المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الطهارة ‌ ‌باب المياه الكتاب: لغة: مدار مادة -كتب- على الجمع، فسمِّي - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ١

[عبد الله البسام]

فهرس الكتاب

- ‌مقدِّمة الطبعة الخامسة

- ‌الإلمام في أصول الأحكام

- ‌الأصل الأولفيمصطلح الحديث

- ‌ مصطلح علم الحديث

- ‌تعريفات:

- ‌تقسيم الحديث باعتبار طرقه:

- ‌أقسام الآحاد:

- ‌تقسيم الحديث من حيثُ القبولُ:

- ‌أنواع الأحاديث المردودة:

- ‌ضعف الحديث من حيثُ فَقْدُ العدالة والضبط:

- ‌ضعفُ الحديث من حيث فَقْدُ الاتصال:

- ‌ضعفُ الحديث من حيثُ وجود الشذوذِ أو العلة:

- ‌أقسامُ الحديث باعتبار من أُضِيفَ إليه:

- ‌فائدة:

- ‌من أنواع الكتب في علم الحديث:

- ‌من أخرج لهم المؤلِّف في بلوغ المرام:

- ‌الذي اطَّلَعْتُ عليه من شروح بلوغ المرام:

- ‌ترجمة المؤلِّف

- ‌دراسته ومشايخه:

- ‌رحلاته:

- ‌أعماله:

- ‌مؤلَّفاته:

- ‌بلوغ المرام

- ‌صلتي ببلوغ المرام:

- ‌الأصل الثانيفيأصول الفقه

- ‌ العلم

- ‌الجهل:

- ‌رُتَبُ المُدْرَكَات:

- ‌النظر:

- ‌الدليل:

- ‌ناصب الدليل:

- ‌المستدِلّ:

- ‌المستدل عليه:

- ‌المستدَلُّ له:

- ‌الاستدلال:

- ‌أصول الفقه:

- ‌أولًا: التعريف الإضافي:

- ‌ الأحكام

- ‌ثانيًا: التعريف اللقبي:

- ‌فائدة أصول الفقه:

- ‌أقسام الأحكام الشرعية:

- ‌فالأحكام التكليفية خمسة:

- ‌الأحكام الوضعية:

- ‌الكلام:

- ‌والاسم:

- ‌الأمر:

- ‌ما يقتضيه الأمر:

- ‌النهي:

- ‌موانع التكليف:

- ‌العامُّ:

- ‌حكمه:

- ‌ التخصيص

- ‌الخاصُّ:

- ‌أقسام التخصيص:

- ‌المطلَقُ والمقيَّد:

- ‌العمل بالمطلق:

- ‌المجمَل والمبيَّن:

- ‌المُبَيَّن:

- ‌العمل بالمُجْمَل:

- ‌النصوص الشرعية:

- ‌كتاب الله تعالى:

- ‌السنة النبوية:

- ‌منزلة السنة من الكتاب:

- ‌النسخ:

- ‌ما يمتنع نسخه:

- ‌شروط النسخ:

- ‌حكمة النسخ:

- ‌تعارض النصوص:

- ‌الإجماع:

- ‌حجية الإجماع:

- ‌مستند الإجماع:

- ‌القياس:

- ‌مسألتان هامَّتان

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌الاجتهاد:

- ‌شروط المجتهد:

- ‌الأصل الثالثفيالقواعد الفقهية

- ‌تعريف وتاريخ:

- ‌معنى القواعد الفقهية

- ‌مَيْزَاتُهَا:

- ‌أنواع القواعد الفقهية ومراتبها:

- ‌الفرق بين القاعدة، والضابط:

- ‌الفرق بين أصول الفقه، والقواعد الفقهية:

- ‌القواعد الكليَّة الخمس الكبرى

- ‌القاعدة الأولى من القواعد الكبرى: (الأمور بمقاصدها):

- ‌القاعدة الثانية من القواعد الكبرى: (لا ضرر ولا ضرار):

- ‌القاعدة الثالثة من القواعد الكبرى: (اليقين لا يزول بالشك):

- ‌القاعدة الرابعة من القواعد الكبرى: (المشقة تجلب التيسير):

- ‌القاعدة الخامسة من القواعد الكبرى: (العادة محكَّمة):

- ‌قرار المجمع الفقهي بشأن موضوع العرف

- ‌قرار رقم (9) بشأن العرف:

- ‌القواعد الكلية غير الكبرى

- ‌القاعدة الأولى: (إعمال الكلام أولى من إهماله):

- ‌القاعدة الثانية: (إذا تعذرت الحقيقة يُصار إلى المجاز):

- ‌القاعدة الثالثة: (المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصًّا أو دلالة):

- ‌القاعدة الرابعة: (التأسيس أولى من التأكيد):

- ‌القاعدة الخامسه: (إذا تعذَّر الأصل يُصار إلى البدل):

- ‌القاعدة السادسة: (التصرف في أمور الرعية منوط بالمصلحة):

- ‌القاعدة السابعة: (المرء مؤاخَذ بإقراره):

- ‌القاعدة الثامنة: (الجواز الشرعي ينافي الضمان):

- ‌القاعدة التاسعة: (اليد الأمينة لا تَضْمَنُ إلَاّ بالتَّعَدِّي أو التَّفريط):

- ‌القاعدة العاشرة: (الخراج بالضمان):

- ‌القاعدة الحادية عشرة: (على اليد ما أخذَتْ حتى تؤدِّيه):

- ‌القاعدة الثانية عشرة: (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص):

- ‌القاعدة الثالثة عشرة: (ما لا يتم الواجب إلَاّ به فهو واجب):

- ‌القاعدة الرابعة عشرة: (من استعجل شيئًا قبل أوانه، عُوقِبَ بحرمانِهِ):

- ‌القاعدة الخامسة عشرة: (ما ثبت بالشرع مقدَّم على ما ثبت بالشرط):

- ‌القاعدة السادسة عشرة: (إذا عاد التحريم إلى نفس العبادة أفسدها، وإن عاد إلى أمر خارج عنها لم تفسد):

- ‌القاعدة السابعة عشرة: (الأصل براءة الذمَّة):

- ‌القاعدة الثامنة عشرة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان):

- ‌القاعدة التاسعة عشرة: (البيِّنة على المدَّعِي، واليمين على المدَّعَى عليه):

- ‌القاعدة العشرون: (إذا قويت القرينة، قدِّمت على الأصل):

- ‌القاعدة الحادية والعشرون: (الصلح جائز بين المسلمين إلَاّ صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، والمسلمون على شروطهم إلَاّ شرطًا أحل حرامًا أو حرَّم حلالاً):

- ‌القاعدة الثانية والعشرون: (الأصل في العبادات الحظر، فلا يُشْرَعُ منها إلَاّ ما شرعه الله ورسوله):

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون: (الأصل في العادات الإباحة؛ فلا يُمْنَعُ منها إلَاّ ما حرَّمه الله ورسوله):

- ‌القاعدة الرابعة والعشرون: (الشارع لا يأمر إلَاّ بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلَاّ عما مفسدته خالصه أو راجحة):

- ‌القاعدة الخامسة والعشرون: (إذا تزاحمتِ المصالحُ، قدِّم أعلاها) و (إذا تزاحمت المفاسد، قدِّم أخفُّها):

- ‌القاعدة السادسة والعشرين: (الضرورات تبيح المحظورات):

- ‌القاعدة السابعة والعشرون: (درء المفاسد أولى من جلب المنافع):

- ‌القاعدة الثامنة والعشرون: (الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا):

- ‌القاعدة التاسعة والعشرون: (العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني):

- ‌القاعدة الثلاثون: (الحدود تُدرأ بالشبهات):

- ‌القاعدة الحادية والثلاثون: (الوجوب يتعلَّق بالاستطاعة؛ فلا واجب مع العجز، ولا محرَّم مع الضرورة):

- ‌القاعدة الثانية والثلاثون: (الشريعة مبنية على أصلين: الإخلاص لله، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌فائدة:

- ‌الأصل الرابعفيالمقاصد الشرعية

- ‌المقاصد

- ‌القسم الأول فيما يرجع إلى قصد الشارع من وضع الشريعة

- ‌النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة

- ‌المسألة الأولى: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق:

- ‌المسألة الثانية: المقاصد عامة في جميع التكاليف والأزمان والأحوال:

- ‌المسألة الثالثة: المقاصد المعتبرة في الشريعة:

- ‌المسألة الرابعة: الدليل على اعتبار مقاصد الشريعة الكلية:

- ‌النوع الثاني: في بيان قصد الشَّارع في وضع الشريعة للتكليف بالمقدور وما لا حرج فيه

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية: لا تكليفَ بما لا يطاق:

- ‌المسألة الثالثة: لا تكليفَ بما فيه حرج:

- ‌المسألة الرابعة: الحكمة من نفي الحرج في التكليف:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة: الاعتدال في التكاليف والدعوة إلى امتثالها:

- ‌النوع الثالث: في بيان قصد الشَّارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية: تقسيم المقاصد إلى أصلية وتبعية:

- ‌المسألة الثالثة: العملُ إذا وَقَعَ على وَفْقِ المقاصد الشرعيَّة:

- ‌المسألة الرابعة: الإنسان قد يدع حظَّ نفسه في أمر إلى حظ ما هو أعلى منه:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌العادة إذا قصد بالإتيان بها وجه الله:

- ‌لا يكون العمل صحيحًا أو مقبولاً إلَاّ إِذا رَاعَى وجه الله في القصد التابع:

- ‌يعظم الأجر بقصد المصلحة العامة:

- ‌العادات إذا كانت مصلحتها تعبُّدية، جازت فيها النيابة:

- ‌خير العمل ما وُوظِبَ عليه:

- ‌الشريعة عامَّة ما لم يقم دليل الخصوصية:

- ‌القياس يدل على عموم الأحكام ولا خصوصية للصوفية:

- ‌أحكام العادات:

- ‌الأصل في العبادات التعبد، وفي العادات التعليل:

- ‌القسم الثاني فيما يرجع إلى مقاصد المكلّف في التكليف

- ‌ينبغي أن يكون قصد المكلف من عمله موافقًا لقصد الشَّارع من تشريعه ذلك العمل:

- ‌من قصد من العمل غير ما قصده الشارع بطل عمله وأهدر ثوابه:

- ‌قصد المكلف العمل أقسام:

- ‌ليس لأحد أن يسقط حق الله في نفسه أو ماله أو عمله:

- ‌سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن الزيادة على المشروع مع الداعية إلى الزيادة نهي عن الزيادة:

- ‌مقدمة

- ‌اصطلاحات خاصة في هذا الشرح:

- ‌مقدمة الحافظ ابن حجر لكتابه بلوغ المرام

- ‌كتاب الطهارة

- ‌باب المياه

- ‌باب الآنية

- ‌باب إزالة النجاسة وبيانها

- ‌باب الوضوء

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب نواقض الوضوء

- ‌باب آداب قضاء الحاجة

- ‌باب الغسل وحكم الجُنُب

- ‌باب التيمم

- ‌باب الحيض

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌باب الأذان والإقامة

الفصل: ‌ ‌كتاب الطهارة ‌ ‌باب المياه الكتاب: لغة: مدار مادة -كتب- على الجمع، فسمِّي

‌كتاب الطهارة

‌باب المياه

الكتاب: لغة: مدار مادة -كتب- على الجمع، فسمِّي كتابًا؛ لجمعه الحروف والكلمات والجمل، وهو هنا بمعنى المكتوب.

