُ وَمَعْرِفَة طرقه المتعددة وَأَلْفَاظه الْمُخْتَلفَة سهلا

بِخِلَاف البُخَارِيّ فَإِنَّهُ يذكر تِلْكَ الْوَجْه الْمُخْتَلفَة فِي أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة وَكثير مِنْهَا يذكرهُ فِي غير الْبَاب الَّذِي يتَبَادَر إِلَى الذِّهْن أَنه أولى بِهِ لأمر مَا قَصده البُخَارِيّ فَصَارَ اسْتِخْرَاج الحَدِيث مِنْهُ فضلا عَن معرفَة طرقه المتعددة وَأَلْفَاظه الْمُخْتَلفَة صعبا حَتَّى إِن كثيرا من الْحفاظ الْمُتَأَخِّرين قد نفوا رِوَايَة البُخَارِيّ لأحاديث هِيَ فِيهِ

ص: 711

حَيْثُ لم يجدوها فِي مظانها

2 -

وَمن ذَلِك اعتناؤه بالتمييز بَين حَدثنَا وَأخْبرنَا وتقييده ذَلِك على مشايخه فِي رِوَايَته وَكَانَ من مذْهبه الْفرق بَينهمَا وَأَن حَدثنَا لَا يجوز إِطْلَاقه إِلَّا لما سَمعه من لفظ الشَّيْخ خَاصَّة وَأخْبرنَا لما قرئَ على الشَّيْخ وَهَذَا الْفرق هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَجُمْهُور أهل الْعلم بالمشرق وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَب عَن ابْن جريج وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن وهب وَالنَّسَائِيّ وَصَارَ هُوَ الشَّائِع الْغَالِب على أهل الحَدِيث

وَذَهَبت جمَاعَة إِلَى أَنه يجوز أَن يُقَال فِيمَا قرئَ على الشَّيْخ حَدثنَا وَأخْبرنَا وَهُوَ مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَمَالك وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَيحيى بن سعيد الْقطَّان وَهُوَ مَذْهَب البُخَارِيّ وَجَمَاعَة من الْمُحدثين

وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه لَا يجوز إِطْلَاق حَدثنَا وَلَا أخبرنَا فِي الْقِرَاءَة وَيُقَال إِنَّه قَول ابْن الْمُبَارك وَيحيى بن يحيى التَّمِيمِي وَأحمد بن حَنْبَل وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم

قَالَ بعض الْحفاظ أَجود الْعبارَات فِي الْقِرَاءَة على الشَّيْخ أَن يُقَال قَرَأت على فلَان أَو قرئَ على فلَان وَأَنا أسمع فَأقر بِهِ

وَيَتْلُو ذَلِك أَن يُقَال حَدثنَا فلَان قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأخْبرنَا قِرَاءَة عَلَيْهِ

3 -

وَمن ذَلِك اعتناؤه بضبط اخْتِلَاف لفظ الروَاة فِي الحَدِيث كَقَوْلِه حَدثنَا فلَان وَفُلَان وَاللَّفْظ لفُلَان قَالَ أَو قَالَا حَدثنَا فلَان

وَقد يكون الِاخْتِلَاف فِي حرف

ثمَّ إِن الِاخْتِلَاف فِي اللَّفْظ قد يكون مِمَّا يتَغَيَّر بِهِ الْمَعْنى وَقد يكون مِمَّا لَا يتَغَيَّر بِهِ الْمَعْنى

وَمَا يتَغَيَّر بِهِ الْمَعْنى قد يكون التَّغَيُّر فِيهِ خفِيا بِحَيْثُ لَا ينتبه لَهُ إِلَّا الجهبذ النحرير

وَقد الْتزم الْبَيَان فِي جَمِيع ذَلِك بِقدر الْإِمْكَان

4 -

وَمن ذَلِك تحريه فِي مثل قَوْله حَدثنَا عبد الله بن مسلمة حَدثنَا

ص: 712

سُلَيْمَان يَعْنِي ابْن بِلَال عَن يحيى وَهُوَ ابْن سعيد

فَلم يستجز رضي الله عنه أَن يَقُول سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن سعيد لكَونه لم يَقع فِي رِوَايَته مَنْسُوبا فَلَو قَالَه مَنْسُوبا لَكَانَ مخبرا عَن شَيْخه أَنه أخبرهُ بنسبته مَعَ أَنه لم يُخبرهُ بهَا

وَهَذَا مِمَّا يُشَارِكهُ فِيهِ البُخَارِيّ كَمَا يظْهر من قَول بعض أهل الْأَثر لَيْسَ للراوي أَن يزِيد فِي نسب غير شَيْخه وَلَا صفته على مَا سَمعه من شَيْخه لِئَلَّا يكون كَاذِبًا على شَيْخه فَإِن أَرَادَ تَعْرِيفه وإيضاحه وَإِزَالَة اللّبْس المتطرق إِلَيْهِ لمشابهة غَيره فطريقه أَن يَقُول قَالَ حَدثنِي فلَان يَعْنِي ابْن فلَان أَو الْفُلَانِيّ أَو هُوَ ابْن فلَان أَو الْفُلَانِيّ أَو نَحْو ذَلِك فَهَذَا جَائِز حسن قد اسْتَعْملهُ الْأَئِمَّة

وَقد أَكثر البُخَارِيّ وَمُسلم مِنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ غَايَة الْإِكْثَار حَتَّى إِن كثيرا من أسانيدهما يَقع فِي الْإِسْنَاد الْوَاحِد مِنْهَا موضعان أَو أَكثر من هَذَا الضَّرْب كَقَوْلِه فِي أول كتاب البُخَارِيّ فِي بَاب من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده قَالَ أَبُو مُعَاوِيَة حَدثنَا دَاوُد هُوَ ابْن أبي هِنْد عَن عَامر قَالَ سَمِعت عبد الله هُوَ ابْن عَمْرو

وَكَقَوْلِه فِي كتاب مُسلم فِي بَاب منع النِّسَاء من الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد حَدثنَا عبد الله بن مسلمة حَدثنَا سُلَيْمَان يَعْنِي ابْن بِلَال عَن يحيى وَهُوَ ابْن سعيد

ونظائره كَثِيرَة

ص: 713

وَإِنَّمَا يقصدون بِهَذَا الْإِيضَاح كَمَا ذكرنَا أَولا فَإِنَّهُ لَو قَالَ حَدثنَا دَاوُد أَو عبد الله لم يعرف من هُوَ لِكَثْرَة المشاركين فِي هَذَا الِاسْم وَلَا يعرف ذَلِك فِي بعض المواطن إِلَّا الْخَواص والعارفون بِهَذِهِ الصّفة وبمراتب الرِّجَال فأوضحوه لغَيرهم وخففوا عَنْهُم مؤونة النّظر والتفتيش

وَهَذَا الْفَصْل نَفِيس يعظم الِانْتِفَاع بِهِ فَإِن من لَا يعاني هَذَا الْفَنّ قد يتَوَهَّم أَن قَوْله يَعْنِي وَقَوله هُوَ زِيَادَة لَا حَاجَة إِلَيْهَا وَأَن الأولى حذفهَا

وَهَذَا جهل قَبِيح وَالله أعلم

5 -

وَمن ذَلِك سلوكه الطَّرِيقَة المثلى فِي رِوَايَة صحيفَة همام بن مُنَبّه نَحْو قَوْله حَدثنَا مُحَمَّد بن رَافع قَالَ حَدثنَا عبد الرَّزَّاق قَالَ حَدثنَا معمر عَن همام قَالَ هَذَا مَا حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة عَن مُحَمَّد رَسُول الله ص = فَذكر أَحَادِيث مِنْهَا قَالَ رَسُول الله ص = إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليستنشق الحَدِيث

وَوجه ذَلِك يظْهر مِمَّا ذكره ابْن الصّلاح حَيْثُ قَالَ النّسخ الْمَشْهُورَة الْمُشْتَملَة على أَحَادِيث بِإِسْنَاد وَاحِد كنسخة همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَنهُ وَنَحْوهَا من النّسخ والأجزاء مِنْهُم من يجدد ذكر الْإِسْنَاد فِي أول كل حَدِيث مِنْهَا وَيُوجد هَذَا فِي كثير من الْأُصُول الْقَدِيمَة وَذَلِكَ أحوط

وَمِنْهُم من يَكْتَفِي بِذكر الْإِسْنَاد فِي أَولهَا عِنْد أول حَدِيث مِنْهَا أَو فِي كل مجْلِس من مجَالِس سماعهَا ويدرج الْبَاقِي عَلَيْهِ وَيَقُول فِي كل حَدِيث بعده وَبِالْإِسْنَادِ أَو وَبِه وَذَلِكَ هُوَ الْأَغْلَب الْأَكْثَر

وَإِذا أَرَادَ من كَانَ سَمَاعه على هَذَا الْوَجْه تَفْرِيق تِلْكَ الْأَحَادِيث وَرِوَايَة كل حَدِيث مِنْهَا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور فِي أَولهَا جَازَ ذَلِك عِنْد الْأَكْثَرين مِنْهُم وَكِيع بن الْجراح وَيحيى بن معِين وَأَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ وَهَذَا لِأَن الْجَمِيع مَعْطُوف على الأول

ص: 714

فالإسناد الْمَذْكُور أَولا فِي حكم الْمَذْكُور فِي كل حَدِيث وَهُوَ بِمَثَابَة تقطيع الْمَتْن الْوَاحِد فِي أَبْوَاب بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُور فِي أَوله

وَمن الْمُحدثين من أَبى إِفْرَاد شَيْء من تِلْكَ الْأَحَادِيث المدرجة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَرَآهُ تدليسا وَسَأَلَ بعض أهل الحَدِيث الْأُسْتَاذ أَبَا إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ الْفَقِيه الصولي عَن ذَلِك فَقَالَ لَا يجوز

وعَلى هَذَا من كَانَ سَمَاعه على هَذَا الْوَجْه فطريقه أَن يبين ويحكي ذَلِك كَمَا جرى كَمَا فعله مُسلم فِي صَحِيحه فِي صحيفَة همام بن مُنَبّه نَحْو قَوْله حَدثنَا مُحَمَّد بن رَافع قَالَ حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَن همام بن مُنَبّه قَالَ هَذَا مَا حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة وَذكر أَحَادِيث مِنْهَا وَقَالَ رَسُول الله ص = إِن أدنى مقْعد أحدكُم فِي الْجنَّة أَن يَقُول لَهُ تمن الحَدِيث

وَهَكَذَا فعل كثير من المؤلفين وَالله أعلم

وَاعْلَم أَنه لَا يظْهر وَجه لقَوْل من منع إِفْرَاد شَيْء من تِلْكَ الْأَحَادِيث المدرجة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور إِلَّا أَن يُقَال إِن بَاب الرِّوَايَة مُبين على الِاتِّبَاع وَهُوَ لم يرو على هَذَا الْوَجْه من التَّفْرِيق فَيكون ذَلِك من قبيل الابتداع وَهُوَ بعيد

وَأما البُخَارِيّ فَإِنَّهُ سلك طَرِيقا آخر وَهُوَ أَنه يقدم أول حَدِيث من الصَّحِيفَة الْمَذْكُورَة وَهُوَ حَدِيث نَحْو الْآخرُونَ السَّابِقُونَ

ثمَّ يعْطف عَلَيْهِ الحَدِيث الَّذِي يُرِيد إِيرَاده وَطَرِيق مُسلم أوضح وَلذَا قل من اطلع على مقصد البُخَارِيّ فِي ذَلِك وَقد حمل ذَلِك بَعضهم على أَن يبحثوا على وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث الأول والترجمة فَلم يَأْتُوا بِمَا فِيهِ طائل

على أَن البُخَارِيّ لم يطرد عمله فِي ذَلِك فَإِنَّهُ أورد فِي كثير من الْمَوَاضِع بَعْضًا من الْأَحَادِيث الْوَاقِعَة فِي الصَّحِيفَة الْمَذْكُورَة وَلم يصدر شَيْئا مِنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمشَار إِلَيْهِ

ص: 715

وَهَذَا الحَدِيث هُوَ أول حَدِيث فِي صحيفَة شُعَيْب أَيْضا وَيُشِير إِلَى ذَلِك قَول البُخَارِيّ فِي بَاب لَا تبولوا فِي المَاء الراكد

حَدثنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج حَدثهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول إِنَّه سمع رَسُول الله ص = يَقُول نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ وبإسناده قَالَ لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم

وَهَاتَانِ الصحيفتان قل أَن يُوجد فِي إِحْدَاهمَا حَدِيث إِلَّا وَهُوَ فِي الْأُخْرَى

6 -

وَمن ذَلِك اعتناؤه فِي إِيرَاد الطّرق وتحويل الْأَسَانِيد بإيجاز الْعبارَة مَعَ حسن الْبَيَان

7 -

وَمن ذَلِك ترتيبه للأحاديث على نسق يشْعر بِكَمَال مَعْرفَته بدقائق هَذَا الْعلم ووقوفه على أسراره وَهُوَ أَمر لَا يشْعر بِهِ إِلَّا من أمعن النّظر فِي كِتَابه مَعَ مَعْرفَته بأنواع الْعُلُوم الَّتِي يفْتَقر إِلَيْهَا صَاحب هَذِه الصِّنَاعَة كأصول الدّين وأصول التَّفْسِير وأصول الحَدِيث وأصول الْفِقْه وَنَحْو أصُول الْفِقْه الْفِقْه وعلوم الْعَرَبيَّة وَأَسْمَاء الرِّجَال ودقائق علم الْإِسْنَاد والتاريخ مَعَ الذكاء المفرط وجودة الْفِكر ومداومة الِاشْتِغَال بِهِ ومذاكرة المشتغلين بِهِ متحريا للإنصاف قَاصِدا للاستفادة والإفادة

ص: 716

وَقد أَشَارَ بعض الْعلمَاء إِلَى الْوُجُوه الَّتِي ظَهرت لَهُ فِي تَرْجِيح صَحِيح مُسلم فَقَالَ وَالَّذِي يظْهر لي من كَلَام أبي عَليّ أَنه إِنَّمَا قدم صَحِيح مُسلم لِمَعْنى آخر غير مَا نَحن بصدده من الشَّرَائِط الْمَطْلُوبَة فِي الصِّحَّة بل ذَلِك لِأَن مُسلما صنف كِتَابه فِي بَلَده بِحُضُور أُصُوله فِي حَيَاة كثير من مشايخه فَكَانَ يتحرز فِي الْأَلْفَاظ ويتحرى فِي السِّيَاق بِخِلَاف البُخَارِيّ فَإِنَّهُ رُبمَا كتب الحَدِيث من حفظه وَلم يُمَيّز أَلْفَاظ رُوَاته وَلِهَذَا رُبمَا يعرض لَهُ الشَّك وَقد صَحَّ عَنهُ أَنه قَالَ رب حَدِيث سمعنه بِالْبَصْرَةِ فكتبته بِالشَّام

وَلم يتصد لما تصدى لَهُ البُخَارِيّ من استنباط الْأَحْكَام ليبوب عَلَيْهَا حَتَّى لزم من ذَلِك تقطيعه للْحَدِيث فِي أبوابه بل جمع مُسلم الطّرق كلهَا فِي مَكَان وَاحِد وَاقْتصر على الْأَحَادِيث دون الْمَوْقُوفَات فَلم يعرج عَلَيْهَا إِلَّا فِي بعض الْمَوَاضِع على سَبِيل الندرة تبعا لَا مَقْصُودا فَلهَذَا قَالَ أَبُو عَليّ مَا قَالَ مَعَ أَنِّي رَأَيْت بعض أَئِمَّتنَا يجوز أَن يكون أَبُو عَليّ مَا رأى صَحِيح البُخَارِيّ وَعِنْدِي فِي ذَلِك بعد وَالْأَقْرَب مَا ذكرته وَأَبُو عَليّ الْمَذْكُور هُوَ أَبُو عَليّ النَّيْسَابُورِي شيخ الْحَاكِم وَقد نقل عَنهُ ابْن مندة أَنه قَالَ مَا تَحت أَدِيم السَّمَاء أصح من كتاب مُسلم

وَقَالَ بعض شرَّاح كتاب البُخَارِيّ بعد أَن بَين رجحانه على مَا سواهُ من كتب الحَدِيث من جِهَة الصِّحَّة وَأكْثر مَا فضل بِهِ كتاب مُسلم عَلَيْهِ أَنه يجمع الْمُتُون فِي مَوضِع وَاحِد وَلَا يفرقها فِي الْأَبْوَاب ويسوقها تَامَّة وَلَا يقطعهَا فِي التراجم ويحافظ على الْإِتْيَان بألفاظها وَلَا يروي بِالْمَعْنَى ويفردها وَلَا يخلط مَعهَا شَيْئا من أَقْوَال الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ

وَقد ذكرنَا ذَلِك فِيمَا سبق

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة جرت عَادَة كتبة الحَدِيث بِاخْتِصَار بعض أَلْفَاظ الْأَدَاء فِي الْخط دون النُّطْق

ص: 717

فَمن ذَلِك حَدثنَا فَإِنَّهُم يقتصرون فِي كتَابَتهَا على ثَنَا وَهِي الثَّاء وَالنُّون وَالْألف وَقد يحذفون الثَّاء ويقتصرون على الضَّمِير وَحده وَهُوَ نَا

وَمن ذَلِك أخبرنَا فَإِنَّهُم يقتصرون فِي كتَابَتهَا على أَنا

وَقد التزموا فِي الْغَالِب تَحْرِيف الْألف الْأَخِيرَة مِنْهُمَا إِلَى جِهَة الْيَمين ليحصل التَّمْيِيز بَينهَا وَبَين مَا يشابهها فِي الصُّورَة مِمَّا لَيْسَ برمز وَقد يزِيد بَعضهم الرَّاء فَتَصِير أرنا وَكَأن الَّذِي زَادهَا خشِي أَن يظنّ أَنَّهَا مختصرة من أَنبأَنَا وَإِن جرت عَادَتهم بِعَدَمِ اختصارها كَمَا يُشَاهد فِيمَا لَا يُحْصى من الْكتب

وَمن ذَلِك قَالَ وَنَحْو فقد جرت الْعَادة بحذفه فِيمَا بَين رجال الْإِسْنَاد خطا وَذكره حَال الْقِرَاءَة لفظا مِثَال ذَلِك قَول البُخَارِيّ حَدثنَا صَالح بن حَيَّان قَالَ قَالَ عَامر الشّعبِيّ فَإِن الْكَاتِب يحذف أَحدهمَا وَأما الْقَارئ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَن يلفظ بهما مَعًا

وَلَو لم يلفظ الْقَارئ بِمَا تَركه الْكَاتِب يكون مخطئا غير أَن هَذَا الْخَطَأ لَا يُؤثر فِي صِحَة السماع فقد قَالَ بعض الْحفاظ إِن الظَّاهِر أَن السماع صَحِيح للْعلم بِالْمَقْصُودِ وَيكون هَذَا من قبيل الْحَذف لدلَالَة الْحَال عَلَيْهِ