واصطلاحًا: ما خُطَّ على القرطاس لإبلاغ الغير، أو ما خُطَّ لحفظه عن النسيان، واستعمل العلماء الكتاب فيما يجمع شيئًا من الأبواب والفصول.

الطهارة:

لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسيَّة والمعنوية.

وشرعًا: ارتفاعُ الحَدَثِ بالماءِ أو الترابِ الطهوريْنِ المُباحَيْنِ، وزوال النجاسة.

فالطهارة -باتفاق المسلمين-: هي زوالُ الوصف القائم بالبدن.

وحكم هذا الوصف: المنعُ من الصلاة ونحوها، ووجهُ التعبيرِ في جانب الحَدَثِ بالارتفاع؛ لأَنَّه أمر معنوي، ووجه التعبير بالإزالة في النجاسة؛ لأنَّه جرم حسي، والإزالة لا تكون إلَاّ في الأجرام.

الباب: لغة: المدخل إلى الشيء.

واصطلاحًا: اسم لجملة متناسبة من العلم تحته فصول ومسائل غالبًا.

المياه: جمع ماء، وهو المائع المعروف، ويتركَّب كيميائيًّا من غاز الأيدروجين وغاز الأوكسيجين، ومصادره مياه الأمطار والينابيع والعيون والبحيرات والأنهار.

ص: 113

مناسبة البدء بالطهارة هو أنَّ الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان شعائر الإِسلام بُدِئَتْ بالصَّلاة، ثم بالزكاة، ثم بالصوم، ثم بالحج، وكما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (1009) وأبو داود (61) والترمذي (2)، وابن ماجه (275)؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"مفتاح الصلاة الطهور"، والمفتاح شأنه التقديم على ما جعل مفتاحًا له، فصار المناسب هو البدء بالطهارة؛ لأنَّ الطهارة من الحدث والخبث من شروط الصلاة، وشرط الشيء يسبقه.

وقال الغزالي في الإحياء: قال الله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال، الآية: 11].

وروى مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان".

والطهارة لها أربع مراتب:

الأولى: تطهير الظاهر من الأحداث والأنجاس.

الثانية: تطهير الجوارح من الجرائم والآثام.

الثالثة: تطهير القلب من الأخلاق المذمومة.

الرابعة: تطهير السرِّ عما سوى الله تعالى.

وهذا هو الغاية القصوى لمن قويت بصيرته فسَمَت إلى هذا المطلوب، ومن عميت بصيرته، لم يفهم من مراتب الطهارة إلَاّ المرتبة الأولى.

والأصل: أنَّ الطهارة تكون بالماء؛ ذلك أنَّه أحسن المذيبات، فكل المواد تذوب فيه، وقوَّة تطهيره ترجع إلى بقائه على خلقته الأصلية؛ فإنه إذا خالطه ما غيَّر مسماه، ضعُفَتْ قوة إزالته وتطهيره؛ لأنَّه يفقد خفته ورقته وسيلانه ونفوذه.

ص: 114

1 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. (1)

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ.

قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح، سألت عنه البخاري فقال: صحيح، وقال الزرقاني في شرح الموطأ: هذا الحديث أصلٌ من أصول الإِسلام تلقته الأمَّة بالقبول، وقد صحَّحه جماعةٌ: منهم البخاري والحاكم وابن حبَّان وابن المنذر والطحاوي والبغوي والخطابي وابن خزيمة والدَّارقطني وابن حزم وابن تيمية وابن دقيق العيد وابن كثير وابن حجر، وغيرهم ممَّن يزيد على ستَّة وثلاثين إمامًا.

* مفردات الحديث:

- البحر: هو خلاف البر، وهو المساحات الشاسعة من الماء المالح، يجمع على أبحر وبحار وبحور، سُمِّي بحرًا لعُمْقِهِ واتساعه.

- الطَّهُور: بفتح الطَّاء المشدَّدة، من صيغ المبالغة: اسمٌ للماء الطَّاهر بذاته المطهِّر لغيره، واللام ليست للقصر؛ فلا ينفي طهورية غيره لوقوعه جواب سؤال، فـ "أل" جاءت لبيان الحقيقة هنا، و"ماؤه" فاعلٌ للطهور، والضمير عائدٌ إلى البحر.

(1) أبو داود (83)، الترمذي (69)، النسائي (59)، ابن ماجه (386)، ابن أبي شيبة (1/ 130)، ابن خزيمة (1/ 59)، مالك (22)، الشافعي (1)، أحمد (7192).

ص: 115

وماء البحر حوى أملاحًا معدنية عديدة، ومحلول الأملاح فيه موصِّل كهربائي، يكوِّن أكبر نسبة من الموادِّ الذَّاتية في ماء البحر، وبهذا يكون أقدر مِنْ غيره على إزالة الأنجاس ورفع الأحداث، ولله في خلقه أسرار.

- الحِلُّ: بكسر الحاء وتشديد اللَّام، وصفٌ من حَلَّ يحل -من باب ضرب- ضد حرم، أي: الحلال؛ كما في رواية "الدَّارقطني".

- مَيْتَتُهُ: بفتح الميم، ما لم تلحقه الذكاة الشرعية، وبكسرها: الهيئة كالجِلْسة، والمراد الأول.

و"ميتته" فاعل لِلْحِلّ، والمراد هنا ما مات فيه من دوابِّه، مما لا يعيش إلَاّ فيه، لا ما مات فيه مُطْلَقًا.

* ما يُؤخَذُ مِنَ الحديث:

1 -

قال الشّافعي: هذا الحديث نصف علم الطهارة.

وقال ابن الملقِّن: هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، وأصلٌ من أصول الطهارة، مشتملٌ على أحكامٍ كثيرة، وقواعدَ مهمَّة.

2 -

في الحديث طهورية ماء البحر؛ وبه قال جميع العلماء.

3 -

أنَّ ماء البحر يرفع الحدث أكبر والأصغر، ويزيل النجاسة الطارئة على محلٍّ طاهر، من بدنٍ، أو ثوب، أو بقعة، أو غير ذلك.

4 -

أنَّ الماء إذا تغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه بشيءٍ طاهرٍ، فهو باقٍ على طهوريته، ما دام ماءً باقيًا على حقيقته، ولو اشتدت ملوحته أو حرارته أو برودته ونحوها.

5 -

يدل الحديث على أنَّه لا يجب حمل الماء الكافي للطهارة مع القدرة على حمله؛ لأنَّهم أخبروا أنَّهم يحملون القليل من الماء.

6 -

قوله: "الطهور ماؤه" تعريفه بالألف والَّلام المفيد للحصر لا ينفي طهورية غيره؛ لوقوعِهِ جوابَ سؤال عن "ماء البحر"؛ فهو مخصَّصٌ بنصوصٍ أُخرى.

ص: 116

7 -

أنَّ ميتة حيوان البحر حلالٌ، والمراد بميتته: ما مات فيه من دوابه ممَّا لا يعيش إلَاّ فيه.

8 -

يجب أنْ يكون الماء الرَّافع للحدث والمزيل للخبث ماءً مطهِّرًا؛ لتعليل النَّبي صلى الله عليه وسلم بجواز الوضوء منه يكون طهورًا.

9 -

جواز ركوب البحر لغير حجٍّ وعمرة وجهاد.

10 -

فضيلة الزيادة في الفتوى على السؤال؛ وذلك إذا ظن المفتي أن السائل قد يجهل هذا الحكم، أو أنه قد يُبْتَلَى به؛ كما في ميتة حيوان البحر لراكبه.

قال ابن العربي: وذلك من محاسن الفتوى؛ أن يُجَاء في الجواب بأكثر مما سُئِلَ عنه؛ تتميمًا للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم -كما هنا- ولا يعد ذلك تكلُّفًا مما لا يعنيه.

* خلاف العلماء:

ذهب الإمام أبو حنيفة: إلى إباحة السمك بجميع أنواعه، وحرَّم ما عداه؛ مثل كلب الماء، وخنزيره، وثعبانه، وغيره ممَّا هو على صورة حيوان البر، فإنَّهُ لا يحل عنده.

وذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه: إلى إباحة حيوان البحر كله، عدا الضفدع والحية والتمساح؛ فالضفدع والحية من المستخبثات، وأمَّا التمساح فذو نابٍ يفترس به.

وذهب الإمامان مالك والشَّافعي: إلى إباحة جميع حيوان البحر بلا استثناء؛ واستدلا بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ، والصيد هنا يُراد به المصيد، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"أُحِلَّت لنا ميتتان: الجراد والحوت"[رواه أحمد (5690) وابن ماجه (3218)]، قال في القاموس: الحوت هو السمك.

ولما جاء في حديث الباب "الحل ميتته"، وهذا هو الأرجح.

ص: 117

2 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ". أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ. (1)

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ، ويسمَّى "حديث بئر بضاعة"، قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح، وقال الترمذي: حسن، وقد جوَّد أبو أسامة هذا الحديث، وقد روي عن أبي سعيد وغيره من غير وجه.