وَمِمَّا قد يغْفل عَنهُ من ذَلِك مَا إِذا كَانَ فِي الْإِسْنَاد قرئَ على فلَان أخْبرك فلَان فَيَنْبَغِي للقارئ أَن يَقُول فِيهِ قيل لَهُ أخْبرك فلَان

وَقد وَقع فِي بعض ذَلِك قرئَ على فلَان حَدثنَا فلَان فَيَنْبَغِي أَن يُقَال فِيهِ قرئَ على فلَان قَالَ حَدثنَا فلَان وَقد جَاءَ هَذَا مُصَرحًا بِهِ خطا فِي بعض الْكتب وَيصِح فِي الصُّورَة الثَّانِيَة أَن يُقَال قرئَ على فلَان قيل لَهُ قلت حَدثنَا فلَان إِلَّا أَن مَا ذكر من قبل أخصر

وَمن عرف اللُّغَة الْعَرَبيَّة لم يعسر عَلَيْهِ أَن يَأْتِي فِي كل مَوضِع بِمَا يَقْتَضِيهِ

وَمن ذَلِك أَنه قد جرت الْعَادة بحذفه فِي الْخط دون اللَّفْظ وَذَلِكَ كَقَوْل البُخَارِيّ حَدثنَا الْحسن بن الصَّباح سمع جَعْفَر بن عون

وَالأَصَح أَنه سمع

وَإِذا كَانَ للْحَدِيث إسنادان أَو أَكثر وَأَرَادُوا أَن يجمعوا بَينهمَا فقد جرت عَادَة أهل الحَدِيث إِذا انتقلوا من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد أَن يكتبوا بَينهمَا ح

وَهِي حاء مُفْردَة مهلمة وَهِي مَأْخُوذَة من التَّحَوُّل إِشَارَة إِلَى التَّحَوُّل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر

ص: 718

وَقد توهم بعض النَّاس أَنَّهَا خاء مُعْجمَة إِشَارَة إِلَى أَنه إِسْنَاد آخر أَو إِشَارَة إِلَى الْخُرُوج من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد

وَسبب ذَلِك أَن الْمُتَقَدِّمين لم يتكلموا فِيهَا بِشَيْء وَأول من تكلم عَنْهَا ابْن الصّلاح

وَاخْتَارَ بعض الْحفاظ كَونهَا مَأْخُوذَة من حَائِل لكَونهَا حائلة بَين الإسنادين وَأَنه لَا يتَلَفَّظ بهَا وَأنكر مَا قَالَه بَعضهم من كَونهَا مَأْخُوذَة من لفظ الحَدِيث وَكَانَ إِذا وصل إِلَيْهَا يَقُول الحَدِيث وَكَأن هَذَا الْإِنْكَار مَبْنِيّ على كَون الحَدِيث لم يذكر

وَهَذِه الْحَاء الدَّالَّة على التَّحَوُّل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد هِيَ فِي صَحِيح مُسلم أَكثر مِنْهَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ

وَاخْتَارَ ابْن الصّلاح أَن يَقُول الْقَارئ عِنْد الِانْتِهَاء إِلَيْهَا حا وَيسْتَمر فِي قِرَاءَة مَا بعْدهَا وَهُوَ أحوط الْوُجُوه وأعدلها وعَلى ذَلِك جرى جلّ أهل الحَدِيث

وَقد كتب بعض الْحفاظ فِي موضعهَا عوضا مِنْهَا صَحَّ

وَحسن إِثْبَات صَحَّ هُنَا لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن حَدِيث هَذَا الْإِسْنَاد سقط وَلِئَلَّا يركب الْإِسْنَاد الثَّانِي على الْإِسْنَاد الأول فيجعلا إِسْنَادًا وَاحِدًا

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة علم الحَدِيث علم عَظِيم الشَّأْن يُنَاسب مَكَارِم الْأَخْلَاق ومحاسن الشيم فَمن عزم على طلبه فليقدم إخلاص النِّيَّة وليسأل الله أَن يوفقه ويعينه عَلَيْهِ فَإِذا أَخذ فِيهِ فليجد فِي الطِّبّ وليحرص على التَّحْصِيل فَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ص = أَنه قَالَ احرص على مَا ينفعك واستعن بِاللَّه وَلَا تعجز

وَقَالَ يحيى بن أبي كثير لَا ينَال الْعلم براحة الْجِسْم

وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يطْلب هَذَا الْعلم من يَطْلُبهُ بالتملل وغنى النَّفس فيفلح وَلَكِن من طلبه بذلة النَّفس وضيف الْعَيْش وخدمة الْعلمَاء أَفْلح

وليبدأ بشيوخ بَلَده وَيَنْبَغِي أَن يتَخَيَّر الْمَشْهُور مِنْهُم بِطَلَب الحَدِيث الْمشَار إِلَيْهِ

ص: 719

بالإتقان لَهُ والمعرفة بِهِ وليأخذ المهم مِمَّا عِنْدهم فَقَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة من شغل نَفسه بِغَيْر المهم أضرّ بالمهم

فَإِذا فرغ من ذَلِك فليرحل إِلَى غَيره من الْبِلَاد إِن ظهر لَهُ أَن فِي ذَلِك فَائِدَة فَإِن الْمَقْصُود بالرحلة أَمْرَانِ أَحدهمَا تَحْصِيل علو الْإِسْنَاد

وَالثَّانِي لِقَاء الْحفاظ والمذاكرة لَهُم والاستفادة مِنْهُم فَإِذا كَانَ الْأَمْرَانِ موجودين فِي بَلَده ومعدومين فِي غَيره فَلَا فَائِدَة فِي الرحلة بِالنّظرِ إِلَى مَا يَقْصِدهُ

وَإِذا كَانَا موجودين فِي بلد الطَّالِب وَفِي غَيره استحبت لَهُ الرحلة ليجمع الفائدتين من علو الإسنادين وَعلم الطَّائِفَتَيْنِ

وَسَأَلَ عبد الله بن أَحْمد أَبَاهُ هَل ترى لطَالب الْعلم أَن يلْزم رجلا عِنْده علم فَيكْتب عَنهُ أَو يرحل إِلَى الْمَوَاضِع الَّتِي فِيهَا الْعلم فَيسمع فِيهَا فَقَالَ يرحل فَيكْتب عَن الْكُوفِيّين والبصريين وَأهل الْمَدِينَة وَمَكَّة يشام النَّاس يسمع مِنْهُم

وَالْأَصْل فِي الرحلة مَا رُوِيَ عَن جَابر بن عبد الله أَنه قَالَ بَلغنِي حَدِيث عَن رَسُول الله ص = لم اسْمَعْهُ فابتعت بَعِيرًا فشددت عَلَيْهِ رجْلي وسرت شهرا حَتَّى قدمت الشَّام فَأتيت عبد الله بن أنيس فَقلت للبواب قل لَهُ جَابر على الْبَاب فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ جَابر بن عبد الله فَأَتَانِي فَقَالَ لي فَقلت نعم فَرجع فَأخْبرهُ فَقَامَ يطَأ ثَوْبه حَتَّى لَقِيَنِي فاعتنقني واعتنقته فَقلت حَدِيث بَلغنِي عَنْك سمعته من رَسُول الله ص = فِي الْقصاص وَلم أسمعهُ فَخَشِيت أَن تَمُوت أَو أَمُوت قبل أَن أسمعهُ

ص: 720

فَقَالَ سَمِعت رَسُول الله ص = يَقُول يحْشر الله الْعباد أَو قَالَ النَّاس عُرَاة غرلًا بهما قُلْنَا مَا بهما قَالَ لَيْسَ مَعَهم شَيْء ثمَّ يناديهم رَبهم بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب أَنا الْملك أَنا الديَّان لَا يَنْبَغِي لأحد من أهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة ولأحد من أهل النَّار عِنْده مظْلمَة حَتَّى أقصه مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَة قُلْنَا كَيفَ وَإِنَّمَا نأتي الله عُرَاة غرلًا بهما قَالَ بِالْحَسَنَاتِ والسيئات

ورحلة مُوسَى إِلَى الخضير مَعْرُوفَة وَهِي مَذْكُورَة على طَرِيق التَّفْصِيل فِي الصَّحِيح

وَيَكْفِي فِي أَمر الرحلة قَوْله تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون}

وَلم يزل السّلف وَالْخلف من الْأَئِمَّة يعتنون بالرحلة قَالَ سعيد بن الْمسيب إِن كنت لأغيب اللَّيَالِي وَالْأَيَّام فِي طلب الحَدِيث الْوَاحِد

وَقَالَ الشّعبِيّ فِي مَسْأَلَة كَانَ يرحل فِيمَا دونهَا إِلَى الْمَدِينَة

وَقَالَ ابْن مَسْعُود لَو أعلم أحدا أعلم بِكِتَاب الله مني لرحلت إِلَيْهِ

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة كُنَّا نسْمع عَن الصَّحَابَة فَلَا نرضى حَتَّى خرجنَا إِلَيْهِم فسمعنا مِنْهُم

وليجل شَيْخه وَمن يسمع مِنْهُ فَذَلِك من إجلال الْعلم وَلَا يثقل عَلَيْهِ وَلَا يضجره فَإِن ذَلِك يُغير الأفهام وَيفْسد الْأَخْلَاق ويحيل الطباع

وَمن فعل ذَلِك فَإِنَّهُ يخْشَى عَلَيْهِ أَن يحرم الِانْتِفَاع

وَلَا يكن مِمَّن يمنعهُ الْحيَاء أَو الْكبر عَن كثير من الاستفادة والاستزادة فقد قَالَ مُجَاهِد لَا ينَال الْعلم مستحي وَلَا مستكبر

وَقَالَ وَكِيع لَا ينبل الرجل من أَصْحَاب الحَدِيث حَتَّى يكْتب عَمَّن هُوَ فَوْقه وَعَمن هُوَ مثله وَعَمن هُوَ دونه

ص: 721

وليحذر من كتمان شَيْء لينفرد بِهِ عَن أضرابه فَإِن ذَلِك لؤم لَا يصدر إِلَّا من جهلة الطّلبَة الموصوفين بضعَة النَّفس وفاعل ذَلِك جدير بِأَن لَا ينْتَفع بِهِ

قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه قد رَأينَا أَقْوَامًا منعُوا هَذَا السماع فوَاللَّه مَا أفلحوا وَلَا نجحوا

وَقَالَ ابْن عَبَّاس إخْوَانِي تناصحوا فِي الْعلم وَلَا يكتم بَعْضكُم بَعْضًا فَإِن خِيَانَة الرجل فِي علمه أَشد من خيانته فِي مَاله

وَقد رُوِيَ عَن بعض الْأَئِمَّة أَنهم فعلوا ذَلِك وَهُوَ مَحْمُول على كتم ذَلِك عَمَّن لم يروه أَهلا لَا سِيمَا إِن كَانَ مِمَّن يحملهُ فرط التيه والإعجاب على المحاماة عَن الْخَطَأ والمماراة فِي الصَّوَاب

فال الْخَلِيل بن أَحْمد لأبي عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى لَا تردن على معجب خطأ فيستفيد مِنْك علما ويتخذك بِهِ عدوا

وَلَا يقْتَصر على سَماع الحَدِيث وكتابته دون مَعْرفَته وفهمه فَيكون مِمَّن أتعب نَفسه بِدُونِ أَن يظفر بطائل قَالَ الْخَطِيب وَلَو لم يكن فِي الِاقْتِصَار على سَماع الحَدِيث وتخليده الصُّحُف دون التَّمْيِيز بِمَعْرِِفَة صَحِيحه من فاسده وَالْوُقُوف على اخْتِلَاف وجوهه وَالتَّصَرُّف فِي أَنْوَاع علومه إِلَّا تلقيب الْمُعْتَزلَة الْقَدَرِيَّة من سلك تِلْكَ الطَّرِيقَة بالحشوية لوَجَبَ على الطَّالِب الأنفة لنَفسِهِ وَدفع ذَلِك عَنهُ وَعَن أَبنَاء جنسه

وَمَا أحسن قَول الْقَائِل

(إِن الَّذِي يروي وَلكنه

يجهل مَا يروي وَمَا يكْتب)

(كصخرة تنبع أمواهها

تَسْقِي الأَرْض وَهِي لَا تشرب)

وليقدم الْعِنَايَة أَولا بِمَعْرِِفَة مصطلح أهل الحَدِيث وَأحسن كتاب ألف فِي ذَلِك كتاب الْحَافِظ أبي عَمْرو عُثْمَان الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح قَالَ مُؤَلفه فِي آخر النَّوْع الثَّامِن وَالْعِشْرين فِي معرفَة آدَاب طَالب الحَدِيث ثمَّ إِن هَذَا الْكتاب مدْخل إِلَى هَذَا الشَّأْن مفصح عَن أُصُوله وفروعه شَارِح لمصطلحات أَهله ومقاصدهم

ص: 722

ومهماتهم الَّتِي ينقص الْمُحدث بِالْجَهْلِ بهَا نقصا فَاحِشا فَهُوَ إِن شَاءَ الله جدير بِأَن تقدم الْعِنَايَة بِهِ

وَقد صَار معول كل من جَاءَ بعده

وَقد جمع كثير من الْعلمَاء نكتا عَلَيْهِ تَتَضَمَّن إِمَّا تَقْيِيد مُطلق أَو إِيضَاح مغلق أَو غير ذَلِك من فَائِدَة مهمة فَيَنْبَغِي للمعنيين بِهَذَا الْأَمر الْوُقُوف عَلَيْهَا وتوجيه النّظر إِلَيْهَا

ثمَّ ليبدأ بالصحيحين ثمَّ بسنن أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ ثمَّ بِسَائِر مَا تمس حَاجَة صَاحب الحَدِيث إِلَيْهِ من كتب المساند وأهمها مُسْند أَحْمد وَمن كتب الْجَوَامِع المصنفة فِي الْأَحْكَام والمقدم مِنْهَا هُوَ موطأ مَالك وَمن كتب علل الحَدِيث وَمن أَجودهَا كتاب الْعِلَل عَن أَحْمد وَكتاب الْعِلَل عَن الدَّارَقُطْنِيّ وَمن كتب معرفَة الرِّجَال وتواريخ الْمُحدثين وَمن أفضلهَا تَارِيخ البُخَارِيّ الْكَبِير وَكتاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل لِابْنِ أبي حَاتِم

وَقد اقتفى فِيهِ أثر البُخَارِيّ وَمن كتب الضَّبْط لمشكل الْأَسْمَاء وَمن أكملها كتاب الْإِكْمَال لأبي نصر بن مَاكُولَا

وَلَا يجْهد نَفسه فِي الطّلب وَلَا يحملهَا مَا لَا تطِيق فَفِي الحَدِيث الصَّحِيح خُذُوا من الْأَعْمَال مَا تطيقون

وَقَالَ الزُّهْرِيّ من طلب الْعلم جملَة فَاتَهُ جملَة

وَقَالَ إِن هَذَا الْعلم إِن أَخَذته بالمكاثرة لَهُ غلبك وَلَكِن خُذْهُ مَعَ الْأَيَّام والليالي أخذا رَفِيقًا تظفر بِهِ

وَلَا يغْفل عَن المذاكرة فَإِن لَهَا نفعا جزيلا قَالَ عَليّ بن أبي طَالب تَذَاكَرُوا هَذَا الحَدِيث وَإِلَّا تَفعلُوا يدرس

وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود تَذَاكَرُوا الحَدِيث فَإِن حَيَاته مذاكرته

وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ من سره أَن يحفظ الحَدِيث فليحدث بِهِ وَلَو أَن يحدث بِهِ من لَا يشتهيه

وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد ذَاكر بعلمك تذكر مَا عنْدك وتستفد مَا لَيْسَ عنْدك

وليشتغل بالتخريج والتأليف والتصنيف إِذا استعد لذَلِك فقد قَالَ بعض الْعلمَاء قَلما يمهر فِي علم الحَدِيث وَيقف على غوامضه ويستبين الْخَفي من فَوَائده إِلَّا من جمع مُتَفَرِّقه وَألف متشتته وَضم بعضه إِلَى بعض واشتغل

ص: 723

بتصنيف أبوابه وترتيب أصنافه فَإِن ذَلِك الْفِعْل مِمَّا يُقَوي النَّفس وَيثبت الْحِفْظ ويذكي الْقلب ويشحذ الطَّبْع ويبسط اللِّسَان ويجيد الْبَيَان ويكشف المشتبه ويوضح الملتبس ويكسب أَيْضا جميل الذّكر ويخلده إِلَى آخر الدَّهْر كَمَا قَالَ الشَّاعِر

(يَمُوت قوم فيحيي الْعلم ذكرهم

وَالْجهل يلْحق أَمْوَاتًا بأموات)

والتأليف أَعم من التَّخْرِيج والتصنيف والانتقاء إِذا التَّأْلِيف مُطلق الضَّم

والتخريج إِخْرَاج الْمُحدث الْأَحَادِيث من الْكتب وسوقها بروايته أَو رِوَايَة بعض شُيُوخه أَو نَحْو ذَلِك وَالْكَلَام عَلَيْهَا وعزوها لمن رَوَاهَا من أَصْحَاب الْكتب والدواوين وَقد يُطلق على مُجَرّد الْإِخْرَاج والعزو

والتصنيف جعل كل صنف على حِدة وَقد يُطلق على مُجَرّد الضَّم

والانتقاء إِخْرَاج مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْكتب

وللعلماء فِي تصنيف الحَدِيث وَجمعه طَرِيقَانِ إِحْدَاهمَا التصنيف على الْأَبْوَاب وَهُوَ تَخْرِيجه على أحكما الْفِقْه وَغَيره وتنويعه أنواعا وَجمع مَا ورد فِي كل حكم وكل نوع فِي بَاب بِحَيْثُ يتَمَيَّز مَا يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ مثلا عَمَّا يتَعَلَّق بالصيام

وَأهل هَذِه الطَّرِيقَة مِنْهُم من اقْتصر على إِيرَاد مَا صَحَّ فَقَط كالشيخين وَمِنْهُم من لم يقْتَصر على ذَلِك كَأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ

الثَّانِيَة التصنيف على المساند وَهُوَ أَن يجمع فِي تَرْجَمَة كل صَحَابِيّ مَا عِنْده من حَدِيثه سَوَاء كَانَ صَحِيحا أَو غير صَحِيح ويجعله على حِدة وَإِن اخْتلفت أَنْوَاعه

وَأهل هَذِه الطَّرِيقَة

مِنْهُم من رتب أَسمَاء الصَّحَابَة على حُرُوف المعجم كالطبراني فِي المعجم الْكَبِير والضياء الْمَقْدِسِي فِي المختارة الَّتِي لم تكمل

وَهَذَا أسهل تناولا

وَمِنْهُم من رتبها على الْقَبَائِل فَقدم بني هَاشم ثمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب إِلَى رَسُول الله ص = فِي النّسَب

وَمِنْهُم من رتبها على السَّبق فِي الْإِسْلَام فَقدم الْعشْرَة ثمَّ أهل بدر ثمَّ أهل

ص: 724

الْحُدَيْبِيَة ثمَّ من أسلم وَهَاجَر بَين الْحُدَيْبِيَة وَالْفَتْح ثمَّ من أسلم يَوْم الْفَتْح ثمَّ أصاغر الصَّحَابَة سنا كالسائب بن يزِيد وَأبي الطُّفَيْل وَختم بِالنسَاء

وَقد سلك ابْن حبَان فِي صَحِيحه طَريقَة ثَالِثَة فرتبه على خَمْسَة أَقسَام وَهِي الْأَوَامِر والنواهي وَالْأَخْبَار عَمَّا احْتِيجَ إِلَى مَعْرفَته كبدء الْوَحْي والإسراء وَمَا فضل بِهِ نَبينَا على سَائِر الْأَنْبِيَاء والإباحات وأفعال النَّبِي عليه الصلاة والسلام مِمَّا اخْتصَّ بِهِ

وَنَوع كل وَاحِد من هَذِه الْخَمْسَة إِلَى أَنْوَاع

وَلَقَد أغرب فِي ذَلِك كَمَا أغرب بعض الْمُحدثين فِي بَيَان سَبَب إغرابه حَيْثُ قَالَ صَحِيح ابْن حبَان ترتيبه مخترع لَيْسَ على الْأَبْوَاب وَلَا على المساند وَلِهَذَا سَمَّاهُ التقاسيم والأنواع وَسَببه أَنه كَانَ عَارِفًا بالْكلَام والنجوم والفلسفة وَلِهَذَا تلكم فِيهِ وَنسب إِلَى الزندقة وكادوا يحكمون بقتْله ثمَّ نفي من سجستان إِلَى سَمَرْقَنْد

والكشف من كِتَابه عسير جدا

وَقد رتبه بعض الْمُتَأَخِّرين على الْأَبْوَاب وَعمل لَهُ الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْعِرَاقِيّ أطرافا وجرد الْحَافِظ أَبُو الْحسن الهيثمي زائده على الصَّحِيحَيْنِ فِي مُجَلد

وَلَهُم فِي جمع الحَدِيث طرق أُخْرَى مِنْهَا جمعه على حُرُوف المعجم فَيجْعَل مثلا حَدِيث إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ فِي حرف الْألف

وَقد جرى على ذَلِك أَبُو مَنْصُور الديلمي فِي مُسْند الفردوس وَابْن طَاهِر فِي أَحَادِيث كتاب الْكَامِل لِابْنِ عدي

وَمِنْهَا جمعه على الْأَطْرَاف وَذَلِكَ بِأَن يذكر طرف الحَدِيث ثمَّ يجمع أسانيده إِمَّا مَعَ عدم التقيد بكتب مَخْصُوصَة أَو مَعَ التقيد بهَا وَذَلِكَ مثل مَا فعل أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن ثَابت الْعِرَاقِيّ فِي أَطْرَاف الْكتب الْخَمْسَة والمزي فِي أَطْرَاف الْكتب السِّتَّة وَابْن حجر فِي أَطْرَاف الْكتب الْعشْرَة

وَمن أَعلَى الْمَرَاتِب فِي تصنيف الحَدِيث تصنيفه مُعَللا بِأَن يجمع فِي كل حَدِيث طرقه وَاخْتِلَاف الروَاة فِيهِ فَإِن معرفَة الْعِلَل أجل أَنْوَاع الحَدِيث وَبهَا يظْهر إرْسَال مَا يكون مُتَّصِلا أَو وقف مَا يكون مَرْفُوعا وَغير ذَلِك من الْأُمُور المهمة

ص: 725

وَقَالَ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه بَاب إِذا أعتق عبدا مُشْتَركا بَين اثْنَيْنِ أَو أمة بَين الشُّرَكَاء حَدثنَا عَليّ بن عبد الله حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو عَن سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي ص = قَالَ من أعتق عبدا بَين اثْنَيْنِ فَإِن كَانَ مُوسِرًا قوم عَلَيْهِ ثمَّ يعْتق

حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر أَن رَسُول الله ص = قَالَ من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم العَبْد عَلَيْهِ قيمَة عدل فَأعْطى شركاءه حصصهم وَعتق عَلَيْهِ العَبْد وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق

حَدثنَا عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن أبي أُسَامَة عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن

ص: 725

وَالَّذين صنفوا فِي الْعِلَل

مِنْهُم من رتب كِتَابه على الْأَبْوَاب كَابْن أبي حَاتِم وَهُوَ أحسن لسُهُولَة تنَاوله

وَمِنْهُم من رتب كِتَابه على المساند كالحافظ الْكَبِير الْفَقِيه الْمَالِكِي يَعْقُوب بن شيبَة الْبَصْرِيّ نزيل بَغْدَاد أَخذ عَن أَحْمد وَابْن الْمَدِينِيّ وَابْن معِين وَتُوفِّي فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ ومئتين فَإِنَّهُ ألف مُسْندًا مُعَللا غير أَنه لم يتم وَلَو تمّ لَكَانَ فِي نَحْو مئتي مُجَلد

وَالَّذِي تمّ مِنْهُ هُوَ مُسْند الْعشْرَة وَالْعَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَعتبَة بن غَزوَان وَبَعض الموَالِي وعمار

وَيُقَال إِن مُسْند عَليّ مِنْهُ فِي خمس مجلدات وَيُقَال إِنَّه كَانَ فِي منزله أَرْبَعُونَ لحافا أعدهَا لمن كَانَ يبيت عِنْده من الوراقين الَّذِي يبيضون الْمسند وَلَزِمَه على مَا خرج من الْمسند عشرَة آلَاف دِينَار

قَالَ بعض الْمَشَايِخ إِنَّه لم يتم مُسْند مُعَلل قطّ

هَذَا وَقد جرت عَادَة أهل الحَدِيث أَن يفردوا بِالْجمعِ والتأليف بعض الْأَبْوَاب والشيوخ والتراجم والطرق

أما الْأَبْوَاب فقد أفرد بعض الْأَئِمَّة بَعْضهَا بالتصنيف وَذَلِكَ كباب رفع الْيَدَيْنِ فقد أفرده البُخَارِيّ بالتصنيف وَكَذَلِكَ بَاب الْقِرَاءَة خلف الإِمَام وكباب الْقَضَاء بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد فقد أفرده الدَّارَقُطْنِيّ بالتصنيف وكباب الْقُنُوت فقد أفرده ابْن مندة بالتصنيف وكباب الْبَسْمَلَة فقد أفرده ابْن عبد الْبر وَغَيره بذلك وَغير ذَلِك

وَأما الشُّيُوخ فقد جمع بعض الْعلمَاء حَدِيث شُيُوخ مخصوصين كل وَاحِد مِنْهُم على انْفِرَاده فَجمع الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدِيث الْأَعْمَش وَجمع النَّسَائِيّ حَدِيث الفضيل بن عِيَاض وَجمع غَيرهمَا غير ذَلِك

وَأما التراجم فقد جمعُوا مَا جَاءَ بترجمة وَاحِدَة من الحَدِيث كمالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر وكسهيل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وكهشام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة وَنَحْو ذَلِك

ص: 726

وَأما الطّرق فقد جمعُوا طرق بعض الْأَحَادِيث وَذَلِكَ كَحَدِيث قبض الْعلم

فقد جمع طرقه الطوسي وَحَدِيث من كذب عَليّ مُتَعَمدا

فقد جمع طرقه بعض الْمُحدثين وَغير ذَلِك

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قد ذكرنَا فِيمَا سبق أَن طَالب علم الحَدِيث يَنْبَغِي لَهُ أَن يقدم الْعِنَايَة أَولا بِمَعْرِِفَة مصطلح أَهله ثمَّ يَبْتَدِئ بالصحيحين ثمَّ بسنن أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ ثمَّ بِسَائِر مَا تمس حَاجَة طَالب علم الحَدِيث إِلَيْهِ وَمن كتب المساند وَكتب الْجَوَامِع المصنفة فِي الْأَحْكَام وَكتب علل الحَدِيث وَكتب معرفَة الرِّجَال وتواريخ الْمُحدثين وَذكرنَا مَا يتَعَلَّق بالصحيحين على وَجه يشرف النَّاظر فِيهِ على حَقِيقَة أَمرهمَا وَيعرف أَن لصاحبيهما من الْفضل مَا لَا يقدر قدرَة إِلَّا من عرف مِقْدَار عنائهما فِيمَا تصديا لَهُ وعنايتهما بإفادة النَّاس

وَقد أحببنا أَن ننبه الطَّالِب هُنَا على أُمُور يَنْبَغِي لَهُ أَن يقف عَلَيْهَا قبل الشُّرُوع فِيهَا ليَأْخُذ لِلْأَمْرِ عدته من قبل فَعَسَى أَن يصبح بذلك عَمَّا قريب معدودا من ذَوي الإتقان بل الإيقان عِنْد أهل هَذَا الشَّأْن

الْأَمر الأول قد قسم الْعلمَاء الحَدِيث الصَّحِيح بِاعْتِبَار تفَاوت درجاته فِي الْقُوَّة إِلَى سَبْعَة أَقسَام وَفَائِدَة هَذَا التَّقْسِيم تظهر عِنْد التَّعَارُض والاضطرار إِلَى التَّرْجِيح

الْقسم الأول مَا أحْرجهُ البُخَارِيّ وَمُسلم

الْقسم الثَّانِي مَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن مُسلم

الْقسم الثَّالِث مَا انْفَرد بِهِ مُسلم عَن البُخَارِيّ

الْقسم الرَّابِع مَا هُوَ على شَرطهمَا وَلَكِن لم يُخرجهُ وَاحِد مِنْهُمَا

ص: 727

الْقسم الْخَامِس مَا هُوَ على شَرط البُخَارِيّ وَلَكِن لم يُخرجهُ

الْقسم السَّادِس مَا هُوَ على شَرط مُسلم وَلَكِن لم يُخرجهُ

الْقسم السَّابِع مَا لَيْسَ على شَرطهمَا وَلَا شَرط وَاحِد مِنْهُمَا وَلكنه صَحَّ عِنْد أَئِمَّة الحَدِيث

وكل قسم من هَذِه الْأَقْسَام يحكم لَهُ بالرجحان على مَا بعده وَهَذَا الحكم إِنَّمَا يُؤْخَذ بِهِ فِي الْجُمْلَة وَلذَا قَالَ إِنَّه يسوغ أَن يحكم برجحان حَدِيث على حَدِيث آخر يكون من الْقسم الَّذِي هُوَ أَعلَى مِنْهُ فِي الدرجَة إِذا وجد لَهُ من زِيَادَة التَّمَكُّن من شُرُوط الصِّحَّة مَا يَجعله أرجح مِنْهُ وعَلى ذَلِك فيرجح مَا انْفَرد بِهِ مُسلم إِذا رُوِيَ من طرق مُخْتَلفَة على مَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ إِذا لم يرو إِلَّا من طَرِيق وَاحِدَة ويرجح مَا أخرجه غَيرهمَا إِذا ورد بِإِسْنَاد يُقَال فِيهِ إِنَّه أصح إِسْنَادًا على مَا أخرجه أَحدهمَا لَا سِيمَا إِن كَانَ فِي إِسْنَاده من فِيهِ مقَال

وَقَالَ بعض الْحفاظ مؤيدا لذَلِك قد يعرض للمفوق مَا يَجعله فائقا وَذَلِكَ كَأَن يتَّفق البُخَارِيّ وَمُسلم على إِخْرَاج حَدِيث غَرِيب وَيخرج مُسلم أَو غَيره حَدِيثا مَشْهُورا أَو مِمَّا وصفت تَرْجَمته بِكَوْنِهَا أصح الْأَسَانِيد وَبِذَلِك يعلم أَن مُرَادهم بترجيح صَحِيح البُخَارِيّ على صَحِيح مُسلم إِنَّمَا هُوَ تَرْجِيح الْجُمْلَة على الْجُمْلَة لَا تَرْجِيح كل فَرد من أَحَادِيثه على كل فَرد من أَحَادِيث الآخر

وَهنا أَمر يَنْبَغِي الانتباه لَهُ وَهُوَ أَن بعض الْعلمَاء يظنون أَن صَاحِبي الصَّحِيحَيْنِ يكتفيان فِي التَّصْحِيح بِمُجَرَّد النّظر إِلَى حَال الرَّاوِي فِي الْعَدَالَة والضبط وَعدم الْإِرْسَال من يغر نظر إِلَى غير ذَلِك وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا يظنون بل ينظرُونَ مَعَ ذَلِك إِلَى حَال من روى عَنهُ فِي كَثْرَة ملازمته لَهُ أَو قلتهَا أَو كَونه من بَلَده ممارسا لحديثه أَو غَرِيبا عَن بلد من أَخذ عَنهُ إِلَى غير ذَلِك من الْأُمُور المهمة الغامضة الَّتِي لَا يشْعر بهَا إِلَّا من أمعن النّظر فِيهَا مَعَ البراعة فِي الحَدِيث وأصوله

وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك بعض الْحفاظ حَيْثُ قَالَ مجيبا لمن سَأَلَهُ عَن شَرط البُخَارِيّ

ص: 728

وَمُسلم لهَذَا رجال يروي عَنْهُم يخْتَص بهم وَلِهَذَا رجال يروي عَنْهُم يخْتَص بهم وهما مشتركان فِي رجال آخَرين وَهَؤُلَاء الَّذين اتفقَا عَلَيْهِم عَلَيْهِم مدَار الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ وَقد يروي أحدهم عَن رجل فِي المتابعات والشواهد دون الأَصْل وَقد يروي عَنهُ مَا عرف من طَرِيق غَيره وَلَا يروي مَا انْفَرد بِهِ وَقد يتْرك من حَدِيث الثِّقَة مَا علم أَنه أَخطَأ فِيهِ فيظن من لَا خبْرَة لَهُ أَن لَك مَا رَوَاهُ ذَلِك الشَّخْص يحْتَج بِهِ أَرْبَاب الصَّحِيح وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك

وَعلم علل الحَدِيث علم شرِيف يعرفهُ أَئِمَّة الْفَنّ كيحيى بن سعيد الْقطَّان وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَالْبُخَارِيّ صَاحب الصَّحِيح وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيرهم وَهِي عُلُوم يعرفهَا أَصْحَابهَا

الْأَمر الثَّانِي قد عرفت أَن الْخَبَر إِن كَانَ متواترا أَفَادَ الْعلم قطعا وَإِن كَانَ غير متواتر بل كَانَ خبر آحَاد لم يفد الْعلم قطعا غير أَن فِي أَخْبَار الْآحَاد مَا يرْوى على وَجه تسكن إِلَيْهِ النَّفس بِحَيْثُ يُفِيد غَلَبَة الظَّن وَهِي قد تسمى علما

وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن أَخْبَار الْآحَاد إِذا كَانَت مخرجة فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو فِي أَحدهمَا تفِيد الْعلم قطعا لتلقي الْأمة لَهما بِالْقبُولِ

وَأنكر الْجُمْهُور ذَلِك وَقَالُوا إِن أَخْبَار الْآحَاد لَا تفِيد الْعلم قطعا وَلَو كَانَت مخرجة فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا وتلقي الْأمة لَهما بِالْقبُولِ إِنَّمَا يُفِيد وجوب الْعَمَل بِمَا فيهمَا بِنَاء على أَن الْأمة مأمورة بِالْأَخْذِ بِكُل خبر يغلب على الظَّن صدقه وَلَا يُفِيد أَن مَا فيهمَا ثَابت فِي نفس الْأَمر قطعا

وَذَلِكَ كَالْقَاضِي فَإِنَّهُ مَأْمُور بالحكم بِشَهَادَة من كَانَ عدلا فِي الظَّاهِر وَكَونه مَأْمُورا بذلك لَا يدل على أَن شَهَادَة الْعدْل لَا بُد أَن تكون مُطَابقَة للْوَاقِع وثابتة فِي نفس الْأَمر لاحْتِمَال أَن يكون قد شهد بِخِلَاف الْوَاقِع إِمَّا لوهم وَقع لَهُ إِذا كَانَ

ص: 729

عدلا فِي نفس الْأَمر أَو لكذب لم يتحرج مِنْهُ إِذا كَانَ عدلا فِيمَا يَبْدُو للنَّاس فَقَط وَالْقَاضِي على كل حَال قد قَامَ بِمَا وَجب عَلَيْهِ

وَقد اسْتثْنى من ذهب إِلَى أَن أَخْبَار الْآحَاد إِذا كَانَت مخرجة فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو فِي أَحدهمَا تفِيد الْعلم قطعا بعض الْأَحَادِيث من ذَلِك وَهِي الْأَحَادِيث الَّتِي تكلم فِيهَا بعض أهل النَّقْد من الْحفاظ كالدارقطني وَغَيره

قَالَ وَهِي مَعْرُوفَة عِنْد أهل هَذَا الشَّأْن

فَإِذا عرفت هَذَا ظهر لَك أَنه يجب على من أَرَادَ أَن يعرف الصَّحِيحَيْنِ على وَجه الإتقان أَن يعرف هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي انتقدت وَينظر فِيمَا أورد عَلَيْهَا فَمَا لم يجد عَنهُ جَوَابا سديدا غَادَرَهُ فِي الْمُسْتَثْنى وَمَا وجد عَنهُ جَوَابا سديدا أخرجه مِنْهُ وَحكم لَهُ بِالصِّحَّةِ إِمَّا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن إِن كَانَ مِمَّن يَأْخُذ بِهَذَا الْمَذْهَب أَو فِي الظَّاهِر فَقَط إِن كَانَ مِمَّن يَأْخُذ بِمذهب الْجُمْهُور

وَقد قسموا الْأَحَادِيث الَّتِي انتقدت عَلَيْهِمَا سِتَّة أَقسَام

الْقسم الأول مَا تخْتَلف الرِّوَايَة فِيهِ بِالزِّيَادَةِ أَو النَّقْص من رجال الْإِسْنَاد فَإِن أخرج صَاحب الصَّحِيح الطَّرِيق المزيدة وأعل المنتقد ذَلِك بِالطَّرِيقِ النَّاقِصَة ينظر فَإِن كَانَ الرَّاوِي قد سَمعه فَالزِّيَادَة لَا تضر لِأَنَّهُ يكون قد سَمعه بِوَاسِطَة عَن شَيْخه ثمَّ لقِيه فَسَمعهُ مِنْهُ وَإِن كَانَ لم يسمعهُ فِي الطَّرِيق النَّاقِصَة فَهُوَ مُنْقَطع والمنقطع من قسم الضَّعِيف والضعيف لَا يعل الصَّحِيح