وذكر في التلخيص (1/ 20) أنَّ الحديث صحَّحه أحمد، ويحيى بن معين، وابن حزم. قال الألباني: رجال إسناده رجال الشيخين غير عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع فقال البخاري: مجهول الحال، ولكن صححه من تقدم، فهو حديثٌ مشهورٌ مقبولٌ عند الأئمة. قال الشيخ صديق حسن في الروضة: قامت الحجة بتصحيح من صحَّحه من الأئمة.

فقد صحَّحه غير من تقدم: ابن حبَّان، والحاكم، وابن خزيمة، وابن تيمية، وغيرهم، وقد أعلَّه ابن القطان بجهالة راويه عن أبي سعيد، ولكن إعلال ابن القطان وحده لا يقاوم تصحيح هؤلاء الأئمة الكبار.

* مفردات الحديث:

- طهور: بفتح الطاء، من صيغ المبالغة؛ فهو الطاهر بذاته المطهِّر لغيره.

- ينجسه: يقال: نَجَسَ يَنْجُس، من باب قتل، على الأكثر، ونَجُسَ ضد طَهُرَ، والاسم: النجاسة.

وهي في عرف الشرع: قذرٌ مخصوصٌ يمنع جنسه الصلاة؛ كالبول والدم.

(1) أحمد (10864)، أبو داود (66، 67)، الترمذي (66)، النسائي (326، 327).

ص: 118

3 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَاّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيْحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ». أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَلِلْبَيْهَقِيِّ: "الْمَاءُ طَهُورٌ إِلَاّ إِنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ". (1)

ــ

* درجة الحديث:

أوَّلُ الحديث صحيحٌ، وعجزه ضعيف، ضعَّفه أبو حاتم كما في التلخيص (1/ 21).

فقوله: "إنَّ الماء لا ينجِّسهُ شيء" قد ثبت في حديث بئر بضاعة.

وقوله: "إلَاّ مَا غلب

" إلخ: قال النووي: اتفق المحدِّثون على تضعيفه؛ لأنَّ في إسناده رِشْدَينَ بن سعد متفق على ضعفه، ونقل ابن حبَّان في صحيحه الإجماع على العمل بمعناه.

وقال صديق حسن في الروضة: اتفق العلماء على ضعف هذه الزيادة؛ لكنَّه وقع الإجماع على مضمونها.

* مفردات الحديث:

- طَهُور: بفتح الطاء، اسمٌ للماء الذي يُتَطهَّر به؛ فهو طاهر بذاته، مطهِّرٌ لغيره.

- ما: نكرة موصوفة بمعنى "شيء"، أو موصولة بمعنى "الذي".

- غلب: يُقال: غَلَبَهُ يَغْلِبُهُ -من باب ضرب- غلبًا وغلبة: ظهر عليه وكثر، والمراد: غلب على الماء ريح النجاسة أو طعمها أو لونها، ولو بإحدى هذه الصفات؛ كما يفسِّر ذلك رواية "البيهقي".

(1) ابن ماجه (521)، البيهقي (1/ 259).

ص: 119

- ريحه: الريح: هو النسيم، طيِّبًا أو نتنًا.

- طعمه: الطعم: ما تدركه حاسَّة الذوق من طعامٍ أو شرابٍ؛ كالحلاوة، والمرارة، والحموضة، وغيرها؛ يُقَال: تغيَّر طعم الشيء: خرج عن وضعه الطبيعي.

- لونه: اللون: صفة الجسم من السواد والبياض والحمرة، وما في هذا الباب.

وهذه الصفات الثلاث يسمِّيها فلاسفة الإِسلام: أعراضًا تفتقر إلى جوهرٍ تقوم به، والجوهر هو الجسم.

وفي الكيمياء الحديثة: صاروا يعدون هذه الصفات أيضًا جواهر، فهي آثار جسمية حسية؛ فالماء هنا جوهر، خالطه جوهرٌ آخر، وهو الطعم أو اللون أو الرائحة.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

يدل الحديثان على أنَّ الأصل في الماء الطهارة.

2 -

يُقَيَّد هذا الإطلاق بما إذا لاقته النجاسة، فظهر ريحها أو طعمها أو لونها فيه؛ فإنَّها تنجسه، قلَّ الماء أو كثر.

3 -

الذي يقيد هذا الإطلاق هو إجماع الأمَّة على أنَّ الماء المتغيِّر بالنجاسة نجسٌ، سواءٌ كان قليلاً أو كثيرًا.

أمَّا الزيادة التي جاءت في حديث أبي أُمامة، فهي ضعيفة لا تقوم بها حجَّة، لكن قال النووي: أجمع العلماء على القول بحكم هذه الزيادة.

وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنَّ الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيَّرت له طعمًا، أو لونًا، أو ريحًا، فهو نجس.

قال ابن الملقِّن: فتلخَّص أنَّ الاستثناء المذكور ضعيف؛ فتعيَّن الاحتجاج بالإجماع؛ كما قال الشافعي والبيهقي وغيرهما.

قال شيخ الإِسلام: ما أجمع عليه المسلمون فإنَّه يكون منصوصًا عليه؛ ولا نعلم مسألة واحدة أجمع عليها المسلمون ولا نصَّ فيها.

ص: 120

4 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ". وَفِي لَفْظٍ: "لَمْ يَنْجُسْ" أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، وَالحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ (1)

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ، ويسمَّى "حديث القلتين".

واختلف العلماء في صحَّة هذا الحديث:

فحكم عليه بعضهم بالاضطراب سندًا ومتنًا:

فأمَّا اضطراب سنده: فلأنَّ مداره على الوليد بن كثير، فقيل: عنه عن محمَّد بن جعفر بن الزبير، وقيل: عنه عن محمد بن عباد بن جعفر، وتارة: عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وتارة: عن عبد الله بن عبد الله بن عمر:

والجواب: أنَّ هذا ليس اضطرابًا قادحًا؛ فإنَّه -على تقدير أنْ يكون الجميع محفوظًا- انتقال من ثقة إلى ثقة، وعند التحقيق: الصواب أنَّه عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عبَّاد بن جعفر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المكبر، وعن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر المصغر، ومن رواه على غير هذا الوجه، فقد وهم.

وقد رواه جماعة عن أبي أسامة عن الوليد بن كثير على الوجهين؛ وله طريقٌ ثالثة رواها ابن ماجه (518)، والحاكم، وغيرهما، من طريق حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، وسُئِل ابن معين

(1) أبو داود (63)، الترمذي (67)، النسائي (52)، ابن ماجه (517)، ابن خزيمة (1/ 49)، ابن حبان (4/ 57)، الحاكم (1/ 224).

ص: 121

عن هذه الطريق؟ فقال: إسنادها جيد، قيل له: فإنَّ ابن عليَّة لم يرفعه، فقال: وإنْ لم يحفظه ابن علية فالحديث جيد الإسناد. وأعلَّه بعضهم بالوقف؛ لأنَّ مجاهدًا رواه موقوفًا، وصحَّح وقفه الدَّراقطني، والبيهقي، والمزي، وابن تيمية.

وأمَّا اضطراب متنه: فلأنَّه روي: "ثلاث قلال"، وروي "أربعين قلَّة".

والجواب عنها: أنَّ رواية: "ثلاث" ورواية: "أربعين" شاذة، وأنَّ الصحيح فيها "قلتان".

وقال الشيخ الألباني: الحديث صحيح رواه الخمسة، مع الدارمي، والطحاوي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، والطيالسي، بإسنادٍ صحيح عنه، وقد صحَّحه الطحاوي، وابن خزيمة، وابن حبَّان، والحاكم، والذهبي، والنووي، والعسقلاني، وإعلال بعضهم إيَّاه بالاضطراب مردودٌ.

وأمَّا تخصيص القلتين بـ"قلال هجر": فلم يرد مرفوعًا إلَاّ من طريق المغيرة بن صقلاب، وهو منكر الحديث.

وقال ابن عبد الهادي في المحرَّر: قال الحاكم: هو على شرط الشيخين؛ فقد احتجا جميعًا بجميع رواته.

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: أكثر أهل العلم بالحديث على أنَّه حديثٌ حسن، ويحتج به، وأجابوا عن كلامِ مَنْ طعن فيه.

وممَّن صحح هذا الحديث: ابن خزيمة، وابن حبَّان، وابن منده، والطحاوي، والحاكم، والبيهقي، والخطابي، والنووي، والذهبي، وابن حجر، والسيوطي، وأحمد شاكر، وغيرهم.

* مفردات الحديث:

- قلتين: بضم القاف، تثنية قلة، وهي الجرَّة الكبيرة من الفخار، والجمع: قلال بكسر القاف، والقلتان: خمسمائة رطل عراقي، والرطل العراقي تسعون مثقالاً، وبالصاع:(93.75) صاعًا؛ كما رجَّح ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية،

ص: 122

في شرح العمدة له (1/ 67).

- لم يحمل: يُقال: حَمَلَهُ يَحْمِلُهُ -من باب ضرب- حملاً، وللحمل معانٍ؛ أحدها: لم يقبل حمل الخبث، ولم يغلب عليه، وهو المراد هنا.

- الخبث: خبُث يخبُث -من باب كرم- خبثًا وخباثة، ضد طاب، والخَبَثُ: هو النجاسة الحقيقية.

- لم ينجس: يقال: نَجسَ الشيءُ بالكسر، يَنْجَسُ بالفتح، نَجَسًا بالتحريك، من باب علم، ويقال أيضًا: نَجَسَ بالفتح، يَنْجُسُ بالضم، من باب نصر.

والنجاسة: قذرٌ مخصوص يمنع جنسه الصلاة.

- لم: حرف نفي وجزم وقلب؛ فهي تنفي الفعل المضارع وتجزمه وتقلب زمانه من الحال أو الاستقبال إلى الماضي، والفعل مجزوم بها.

- قلال هجر: جاء تقييد القلال في بعض الروايات بهجر، وتقييدها بهذا المكان لأنَّ قلالها معروفة المقدار كالصِّيعَان المتداولة، وتقدير الماء بها مناسب؛ لأنَّها آنيته.

- هجر: قرية من قرى المدينة، والنسبة إليها: هَجَرِيٌّ على القياس، وَهَاجَرِيّ على غير القياس.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ الماء إذا بلغ قلتين، فإنَّه يدفع النجاسة عن نفسه، فتضمحل فيه، ولا تؤثِّر فيه، ما لم تغيره؛ وهذا منطوق الحديث.