وَإِن أخرج صَاحب الصَّحِيح الطَّرِيق النَّاقِصَة وأعل المنتقد ذَلِك بِالطَّرِيقِ المزيدة ينظر فَإِن كَانَ ذَلِك الرَّاوِي صحابيا أَو ثِقَة غير مُدَلّس فقد أدْرك من روى عَنهُ إدراكا بَينا أَو صرح بِالسَّمَاعِ من طَرِيق أُخْرَى إِن كَانَ مدلسا انْدفع الِاعْتِرَاض وَثَبت عدم الِانْقِطَاع فِيمَا صَححهُ صَاحب الصَّحِيح وَإِلَّا ثَبت الِانْقِطَاع وَحِينَئِذٍ يُجَاب أَن صَاحب الصَّحِيح إِنَّمَا يخرج مثل ذَلِك إِذا كَانَ لَهُ متابع وعاضد وحفته قرينَة تقويه فَيكون التَّصْحِيح قد وَقع من حَيْثُ الْمَجْمُوع

ص: 730

وَقد وَقع فِي البُخَارِيّ وَمُسلم من ذَلِك حَدِيث الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس فِي قصَّة القبرين وَإِن أَحدهمَا كَانَ لَا يستبرئ من بَوْله

قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ خَالف مَنْصُور فَقَالَ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس

وَأخرج البُخَارِيّ حَدِيث مَنْصُور على إِسْقَاط طَاوس

وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن أخرج الحَدِيث رَوَاهُ مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس

وَحَدِيث الْأَعْمَش أصح يَعْنِي المتضمن للزِّيَادَة

قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر وَهَذَا فِي التَّحْقِيق لَيْسَ بعلة لِأَن مُجَاهدًا لم يُوصف بالتدليس وسماعه من ابْن عَبَّاس صَحِيح فِي جملَة الْأَحَادِيث وَمَنْصُور عِنْدهم أتقن من الْأَعْمَش مَعَ أَن الْأَعْمَش أَيْضا من الْحفاظ فَالْحَدِيث كَيْفَمَا دَار دَار على ثِقَة والإسناد كَيْفَمَا دَار كَانَ مُتَّصِلا فَمثل هَذَا لَا يقْدَح فِي صِحَة الحَدِيث إِذا لم يكن رَاوِيه مدلسا وَقد أَكثر الشَّيْخَانِ من تَخْرِيج مثل هَذَا وَلم يستوعب الدَّارَقُطْنِيّ انتقاده

الْقسم الثَّانِي مَا تخْتَلف الروَاة فِيهِ بتغيير بعض الْإِسْنَاد فَإِن أمكن الْجمع وَلم يقْتَصر صَاحب الصَّحِيح على أحد الْوَجْهَيْنِ أَو الْأَوْجه لكَون الْمُخْتَلِفين متعادلين فِي الْحِفْظ وَنَحْوه لم يكن فِي ذَلِك شَيْء وَذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيث البُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق من حَدِيث إِسْرَائِيل عَن الْأَعْمَش وَمَنْصُور جَمِيعًا عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله قَالَ كُنَّا عِنْد النَّبِي ص = فِي غَار فَنزلت والمرسلات

قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ لم يُتَابع إِسْرَائِيل عَن الْأَعْمَش عَن عَلْقَمَة أما عَن مَنْصُور فتابعه شَيبَان عَنهُ

وَكَذَا رَوَاهُ مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم عَنهُ

وَقد حكى البُخَارِيّ الْخلاف فِي ذَلِك

وَإِن لم يُمكن الْجمع وَكَانَ المختلفون متفاوتين فِي الْحِفْظ وَنَحْوه فَإِذا أخرج صَاحب الصَّحِيح الطَّرِيق الراجحة وَأعْرض عَن غَيرهَا أَو أَشَارَ إِلَيْهَا لم يكن فِي ذَلِك شَيْء أَيْضا فَإِن مُجَرّد الِاخْتِلَاف غير قَادِح إِذْ لَا يلْزم من مُجَرّد الِاخْتِلَاف اضْطِرَاب يُوجب الضعْف

وَفِي البُخَارِيّ من هَذَا حَدِيث اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب عَن جَابر أَن النَّبِي ص = كَانَ يجمع بَين قَتْلَى أحد وَيقدم أقرأهم

ص: 731

قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ مُرْسلا وَرَوَاهُ معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي صعير عَن جَابر

وَرَوَاهُ سُلَيْمَان بن كثير عَن الزُّهْرِيّ حَدثنِي من سمع جَابِرا وَهُوَ حَدِيث مُضْطَرب

قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر أطلق الدَّارَقُطْنِيّ القَوْل بِأَنَّهُ مُضْطَرب مَعَ إِمْكَان نفي الِاضْطِرَاب عَنهُ بِأَن يُفَسر الْمُبْهم بِالَّذِي فِي رِوَايَة اللَّيْث وَتحمل رِوَايَة معمر على أَنه سَمعه من شيخين

وَأما رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ الْمُرْسلَة فقصر فِيهَا بِحَذْف الْوَاسِطَة

فَهَذِهِ طَريقَة من يَنْفِي الِاضْطِرَاب عَنهُ وَقد سَاق البُخَارِيّ ذكر الْخلاف فِيهِ وَإِنَّمَا أخرج رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ مَعَ انقطاعها لِأَن الحَدِيث عِنْده عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ جَمِيعًا عَن الزُّهْرِيّ فأسقط الْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن بن كَعْب وأثبته اللَّيْث وهما فِي الزُّهْرِيّ سَوَاء وَقد صرحا بسماعهما لَهُ مِنْهُ فَقبل زِيَادَة اللَّيْث لِثِقَتِهِ ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك وَرَوَاهُ سُلَيْمَان بن كثير عَن الزُّهْرِيّ عَمَّن سمع جَابِرا وَأَرَادَ بذلك إِثْبَات الْوَاسِطَة بَين الزُّهْرِيّ وَبَين جَابر فِيهِ فِي الْجُمْلَة وتأكيد رِوَايَة اللَّيْث بذلك وَلم يرهَا عِلّة توجب اضطرابا

وَأما رِوَايَة معمر فقد وَافقه عَلَيْهِ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن أبي صعير وَقَالَ ثبتني فِيهِ معمر

فَرَجَعت رِوَايَته إِلَى رِوَايَة معمر

الْقسم الثَّالِث مَا تفرد بعض الروَاة بِزِيَادَة فِيهِ عَمَّن هُوَ أَكثر عددا أَو اضبط فَهَذَا لَا يُؤثر الإعلال بِهِ إِلَّا إِن كَانَت تِلْكَ الزِّيَادَة فِيهَا مُنَافَاة بِحَيْثُ يتَعَذَّر الْجمع

أما إِن كَانَت تِلْكَ الزِّيَادَة لَا مُنَافَاة فِيهَا فَلَا إِذْ تكون كالحديث المستقل إِلَّا أَن يَتَّضِح بالدلائل أَن تِلْكَ الزِّيَادَة مدرجة من كَلَام بعض الروَاة

وَمِثَال ذَلِك مَا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من طَرِيق ابْن أبي عرُوبَة وَجَرِير بن حَازِم عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير بن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة من أعتق شِقْصا

وذكرا فِيهِ الِاسْتِسْعَاء

ص: 732

قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِيمَا انتقده عَلَيْهِمَا قد رَوَاهُ شُعْبَة وَهِشَام وهما أثبت النَّاس فِي قَتَادَة فَلم يذكرَا الِاسْتِسْعَاء وَوَافَقَهُمَا همام وَفصل الِاسْتِسْعَاء من الحَدِيث وَجعله من قَول قَتَادَة وَهُوَ الصَّوَاب

وَقَالَ الْأصيلِيّ وَابْن الْقطَّان وَغَيرهمَا من أسقط السّعَايَة فِي الحَدِيث أولى مِمَّن ذكرهَا لِأَنَّهَا لَيست فِي الْأَحَادِيث الْأُخَر من رِوَايَة ابْن عمر

وَقَالَ ابْن عبد الْبر الَّذين لم يذكرُوا السّعَايَة أثبت مِمَّن ذكروها

وَقَالَ غَيره وَقد اخْتلف فِيهَا عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة فَتَارَة ذكرهَا وَتارَة لم يذكرهَا فَدلَّ على أَنَّهَا لَيست من متن الحَدِيث كَمَا قَالَ غَيره

قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه فِي كتاب الْعتْق حَدثنَا يحيى بن يحيى قَالَ قلت لمَالِك حَدثَك نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ قَالَ رَسُول الله ص = من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم عَلَيْهِ قيمَة الْعدْل فَأعْطِي شركاؤه حصصهم وَعتق عَلَيْهِ العَبْد وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق

وحدثناه قُتَيْبَة بن سعيد وَمُحَمّد بن رمح جَمِيعًا عَن اللَّيْث بن سعد

ح وَحدثنَا شَيبَان بن فروخ حَدثنَا جرير بن حَازِم

ح وَحدثنَا أَبُو الرّبيع وَأَبُو كَامِل قَالَا حَدثنَا حَمَّاد حَدثنَا أَيُّوب

ح وَحدثنَا ابْن نمير حَدثنَا أبي حَدثنَا عبيد الله

ح وَحدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا عبد الْوَهَّاب قَالَ سَمِعت يحيى بن سعيد

ص: 733

ح وحَدثني إِسْحَاق بن مَنْصُور أخبرنَا عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج أَخْبرنِي إِسْمَاعِيل بن أُميَّة

ح وَحدثنَا هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي حَدثنَا ابْن وهب أَخْبرنِي أُسَامَة

ح وَحدثنَا مُحَمَّد بن رَافع حَدثنَا ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب

كل هَؤُلَاءِ عَن نَافِع عَن ابْن عمر بِمَعْنى حَدِيث مَالك عَن نَافِع

وَحدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى وَابْن بشار وَاللَّفْظ لِابْنِ الْمثنى قَالَا حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير بن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ص = قَالَ فِي الْمَمْلُوك بَين الرجلَيْن فَيعتق أَحدهمَا قَالَ يضمن

وحَدثني عَمْرو النَّاقِد حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير بن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ص = قَالَ من أعتق شِقْصا لَهُ فِي عبد فخلاصه فِي مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال فَإِن لم يكن لَهُ مَال استسعي العَبْد غير مشقوق عَلَيْهِ

وحدثناه عَليّ بن خشرم أخبرنَا عِيسَى يَعْنِي ابْن يُونُس عَن سعيد بن أبي عرُوبَة بِهَذَا الْإِسْنَاد وَزَاد إِن لم يكن لَهُ مَال قوم عَلَيْهِ العَبْد قيمَة عدل ثمَّ يستسعى فِي نصيب الَّذِي لم يعْتق غير مشقوق عَلَيْهِ

حَدثنِي هَارُون بن عبد الله حَدثنَا وهب بن جرير حَدثنَا أبي قَالَ سَمِعت قَتَادَة يحدث بِهَذَا الْإِسْنَاد بِمَعْنى حَدِيث ابْن أبي عرُوبَة وَذكر فِي الحَدِيث قوم عَلَيْهِ قيمَة عدل

ص: 734

ابْن عمر قَالَ قَالَ رَسُول الله ص = من أعتق شركا لَهُ فِي مَمْلُوك فَعَلَيهِ عتقه كُله إِن كَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمنه فَإِن لم يكن لَهُ مَال يقوم عَلَيْهِ قيمَة عدل على الْمُعْتق فَأعتق مَا أعتق

حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا بشر عَن عبيد الله اخْتَصَرَهُ

حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي ص = قَالَ (من أعتق نَصِيبا لَهُ فِي مَمْلُوك أَو شركا لَهُ فِي عبد وَكَانَ لَهُ من المَال مَا يبلغ قِيمَته بِقِيمَة الْعدْل فَهُوَ عَتيق) قَالَ نَافِع وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق قَالَ أَيُّوب لَا أَدْرِي أَشَيْء قَالَه نَافِع أَو شَيْء فِي الحَدِيث

حَدثنَا أَحْمد بن مِقْدَام حَدثنَا الفضيل بن سُلَيْمَان حَدثنَا مُوسَى بن عقبَة أَخْبرنِي نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُفْتِي فِي العَبْد أَو الْأمة يكون بَين الشُّرَكَاء فَيعتق أحدهم نصِيبه مِنْهُ يَقُول قد وَجب عَلَيْهِ عتقه كُله إِذا كَانَ للَّذي أعتق من المَال مَا يبلغ يقوم من مَاله قيمَة الْعدْل وَيدْفَع إِلَى الشُّرَكَاء أنصباؤهم ويخلى سَبِيل الْمُعْتق يخبر ذَلِك ابْن عمر عَن النَّبِي ص =

وَرَوَاهُ اللَّيْث وَابْن أبي ذِئْب وَابْن إِسْحَاق وَجُوَيْرِية وَيحيى بن سعيد وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي ص = مُخْتَصرا

بَاب إِذا أعتق نَصِيبا فِي عبد وَلَيْسَ لَهُ مَال استسعي العَبْد غير مشقوق عَلَيْهِ على نَحْو الْكِتَابَة

حَدثنَا أَحْمد بن أبي رَجَاء حَدثنَا يحيى بن آدم حَدثنَا جرير بن حَازِم قَالَ سَمِعت قَتَادَة قَالَ حَدثنِي النَّضر بن أنس بن مَالك عَن بشير بن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ النَّبِي ص = (من أعتق شقيصا من عبد)

ص: 736

وَحدثنَا مُسَدّد حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا سعيد عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير بن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي ص = قَالَ (من أعتق نَصِيبا أَو شقيصا فِي مَمْلُوك فخلاصه عَلَيْهِ فِي مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال وَإِلَّا قوم عَلَيْهِ فاستسعي بِهِ غير مشقوق عَلَيْهِ)

تَابعه حجاج بن حجاج وَأَبَان ومُوسَى بن خلف عَن قَتَادَة اخْتَصَرَهُ شُعْبَة

قَالَ بعض شرَّاح البُخَارِيّ عِنْد ذكر قَوْله تَابعه حجاج بن حجاج وَأَبَان ومُوسَى بن خلف عَن قَتَادَة أَرَادَ الْمُؤلف بِهَذَا الرَّد على من زعم أَن الِاسْتِسْعَاء فِي هَذَا الحَدِيث غير مَحْفُوظ وَأَن سعيد بن أبي عرُوبَة تفرد بِهِ فاستظهر لَهُ بِرِوَايَة جرير بن حَازِم لموافقته ثمَّ ذكر ثَلَاثَة تابعوهما على ذكرهَا فنفى عَنهُ التفرد

ثمَّ قَالَ وَاخْتَصَرَهُ شُعْبَة وَكَأَنَّهُ جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر وَهُوَ أَن شُعْبَة أحفظ النَّاس لحَدِيث قَتَادَة فَكيف ترك ذكر الِاسْتِسْعَاء فَأجَاب بِأَن هَذَا لَا يُؤثر فِيهِ ضعفا لِأَنَّهُ أوردهُ مُخْتَصرا وَغَيره أوردهُ بِتَمَامِهِ وَالْعدَد الْكثير أولى بِالْحِفْظِ من الْوَاحِد

وَرِوَايَة شُعْبَة أخرجهَا مُسلم وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق غنْدر عَنهُ عَن قَتَادَة بِإِسْنَادِهِ وَلَفظه عَن النَّبِي ص = فِي الْمَمْلُوك بَين الرجلَيْن فَيعتق أَحدهمَا نصِيبه وَقَالَ يضمن

وَمن طَرِيق معَاذ عَن شُعْبَة بِلَفْظ من أعتق شِقْصا من مَمْلُوك فَهُوَ حر من مَاله

وَقد اختصر ذكر السّعَايَة هِشَام الدستوَائي عَن قَتَادَة إِلَّا أَنه اخْتلف عَلَيْهِ فِي إِسْنَاده فَمنهمْ من ذكر فِيهِ النَّضر بن أنس وَمِنْهُم من لم يذكرهُ

وَذهب جمَاعَة من الْعلمَاء إِلَى أَن الِاسْتِسْعَاء مدرج فِي الحَدِيث من كَلَام قَتَادَة

ص: 737

كَمَا رَوَاهُ همام بن يحيى عَن قَتَادَة بِلَفْظ أَن رجلا أعتق شِقْصا من مَمْلُوك فَأجَاز النَّبِي ص = عتقه وغرمه بَقِيَّة ثمنه

قَالَ قَتَادَة إِن لم يكن لَهُ مَال استسعي العَبْد غير مشقوق عَلَيْهِ

أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ والخطابي

وأبى ذَلِك جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخَانِ فصححوا كَون الْجمع مَرْفُوعا وَرجح ذَلِك ابْن دَقِيق الْعِيد وَذَلِكَ لِأَن سعيد بن أبي عرُوبَة أعرف بِحَدِيث قَتَادَة فَإِنَّهُ كَانَ أَكثر مُلَازمَة لَهُ وأخذا عَنهُ من همام وَغَيره وَهَمَّام وَشعْبَة وَإِن كَانَا أحفظ من سعيد لَكِن مَا روياه لَا يُنَافِي مَا رَوَاهُ وَإِنَّمَا اقتصرا من الحَدِيث على بعضه وَلَيْسَ الْمجْلس متحدا حَتَّى يتَوَقَّف فِي زِيَادَة سعيد فَإِن مُلَازمَة سعيد لِقَتَادَة كَانَت أَكثر مِنْهُمَا فَسمع مِنْهُ مَا لم يسمعهُ غَيره

وَهَذَا كُله لَو انْفَرد سعيد وَهُوَ مَعَ ذَلِك لم ينْفَرد

وَمَا أعل بِهِ حَدِيث سعيد من كَونه اخْتَلَط أَو تفرد بِهِ مَرْدُود لِأَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من رِوَايَة من سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط كيزيد بن زُرَيْع وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ كَثِيرُونَ مِنْهُم أَرْبَعَة قد تقدم ذكرهم وَهَمَّام هُوَ الَّذِي انْفَرد بفصل الِاسْتِسْعَاء من الحَدِيث وَجعله من قَول قَتَادَة فَدلَّ على أَنه لم يضبطه كَمَا يَنْبَغِي

وَقد احْتج من لَا يَقُول بالاستسعاء بِحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَن رجلا أعتق سِتَّة مملوكين لَهُ عِنْد مَوته لم يكن لَهُ مَال غَيرهم فَدَعَاهُمْ رَسُول الله ص = فجزأهم أَثلَاثًا ثمَّ أَقرع بَينهم فَأعتق اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة

أخرجه مُسلم

وَوجه الدّلَالَة فِيهِ أَن الِاسْتِسْعَاء لَو كَانَ مَشْرُوعا لنجز من كل وَاحِد مِنْهُم عتق ثلثه وَأمره بالسعي فِي أَدَاء بَقِيَّة قِيمَته لوَرَثَة الْمَيِّت

الْقسم الرَّابِع مَا تفرد بِهِ بعض الروَاة مِمَّن ضعف مِنْهُم وَفِي البُخَارِيّ من ذَلِك حديثان

أَحدهمَا حَدِيث أبي بن عَبَّاس بن سهل بن سعد عَن أَبِيه عَن جده

ص: 738

قَالَ كَانَ للنَّبِي ص = فرس يُقَال لَهُ اللخيف

قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا ضَعِيف وَقد ضعفه أَحْمد وَابْن معِين وَقَالَ النَّسَائِيّ لَيْسَ بِالْقَوِيّ

لَكِن تَابعه عَلَيْهِ أَخُوهُ عبد الْمُهَيْمِن بن عَبَّاس قَالَ فِي الْمِيزَان أبي وَإِن لم ثبتا فَهُوَ حسن الحَدِيث وَأَخُوهُ عبد الْمُهَيْمِن واهي

وَثَانِيهمَا فِي الْجِهَاد من البُخَارِيّ فِي بَاب إِذا أسلم قوم فِي دَار الْحَرْب حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه أَن عمر اسْتعْمل مولى لَهُ يُسمى هنيا على الْحمى

الحَدِيث بِطُولِهِ

قَالَ الدراقطني إِسْمَاعِيل ضَعِيف

قَالَ فِي الْمِيزَان إِسْمَاعِيل مُحدث مكثر فِيهِ لين روى عَن خَاله مَالك وأخيه عبد الحميد وَأَبِيهِ وَعنهُ صاحبا الصَّحِيح وَإِسْمَاعِيل القَاضِي والكبار

قَالَ أَحْمد لَا بَأْس بِهِ

وَقَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة عَن يحيى صَدُوق ضَعِيف الْعقل لَيْسَ بِذَاكَ

وَقَالَ أَبُو حَاتِم مَحَله الصدْق مُغفل

وَقَالَ النَّسَائِيّ ضَعِيف

وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ لَا أختاره فِي الصَّحِيح

وَقَالَ ابْن عدي روى عَن خَاله مَالك غرائب لَا يُتَابِعه عَلَيْهَا أحد

قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر أَظن الدَّارَقُطْنِيّ إِنَّمَا ذكر هَذَا الْموضع من حَدِيث إِسْمَاعِيل خَاصَّة وَأعْرض عَن الْكثير من حَدِيثه عِنْد البُخَارِيّ لكَون غَيره شَاركهُ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيث وَتفرد بِهَذَا فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلم ينْفَرد بِهَذَا بل تَابعه عَلَيْهِ معن بن عِيسَى فَرَوَاهُ عَن مَالك كَرِوَايَة إِسْمَاعِيل سَوَاء

الْقسم الْخَامِس مَا حكم فِيهِ بالوهم على بعض رُوَاته

وَهَذَا الحكم إِنَّمَا يقبل إِذا ظهر دَلِيل يدل على وُقُوع الْوَهم وَإِلَّا نسب الْوَهم إِلَى من حكم بالوهم

قَالَ بعض الْحفاظ قد وَقع فِي صَحِيح مُسلم أَلْفَاظ قَليلَة غلط فِيهَا الرَّاوِي مثل مَا رُوِيَ إِن الله خلق التربة يَوْم السبت وَجعل خلق الْمَخْلُوقَات فِي الْأَيَّام

ص: 739

السَّبْعَة

فَإِن هَذَا الحَدِيث قد بَين أَئِمَّة الحَدِيث مثل يحيى بن معِين وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم أَنه غلط وَأَنه لَيْسَ من كَلَام النَّبِي ص = بل صرح البُخَارِيّ أَنه من كَلَام كَعْب الْأَحْبَار

وَالْقُرْآن قد بَين أَن الْخلق كَانَ فِي سِتَّة أَيَّام وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن آخر الْخلق كَانَ يَوْم الْجُمُعَة فَيكون أول الْخلق يَوْم الْأَحَد

وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَن النَّبِي ص = صلى الْكُسُوف بركوعين أَو ثَلَاثَة

فَإِن الثَّابِت الْمَرْوِيّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا عَن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عَمْرو وَغَيرهم أَنه صلى كل رَكْعَة بركوعين

وَلِهَذَا لم يخرج البُخَارِيّ غير ذَلِك وَضعف هُوَ وَغَيره من الْأَئِمَّة حَدِيث الثَّلَاثَة والأربع فَإِن النَّبِي ص = إِنَّمَا صلى الْكُسُوف مرّة وَاحِدَة

وَفِي حَدِيث الثَّلَاث والأربع أَنه صلى صَلَاة الْكُسُوف يَوْم مَاتَ إِبْرَاهِيم ابْنه

وَحَدِيث الركوعين كَانَ فِي ذَلِك الْيَوْم

فَمثل هَذَا الْغَلَط إِذا وَقع كَانَ فِي نفس الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مَا يبن أَنه غلط وَالْبُخَارِيّ إِذا روى الحَدِيث بطرق فِي بَعْضهَا غلط فِي بعض الْأَلْفَاظ ذكر مَعهَا الطّرق الَّتِي تبين ذَلِك الْغَلَط

وَقَالَ وكما أَن أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ يستشهدون ويعتبرون بِحَدِيث الَّذِي فِيهِ سوء حفظ فَإِنَّهُم يضعفون من حَدِيث الثِّقَة الصدوق الضَّابِط أَشْيَاء يتَبَيَّن لَهُم غلطه فِيهَا بِأُمُور يستدلون بهَا ويسمون هَذَا علم علل الحَدِيث وَهُوَ من أشرف علومهم

وَغلط الثِّقَة الصدوق الضَّابِط قد يعرف بِسَبَب ظَاهر وَقد يعرف بِسَبَب خَفِي

وَمِمَّا وَقع فِيهِ الْغَلَط مَا فِي بعض طرق البُخَارِيّ إِن النَّار لَا تمتلئ حَتَّى ينشئ الله لَهَا خلقا آخر

وَهَذَا كثير وَالنَّاس فِي هَذَا الْبَاب طرفان

طرف من أهل الْكَلَام وَنَحْوهم مِمَّن هُوَ بعيد عَن معرفَة الحَدِيث وَأَهله

ص: 740

لَا يُمَيّز بِي الصَّحِيح والضعيف فيشك فِي صِحَة أَحَادِيث أَو فِي الْقطع بهَا مَعَ كَونهَا مَعْلُومَة قطعا عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ

وطرف مِمَّن يَدعِي اتِّبَاع الحَدِيث وَالْعَمَل بِهِ كلما وجد لفظا فِي حَدِيث قد رَوَاهُ ثِقَة وَرَأى حَدِيثا بِإِسْنَاد ظَاهره الصِّحَّة يُرِيد أَن يَجْعَل ذَلِك من جنس مَا جزم أهل الْعلم بِصِحَّتِهِ حَتَّى إِذا عَارض الصَّحِيح الْمَعْرُوف أَخذ يتَكَلَّف لَهُ التأويلات الْبَارِدَة أَو يَجعله دَلِيلا فِي مسَائِل الْعلم مَعَ أَن أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ يعْرفُونَ أَن مثل هَذَا غلط فَكَمَا أَن على الحَدِيث أَدِلَّة يعلم بهَا أَنه صدق وَقد يقطع بِهِ فَعَلَيهِ أَدِلَّة يعلم بهَا أَنه كذب وَقد يقطع بِهِ مثل مَا يقطع بكذب مَا يرويهِ الوضاعون من أهل الْبدع والغلو فِي الْفَضَائِل

وَقَالَ مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي سَمِعت أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر الْحميدِي بِبَغْدَاد يَقُول قَالَ لنا أَبُو مُحَمَّد بن حزم مَا وجدنَا للْبُخَارِيّ وَمُسلم فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئا لَا يحْتَمل مخرجا إِلَّا حديثين لكل وَاحِد مهما حَدِيث تمّ عَلَيْهِ فِي تَخْرِيجه الْوَهم مَعَ إتقانهما وحفظهما وَصِحَّة معرفتهما

فَذكر من عبد البُخَارِيّ حَدِيث شريك عَن أنس فِي الْإِسْرَاء وَأَنه قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ وَفِيه شقّ صَدره

قَالَ ابْن حزم والآفة من شريك

والْحَدِيث الثَّانِي عِنْد مُسلم حَدِيث عِكْرِمَة بن عمار عَن أبي زميل عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَ الْمُسلمُونَ لَا ينظرُونَ إِلَى أبي سُفْيَان وَلَا يُقَاعِدُونَهُ فَقَالَ للنَّبِي ص = ثَلَاث أعطنيهن قَالَ نعم الحَدِيث

قَالَ ابْن حزم هَذَا حَدِيث مَوْضُوع لَا شكّ فِي وَضعه والآفة فِيهِ من عِكْرِمَة بن عمار

وَقد أَشَارَ شرَّاح صَحِيح مُسلم إِلَى أَن هَذَا الحَدِيث من الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة بالإشكال وَقد امتعض بَعضهم بِمَا قَالَه ابْن حزم فَبَالغ فِي التشنيع عَلَيْهِ وَقَالَ إِنَّه كَانَ هجاما على تخطئه الْأَئِمَّة الْكِبَار وَإِطْلَاق اللِّسَان فيهم وَلَا نعلم أحدا من أَئِمَّة الحَدِيث نسب عِكْرِمَة بن عمار إِلَى وضع الحَدِيث

وَقد وَثَّقَهُ وَكِيع وَيحيى بن معِين وَغَيرهمَا وَكَانَ مستجاب الدعْوَة

ص: 741

وَقَالَ فِي الْمِيزَان عِكْرِمَة بن عمار الْعجلِيّ اليمامي لَهُ رِوَايَة عَن طَاوس وَسَالم وَعَطَاء وَيحيى بن كثير وَعنهُ يحيى الْقطَّان وَابْن مهْدي وَأَبُو الْوَلِيد وَخلق روى أَبُو حَاتِم عَن ابْن معِين أَنه قَالَ كَانَ أُمِّيا حَافِظًا

وَقَالَ أَبُو حَاتِم صَدُوق رُبمَا يهم

وَقَالَ عَاصِم بن عَليّ كَانَ مستجاب الدعْوَة

وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل ضَعِيف الحَدِيث وَكَانَ حَدِيثه عَن إِيَاس بن سَلمَة صَالحا

قَالَ الْحَاكِم أَكثر مُسلم الاستشهاد بِهِ

وَقَالَ البُخَارِيّ لم يكن لَهُ كتاب فاضطرب حَدِيثه عَن يحيى

وَقَالَ معَاذ بن معَاذ سَمِعت عِكْرِمَة بن عمار يَقُول أحرج على رجل يرى الْقدر إِلَّا قَامَ فَخرج عني فَإِنِّي لَا أحدثه

وَكَانَت الْبَصْرَة عش الْقَدَرِيَّة

وَفِي صَحِيح مُسلم قد سَاق لَهُ أصلا مُنْكرا عَن سماك الْحَنَفِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي الثَّلَاثَة الَّتِي طلبَهَا أَبُو سُفْيَان وَثَلَاثَة أَحَادِيث أخر بِالْإِسْنَادِ

وَأَبُو زميل بِضَم الزَّاي وَفتح الْمِيم واسْمه سماك بن الْوَلِيد الْحَنَفِيّ اليمامي ثمَّ الْكُوفِي

الْقسم السَّادِس مَا اخْتلف فِيهِ بتغيير بعض أَلْفَاظ الْمَتْن

وَهَذَا لَا يتعرتب عَلَيْهِ قدح فِي الْأَكْثَر وَذَلِكَ أَنه مِنْهُ مَا يُمكن الْجمع فِيهِ

وَمَا يُمكن الْجمع فِيهِ هُوَ فِي الْحَقِيقَة غير مُخْتَلف بل هُوَ مؤتلف وَمَا لَا يُمكن الْجمع فِيهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذ فِيهِ بالراجح إِن تبين رُجْحَان بعض الرِّوَايَات على بعض

وَيبقى الْإِشْكَال فِي نوع وَاحِد مِنْهُ وَهُوَ مَا لم يُمكن الْجمع فِيهِ وَلَا ظهر رُجْحَان بعض الرِّوَايَات فِيهِ على بعض

وَهَذَا لَا سَبِيل فِيهِ إِلَّا التَّوَقُّف وَهَذَا فِيمَا يظْهر نَادِر جدا لِأَنَّهُ يبعد مَعَ كَثْرَة المرجحات أَن لَا يجد الْعَالم النحرير مرجحا لإحدى الرِّوَايَات على غَيرهَا لَا سِيمَا بعد الْمُبَالغَة فِي الْبَحْث والتتبع

وَمن أَمْثِلَة الْقسم السَّادِس حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة ذِي الْيَدَيْنِ وَحَدِيث جَابر فِي قصَّة الْجمل وَحَدِيثه فِي وَفَاء دين أَبِيه

وَقد ذكرنَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة ذِي الْيَدَيْنِ وَمَا يتَعَلَّق بذلك على وَجه التَّفْصِيل فِي بحث المضطرب

ص: 742

وَاعْلَم أَن الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره من أَئِمَّة النَّقْد لم يتَعَرَّضُوا لِاسْتِيفَاء النَّقْد فِيمَا يتَعَلَّق بِالْمَتْنِ كَمَا تعرضوا لذَلِك فِي الْإِسْنَاد وَذَلِكَ لِأَن النَّقْد الْمُتَعَلّق بِالْإِسْنَادِ دَقِيق غامض لَا يُدْرِكهُ إِلَّا أَفْرَاد من أَئِمَّة الحَدِيث المعروفين بِمَعْرِِفَة علله بِخِلَاف النَّقْد الْمُتَعَلّق بِالْمَتْنِ فَإِنَّهُ يُدْرِكهُ كثير من الْعلمَاء الْأَعْلَام المشتغلين بالعلوم الشَّرْعِيَّة والباحثين عَن مسائلها الْأَصْلِيَّة والفرعية ككثير من الْمُفَسّرين وَالْفُقَهَاء وَأهل أصُول الْفِقْه وأصول الدّين

وَقد وهم هُنَا أنَاس فَظن بَعضهم أَن الْمُحدث لَيْسَ لَهُ أَن يتَعَرَّض للنقد من جِهَة الْمَتْن فَكَأَنَّهُ توهم ذَلِك من جعلهم وَظِيفَة الْمُحدث التَّعَرُّض للنقد من جِهَة الْإِسْنَاد أَنه يمْنَع من التَّعَرُّض للنقد من جِهَة الْمَتْن

مَعَ أَن مقصودهم بذلك بَيَان أَن النَّقْد من جِهَة الْإِسْنَاد هُوَ من خَصَائِصه لعدم اقتدار غَيره على ذَلِك

فَيَنْبَغِي لَهُ أَن لَا يقصر فِيمَا يطْلب مِنْهُ

فَإِذا قُم بذلك فَلهُ أَن يتَعَرَّض للنقد من جِهَة الْمَتْن إِذا ظهر لَهُ فِي الْمَتْن عِلّة قادحة فِيهِ فَحكمه حكم غَيره فَكَمَا أَن غَيره لَهُ أَن يتَعَرَّض للنقد من جِهَة الْمَتْن إِذا ظهر لَهُ مَا يُوجِبهُ فَلهُ هُوَ ذَلِك إِذا ظهر لَهُ مَا يُوجِبهُ بل هُوَ أرجح من غَيره

وَقد تعرض كثير من أَئِمَّة الحَدِيث للنقد من جِهَة الْمَتْن إِلَّا أَن ذَلِك قَلِيل جدا بِالنِّسْبَةِ لما تعرضوا لَهُ من النَّقْد من جِهَة الْإِسْنَاد لما عرفت

فَمن ذَلِك قَول الْإِسْمَاعِيلِيّ بعد أَن أورد الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن ابْن أبي أويس عَن أَخِيه عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ يلقى إِبْرَاهِيم أَبَاهُ آزر يَوْم الْقِيَامَة وعَلى وَجه آزر قترة الحَدِيث هَذَا خبر فِي صِحَّته نظر من جِهَة أَن إِبْرَاهِيم عَالم بِأَن الله لَا يخلف الميعاد فَكيف يَجْعَل مَا بِأَبِيهِ خزيا لَهُ مَعَ إخْبَاره بِأَن الله قد وعده أَن لَا يخزيه يَوْم يبعثون وأعلمه بِأَنَّهُ لَا خلف لوعده

وَقد أعل الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا الحَدِيث من جِهَة الْإِسْنَاد فَقَالَ هَذَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن

ص: 743

طهْمَان عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة

وَأجِيب عَن ذَلِك بِأَن البُخَارِيّ قد علق حَدِيث إِبْرَاهِيم بن طهْمَان فِي التَّفْسِير فَلم يهمل حِكَايَة الْخلاف فِيهِ

وَيَنْبَغِي للنَّاظِر فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن يبْحَث عَمَّا انتقد عَلَيْهِمَا من الْجِهَتَيْنِ فبذلك تتمّ لَهُ الدِّرَايَة فِيمَا يتَعَلَّق بالرواية

الْأَمر الثَّالِث قد أَشَارَ مُسلم فِي أول مُقَدّمَة صَحِيحه إِلَى الْبَاعِث لَهُ على تأليفه وَإِلَى مَا يُرِيد أَن يُورِدهُ فِيهِ من أَقسَام الحَدِيث حَيْثُ قَالَ

الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَصلى الله على خَاتم النَّبِيين وعَلى جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ أما بعد فَإنَّك يَرْحَمك الله بِتَوْفِيق خالقك ذكرت أَنَّك هَمَمْت بالفحص عَن تعرف الْأَخْبَار المأثورة عَن رَسُول الله ص = فِي سنَن الدّين وَأَحْكَامه وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالتَّرْغِيب والترهيب وَغير ذَلِك من صنوف الْإِسْنَاد بِالْأَسَانِيدِ الَّتِي بهَا نقلت وتداولها أهل الْعلم فِيمَا بَينهم فَأَرَدْت أرشدك الله أَن توقف على جُمْلَتهَا مؤلفة محصاة

وَسَأَلتنِي أَن ألخصها لَك فِي التَّأْلِيف بِلَا تكْرَار يكثر فَإِن ذَلِك زعمت يشغلك عَمَّا لَهُ قصدت من التفهم فِيهَا والاستنباط مِنْهَا وللذي سَأَلت أكرمك الله حِين رجعت إِلَى تدبره وَمَا يؤول إِلَيْهِ الْحَال إِن شَاءَ الله عَاقِبَة محمودة وَمَنْفَعَة مَوْجُودَة

وظننت حِين سَأَلتنِي تجشم ذَلِك أَن لَو عزم لي عَلَيْهِ وَقضي لَهُ تَمَامه كَانَ أول من يُصِيبهُ نفع ذَلِك إيَّايَ خَاصَّة قبل غَيْرِي من النَّاس لأسباب كَثِيرَة يطول بذكرها الْوَصْف إِلَّا أَن جملَة ذَلِك أَن ضبط الْقَلِيل من هَذَا الشَّأْن وإتقانه أيسر على الْمَرْء من معالجة الْكثير مِنْهُ وَلَا سِيمَا عِنْد من لَا تَمْيِيز عِنْده من الْعَوام إِلَّا بِأَن يوقفه على التَّمْيِيز غَيره

ص: 744

وَإِذا كَانَ الْأَمر فِي هَذَا كَمَا وصفناه فالقصد مِنْهُ إِلَى الصَّحِيح الْقَلِيل أولى بهم من ازدياد السقيم وَإِنَّمَا يُرْجَى بعض الْمَنْفَعَة فِي الاستكثار من هَذَا الشَّأْن وَجمع المكررات مِنْهُ لخاصة من النَّاس من رزق فِيهِ بعض التيقظ والمعرفة بأسبابه وَعلله فَذَلِك إِن شَاءَ الله يهجم بِمَا أُوتِيَ من ذَلِك على الْفَائِدَة فِي الاستكثار من جمعه فإمَّا عوام النَّاس الَّذين هم بِخِلَاف مَعَاني الْخَاص من أهل التيقظ والمعرفة فَلَا معنى لَهُم فِي طلب الْكثير وَقد عجزوا عَن معرفَة الْقَلِيل

ثمَّ إِنَّا إِن شَاءَ الله مبتدئون فِي تَخْرِيج مَا سَأَلت عَنهُ وتأليفه على شريطة سَوف أذكرها وَهُوَ أَنا نعمد إِلَى جملَة مَا أسْند من الْأَخْبَار عَن رَسُول الله ص = فنقسمها على ثَلَاثَة أَقسَام وَثَلَاث طَبَقَات من النَّاس على غير تكْرَار إِلَّا أَن يَأْتِي مَوضِع لَا يسْتَغْنى فِيهِ عَن ترداد حَدِيث فِيهِ زِيَادَة معنى أَو إِسْنَاد يَقع إِلَى جنب إِسْنَاد لعِلَّة تكون هُنَاكَ لِأَن الْمَعْنى الزَّائِد فِي الحَدِيث الْمُحْتَاج إِلَيْهِ يقوم مقَام حَدِيث تَامّ فَلَا بُد من إِعَادَة الحَدِيث الَّذِي فِيهِ مَا وَصفنَا من الزِّيَادَة أَو أَن يفصل ذَلِك الْمَعْنى من جملَة الحَدِيث على اختصاره إِذا أمكن وَلَكِن تَفْصِيله رُبمَا عسر من جملَته فإعادته بهيئته إِذا طاق ذَلِك أسلم

فَأَما مَا وجدنَا بدا من إِعَادَته بجملته من غير حَاجَة منا إِلَيْهِ فَلَا نتولى فَصله إِن شَاءَ الله تَعَالَى

فَأَما الْقسم الأول فَإنَّا نتوخى أَن نقدم الْأَخْبَار الَّتِي هِيَ أسلم من الْعُيُوب من غَيرهَا وأنقى من أَن يكون ناقلها أهل استقامة فِي الحَدِيث وإتقان لما نقلوا لم يُوجد فِي روايتهم اخْتِلَاف شَدِيد وَلَا تَخْلِيط فَاحش كَمَا قد عثر فِيهِ على كثير من الْمُحدثين وَبَان ذَلِك فِي حَدِيثهمْ

فَإِذا نَحن تقصينا أَخْبَار هَذَا الصِّنْف من النَّاس أتبعناها أَخْبَارًا يَقع فِي أسانيدها بعض من لَيْسَ بالموصوف بِالْحِفْظِ والإتقان كالصنف الْمُقدم قبلهم على أَنهم وَإِن كَانُوا فِيمَا وَصفنَا دونهم فَإِن اسْم السّتْر والصدق وتعاطي الْعلم يشملهم كعطاء بن السَّائِب وَيزِيد بن أبي زِيَاد وَلَيْث بن أبي سليم وأضرابهم من حمال

ص: 745

الْآثَار ونقال الْأَخْبَار فهم وَإِن كَانُوا بِمَا وَصفنَا من الْعلم والستر عِنْد أهل الْعلم معروفين فغيرهم من أقرانهم مِمَّن عِنْدهم مَا ذكرنَا من الإتقان والاستقامة فِي الرِّوَايَة يفضلونهم فِي الْحَال والمرتبة

ثمَّ ذكر أَنه لَا يخرج فِيهِ الْأَحَادِيث المروية عَن قوم هم عِنْد أهل الحَدِيث أَو عِنْد الْأَكْثَر مِنْهُم متهمون وَكَذَلِكَ من الْغَالِب على حَدِيثهمْ الْمُنكر أَو الْغَلَط وَأَن عَلامَة الْمُنكر فِي حَدِيث الْمُحدث أَن تخَالف رِوَايَته رِوَايَة غَيره من أهل الْحِفْظ أَو لَا تكَاد توافقها فَإِذا كَانَ الْأَغْلَب من حَدِيثه ذَلِك كَانَ مهجور الحَدِيث غير مقبوله

ثمَّ قَالَ وَقد شرحنا من مَذْهَب الحَدِيث وَأَهله بعض مَا يتَوَجَّه بِهِ من أَرَادَ سَبِيل الْقَوْم ووفق لَهَا وسنزيد إِن شَاءَ الله تَعَالَى شرحا عِنْد ذكر الْأَخْبَار المعللة إِذا أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي الْأَمَاكِن الَّتِي يَلِيق بهَا الشَّرْح والإيضاح إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَبعد يَرْحَمك الله فلولا الَّذِي رَأينَا من سوء صنع كثير مِمَّن نصب نَفسه مُحدثا فِيمَا يلْزمهُم من طرح الْأَحَادِيث الضعيفة وَالرِّوَايَات الْمُنكرَة وتركهم الِاقْتِصَار على الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة مِمَّا نَقله الثِّقَات المعروفون بِالصّدقِ وَالْأَمَانَة بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أَن كثيرا مِمَّا يقذفون بِهِ إِلَى الأغبياء من النَّاس هُوَ مستنكر عَن قوم غير مرضيين مِمَّن ذمّ الرِّوَايَة عَنْهُم أَئِمَّة الحَدِيث مثل مَالك بن أنس وَشعْبَة بن الْحجَّاج وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَيحيى بن سعيد الْقطَّان وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَغَيرهم من الْأَئِمَّة لما سهل علينا الانتصاب لما سَأَلت من التَّمْيِيز والتحصيل وَلَكِن من أجل مَا أعلمناك من نشر الْقَوْم الْأَخْبَار الْمُنكرَة بِالْأَسَانِيدِ الضِّعَاف المجهولة وقذفهم بهَا إِلَى الْعَوام الَّذين لَا يعْرفُونَ عيوبها خف على قُلُوبنَا إجابتك على مَا سَأَلت

وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا ذكره مُسلم هُنَا وَهُوَ أَنه يقسم الْأَحَادِيث ثَلَاثَة أَقسَام الأول مَا رَوَاهُ الْحفاظ المتقنون

وَالثَّانِي مَا رَوَاهُ المستورون المتوسطون فِي

ص: 746

الْحِفْظ والإتقان

وَالثَّالِث مَا رَوَاهُ الضُّعَفَاء والمتروكون وَأَنه إِذا فرغ من الْقسم الأول أتبعه الثَّانِي وَأما الثَّالِث فَلَا يتشاغل بِهِ وَلَا يعرج عَلَيْهِ

فَقَالَ بَعضهم إِن مُسلما كَانَ أَرَادَ أَن يفرد لكل قسم من الْقسمَيْنِ كتابا فاخترمته الْمنية قبل إِخْرَاج الْقسم الثَّانِي وَإنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بالقسم الأول

وَقَالَ بَعضهم إِن مُسلما قد ذكر فِي كِتَابه حَدِيث الطبقتين الْأَوليين وأتى بِحَدِيث الثَّانِيَة مِنْهُمَا على طَرِيق الإتباع للأولى والاستشهاد أَو حَيْثُ لم يجد للطبقة الأولى شَيْئا وَذكر فِيهِ أَقْوَامًا تكلم فيهم قوم وزكاهم آخَرُونَ مِمَّن ضعف أَو اتهمَ ببدعة وَخرج حَدِيثهمْ

وَكَذَلِكَ فعل البُخَارِيّ وَكَذَلِكَ علل الحَدِيث الَّتِي ذكر ووعد بِأَنَّهُ يَأْتِي بهَا فقد جَاءَ بهَا فِي موَاضعهَا من الْأَبْوَاب من اخْتلَافهمْ فِي الْأَسَانِيد كالإرسال والإسناد وَالنَّقْص وَالزِّيَادَة وَذكر تَصْحِيف المصحفين فَيكون مُسلم قد استوفى غَرَضه فِي تأليفه وَأدْخل فِي كِتَابه كل مَا وعد بِهِ وَهُوَ ظَاهر لمن تَأمل الْكتاب وأمعن النّظر فِي كثير من الْأَبْوَاب

وعَلى هَذَا يَنْبَغِي لمن يشْتَغل بِصَحِيح مُسلم أَن ينتبه إِلَى ذَلِك ليَكُون على بَصِيرَة فِي أمره

وَمن تدبر الْأُمُور الَّتِي ذكرنَا أَن من يُرِيد معرفَة الصَّحِيحَيْنِ كَمَا يَنْبَغِي يَنْبَغِي لَهُ أَن يتَنَبَّه إِلَيْهَا ويبحث عَنْهَا تبين لَهُ أَنه لَا يُوجد فِي مَجْمُوع شروحهما الْمَشْهُورَة مَا يَفِي بذلك وَلم يستغرب قَول كثير من عُلَمَاء الْمغرب شرح كتاب البُخَارِيّ دين على الْأمة

يعنون أَن عُلَمَاء الْأمة لم يفوا بِمَا يجب لَهُ من الشَّرْح على الْوَجْه الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ

وَقد ذكر بعض أَرْبَاب الْأَخْبَار مِمَّن أشرف من كل فن من الْفُنُون الْمَشْهُورَة على طرف مِنْهَا أَن النَّاس إِنَّمَا استصعبوا شَرحه من أجل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من معرفَة

ص: 747

الطّرق المتعددة ورجالها من أهل الْحجاز وَالشَّام وَالْعراق وَمَعْرِفَة أَحْوَالهم وَاخْتِلَاف النَّاس فيهم

وَكَذَلِكَ يحْتَاج إِلَى إمعان النّظر فِي تراجمه فَإِنَّهُ يترجم التَّرْجَمَة ويورد فِيهَا الحَدِيث بِسَنَد وَطَرِيق ثمَّ يترجم أُخْرَى وفيهَا ذَلِك الحَدِيث بِعَيْنِه لما تضمنه من الْمَعْنى الَّذِي ترْجم بِهِ الْبَاب

وَكَذَلِكَ فِي تَرْجَمَة وترجمة إِلَى أَن يتَكَرَّر الحَدِيث فِي أَبْوَاب كَثِيرَة بِحَسب مَعَانِيه واختلافها

وَأَن من شَرحه وَلم يسْتَوْف هَذَا لم يقف بِحَق الشَّرْح وَأَن قَول من قَالُوا شرح البُخَارِيّ دين على الْأمة

يعنون بِهِ أَن أحدا من عُلَمَاء الْأمة لم يَفِ بِمَا يجب لَهُ من الشَّرْح بِهَذَا الِاعْتِبَار

وَلَا يخفى أَن معرفَة وَجه الْجمع بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث لَيْسَ من الْأَعْرَاض الَّتِي تهم كثيرا طَالب علم الحَدِيث

على أَن الْمَوَاضِع الَّتِي لم يظْهر فِيهَا وَجه الْجمع بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث هِيَ قَليلَة جدا

وَسبب ذَلِك يظْهر مِمَّا ذكره الْبَاجِيّ فِي مُقَدّمَة كِتَابه فِي أَسمَاء رجال البُخَارِيّ حَيْثُ قَالَ أَخْبرنِي الْحَافِظ أَبُو ذَر عبد بن أَحْمد الْهَرَوِيّ قَالَ حَدثنَا الْحَافِظ

ص: 748

أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الْمُسْتَمْلِي قَالَ انتسخت كتاب البُخَارِيّ من أَصله الَّذِي كَانَ عِنْد صَاحبه مُحَمَّد بن يُوسُف الْفربرِي فَرَأَيْت فِيهِ أَشْيَاء لم تتمّ وَأَشْيَاء مبيضة مِنْهَا تراجم لم يثبت بعْدهَا شَيْئا وَمِنْهَا أَحَادِيث لم يترجم لَهَا فأضفنا بعض ذَلِك إِلَى بعض

قَالَ الْبَاجِيّ وَإِنَّمَا أوردت هَذَا هُنَا لما عني بِهِ أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث الَّذِي يَليهَا وتكلفهم من ذَلِك من تعسف التَّأْوِيل مَا لَا يسوغ

قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر قلت هَذِه قَاعِدَة حَسَنَة يفزع إِلَيْهَا حَيْثُ يتعسر الْجمع بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث وَهِي مَوَاضِع قَليلَة جدا ستظهر كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى

فَالَّذِي يهم طَالب علم الحَدِيث لذاته كثيرا فِي كل بَاب إِنَّمَا هُوَ معرفَة مَا صَحَّ فِيهِ من الحَدِيث وَمَعْرِفَة إِسْنَاده الَّذِي تتَوَقَّف عَلَيْهِ صِحَّته

وَأما مَا ذكره من معرفَة الطّرق المتعددة ورجالها وَمَعْرِفَة أَحْوَالهم وَاخْتِلَاف النَّاس فيهم فَإِن هَذَا أَمر لَيْسَ بالصعب الوعر المسلك الْبعيد الْمدْرك بل كَثِيرُونَ مِمَّن هم دون شراحه فِي معرفَة عُلُوم الحَدِيث يحسنون ذَلِك ويقدرون على الْقيام بِمَا يلْزم من ذَلِك

على أَن الشَّيْخَيْنِ لَا سِيمَا البُخَارِيّ لم يَكُونَا ينْظرَانِ فِي التَّصْحِيح والتضعيف إِلَى مُجَرّد الْإِسْنَاد بل ينْظرَانِ إِلَى أُمُور أُخْرَى كَمَا سبق بَيَانه

فَالْوَاجِب فِي الشَّرْح الوافي بالمرام أَن يكون فِيهِ وَرَاء مَا ذكر بَيَان دَرَجَة كل حَدِيث فِيهِ وَبَيَان وَجه الْجمع بَينه وَبَين غَيره إِذا كَانَ مُعَارضا لَهُ عِنْد إِمْكَان الْجمع وَبَيَان الرَّاجِح من المتعارضين عِنْد عدم إِمْكَان الْجمع إِلَى غير ذَلِك من المطالب المهمة

ولنرجع إِلَى الْمَقْصُود بِالذَّاتِ فِي هَذَا الْفَصْل وَهُوَ الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فَنَقُول لَا خلاف فِي أَن الأولى إِيرَاد الحَدِيث بِلَفْظِهِ دون التَّصَرُّف فِيهِ إِلَّا أَنه قد يضْطَر فِي بعض الْمَوَاضِع إِلَى الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى وَذَلِكَ فِيمَا إِذا لم يستحضر الرَّاوِي اللَّفْظ وَإِنَّمَا بَقِي مَعْنَاهُ فِي ذهنه فَلَو لم تجوز لَهُ الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى ضَاعَ الحكم الْمُسْتَفَاد مِنْهُ فَكَانَ فِي ذَلِك مفْسدَة لَا سِيمَا إِن كَانَ الحكم من الْأَحْكَام المهمة الَّتِي تضطر إِلَى

ص: 749

مَعْرفَتهَا الْأمة فَلم يكن بُد من تَجْوِيز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فِي هَذِه الصُّورَة

وشرطوا أَن يكون الرَّاوِي بِالْمَعْنَى من العارفين بمدلولات الْأَلْفَاظ الواقفين على مَا يحِيل مَعَانِيهَا بِحَيْثُ إِذا غير الْأَلْفَاظ لم يتَغَيَّر معنى الأَصْل بِوَجْه من الْوُجُوه

وَشرط بَعضهم مَعَ ذَلِك أَن يُشِير إِلَى أَن رِوَايَته قد حصلت بِالْمَعْنَى

إِلَّا أَنه بعد الْبَحْث والتتبع تبين أَن كثيرا مِمَّن روى بِالْمَعْنَى قد قصر فِي الْأَدَاء وَلذَلِك قَالَ بَعضهم يَنْبَغِي سد بَاب الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لِئَلَّا يتسلط من لَا يحسن مِمَّن يظنّ أَنه يحسن كَمَا وَقع لكثير من الروَاة قَدِيما وحديثا

وَقد نَشأ عَن الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى ضَرَر عَظِيم حَتَّى عد من جملَة أَسبَاب اخْتِلَاف الْأمة قَالَ بعض المؤلفين فِي ذَلِك فِي مُقَدّمَة كِتَابه إِن الْخلاف قد عرض للْأمة من ثَمَانِيَة أوجه

وَجَمِيع وُجُوه الْخلاف مُتَوَلّدَة مِنْهَا ومتفرعة عَنْهَا

الأول مِنْهَا اشْتِرَاك الْأَلْفَاظ واحتمالها للتأويلات الْكَثِيرَة

الثَّانِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز

الثَّالِث الْإِفْرَاد والتركيب

الرَّابِع الْخُصُوص والعموم

الْخَامِس الرِّوَايَة وَالنَّقْل

السَّادِس الِاجْتِهَاد فِيمَا لَا نَص فِيهِ

السَّابِع النَّاسِخ والمنسوخ

الثَّامِن الْإِبَاحَة والتوسيع

وَقَالَ فِي بَاب الْخلاف الْعَارِض من جِهَة الرِّوَايَة وَالنَّقْل هَذَا الْبَاب لَا تتمّ الْفَائِدَة الَّتِي قصدناها مِنْهُ إِلَّا بِمَعْرِِفَة الْعِلَل الَّتِي تعرض للْحَدِيث فتحيل مَعْنَاهُ فَرُبمَا أوهمت فِيهِ مُعَارضَة بعضه لبَعض وَرُبمَا ولدت فِيهِ إشْكَالًا يحوج الْعلمَاء إِلَى طلب التَّأْوِيل الْبعيد

ص: 750

فَاعْلَم أَن الحَدِيث الْمَأْثُور عَن رَسُول الله ص = وَعَن أَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم تعرض لَهُ ثَمَانِي علل أولاها فَسَاد الْإِسْنَاد