2 -

مفهوم الحديث: أنَّ ما دون القلتين تؤثِّر فيه النجاسة، فينجس بملاقاتها، تغير بالنجاسة أو لا.

3 -

مناط التنجيس هو كون الماء الذي لاقته النجاسة قليلاً، أي: دون القلتين.

* خلاف العلماء:

ذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأتباعهم: إلى أنَّ "القليل" من

ص: 123

الماء ينجَّس بمجرَّد ملاقاة النجاسة، ولو لم تتغير صفة من صفاته.

و"القليل" عند أبي حنيفة: هو الذي إذا حركت ناحية منه تحركت الناحية الأخرى.

أمَّا "القليل" عند الشافعية والحنابلة فما دون القلتين.

وذهب الإمام مالك والظاهرية وشيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم والشيغ محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة السلفية بنجد وغيرهم من المحققين إلى أنَّ الماء لا ينجس بملاقاة النجاسة، ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة: الطعم أو اللون أو الريح.

استدل القائلون بنجاسة الماء بمجرد الملاقاة بمفهوم حديث ابن عمر في القلتين؛ فإنَّ مفهومه -عندهم- أنَّ ما دون القلتين يحمل الخبث، وفي رواية:"إذا بلغ قلتين، لم ينجسه شيء"؛ فمفهومه: أنَّ ما دون القلتين ينجس بمجرَّد الملاقاة.

كما استدلوا بحديث الأمر بإراقة الإناء الذي ولغ فيه الكلب، ولم يعتبر التغير.

وحديث القلتين لا يخالف فيه الحنفية؛ ذلك أنَّ القلتين إذا صبتا في موضعٍ، فإنَّه لا يتحرك أحد جانبيه بتحريك الآخر.

وأمَّا أدلَّة الذين لا يرون التنجيس إلَاّ بالتغيُّر، فمنها: حديث القلتين؛ فإنَّ معنى الحديث: أنَّ الماء الذي بلغ قلتين لا ينجس بمجرَّد الملاقاة؛ لأنَّه لا يحمل الأنجاس وتضمحل فيه، وأمَّا مفهوم الحديث: فغير لازمٍ؛ فقد يحصل التنجُّس إذا غيرت النجاسة صفة من صفاته، وقد لا يحمل النجاسة.

كما يستدلون على ذلك بحديث صب الذَّنُوب على بول الأعرابي، وغير ذلك من الأدلة.

قال ابن القيم؛ الذي تقتضيه الأصول: أنَّ الماء إذا لم تغيره النجاسة،

ص: 124

فإنَّه لا ينجس؛ ذلك أنَّه باقٍ على أصل خلقته، وهو طيِّبٌ، داخلٌ تحت قوله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} وهذا هو القياس في المائعات جميعها، إذا وقع فيها نجاسة فلم يظهر لها لونٌ ولا طعمٌ ولا ريحٌ. أهـ.

أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قرارًا بشأن المياه المتلوثة بالنجاسات إذا عولجت بواسطة الوسائل الفنية ثمَّ زالت منها النجاسة فقرَّر ما يلي:

قرار رقم 64 في 25/ 10 / 1398 هـ الآتي

بعد البحث والمداولة والمناقشة قرَّر المجلس ما يلي:

بناءً على ما ذكره أهل العلم من أنَّ الماء الكثير المتغيِّر بنجاسةٍ، يطهر إذا زال تغيره بنفسه، أو بإضافة ماءٍ طهورٍ إليه، أو زال تغيره بطول مكثٍ، أو تأثير الشمس، ومرور الرياح عليه، أو نحو ذلك؛ لزوال الحكم بزوال علَّته.

وحيث إنَّ المياه المتنجِّسة يمكن التخلُّص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إنَّ تنقيتها وتخليصها -ممَّا طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية- يعتبر من أحسن وسائل التطهير؛ حيث يُبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات، كما يشهد بذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك ممَّن لا يتطرَّق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم.

لذلك فإنَّ المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة؛ بحيث تعود إلى خلقتها الأولى، لا يُرى فيها تغيُّر بنجاسةٍ في طعمٍ ولا لونٍ ولا ريحٍ.

ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها منها.

كما يجوز شربها، إلَاّ إذا كانت هناك أضرارٌ صحية تنشأ عن استعمالها، فيمتنع ذلك محافظةً على النفس، وتفاديًا للضرر، لا لنجاستها.

والمجلس إذ يقرِّر ذلك، يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب

ص: 125

متى وُجِدَ إلى ذلك سبيلٌ؛ احتياطًا للصحة، واتِّقاءً للضرر، وتنزُّهًا عمَّا تستقذره النفوس، وتنفر منه الطباع.

والله الموفق. وصلَّى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم.

هيئة كبار العلماء

* * *

أمَّا مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي لرابطة العالم الإِسلامي، في دورته الحادية عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ الموافق 19 فبراير 1989 م، إلى يوم الأحد 20 رجب 1409 هـ:

فقد نظر في السؤال عن حكم ماء المَجَارِي بعد تنقيته، هل يجوز رفع الحدث بالوضوء والغُسْل به؟ وهل تجوز إزالة النجاسة به؟

وبعد مراجعة المُختصِّين بالطرق الكيماوية، وما قرَّروه من أنَّ التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل أربع، وهي: الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، وتعقيمه بالكلور، بحيث لا يبقى للنجاسة أثرٌ في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون عدولٌ، موثوق بصدقهم وأمانتهم.

قرَّر المجمع ما يأتي: أنَّ ماء المجاري إذا نُقِّيَ بالطرق المذكورة وما يماثلها، ولم يبق للنجاسة أثرٌ في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه -صار طهورًا، يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به؛ بناءً على القاعدة الفقهية التي تقرِّر أنَّ الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه؛ إذا لم يبق لها أثره فيه، والله أعلم.

ص: 126

5 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَلِلْبُخَارِيِّ: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ"، وَلِمُسْلِمٌ:"مِنْهُ"

وَلِأَبِي دَاوُدَ: "وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ". (1)

ــ

* مفردات الحديث:

- لَا يَغْتَسِلْ: لَا "ناهية"، يجزم بها الفعل، ويطلب بها ترك الفعل، و"يغتسل" مجزوم بالسكون.

- الدَّائم: دام الشيءُ يدوم -من باب نصر- دومًا، ودام الماءُ في المكان: استقر؛ فالدَّائم الساكن الرَّاكد.

- ثمَّ يغتسل: يجوز فيه ثلاثة أوجه: الجزم عطفًا على "لا يبولنَّ"، والنَّصب على إضمار "أنْ"، والرفع على تقدير:"ثُمَّ هو يغتسل فيه".

- الَّذي لا يجري: تفسير للدَّائم، والمراد: المستقر في مكانه كالغدران في البرية.

- لا يبولنَّ: "لا" ناهية، والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم.

والبول: عرَّفه الأطباء بأنَّه سائل تفصله الكليتان عن الدم لتخرجه من الجسم، ويحوي ما يزيد على حاجة الجسم من الماء والأملاح، ويمر من الكليتين في الحالبين إلى المثانة؛ حيث يتجمع إلى أنْ يخرج من الجسم عن

(1) البخاري (239)، مسلم (282، 283)، أبو داود (70).

ص: 127

طريق مجرى البول في عملية التبول، ووظيفة إخراج البول أساسية للحياة.

- جنب: بضمتين، أي: أصابته الجنابة، وهو الحدث الحاصل من الجماع أو الإنزال.

- ثمَّ يغتسل فيه: "ثمَّ" للاستبعاد، أي: بعيد من العاقل أنْ يفعل هذا.

- الجنابة: من أجنب فهو جُنُبٌ، للذكر والأُنثى، والمفرد والتثنية والجمع.

والجنابة: صفة من نزل مَنِيُّهُ، أو حصل منه جماعٌ حتَّى يتطهر.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

النهي عن الاغتسال في الماء الدائم من الجنابة، بخلاف الماء الجاري؛ فإنَّه غير داخل في النهي.

2 -

أنَّ النهي يقتضي التحريم؛ فيحرم الاغتسال من الجنابة في الماء الدائم.

3 -

النهي عن البول في الماء الدائم ثمَّ الاغتسال فيه من الجنابة، وقال في "طرح التثريب": يحتمل أنَّ النهي عن كلٍّ من "البول والاغتسال"، ويدل عليه رواية أبي داود:"لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة"، كما جاء في مسلم:"لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب".

4 -

النهي يقتضي التحريم؛ فيحرم الاغتسال من الجنابة في الماء الذي بِيلَ فيه.

5 -

ظاهر الحديث أنَّه لا فرق بين الماء القليل والكثير.

6 -

الفساد المترتِّب على النهيين هو إفسادُ الماء بتقذيره على المنتفعين به، وسيأتي -إنْ شاء الله تعالى- الخلاف في الماء المستعمل، هل استعماله في الطهارة يسلبه الطهورية أو لا؟

7 -

النهي عن البول أو الاغتسال في الماء الرَّاكد ليس على إطلاقه اتفاقًا؛ فإنَّ الماء المستبحر الكثير لا يتناوله النهي اتفاقًا؛ فهو مخصَّص بالإجماع.

8 -

قال في سبل السلام: الذي تقتضيه قواعد اللغة العربية: أنَّ المنهي عنه في الحديث إنَّما هو عن الجمع بين البول والاغتسال؛ لأنَّ "ثُمَّ" لا تفيد ما تفيده

ص: 128

الواو العاطفة في أنَّها للجمع، وإنَّما اختصت "ثمَّ" بالترتيب.

9 -

قال ابن دقيق العيد: "يؤخذ النهي عن الجمع من هذا الحديث، ويؤخذ النَّهي عن الإفراد من حديثٍ آخر".

10 -

لكن الروايات الواردة في الباب يستفاد منها ما يأتي:

- "رواية مسلم" تفيد النَّهي عن الاغتسال بالانغماس فيه، والتناول منه.

- "رواية البخاري" تفيد النهي عن الجمع بين البول والاغتسال.

- "رواية أبي داود" تفيد النهي عن كل منهما على الانفراد.

فحصل من جميع الرِّوايات أنَّ الكلَّ ممنوعٌ، ذلك أنَّ البول أو الاغتسال في الماء الرّاكد يسبِّب تقذيرَهُ وتوسيخَهُ على النَّاس ولو لم يصل إلى تنجيسه.