وَالثَّانيَِة من جِهَة نقل الحَدِيث على مَعْنَاهُ دون لَفظه

وَالثَّالِثَة من جِهَة الْجَهْل بالإعراب

وَالرَّابِعَة من جِهَة التَّصْحِيف

وَالْخَامِسَة من جِهَة إِسْقَاط شَيْء من الحَدِيث لَا يتم الْمَعْنى إِلَّا بِهِ

وَالسَّادِسَة أَن ينْقل الْمُحدث الحَدِيث ويغفل السَّبَب الْمُوجب لَهُ أَو بِسَاط الْأَمر الَّذِي جر ذكره

السَّابِع أَن يسمع الْمُحدث بعض الحَدِيث ويفوته سَماع بعضه

الثَّامِنَة نقل الحَدِيث من الصُّحُف دون لِقَاء الشُّيُوخ

وَقد أحببنا أَن نقتصر مِمَّا ذكر على مَا هُوَ أمس بِمَا نَحن بصدده

الْعلَّة الأولى وَهِي فَسَاد الْإِسْنَاد

وَهَذِه الْعلَّة هِيَ أشهر الْعِلَل عِنْد النَّاس حَتَّى إِن كثيرا مِنْهُم يتَوَهَّم أَنه إِذا صَحَّ الْإِسْنَاد صَحَّ الحَدِيث وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ قد يتَّفق أَن يكون رُوَاة الحَدِيث مشهورين بِالْعَدَالَةِ معروفين بِصِحَّة الدّين وَالْأَمَانَة غير مطعون عَلَيْهِم وَلَا مستراب بنقلهم ويعرض مَعَ ذَلِك لأحاديثهم أَعْرَاض على وُجُوه شَتَّى من غير قصد مِنْهُم إِلَى ذَلِك

والإسناد يعرض لَهُ الْفساد من أوجه مِنْهَا الْإِرْسَال وَعدم الِاتِّصَال وَمِنْهَا أَن يكون بعض رُوَاته صَاحب بِدعَة أَو مُتَّهمًا بكذب وَقلة ثِقَة أَو مَشْهُورا ببلة وغفلة أَو يكون متعصبا لبَعض الصَّحَابَة منحرفا عَن بَعضهم فَإِن من كَانَ مَشْهُورا بالتعصب ثمَّ روى حَدِيثا فِي تَفْضِيل من يتعصب لَهُ وَلم يرد من غير طَرِيقه لزم أَن يستراب بِهِ

وَذَلِكَ أَن إفراط عصبية الْإِنْسَان لمن يتعصب لَهُ وَشدَّة محبته يحملهُ على افتعال الحَدِيث وَإِن لم يفتعله بدله وَغير بعض حُرُوفه

وَمِمَّا يبْعَث على الاسترابة بِنَقْل النَّاقِل أَن يعلم مِنْهُ حرص على الدُّنْيَا وتهافت على الِاتِّصَال بالملوك ونيل المكانة والحظوة عِنْدهم فَإِن من كَانَ بِهَذِهِ الصّفة لم يُؤمن عَلَيْهِ التَّغْيِير والتبديل والافتعال للْحَدِيث وَالْكذب حرصا على مكسب يحصل عَلَيْهِ أَلا ترى قَول الْقَائِل

(وَلست وَإِن قربت يَوْمًا ببائع

خلاقي وَلَا ديني ابْتِغَاء التحبب)

ص: 751

(ويعتده قوم كثير تِجَارَة

ويمنعني من ذَاك ديني ومنصبي)

وَقد رُوِيَ أَن قوما من الْفرس وَالْيَهُود وَغَيرهم لما رَأَوْا الْإِسْلَام قد ظهر وَعم ودوخ وأذل جَمِيع الْأُمَم وَرَأَوا أَنه لَا سَبِيل إِلَى مناصبته رجعُوا إِلَى الْحِيلَة والمكيدة فأظهروا الْإِسْلَام من غير رَغْبَة فِيهِ وَأخذُوا أنفسهم بالتعبد والتقشف فَلَمَّا حمد النَّاس طريقتهم ولدُوا الْأَحَادِيث والمقالات وَفرقُوا النَّاس فرقا

وَإِذا كَانَ عمر بن الْخطاب يتشدد فِي الحَدِيث ويتوعد عَلَيْهِ وَالزَّمَان زمَان وَالصَّحَابَة متوافرون والبدع لم تظهر وَالنَّاس فِي الْقرن الَّذِي أثنى عَلَيْهِ رَسُول الله ص = فَمَا ظَنك بِالْحَال فِي الْأَزْمِنَة الَّتِي ذمها وَقد كثرت الْبدع وَقلت الْأَمَانَة

وللبخاري أبي عبد الله فِي هَذَا الْكتاب عناء مشكور وسعي مبرور

وَكَذَلِكَ لمُسلم وَابْن معِين فَإِنَّهُم انتقدوا الحَدِيث وحرروه ونبهوا على ضعفاء الْمُحدثين والمتهمين بِالْكَذِبِ حَتَّى ضج من ذَلِك من كَانَ فِي عصرهم وَكَانَ ذَلِك أحد الْأَسْبَاب الَّتِي أوغرت صُدُور الْفُقَهَاء على البُخَارِيّ فَلم يزَالُوا يرصدون لَهُ المكاره حَتَّى أمكنتهم فِيهِ فرْصَة بِكَلِمَة قَالَهَا فكفروه بهَا وامتحنوه وطردوه من مَوضِع إِلَى مَوضِع

ص: 752

الْعلَّة الثَّانِيَة وَهِي نقل الحَدِيث على الْمَعْنى دون اللَّفْظ بِعَيْنِه

وَهَذَا بَاب يعظم الْغَلَط فِيهِ جدا وَقد نشأت مِنْهُ بَين النَّاس شغوب شنيعة وَذَاكَ أَن أَكثر الْمُحدثين لَا يراعون أَلْفَاظ النَّبِي ص = الَّتِي نطق بهَا وَإِنَّمَا ينقلون إِلَى من بعدهمْ معنى مَا أَرَادَهُ بِأَلْفَاظ أُخْرَى وَلذَلِك نجد الحَدِيث الْوَاحِد فِي الْمَعْنى الْوَاحِد يرد بِأَلْفَاظ شَتَّى ولغات مُخْتَلفَة يزِيد بعض ألفاظها على بعض على أَن اخْتِلَاف أَلْفَاظ الحَدِيث قد يعرض من أجل تَكْرِير النَّبِي ص = لَهُ فِي مجَالِس مُخْتَلفَة وَمَا كَانَ من الحَدِيث بِهَذِهِ الصّفة فَلَيْسَ كلامنا فِيهِ وَإِنَّمَا كلامنا فِي اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ الَّذِي يعرض من أجل نقل الحَدِيث على الْمَعْنى

وَوجه الْغَلَط الْوَاقِع من هَذِه الْجِهَة أَن النَّاس يتفاضلون فِي قرائحهم وأفهامهم كَمَا يتفاضلون فِي صورهم وألوانهم وَغير ذَلِك من أُمُورهم وأحوالهم فَرُبمَا اتّفق أَن يسمع الرَّاوِي الحَدِيث من النَّبِي ص = أَو من غَيره فيتصور مَعْنَاهُ فِي نَفسه على غير الْجِهَة الَّتِي أرادها وَإِن عبر عَن ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي

ص: 753

تصور فِي نَفسه بِأَلْفَاظ أخر كَانَ قد حدث بِخِلَاف مَا سمع من يغر قصد مِنْهُ إِلَى ذَلِك

وَذَلِكَ أَن الْكَلَام الْوَاحِد قد يحْتَمل مَعْنيين وَثَلَاثَة وَقد يكون فِيهِ اللَّفْظَة الْمُشْتَركَة الَّتِي تقع على الشَّيْء وضده فَفِي مثل هَذَا يجوز أَن يذهب النَّبِي ص = إِلَى الْمَعْنى الْوَاحِد وَيذْهب الرَّاوِي عَنهُ إِلَى الْمَعْنى الآخر فَإِذا أدّى معنى مَا سمع دون لَفظه بِعَيْنِه كَانَ قد روى عَنهُ ضد مَا أَرَادَهُ غير عَامِد وَلَو أدّى لَفظه بِعَيْنِه لَأَوْشَكَ أَن يفهم مِنْهُ الآخر مَا لم يفهم الأول وَقد علم ص = أَن هَذَا سيعرض بعده فَقَالَ محذرا من ذَلِك (نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها وأداها كَمَا سَمعهَا فَرب مبلغ أوعى من سامع)

وَإِن أَحْبَبْت أَن تعرف مِقْدَار مَا قد تُؤدِّي إِلَيْهِ الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فيكفيك أَن تنظر فِي الحَدِيث الَّذِي انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ مُسلم فِي صَحِيحه من رِوَايَة الْوَلِيد بن مُسلم قَالَ حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ عَن قَتَادَة أَنه كتب إِلَيْهِ يُخبرهُ عَن أنس بن مَالك أَنه حَدثهُ فَقَالَ صليت خلف النَّبِي ص = وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَكَانُوا يستفتحون بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين لَا يذكرُونَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي أول قِرَاءَة وَلَا آخرهَا

ثمَّ رَوَاهُ من رِوَايَة الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ أَخْبرنِي إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة أَنه سمع أنسا يذكر ذَلِك

وروى مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن حميد عَن أنس قَالَ صليت وَرَاء أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فكلهم كَانَ لَا يقْرَأ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

وَزَاد فِيهِ الْوَلِيد بن مُسلم عَن مَالك صليت خلف رَسُول الله ص =

وَقد أعل بعض الْمُحدثين الحَدِيث الْمَذْكُور وَقَالُوا إِن من رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور قد رَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَقع فِي نَفسه فَإِنَّهُ فهم من قَول أنس كَانُوا يستفتحون بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين أَنهم كَانُوا لَا يذكرُونَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَرَوَاهُ على مَا فهم وَأَخْطَأ لِأَن مُرَاد أنس بَيَان أَن السُّورَة الَّتِي كَانُوا يفتتحون بهَا من السُّور

ص: 754

هِيَ الْفَاتِحَة وَلَيْسَ مُرَاده بذلك أَنهم كَانُوا لَا يذكرُونَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

فَانْظُر إِلَى مَا أدَّت إِلَيْهِ الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى على قَول هَؤُلَاءِ حَتَّى نَشأ بذلك من الِاخْتِلَاف فِي هَذَا الْأَمر المهم مَا لَا يخفى على ناظره

وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الصَّحِيح الْمُتَعَلّقَة بِدُخُول الْجنَّة بِمُجَرَّد الشَّهَادَة مثل حَدِيث من مَاتَ وَهُوَ يعلم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة

وَحَدِيث من شهد أَن لَا إِلَه إِلَى الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله حرم الله عَلَيْهِ النَّار

وَحَدِيث لَا يشْهد أحد أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله فَيدْخل النَّار أَو تطعمه يجوز أَن يكون ذَلِك اقتصارا من بعض الروَاة نَشأ من تَقْصِيره فِي الْحِفْظ والضبط لَا من رَسُول الله ص = بِدلَالَة مَجِيئه تَاما فِي رِوَايَة غَيره وَيجوز أَن يكون اختصارا من رَسُول الله فِيمَا خَاطب بِهِ الْكفَّار عَبدة الْأَوْثَان الَّذين كَانَ توحيدهم لله تَعَالَى مصحوبا بِسَائِر مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْإِسْلَام ومستلزما لَهُ

وَاعْلَم أَن الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى قد أحسن بضررها كثير من الْعلمَاء وَشَكوا مِنْهَا على اخْتِلَاف علومهم غير أَن مُعظم ضررها كَانَ فِي الحَدِيث وَالْفِقْه لعظم أَمرهمَا وَقد نسب لكثير من الْعلمَاء الْأَعْلَام أَقْوَال بعيدَة عَن السداد جدا اتخذها كثير من خصومهم ذَرِيعَة لِلطَّعْنِ فيهم والازدراء بهم ثمَّ تبين بعد الْبَحْث الشَّديد والتتبع أَنهم لم يَقُولُوا بهَا وَإِنَّمَا نشأت نسبتها إِلَيْهِم من أَقْوَال رَوَاهَا الرَّاوِي عَنْهُم بِالْمَعْنَى فقصر فِي التَّعْبِير عَمَّا قَالُوهُ فَكَانَ من ذَلِك مَا كَانَ

فَيَنْبَغِي لكل ذِي نباهة أَن لَا يُبَادر بالاعتراض على الْمَشْهُورين بِالْفَضْلِ والنبل بِمُجَرَّد أَن يبلغهُ قَول ينبو السّمع عَنهُ عَن أحد مِنْهُم وليتثبت فِي ذَلِك وَإِلَّا كَانَ جَدِيرًا بالملام

هَذَا وَقد تعرض الْعَلامَة النحرير نجم الدّين أَحْمد بن حمدَان الْحَرَّانِي الْحَنْبَلِيّ للضَّرَر الَّذِي نَشأ من الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فِي مذْهبه فَقَالَ فِي آخر كتاب صفة الْمُفْتِي فِي بَاب جعله لبَيَان عُيُوب التَّأْلِيف وَغير ذَلِك ليعرف الْمُفْتِي كَيفَ يتَصَرَّف فِي الْمَنْقُول

ص: 755

وَيقف على مُرَاد الْقَائِل مَا يَقُول ليَصِح نَقله للْمَذْهَب وَعَزوه إِلَى الإِمَام أَو إِلَى بعض من إِلَيْهِ ينْسب

اعْلَم أَن أعظم المحاذير فِي التَّأْلِيف النقلي إهمال نقل الْأَلْفَاظ بِأَعْيَانِهَا والاكتفاء بِنَقْل الْمعَانِي مَعَ قُصُور النَّاقِل عَن اسْتِيفَاء مُرَاد الْمُتَكَلّم الأول بِلَفْظِهِ وَرُبمَا كَانَت بَقِيَّة الْأَسْبَاب مفرعة عَنهُ لِأَن الْقطع بِحُصُول مُرَاد الْمُتَكَلّم بِكَلَامِهِ أَو الْكَاتِب بكتابه مَعَ ثِقَة الرَّاوِي تتَوَقَّف على انْتِفَاء الْإِضْمَار والتخصيص والنسخ والتقديم وَالتَّأْخِير والاشتراك والتجوز وَالتَّقْدِير وَالنَّقْل والمعارض الْعقلِيّ

فَكل نقل لَا يُؤمن مَعَه حُصُول بعض الْأَسْبَاب لَا نقطع بانتفائها نَحن وَلَا النَّاقِل وَلَا نظن عدمهَا وَلَا قرينَة تنفيها وَلَا نجزم فِيهِ بِمُرَاد الْمُتَكَلّم بل رُبمَا ظنناه أَو توهمناه

وَلَو نقل لَفظه بِعَيْنِه وقرائنه وتاريخه وأسبابه انْتَفَى هَذَا الْمَحْذُور أَو أَكْثَره

وَهَذَا من حَيْثُ الْإِجْمَال وَإِنَّمَا يحصل الظَّن بِهِ حِينَئِذٍ بِنَقْل المتحري فيعذر تَارَة لدعوى الْحَاجة إِلَى التَّصَرُّف لأسباب ظَاهِرَة وَيَكْفِي ذَلِك فِي الْأُمُور الظنية وَأكْثر الْمسَائِل الفروعية

وَأما التَّفْصِيل فَهُوَ أَنه لما ظهر التظاهر بمذاهب الْأَئِمَّة والتناصر لَهَا من عُلَمَاء الْأمة وَصَارَ لكل مَذْهَب مِنْهَا أحزاب وأنصار وَصَارَ دأب كل فريق نصر قَول صَاحبهمْ وَقد لَا يكون أحدهم اطلع على مَأْخَذ إِمَامه فِي ذَلِك الحكم فَتَارَة يُثبتهُ بِمَا أثْبته إِمَامه وَلَا يعلم بالموافقة وَتارَة يُثبتهُ بِغَيْرِهِ وَلَا يشْعر بالمخالفة

ومحذور ذَلِك مَا يستجيزه فَاعل هَذَا من تَخْرِيج أقاويل إِمَامه فِي مَسْأَلَة إِلَى مَسْأَلَة أُخْرَى والتفريع على مَا اعتقده مذهبا لَهُ بِهَذَا التَّعْلِيل وَهُوَ لهَذَا الحكم غير دَلِيل وَنسبَة الْقَوْلَيْنِ إِلَيْهِ بتخريجه وَرُبمَا حمل كَلَام الإِمَام فِيمَا خَالف نَظِيره على مَا يُوَافقهُ استمرارا لقاعدة تَعْلِيله وسعيا فِي تَصْحِيح تَأْوِيله وَصَارَ كل مِنْهُم ينْقل عَن الإِمَام مَا سَمعه مِنْهُ أَو بلغه عَنهُ من غير ذكر سَبَب لَا تَارِيخ فَإِن الْعلم بذلك قرينَة فِي فهم مُرَاده من ذَلِك اللَّفْظ كَمَا سبق

ص: 756

فيكثر لذَلِك الْخبط لِأَن الْآتِي بعده يجد عَن الإِمَام اخْتِلَاف أَقْوَال وَاخْتِلَاف أَحْوَال فيتعذر عَلَيْهِ نِسْبَة أَحدهمَا إِلَيْهِ على أَنه مَذْهَب لَهُ يجب مصير مقلده إِلَيْهِ دون بَقِيَّة أقاويله إِن كَانَ النَّاظر مُجْتَهدا وَأما إِن كَانَ مُقَلدًا فغرضه معرفَة مَذْهَب إِمَامه بِالنَّقْلِ عَنهُ وَلَا يحصل غَرَضه من جِهَة نَفسه لِأَنَّهُ لَا يحسن الْجمع وَلَا يعلم التَّارِيخ لعدم ذكره وَلَا التَّرْجِيح عِنْد التَّعَارُض بَينهمَا لتعذره مِنْهُ

وَهَذَا الْمَحْذُور إِنَّمَا لزم من الْإِخْلَال بِمَا ذَكرْنَاهُ فَيكون محذورا

وَلَقَد اسْتمرّ كثير من المصنفين والحاكمين على قَوْلهم مَذْهَب فلَان كَذَا وَمذهب فلَان كَذَا

فَإِن أَرَادوا بذلك

أَنه نقل عَنهُ فَقَط فَلم يفتون بِهِ فِي وَقت مَا على أَنه مَذْهَب الإِمَام وَإِن أَرَادوا أَنه الْمعول عَلَيْهِ عِنْده وَيمْتَنع الْمصير إِلَى غَيره للمقلد فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ إِمَّا أَن يكون التَّارِيخ مَعْلُوما أَو مَجْهُولا فَإِن كَانَ مَعْلُوما فَلَا يَخْلُو أَن يكون مَذْهَب إِمَامه أَن القَوْل الْأَخير ينْسَخ إِذا كَانَ مناقضا كالأخبار أَو لَيْسَ مذْهبه كَذَلِك بل يرى عدم نسخ الأول بِالثَّانِي