11 -

يلحق بذلك تحريم التغوُّط والاستنجاء في الماء الرَّاكِد الذي لا يجري.

12 -

تحريم أذيَّة النَّاس وإلحاق الضرر بهم بأيِّ عمل من الأعمال التي لم يؤذن فيها، ولم تترجَّح مصلحتها على مفسدتها.

13 -

اختلف العلماء هل النَّهي للتحريم أو للكراهة؟:

فمذهب المالكية: إلى أنَّه مكروه؛ بناءً منهم على أنَّ الماء باقٍ على طهوريَّتِهِ.

وذهب الحنابلة والظاهرية إلى أنَّه للتحريم.

وذهب بعض العلماء إلى أنَّه محرم في القليل، مكروه في الكثير.

وظاهر النهي: التحريم في القليل والكثير، ولو لم يكن لِعِلَّةِ تنجيسه، وإنَّما من أجل تقذيره وتوسيخه على النَّاس.

* تنبيه:

يخص من ذلك المياه المستبحرة باتفاق العلماء كما تقدم.

***

ص: 129

6 -

وَعَنْ رَجُلٍ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ أَوْ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قَالَ الشوكاني ما خلاصته: ادَّعى البيهقي أنَّه في معنى المرسل، وادَّعى ابن حزم أنَّ داود الذي رواه عن حميد بن عبد الرحمن الحميري ضعيف.

وَقَالَ ابن حجر في الفتح (1/ 300): رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعلَّه على حجَّة قوية.

ودعوى البيهقي أنَّه في معنى المرسل مردودة؛ لأنَّ إبهام الصحابي لا يضر؛ ودعوى ابن حزم أنَّ داود راويه عن حميد بن عبد الرحمن هو ابن يزيد الأودي، وهو ضعيفٌ: مردودة؛ فإنَّه ابن عبد الله الأودي وهو ثقة، وقد صرَّح باسم أبيه أبو داود وغيره.

وصرَّح الحافظ في بلوغ المرام: بأنَّ إسناده صحيح.

وقال ابن عبد الهادي في المحرَّر: صححه الحميدي، وقال البيهقي: رجاله ثقات.

* مفردات الحديث:

- نهى: النَّهي قولٌ يتضمن طلب الكف على وجه الاستعلاء، بصيغةٍ مخصوصةٍ من الفعل المضارع المقرون بـ"لا" النَّاهية.

(1) أبو داود (81)، النسائي (238).

ص: 130

- المرأة: الأنْثى من بني آدم، بعد البلوغ.

- بفضل: أي: بالماء الذي فَضَلَ وبقي بعد اغتسال الرجال.

- الرجل: الغلام إِذا احتلَمَ وَشَبَّ سمي رجلاً، والجمع: رجال، وجمع الجمع: رجالات.

- وليغترفا: الَّلام لام الأمر، والاغتراف: أخذ الماء بجميع اليدين.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

نهي الرجل أنْ يغتسل بفضل طهور المرأة.

2 -

نهي المرأة أنْ تغتسل بفضل طهور الرجل.

3 -

المشروع هو أنْ يغتسلا ويغترفا معًا. وقد جاء في صحيح البخاري (193) عن ابن عمر: "أنَّ الرجال والنساء كانوا يتوضَّؤون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا"، وفي رواية هشام بن عمَّار عن مالك قال فيها:"من إناء واحد"[رواه ابن ماجه (376)، ورواه أبو داود (77) من وجهٍ آخر].

4 -

هذا الإطلاق مقيَّدٌ بأنهُ ليس المراد به الرجال الأجانب من النساء، وإنَّما المراد الزوجات، أو من يحل له أن يرى منها مواضع الوضوء.

5 -

ما جاء في حديث الباب فهو يبين حكم الغسل، وحديث ابن عمر الذي في البخاري يبين حكم الوضوء الذي جاء صريحًا بما رواه الحكم بن عمرو الغفاري قال:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة"، رواه أحمد وأصحاب السنن. والمشهور عند الحنابلة: أنَّه طهور إلَاّ بحق الرجل.

ص: 131

7 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ: "اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَفْنَةٍ، فَجَاءَ لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا، فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا، فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ" وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ. (1)

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ. وما رواه مسلمٌ قد أُعِلَّ بترددٍ وقع في رواية عمرو بن دينار، ولكنَّهُ جاء في البخاري (253) ومسلم (322) محفوظًا بِلا ترددٍ بلفظ:"أنَّ النبِّيَّ صلى الله عليه وسلم وميْمُونَةَ كَانَا يغْتَسِلَانِ مِنْ إناءٍ واحِدٍ"، وهذا اللفظ وإنْ لم يعارض رواية مسلمٍ، فإنَّ الذي يعارضه ما جاء في رواية السنن وهي صحيحة.

قال ابن عبد الهادي في المحرر: صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبَّان والحاكم والذهبي. قال ابن حجر في التلخيص (1/ 15): وقد أعلَّهُ قومٌ بسماك ابن حرب؛ لأنَّه كان يقبل التلقين، لكن رواه عنه شعبة، وشعبة لا يحمل عن مشايخه إلَاّ صحيحَ حديثهم.

* مفردات الحديث:

- بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: هي ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها كما أخرجه الدَّارقطني وغيره.

- جَفْنَة: بفتح الجيم وسكون الفاء: هي القصعة الكبيرة، جمعها: جفان، والقصعة: إناءٌ كبير يوضع فيه الطعام، ويُتَّخذ غالبًا من الخشب.

- جُنُبًا: بضمتين هو من أصابته الجنابة، يطلق على الذكر والأُنثى، والمفرد

(1) مسلم (323)، أبو داود (68)، الترمذي (64)، النسائي (325)، ابن ماجة (370)، ابن خزيمة (1/ 57).

ص: 132

والمثنى والجمع، سُمِّيَ جُنُبًا؛ لأنَّه أُمِرَ أنْ يَجْتَنِبَ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ ما لم يتطهر، أو لأنَّ ماءه جانب وباعد محله ومستقره، وقيل: لمجانبته النَّاس حتَّى يغتسل.

- ليغتسل: "الَّلام" للتعليل -لام كي- والفعل منصوب بِـ"أنْ" مضمرة بعدها، وما قبلها يكون مقصودًا لحصول ما بعدها.

- لا يجنب: من جنب كفَرِح وككَرُم، أي بكسر عين الفعل أو ضمِّها، فيجوز فتح النون وضمُّها من مضارعه، هذا إذا جعلته من الثلاثي، ويصح أنْ يكون رُبَاعيًّا من أجنب يُجْنِبُ، وهو إصابةُ الجنابة، والمعنى: أنَّ الماء لا تصيبه الجنابة.

* مَا يؤْخَذُ من الحديث:

1 -

جواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة، ولو كانت المرأة جنبًا، وبالعكس، فيجوز للمرأة أنْ تغتسل بفضل طهور الرجل من باب أولى. قال ابن عبد البر في الاستذكار: الأصل في الماء الطهارة؛ لأنَّ الله قد خلقه طهورًا، فهو كذلك حتَّى يجمع المسلمون أنَّه نجس، والمؤمن لا نجاسة فيه، فالنجاسة أعراضٌ داخلة، والمرأة في ذلك كالرجل إذا سلما ممَّا يَعْرِضُ من النجاسات.

2 -

أنَّ اغتسال الجنب أو وضوء المتوضِّىء من الإناء، لا يُؤثِّرُ في طهورية الماء؛ فيبقى على طهوريته.

3 -

حكى الوزير والنووي وغيرهما الإجماع على جواز وضوء الرجل بفضل طهور المرأة، وإنْ خَلَتْ به، إلَاّ في إحدى الروايتين عن أحمد، وهي الرواية المشهورة عند أصحابنا؛ فإنَّهم يرون أنَّ المرأة إذا خلت بالماء القليل لطهارة كاملة عن حدث، فإنَّه لا يُطَهِّر الرجل.

والرواية الأخرى: قال عنها في الإنصاف: وعن الإمام أحمد: يرفع حدث الرجل في أصح الوجهين، واختارها ابن عقيل وأبو الخطَّاب والمجد. قال في الشرح الكبير: هو أقيس، وهو مذهب الأئمة الثلاثة.

أما وضوء المرأة بفضل الرجل فجائزٌ بلا نزاع.

ص: 133

8 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "طُهُوْرُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ: أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُوْلَاهُنَّ بِالتُّرَابِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي لَفْظٍ لَهُ: "فَلْيُرِقْهُ"، وَلِلتِّرْمِذِيِّ:"أُخْرَاهُنَّ، أَوْ أُولَاهُنَّ". (1)

ــ

* مفردات الحديث:

- طُهُور: بضم الطاء على الأشهر. قال النووي: جمهور أهل اللغة على أنَّ الطهور والوضوء يضمَّان إذا أُريد بهما المصدر الذي هو الفعل، ويفتحان إذا أُريدَ بهما ما يُتطهَّر به؛ وهنا المراد به المصدر.

- ولغ: هو من باب فَتَحَ وَحَسِبَ وَوَرِثَ، ومضارعه: يلَغ بفتح عين الكلمة وكسرها، ويالغ ولْغًا، والولوغ: الشرب بأطراف اللسان، وهو شرب الكلب وغيره من السباع.

- أخراهنَّ: بألف التأنيث المقصورة، وجمع أخرى: أُخريات، وأُخَر، مثل كبرى وكبريات وكبر، والمراد: إحداهنَّ؛ كما جاء في بعض روايات هذا الحديث.

- التراب: ما نَعُمَ من أديم الأرض.

- فليرقه: أي: فليصبَّه على الأرض. قال في المصباح: راق الماءُ وغيرُهُ ريقًا: انصَبَّ، ويتعدَّى بالهمزة فيقال: أراقه، وتبدل الهمزة هاء فيقال: هَرَاقَهُ، وقد يجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقَهُ يُهْرِيقُهُ، ساكن الهاء.

- أوْلاهنَّ: "أخراهنَّ" أو "أُولاهُنَّ": الرّاجح أنَّ هذا الشك من الرَّاوي، وليس

(1) مسلم (279)، الترمذي (91).

ص: 134

للتخيير، ورواية "أوْلاهنَّ" أرجحهما؛ لكثرة رواتها، ولإخراج الشيخين لها، ولأنَّ التراب إذا جاء في الغسلة الأولى، كان أنقى.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

نجاسة الكلب، وكذا جميع أجزاء بدنه نجسة، وجميع فضلاته نجسة.

2 -

أنَّ نجاسته نجاسة مغلَّظة؛ فهي أغلظ النجاسات.

3 -

أنَّه لا يكفي لإزالة نجاسته والطهارة منها إلَاّ سبع غسلات.

4 -

إذا ولغ في الإناء، فلا يكفي معالجة سؤره بالتطهير، بل لابدَّ من إراقته، ثمَّ غسل الإناء بعده سبعًا إحداهن بالتراب.

5 -

قوله: "إذا ولغ" خرج به ما إذا كان ما تناوله بلسانه جامدًا؛ لأنَّ الواجب إلقاء ما أصابه الكلب بفمه، ولا يجب غسل الإناء إلَاّ مع الرطوبة.

6 -

وجوب استعمال التراب مرَّةً واحدةً من الغسلات، والأفضل أنْ تكون مع الأوْلى؛ ليأتي الماء بعدها.

7 -

تعيُّن التراب، فلا يجوز غيره من المزيلات والمطهرات؛ لأمور:

(أ) يحصُلُ بالتراب من الإنقاء مالا يحصُلُ بغيره من المزيلات والمطهِّرات.

(ب) ظهر في البحوث العلمية أنَّه يحصُلُ من التراب خاصَّةً إنقاءٌ لهذه النجاسة، لا يحصُلُ من غيره، وهذه إحدى المعجزات العلمية لهذه الشريعة المحمدية، التي لم ينطق صاحبها عن الهوى، إنْ هو إلَاّ وحيٌ يوحى.

(ج) أنَّ التراب هو مورد النَّصِّ في الحديث؛ فالواجب التقيد بالنص، ولو قام غيره مقامه، لجاء نص يشمله، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم].

8 -

استعمال التراب يجوز بأنْ يطرح الماء على التراب أو التراب على الماء، أو أنْ يؤخذ التراب المختلط بالماء، فيغسل به المحل، أمَّا مسح موضع النجاسة بالتراب فلا يجزىء.

9 -

ثبت طبيًّا، واكتُشِفَ بالآلاتِ المكبِّرة والمجاهر الحديثة: أنَّ في لعاب الكلب

ص: 135

ميكروباتٍ وأمراضًا فتَّاكةً، لا يزيلها الماء وحده، ما لم يستعملْ معه التراب خاصَّة؛ فسبحان العليم الخبير!!.

10 -

ظاهر الحديث: أنَّه عامٌّ في جميع الكلاب؛ وهو قول الجمهور.

ولكن قال بعض العلماء: إنَّ الكلب المأذون فيه للصيد والحرث والماشية مستثنًى من هذا العموم؛ وذلك بناءً على قاعدة سماحة الشريعة ويسرها؛ فالمشقَّة تجلب التيسير.

11 -

ألحق أصحابنا بالكلبِ الخنزيرَ في غلظ نجاسته، وحكم غسلها بغسل نجاسته؛ كما تغسل نجاسة الكلب، ولكن خالفهم أكثر العلماء؛ فلم يجعلوا حكم نجاسته كنجاسة الكلب، في الغسل سبعًا، والتتريب، اقتصارًا على مورد النص؛ لأنَّ العلَّة في غلظ نجاسة الكلب غير ظاهرة.

قَال في شرح المهذَّب: لا يجب التسبيع من نجاسة الخنزير، وهو الرَّاجح من حيثُ الدليلُ، وهو المختار لأنَّ الأصل عدم الوجوب حتَّى يرد الشرع.

12 -

اختلف العلماء في وجوب استعمال التراب: فذهب الحنفية والمالكية إلى أنْ الواجب الغسلات السبع، وأمَّا استعمال التراب معهن فليس بواجب، وذلك لاضطراب الرواية في الغسلة التي فيها التراب، ففي بعض الروايات أنَّها الأولى، وفي بعضها أنَّها الأخيرة، وفي بعضها لم يعين مكانها ففي إحداهنَّ؛ ومن أجل هذا الاضطراب سقط الاستدلال على وجوب التراب، والأصل عدمه، وذهب الشافعي وأحمد وأتباعهما وأكثر الظاهرية وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن جرير وغيرهم إلى اشتراط التراب، فإنْ غسلت نجاسة الكلب بدونه فلا يطهر، وذلك للنصوص الصحيحة في ذلك.

وأمَّا دعوى الاضطراب في الرِّواية فمردودة؛ فإنَّه إنَّما يُحكم بسقوط الرِّواية من أجل الاضطراب إذا تساوت الوجوه، أمَّا إذا ترجَّح بعض الوجوه على بعض -كما في هذا الحديث- فإنَّ الحكم يكون للرواية الرَّاجحة؛ كما هو مقرَّر

ص: 136

في علم الأصول، وهنا الرَّاجح رواية مسلم أنَّها "أولاهنَّ".

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء هل نجاسة الكلب خاصَّةٌ بفمه ولعابه، أو عامَّةٌ في جميع بدنه وأعضائه؟:

ذهب الجمهور: إلى أنَّ نجاسته عامة لجميع بدنه، وأنَّ الغسل بهذه الصفة عامٌ أيضًا؛ وذلك منهم إلحاقًا لسائر بدنه بفمه.

وذهب الإمام مالك وداود: إلى قصر الحكم على لسانه وفمه؛ وذلك أنَّهم يرون أنَّ الأمر بالغسل تعبُّديّ لا للنَّجاسة، والتعبُّدِيُّ يُقْصَرُ على النصِّ؛ فلا يتعدَّاه لعدم معرفة العلَّة. والقول الأوَّل هو الرَّاجح؛ لأمور:

1 -

أنَّه يوجد في بدنه أجزاء هي أنجس وأقذر من فمه ولسانه.

2 -

أنَّ الأصل في الأحكام التعليل؛ فيحمل على الأغلب.

3 -

أنَّه ظهر الآن أنَّ نجاسة الكلب نجاسة ميكروبية؛ فلم تصبح ممَّا لا تعقل علَّته، وإنُّما أصبحت الحكمة ظاهرة.

قال الشافعي: جميع أعضاء الكلب يده أو ذنبه أو رجله أو أي عضوٍ إذا وقع في الإناء، غسل سبع مرَّات، بعد إهراق ما فيه.

قال الأستاذ طبارة في كتاب "روح الدِّين الإِسلامي": ومن حكم الإِسلام لوقاية الأبدان تقريرُهُ بنجاسة الكلب، وهذه معجزةٌ علمية للإسلام سبَقَ بها الطب الحديث؛ حيث أثْبَتَ أنَّ الكلاب تنقل كثيرًا من الأمراض إلى الإنسان؛ فإنَّ الكلاب تصاب بدودة شريطية، تتعدَّاها إلى الإنسان وتصيبه بأمراضٍ عُضالٍ، قد تصل إلى حدّ العدوان على حياته، وقد ثبت أنَّ جميع أجناس الكلاب لا تَسْلَمُ من الإصابة بهذه الديدان الشريطية، فيجب إبعادها عن كلِّ ما له صلةٌ من مأكل الإنسان أو مشربه.

***

ص: 137

9 -

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الهِرَّةِ: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ" أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

صححه البخاري، والعقيلي، والدَّارقطني، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح.

وقال الدَّراقطني: رجاله ثقات معروفون. وقال الحاكم: هذا الحديث صحَّحه مالك، واحتج به في الموطَّأ. ومع ذلك: فإنَّ له شاهدًا بإسنادٍ صحيحٍ رواه مالك، ورواه عنه كل من أبي داود والنسائي، والترمذي، والدَّارمي (1/ 203)، وابن ماجه، والحاكم (1/ 263)، والبيهقي (1/ 246)، وأحمد (22074) كلهم عن مالك (44) عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري، وصحَّحه النووي في المجموع ونقل عن البيهقي أنَّه قال: إسْنَادُه صحيحٌ.

وللحديث طرقٌ أُخر.

وقد أعلَّهُ ابن منده بأنَّ حميدة وكبشة مجهولتان، والجواب: أنَّ حميدة روى عنها ابنها يحيى، وهو ثقة عند ابن معين، وأمَّا كبشة: فقال الزبير بن بكار وأبو موسى وابن حبَّان: لها صحبة، وهذا في خصوص هذا الإسناد، وإلَاّ فقد

(1) أبو داود (75)، الترمذي (92)، النسائي (68)، ابن ماجه (367)، ابن خزيمة (1/ 55).

ص: 138

جاء من طرق أُخر عن أبي قتادة.

وبهذا يندفع إعلال ابن منده للحديث، ويصبح الحديث صحيحًا بتصحيح هؤلاء الأئمة له، والله أعلم.

* مفردات الحديث:

- الهِرَّة: بكسر الهاء وتشديد الرَّاء، آخره تاء مربوطة، هي الأنثى من القطط، جنسٌ من الفصيلة السِّنَّوْرية.

- بنجس: بفتح الجيم، وفيها لغاتٌ: ضد الطاهر، وصف بالمصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث، وجمعه أنجاس.

- إنَّما: "إنَّ" من أدوات التأكيد دخلت عليها "ما" فكفتها عن العمل، ولكن مجموع الحرفين أفاد الحصر.

- الطَّوافين: جمع طوَّاف، وهو مَنْ يكثر الطواف والجولان، وهو الخادم.

قال ابن الأثير: الطائف الذي يخدمك برفقٍ وعناية، شبَّهها بالخادم الذي يطوف على مخدومه ويدور حوله. وقد جُمِعَ جمع المذكَّر السَّالم مع أنَّه ليس بعاقل؛ وذلك تنزيلاً له منزلة من يعقل، حيث وصف بصفة الخادم.

* ما يُؤْخذ من الحديث:

1 -

أنَّ الهرَّة ليست بنجس؛ فلا ينجس ما لامسته أو ولغت فيه.

2 -

العلَّة في ذلك أنَّها من الطوافين، وهم الخدم الذين يقومون بخدمة المخدوم، فهي مع النَّاس في منازلهم وعند أوانيهم وأمتعتهم، فلا يمكنهم التحرز منها.