أَو لم ينْقل عَنهُ شَيْء من ذَلِك فَإِن كَانَ مذْهبه اعْتِقَاد النّسخ فالأخير مذْهبه فَلَا يجوز الْفَتْوَى بِالْأولِ للمقلد وَلَا التَّخْرِيج مِنْهُ وَلَا النَّقْض بِهِ وَإِن كَانَ مذْهبه أَنه لَا ينْسَخ الأول بِالثَّانِي عِنْد التَّنَافِي فإمَّا أَن يكون الإِمَام يرى جَوَاز الْأَخْذ بِأَيِّهِمَا شَاءَ الْمُقَلّد إِذا أفتاه الْمُفْتِي أَو يكون مذْهبه الْوَقْف أَو شَيْئا آخر فَإِن كَانَ مذْهبه القَوْل بالتخيير كَانَ الحكم وَاحِدًا وَإِلَّا تعدد مَا هُوَ خلاف الْغَرَض وَإِن كَانَ مِمَّن يرى الْوَقْف تعطل الحكم حِينَئِذٍ وَلَا يكون لَهُ فِيهَا قَول يعْمل عَلَيْهِ سوى الِامْتِنَاع من الْعَمَل بِشَيْء من أَقْوَاله

وَإِن لم ينْقل عَن إِمَامه شَيْء من ذَلِك فَهُوَ لَا يعرف حكم إِمَامه فِيهَا فَيكون شَبِيها بالْقَوْل بِالْوَقْفِ فِي أَنه يمْتَنع من الْعَمَل بِشَيْء مِنْهَا

هَذَا كُله إِن علم التَّارِيخ وَأما إِن جهل فإمَّا أَن يُمكن الْجمع بَين الْقَوْلَيْنِ باخْتلَاف حَالين أَو محلين أَو لَيْسَ يُمكن

ص: 757

فَإِن أمكن فإمَّا أَن يكون مَذْهَب إِمَامه جَوَاز الْجمع حِينَئِذٍ كَمَا فِي الْآثَار أَو وُجُوبه أَو التخير أَو الْوَقْف أَو لم ينْقل عَنهُ شَيْء من ذَلِك

فَإِن كَانَ الأول أَو الثَّانِي فَلَيْسَ لَهُ حِينَئِذٍ إِلَّا قَول وَاحِد وَهُوَ مَا اجْتمع مِنْهُمَا فَلَا يحل حِينَئِذٍ الْفتيا بِأَحَدِهِمَا على ظَاهره على وَجه لَا يُمكن الْجمع

وَإِن كَانَ الثَّالِث فمذهبه أَحدهمَا بِلَا تَرْجِيح وَهُوَ بعيد سِيمَا مَعَ تعذر تعادل الأمارات

وَإِن كَانَ الرَّابِع وَالْخَامِس فَلَا عمل إِذا

وَأما إِن لم يُمكن الْجمع مَعَ الْجَهْل بالتاريخ فإمَّا أَن يعْتَقد نسخ الأول بِالثَّانِي أَولا فَإِن كَانَ يعْتَقد ذَلِك وَجب الِامْتِنَاع عَن الْأَخْذ بِأَحَدِهِمَا لأَنا لَا نعلم أَيهمَا هُوَ الْمَنْسُوخ عِنْده وَإِن لم يعْتَقد النّسخ فإمَّا التَّخْيِير وَإِمَّا الْوَقْف أَو غَيرهمَا فَالْحكم فِي الْكل سبق

وَمَعَ هَذَا كُله فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى استحضار مَا اطلع عَلَيْهِ من نُصُوص إِمَامه عِنْد حِكَايَة بَعْضهَا مذهبا لَهُ

ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون إِمَامه يعْتَقد وجو تَجْدِيد الِاجْتِهَاد فِي ذَلِك أَولا فَإِن اعتقده وَجب عَلَيْهِ تجديده فِي كل حِين أَرَادَ حِكَايَة مذْهبه وَهَذَا يتَعَذَّر فِي مقدرَة الْبشر إِلَّا أَنِّي شَاءَ الله تَعَالَى لِأَن ذَلِك يَسْتَدْعِي الْإِحَاطَة بِمَا نقل عَن الإِمَام فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة على جِهَته فِي كل وَقت يسْأَل

وَمن لم يصنف كتبا فِي الْمَذْهَب بل أَخذ أَكثر مذْهبه من قَوْله وفتاويه كَيفَ يُمكن حصر ذَلِك عَنهُ هَذَا بعيد عَادَة

وَإِن لم يكن مَذْهَب إِمَامه وجوب تَجْدِيد الِاجْتِهَاد عِنْد نِسْبَة بَعْضهَا إِلَيْهِ مذهبا لَهُ ينظر فَإِن قيل رُبمَا لَا يكون مَذْهَب أحد القَوْل بِشَيْء من ذَلِك فضلا عَن الإِمَام قُلْنَا نَحن لم نجزم بِحكم فِيهَا بل رددنا نقل هَذِه الْأَشْيَاء عَن الإِمَام

وَقُلْنَا إِن كَانَ كَذَا لزم مِنْهُ كَذَا وَيَكْفِي فِي إيقاف إقدام هَؤُلَاءِ تكليفهم نقل هَذِه الْأَشْيَاء عَن الإِمَام وَمَعَ ذَلِك فكثير من هَذِه الْأَقْسَام قد ذهب إِلَيْهِ كثير من الْأَئِمَّة وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع بَيَانه فَلْينْظر من أماكنه

وَإِنَّمَا يقابلون هَذَا التَّحْقِيق بِكَثْرَة نقل الرِّوَايَات وَالْأَوْجه والاحتمالات

ص: 758

والتهجم على التَّخْرِيج والتفريع حَتَّى لقد صَار هَذَا عَادَة وفضيلة فَمن لم يَأْتِ بذلك لم يكن عِنْدهم بِمَنْزِلَة فالتزموا للحمية نقل مَا لَا يجوز نَقله لما عَلمته آنِفا

ثمَّ قد عَم أَكْثَرهم بل كلهم نقل أقاويل يجب الْإِعْرَاض عَنْهَا فِي نظرهم بِنَاء على كَونهَا قولا ثَالِثا وَهُوَ بَاطِل عِنْدهم أَو لِأَنَّهَا مُرْسلَة فِي سندها عَن قائها وَخَرجُوا مَا يكون بِمَنْزِلَة قَول ثَالِث بِنَاء على مَا يظْهر لَهُم من الدَّلِيل فَمَا هَؤُلَاءِ بمقلدين حِينَئِذٍ

وَقد يَحْكِي أحدهم فِي كِتَابه أَشْيَاء يتَوَهَّم المسترشد أَنَّهَا إِمَّا مَأْخُوذَة من نُصُوص الإِمَام أَو مِمَّا اتّفق الْأَصْحَاب على نسبتها إِلَى الإِمَام مذهبا لَهُ وَلَا يذكر الحاكي لَهُ مَا يدل على ذَلِك وَلَا أَنه اخْتِيَار لَهُ وَلَعَلَّه يكون قد استنبطه أَو رَآهُ وَجها لبَعض الْأَصْحَاب أَو احْتِمَال فَهَذَا أشبه بالتدليس فَإِن قَصده فَشبه المين وَإِن وَقع سَهوا أَو جهلا فَهُوَ أَعلَى مَرَاتِب البلادة والشين كَمَا قيل

(فَإِن كنت لَا تَدْرِي فَتلك مُصِيبَة

وَإِن كنت تَدْرِي فالمصيبة أعظم)

وَقد يحكون فِي كتبهمْ مَا لَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّته وَلَا يجوز عِنْدهم الْعَمَل بِهِ ويدفعهم إِلَى ذَلِك تَكْثِير الْأَقَاوِيل لِأَن من يَحْكِي عَن الإِمَام أقوالا متناقضة أَو يخرج خلاف الْمَنْقُول عَن الإِمَام فَإِنَّهُ لَا يعْتَقد الْجمع بَينهمَا على وَجه الْجمع بل إِمَّا التَّخْيِير أَو الْوَقْف أَو الْبَدَل أَو الْجمع بَينهَا على وَجه يلْزم عَنْهَا قَول وَاحِد بِاعْتِبَار حَالين أَو محلين وكل وَاحِد من هَذِه الْأَقْسَام حكمه خلاف حكم هَذِه الْحِكَايَة عِنْد تعريها عَن قرينَة مفيدة لذَلِك وَالْغَرَض كَذَلِك

وَقد يشْرَح أحدهم كتابا وَيجْعَل مَا يَقُوله صَاحب الْكتاب المشروح رِوَايَة أَو وَجها أَو اخْتِيَارا لصَاحب الْكتاب وَلم يكن ذكره عَن نَفسه أَو أَنه ظَاهر الْمَذْهَب من غير أَن يبين سَبَب شَيْء من ذَلِك وَهَذَا إِجْمَال وإهمال

وَقد يَقُول أحدهم الصَّحِيح من الْمَذْهَب أَو ظَاهر الْمَذْهَب كَذَا وَلَا يَقُول وَعِنْدِي وَيَقُول غَيره خلاف ذَلِك فَلَيْسَ يُقَلّد الْعَاميّ إِذا فَإِن كلا مِنْهُم يعْمل بِمَا يرى فالتقليد إِذا لَيْسَ للْإِمَام بل للأصحاب فِي أَن هَذَا مَذْهَب الإِمَام

ص: 759

ثمَّ إِن أَكثر المصنفين والحاكمين قد يفهمون معنى ويعبرون عَنهُ بِلَفْظ يتوهمون أَنه واف بالغرض وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِذا نظر أحد فِيهِ وَفِي قَول من أَتَى بِلَفْظ واف بالغرض رُبمَا يتَوَهَّم أَنَّهَا مَسْأَلَة خلاف لِأَن بَعضهم قد يفهم من عبارَة من يَثِق بِهِ معنى قد يكون على وفْق مُرَاد المُصَنّف وَقد لَا يكون فيحصر ذَلِك الْمَعْنى فِي لفظ وجيز فبالضرورة يصير مَفْهُوم كل وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ من جِهَة التَّنْبِيه وَغَيره وَغير مَفْهُوم الآخر

وَقد يذكر أحدهم فِي مَسْأَلَة إِجْمَاعًا بِنَاء على عدم علمه بقول يُخَالف مَا يُعلمهُ

وَمن تتبع حِكَايَة الإجماعات مِمَّن يحكيها وطالبه بمستنداتها علم صِحَة مَا ادعيناه

وَرُبمَا أَتَى بعض النَّاس بِلَفْظ يشبه قَول من قبله وَلم يكن أَخذه مِنْهُ فيظن أَنه قد أَخذه مِنْهُ فَيحمل كَلَامه على محمل كَلَام من قبله فَإِن رُؤِيَ مغايرا لَهُ نسب إِلَى السَّهْو أَو الْجَهْل أَو تعمد الْكَذِب أَو يكون قد أَخذ مِنْهُ وأتى بِلَفْظ يغاير مَدْلُول كَلَام من أَخذ مِنْهُ فيظن أَنه لم يَأْخُذ مِنْهُ فَيحمل كَلَامه على غير محمل كَلَام من أَخذ مِنْهُ فَيجْعَل الْخلاف فِيمَا لَا خلاف فِيهِ أَو الْوِفَاق فِيمَا فِيهِ خلاف

وَقد يقْصد أحدهم حِكَايَة معنى أَلْفَاظ الْغَيْر وَرُبمَا كَانُوا مِمَّن لَا يرى جَوَاز نقل الْمَعْنى دون اللَّفْظ

وَقد يكون فَاعل ذَلِك مِمَّن يُعلل الْمَنْع فِي صُورَة الْغَرَض بِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ من التحريف غَالِبا

وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي أَكثر أَلْفَاظ الْأَئِمَّة

وَمن عرف حَقِيقَة هَذِه الْأَسْبَاب رُبمَا رأى ترك التصنيف أولى إِن لم يحْتَرز عَنْهَا لما يلْزم من هَذِه المحاذير وَغَيرهَا غَالِبا

فَإِن قيل يرد هَذَا فعل القدماء وَإِلَى الْآن من غير نَكِير وَهُوَ دَلِيل الْجَوَاز وَإِلَّا امْتنع على الْأمة ترك الْإِنْكَار إِذا لقَوْله تَعَالَى {وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر} وَنَحْوه من الْكتاب وَالسّنة

قُلْنَا الْأَولونَ لم يَفْعَلُوا شَيْئا مِمَّا عبناه فَإِن الصَّحَابَة لم ينْقل عَن أحد مِنْهُم تأليف فضلا عَن أَن يكون على هَذِه الصّفة وفعلهم غير مُلْزم لمن لَا يَعْتَقِدهُ حجَّة

ص: 760

بل لَا يكون ملزما لبَعض الْعَوام عِنْد من لَا يرى أَن الْعَاميّ مُلْزم بِالْتِزَام مَذْهَب إِمَام معِين

فَإِن قيل إِنَّمَا فعلوا ذَلِك ليحفظوا الشَّرِيعَة من الإغفال والإهمال

قُلْنَا قد كَانَ أحسن من هَذَا فِي حفظهَا أَن يدونوا الوقائع والألفاظ النَّبَوِيَّة وفتاوى الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ على جهاتها مَعَ ذكر أَسبَابهَا كَمَا ذكرنَا سَابِقًا حَتَّى يسهل على الْمُجْتَهد معرفَة مُرَاد كل إِنْسَان بِحَسبِهِ فيقلده على بَيَان وإيضاح

وَإِنَّمَا عبنا مَا وَقع فِي التَّأْلِيف من هَذِه المحاذير لَا مُطلق التَّأْلِيف وَكَيف يعاب مُطلقًا وَقد قَالَ النَّبِي ص = قيدوا الْعلم بِالْكِتَابَةِ

فَلَمَّا لم يميزوا فِي الْغَالِب مَا نقلوه مِمَّا خرجوه وَلَا مَا عللوه مِمَّا أهملوه وَغير ذَلِك مِمَّا سبق بَان الْفرق بَين مَا عبناه وَبَين مَا صنفناه

وَأكْثر هَذِه الْأُمُور الْمَذْكُورَة يُمكن أَن أذكرها من كتب الْمَذْهَب مَسْأَلَة مَسْأَلَة لَكِن يطول هُنَا

وَإِذا علمت عذر اعتذارنا وخيرة اختيارنا فَنَقُول الْأَحْكَام المستفادة فِي مَذْهَبنَا وَغَيره من اللَّفْظ أَقسَام كَثِيرَة

مِنْهَا أَن يكون لفظ الإِمَام بِعَيْنِه أَو إيمائه أَو تَعْلِيله أَو سِيَاق كَلَامه

وَمِنْهَا أَن يكون مستنبطا من لَفظه إِمَّا اجْتِهَادًا من الْأَصْحَاب أَو بَعضهم

وَمِنْهَا مَا قيل إِنَّه الصَّحِيح من الْمَذْهَب

وَمِنْهَا مَا قيل إِنَّه ظَاهر الْمَذْهَب

وَمِنْهَا مَا قيل إِنَّه الْمَشْهُور من الْمَذْهَب

وَمِنْهَا مَا قيل فِيهِ نَص عَلَيْهِ يَعْنِي الإِمَام أَحْمد وَلم يتَعَيَّن لَفظه

وَمِنْهَا مَا قيل إِنَّه ظَاهر كَلَام الإِمَام وَلم يعين قَائِله لفظ الإِمَام

وَمِنْهَا مَا قيل وَيحْتَمل كَذَا وَلم يذكر أَنه يُرِيد بذلك كَلَام الإِمَام أَو غَيره

ص: 761

وَمِنْهَا مَا ذكر من الْأَحْكَام سردا وَلم يُوصف بِشَيْء أصلا فيظن سامعه أَنه مَذْهَب الإِمَام وَرُبمَا كَانَ بعض الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة آنِفا

وَمِنْهَا مَا قيل إِنَّه مَشْكُوك فِيهِ

وَمِنْهَا مَا قيل إِنَّه توقف فِيهِ الإِمَام وَلم يذكر لَفظه فِيهِ

وَمِنْهَا مَا قَالَ فِيهِ بَعضهم اخْتِيَاري وَلم يذكر لَهُ أصلا من كَلَام أَحْمد أَو غَيره

وَمِنْهَا مَا قيل إِنَّه خرج على رِوَايَة كَذَا أَو على قَول كَذَا وَلم يذكر لفظ الإِمَام فِيهِ وَلَا تَعْلِيله لَهُ

وَمِنْهَا أَن يكون مذهبا لغير الإِمَام وَلم يعين ربه

وَمِنْهَا أَن يكون لم يعْمل بِهِ أحد لَكِن القَوْل بِهِ لَا يكون خرقا لإجماعهم

وَمِنْهَا أَن يكون بِحَيْثُ يَصح تخرجه على وفْق مذاهبهم لكنه لم يتَعَرَّضُوا لَهُ بِنَفْي وَلَا إِثْبَات

ثمَّ قَالَ ثمَّ الرِّوَايَة قد تكون نصا أَو إِيمَاء أَو تخريجا من الْأَصْحَاب

وَاخْتِلَاف الْأَصْحَاب فِي ذَلِك وَنَحْوه كثير لَا طائل فِيهِ إِذْ اعْتِمَاد الْمُفْتِي على الدَّلِيل مَا لم يخرج عَن أَقْوَال الإِمَام وَصَحبه وَمَا قَالَ بهَا أَو ناسيها إِلَّا أَن يكون مُجْتَهدا مُطلقًا أَو فِي مَذْهَب إِمَامه ويروي فِي مَسْأَلَة خلاف قَول إِمَامه وَأَصْحَابه لدَلِيل ظهر لَهُ وَقَوي عِنْده وَهُوَ أهل لذَلِك

انْتهى مَا ذكره الْعَلامَة ابْن حمدَان

وَمِمَّا يُنَاسب مَا نَحن فِيهِ مَا ذكره بعض الْعلمَاء الْأَعْلَام وَهُوَ يَنْبَغِي لمن شرح الله صَدره إِذا بلغته مقَالَة عَن بعض الْأَئِمَّة أَن لَا يحكيها لمن يتقلد بهَا بل يسكت عَن ذكرهَا إِن تَيَقّن صِحَّتهَا وَإِلَّا توقف فِي قبُولهَا فَمَا أَكثر مَا يحْكى عَن الْأَئِمَّة مِمَّا لَا حَقِيقَة لَهُ وَكثير من الْمسَائِل يُخرجهَا بعض الأتباع على قَاعِدَة متبوعة مَعَ أَن ذَلِك الإِمَام لَو رأى أَنَّهَا تُفْضِي لما تُفْضِي إِلَيْهِ لما التزمها وَالشَّاهِد يرى مَا لَا يرى الْغَائِب

ص: 762