3 -

هذا الحديث وأمثاله من أدلَّة القاعدة الكلية الكبرى، وهي:"المشقَّة تجلب التيسير"؛ فعموم البلوى بها جعل ما تلامسه الهرَّة طاهرًا وإنْ كان رطبًا.

4 -

يقاس على الهرَّة كل ما شابهها من الحيوانات المحرَّمة، ولكنَّها أليفة تدعو الحاجة إلى استعمالها؛ كالبغل والحمار، أو لا يمكن التحرز منه؛ كالفأر.

ص: 139

5 -

أنَّ فقهاء الحنابلة وغيرهم جعلوا كل ما كان بقدر خلقة الهِرَّة، أو أصغر منها من الحيوانات المحرَّمة، والطير المحرمة: في حكمها من حيثُ الطهارةُ، وجوازُ الملامسة والمباشرة؛ فطهارة هذه الحيوانات وأمثالها أمرٌ غير حل أكله بالذكاة، وإنَّما المراد طهارة البدن وما أصاب ولامس، ولكن الرَّاجح تقييده بما تعم به البلوى من الحيوانات المحرَّمة، سواءٌ كان كبير الخلقة أو صغيرها؛ لأنَّه مناط العلَّة بقوله:"إنَّها من الطوافين عليكم".

6 -

قوله: "إنَّها ليست بنجس" دليلٌ على طهارة جميع أعضاء الهِرَّة وبدنها، وهو أصح من قول من قصر طهارتها على سؤرها وما تناولته بفمها، وجعل بقية أجزائها نجسة؛ فإنَّ هذا خلاف ما يفهم من الحديث، وخلاف ما يُفْهَمُ من التعليل، وهو قوله:"من الطوافين عليكم"؛ فالطَّوَّافُ من شأنه أنْ يباشر الأشياء بجميع بدنه وأعضائه.

7 -

قال ابن عبد البر: في الحديث دليل على أنَّ ما أُبِيحَ لنا اتخاذه فسؤره طاهرٌ؛ لأنَّه من الطوافين علينا، ومعنى الطوافين علينا الذين يداخلوننا ويخالطوننا.

8 -

مفهوم الحديث: يفيد مشروعية اجتناب الأشياء النجسة، وإذا دعت الحاجة أو الضرورة إلى ملامستها، فيجب التنزه منها؛ وذلك كالاستنجاء باليد اليسرى، وإزالة الأنجاس والأقذار بها.

ص: 140

10 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ; فَأُهْرِيْقَ عَلَيْهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- في المسجد: يعني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد لغةً: مَفْعِل -بالكسر-: اسم مكان السجود، وبالفتح: مصدر ميمي، قال الصفتي: ويقال: مَسْيِدٌ، حكاه غير واحد.

- أعرابي: بفتح الهمزة: بدوي؛ نسبة إلى الأعراب سكَّان البادية، وقد جاءت النسبة فيه إلى الجمع دون الواحد؛ لأنَّه لا واحد له من لفظه، فهو ممَّا يفرق بين جمعه وبين مفرده بياء النسب.

- الطائفة: القطعة من الشيء، أي: ناحية المسجد.

قال ابن فارس: الطاء والواو والفاء أصلٌ صحيحٌ يدل على دوران الشيء، ثمَّ يتوسَّعون فيقولون: أخذت طائفة من الثوب، أي قطعةً منه، وهذا على معنى المجاز.

- فزجره النَّاس: يقال: زَجَرَهُ يَزْجُرُهُ زجرًا من باب قتل، فالزجر المنع؛ فالنَّاس أرادوا منعه من البول في المسجد.

- بوله: البول: هو السائل الذي تفرزه الكليتان، فيجتمع في المثانة حتَّى تدفعه، وقد تقدَّم.

- بِذَنُوبٍ من ماء: بفتح الذَّال المعجمة: الدلو الملآنة ماء، ولا تسمَّى ذنوبًا إلَاّ

(1) البخاري (219)، مسلم (285).

ص: 141

إذا كان فيها ماءٌ.

- قضى بوله: "قضى" له عدَّة معانٍ جاءت كلها في القرآن الكريم، ومنها معنى "فرغ"؛ كقوله تعالى:{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} وكذلك هنا، أي: فرغ من بوله.

- فأهريق عليه: أصله: "فأريق عليه" ثمَّ أُبْدِلَتِ الهمزة هاء، فصار "فَهُرِيقَ"، ثمَّ زيدت همزة فصار "فأهريق"، وهو بسكون الهاء مبنيٌّ للمجهول، وقد تقدَّم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ البول نجس، ويجب تطهير المحل الذي أصابه من بدنٍ أو ثوبٍ أو إناءٍ أو أرضٍ أو غير ذلك.

2 -

تطهّر الأرض من البول بغمرها بالماء، ولا يشترط نقل التراب من المكان قبل الغسل ولا بعده، ومثل البول بقية النجاسات بشرط عدم وجود شيء من أجزاء النجاسة ذات الجرم.

3 -

احترام المساجد وتطهيرها، وإبعاد الأقذار والأنجاس عنها؛ فقد جاء في رواية الجماعة إلَاّ البخاري: قال له: "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول والقذر، وإنَّما هى لذكر الله وقراءة القرآن".

4 -

سماحة خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقد أرشد الأعرابيَّ برفقٍ ولينٍ بعد ما بال، ممَّا جعله يخصه بالدعاء فيقول:"اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا"؛ كما جاء في صحيح البخاري (6010).

5 -

بُعْدُ نظره صلى الله عليه وسلم، ومعرفتُهُ طبائعَ النَّاس، وحُسْنُ سيرته معهم، حتى أخذ حبه صلى الله عليه وسلم بمجامع قلوبهم؛ قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} .

6 -

عند تزاحم المفاسد يرتكب أخفها؛ فقد تركه صلى الله عليه وسلم حتَّى أكمل بوله؛ لأجل ما يترتب من الأضرار على قطع بوله من تلويثه بدنه وثيابه وانتشار بوله في مواضع أُخَرَ من المسجد، وما يحدث من ضرر في بدنه، خاصَّة المسالك البولية.

ص: 142

7 -

أنَّ البعد عن النَّاس والمدن يسبِّب الجفاء والجهل.

8 -

الرفق بتعليم الجاهل وعدم التعنيف عليه.

9 -

أنَّ ما يترتب على الأحكام الشرعية من إثمٍ أو عقوبةٍ في الحياة، إنَّما يكون في حق العالِمِ بالحكم، أمَّا الجاهل: فلا ملامة عليه، ولكن يُعَلَّم ليلتزم.

10 -

في الحديث حثٌّ على المبادرة إلى إنكار المنكر عند القدرة على ذلك؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه الصحابة عنه، وإنَّما نهاهم عن العنف على الأعرابي.

ص: 143

11 -

وَعَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ والطِّحَالُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِيهِ ضَعْفٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح موقوفًا.

وأمَّا المرفوع ففيه ضعفٌ؛ لأنَّه من رواية عبد الرحمن وأخويه أبناء زيد بن أسلم، عن أبيهم، عن ابن عمر، وقد ضعفهم ابن معين.

قال أبو زرعة وأبو حاتم: إنَّه موقوف، وصححه موقوفًا كل من الدَّارقطني (4/ 271) والحاكم، والبيهقيُّ (1/ 254)، وابن القيم.

وقال ابن حجر: هي في حكم المرفوع؛ لأنَّ قول الصحابي: "أُحِلَّ لنا كذا" و"حُرِّم علينا كذا"، مثل قوله:"أمرنا بكذا" و"نهينا عن كذا"، فيحصل الاستدلال بهذه الرِّواية؛ لأنَّها في معنى المرفوع.

* مفردات الحديث:

- ميتتان: مفردها ميتة بالتخفيف، وأمَّا بالتشديد: فهي التي لم يلحقها ذكاة ممّا مات حتف أنفه، أَو ذُكِّيَ ذكاة غير شرعية.

وقال ابن دقيق: الميتة بالتشديد والتخفيف بمعنى واحد في موارد الاستعمال.

- دمان: مفرده دم، وهو غير الدم السَّائل الذي يتدفق من القلب إلى جميع أعضاء الجسم عن طريق الشرايين، ويعود إلى القلب بواسطة الأوردة، ولونه أصفر لولا وجود الكريات الحمراء فيه، فهو نجس محرَّم، وإنَّما المراد به هنا

(1) أحمد (5690)، ابن ماجه (3220).

ص: 144

نفس الكبد والطحال.

- أمَّا: حرف تفصيل متضمن معنى الشرط، جعله سيبويه بمعنى:"مهما يك من شيء"، ويجب اقتران جوابه بالفاء.

- الكبد: مؤنثة، وقد تُذَكَّر: عضو في الجانب الأيمن من البطن تحت الحجاب الحاجز، له وظائف عدَّة أظهرها إفراز الصفراء، وهو مخزن هام للدَّم يتزوده من طريقي الشريان والوريد البابِيِّ، ويغادر الدم الكبد إلى الوريد الأجوف بنسب منظَّمة، بحكمة الله تعالى وقدرته، فهذا الدم الموجود في الكبد مستثنًى من الدم المحرَّم، فهو حلال طاهر.

- الطحال: بزنة كتاب، جمعه: طُحُلٌ وأطحلة، هو عضوٌ يقع بين المعدة والحجاب الحاجز في يسار البطن، وظيفته تكوين الدم، وإتلاف القديم من كريَّاته.

فهذان الدمان طاهران مباحان، وسيأتي بحثه في فقه الحديث، إنْ شاء الله تعالى.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تحريم الدم المسفوح؛ أخذًا من إباحة الدمين المذكورين في الحديث؛ فاستثناء حل بعض الشيء دليلٌ على حرمة الباقي، وله أدلَّةٌ أخرى معروفة.

2 -

تحريم الميتة، وهي ما ماتت حتف أنفها، أو ذكيت تذكية غير مشروعة.

3 -

أنَّ الكبد والطِّحال حلالان وطاهران.

4 -

أنَّ ميتة الجراد والحوت طاهرة وحلال.

ومعنى ميتة الجراد: هو أنْ يموت بغير صنع آدمي في إماتته، وإنَّما يموت حتف أنفه بأي سببٍ من أسباب الموت، من بردٍ أو غرقٍ أو غير ذلك، فإنْ مات بصنع آدمي، فهو ما جاءت النصوص بحله، وأجمعت عليه الأمة.

أمَّا ما مات بشيء من المبيدات السامة، فهذا يحرم؛ لما فيه من السم القاتل المحرَّم، وكذلك ميتة الحوت: هو أن توجد ميتة؛ إما بسبب جزر

ص: 145

المياه عنه، أو نضوب الأنهار، أو بسب قذف الأمواج له، أو أصابته آفة سماوية.

والقصد: أنه إذا وجدت ميتة بأي وسيلة من وسائل الموت، فهي حلالٌ طاهرةٌ.

أمَّا ما مات بسبب ما يسمَّى بتلوث البحار بمواد سامَّة أو نفايات قاتلة، فهذا يحرم لا لذاته، وإنَّما لما تسمَّم به من مَوادَّ مضرةٍ أو قاتلة.

5 -

الحديث دليل على أنَّ السمك والجراد إذا ماتا في ماءٍ، فإنَّه لا يَنْجُسُ قليلاً كان الماء أو كثيرًا، ولو تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فإنَّه لم يتغير بنجاسة، وإنَّما تغير بشيءٍ طاهرٍ، وهذا وجه سياق الحديث في باب المياه.

***

ص: 146

12 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ:"وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ"(1)

ــ

* درجة الحديث:

زيادة أبي داود جاءت بإسنادٍ حسن.

* مفردات الحديث:

الذباب: بضم الذال المعجمة، اسمٌ يطلق على كثيرٍ من الحشرات المجنَّحة، ومنها الذبابة المنزلية ذات الأجنحة الشفافة صاحبة الأرجل المغطَّاة بالشعر، التي تنتهي بوسائل ماصَّة، تمكِّنها من حمل الجراثيم والقاذورات التي تهبط عليها.

قال ابن بطال: سُمِّي ذبابًا؛ لأنَّه كلَّما ذُبَّ لاستقذاره، آب.

- الشراب: ما شرب من أي نوع من السوائل، جمعه أشربة.

- فليغمسه: في الشراب، ثمَّ لينزعه منه، يقال: انغمس في الماء: إذا غاب كله فيه.

- ثمَّ لينزعه: أي: ليجذبه ويقلعه من إناء الشراب.

- جناحيه: الجناح: هو ما يطير به الطائر ونحوه، وهما جناحان، جمعه أجنحة وأجنُحُ.

- الداء: هو المرض ظاهرًا أو باطنًا، يقولون: داءَ الرجلَ داءٌ، أي: نزل به داءٌ، جمعه أدواء، والمراد هنا: وجود سبب الدَّاء في أحد جناحي الذبابة.

- شفاء: البرء من المرض، والمراد هنا: وجود سبب الشفاء في أحد جناحي الذباب.

(1) البخاري (5782)، أبو داود (3844).

ص: 147

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

طهارة الذباب في حال حياته ومماته، وأنَّه لا ينجس ما وقع فيه من سائل أو جامد.

2 -

استحباب غمسه كله فيما وقع فيه من سائل، ثمَّ نزعه وإخراجه، والانتفاع بما وقع فيه فهو باقٍ على طهارته وماليته.

وإنْ كان ما وقع فيه جامدًا، ألقاه وما حوله؛ لعدم سريان مضرته في بقية أجزاء الجامد.

3 -

أنَّ في أحد جناحي الذباب داءً، وفي الجناح الآخر شفاء، فإذا وقع في الشراب، رفع الجناحَ الذي فيه الشفاء، وغمس في الشراب الجناحَ الذي فيه الداء؛ ليحافظ على السِّلاح الذي أودعه الله بجناحه من العطب، فيبقى ذخيرة له في حياته عند حاجته إليه، فكان من حكمة الله تعالى أنْ أمر أنْ يغمس جناحه الذي فيه الشفاء حتى يُقابَلَ داؤُهُ بدوائه، فيكون مضادًّا له وتزول مضرته. أمَّا إراقته: ففيها إضاعة مال وإفساد، والشرع ليس لعصرٍ من العصور أو شعب من الشعوب؛ فقد يكون لهذا الشراب قيمته الكبيرة في زمنٍ من الأزمنة، ومكان من الأمكنة، وشعبٍ من الشعوب.

4 -

في الحديث إعجاز علمي؛ فقد جاء العلم الحديث بمبتكرات واكتشافات؛ فأثبتت وجود حقيقة علمية في وجود داء ضار في أحد جناحي الذباب، بينما أثبت وجود دواء مضاد له في الجناح الآخر، ولله في شرعه أسرار!!.

5 -

قاس العلماء على طهارة الذباب كل ما ليس له نَفْسٌ سائلةٌ من الحشرات، فحكموا بطهارتها، وأنَّها لا تنجس ما سقطت فيه من أطعمة أو أشربة، قليلة كانت تلك الأطعمة أو الأشربة أو كثيرة؛ ذلك أنَّ سبب التنجُّس هو الدم المحتقن في الحيوان بعد موته، وهذا السبب غير موجود فيما ليس له دم سائل؛ كالنحلة، والزنبور، والبعوضة، وأمثال ذلك.

ص: 148

بحثٌ فيه ردٌّ لمطاعن الزنادقة في هذا الحديث:

طعن بعض الزنادقة في هذا الحديث، بل تعدَّاه الطعن إلى الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه ومن هؤلاء "محمود أبو ريَّة" في كتابه الذي أسماه "أضواء على السنَّة المحمدية"، وردَّ عليه الشيخ العلَّامة: عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي في كتابه "الأنوار الكاشفة"، وقال: وقع إليَّ كتاب جمعه أبو رية، فطالعته وتدبرته، فوجدته جمعًا وترتيبًا وتكميلاً للمطاعن في السنة النبويَّة، والجواب عن الطعن في هذا الحديث نلخِّصها في الفقرات التالية:

أولًا: الحديث الذي معنا من الأحاديث التي انتقاها واختارها الإمام البخاري لصحتها ووضعها في صحيحه، وحسبك بهذا الإمام الجليل وبكتابه الذي أجمعَتِ الأمَّةُ على قبوله فتلقته بالقبول والرضا، والاعتمادِ والعملِ بما فيه.

ثانيًا: حديث الذباب لم ينفردْ بروايته أبو هريرة، وإنَّما رواه أيضًا أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك؛ كما جاء ذلك في مسند الإمام أحمد (3/ 24).

ثالثًا: من هو الذي يتطاول حتَّى ينال من طرف صحابي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى يصل إلى أحفظهم لأحاديث رسوله، وأكثرهم لها نقلاً، الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحفظ وبطء النسيان، والذي فرَّغ نفسه لحفظ الحديث؛ فلا زراعةَ تشغله، ولا تجارةَ تلهيه، وإنَّما ليله ونهاره يتابع ما يلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم من الحكمة، ثُمَّ يَسْهَرُ عليها ليله لحفظها، ويثبِّتها في قلبه.

رابعًا: قال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي: علماء الطبيعة يعترفون بأنَّهم لم يحيطوا بكلِّ شيءٍ علمًا، ولا يزالون يكتشفون الشيء بعد الشيء، فبأي إيمان ينفي أبو رية وأضرابُهُ أنْ يكون الله تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على أمرٍ لم يصل إليه علم الطبيعة بعد، هذا وخالق الطبيعة ومدبِّرها هو واضعُ الشريعة.

خامسًا: أثبت الأطباء الحديثون أنَّ في أحد جناحي الذباب داءً، وفي الآخر شفاءً، وبهذا -والحمد لله- وضح الحقُّ؛ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء].

ص: 149

13 -

وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتٌ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ. (1)

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

فقد روي من أربع طرق عن أربعة من الصحابة، عن أبي سعيد، وأبي واقدٍ الليثي، وابن عمر، وتميم الدَّاري، وحديث أبي واقد هذا رواه أيضًا أحمد (21396) والحاكم (4/ 137) وصححه.

قال الشوكاني: رواه الحاكم عن أبي سعيد مرفوعًا، قال الدَّارقطني: والمرسل أصح.

وأمَّا حديث ابن عمر: فأخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه عاصم بن عمر وهو ضعيف.

وأمَّا حديث تميم: فقد رواه ابن ماجه والطبراني، وإسناده ضعيف.

* مفردات الحديث:

- ما قطع: "ما" موصولة، والفعل بعدها مبني للمجهول.

- البهيمة: كل ذات أربع قوائم، من دواب البر والبحر ما عدا السباع، جمعها بهائم.

- وهي حية: الواو للحال، أي: والحال أنَّ هذه البهيمة في حال الحياة.

- ميْت: بإسكان الياء؛ لأنَّه قد لحقها الموت حقيقة.

(1) الترمذي (1480)، أبو داود (2858).

ص: 150

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

إنَّ ما أُبِينَ من بهيمة في حال حياتها، فهو كَمَيْيَتِها طهارةً أو نجاسة، حلاًّ أو حرمة، فإنْ قطع من بهيمة الأنعام ونحوها مع بقاء حياتها، فهو نجس حرام الأكل، أمَّا لو أُبِينَ من سمكة وبقيت حية، فما أبين فهو طاهرٌ مباح.

2 -

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: وهذا متفق عليه بين العلماء.

3 -

ما يستثنى من ذلك: فأرة المسك التي تقطع وتُبَانُ من غزال المسك، وهي باقية حية، فهي طاهرة بالسنَّة والإجماع؛ لأنَّ ما أُبين منها بمنزلة البيض والولد والشعر ونحوها.

ويستثنى من ذلك أيضًا: "الطريدة"، وهو الصيد يقع بين القوم ولا يقدرون على ذكاته، فيقطع هذا منه بسيفه قطعة، ويقطع الآخر قطعة حتَّى يؤتى عليه فيموت.

ومثله النادُّ من الإبل ونحوها إذا توحَّشَتْ ولم يُقْدَرْ على تذكيتها؛ فقد كان الصحابة يفعلون هذا في مغازيهم؛ فقد جاء في البخاري من حديث رافع ابن خديج قال: كُنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحليفة، فَنَدَّ بعير، فطلبه الصحابة فأعياهم، فأهوى إليه رجلٌ بسهم فحبسه الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما ندَّ عليكم، فاصنعوا به هكذا".

* فائدة:

قال في حياة الحيوان والموسوعة العربية ما خلاصته:

غزال المسك: لونه أسود، له نابان أبيضان بارزان، تفرز غدة منه في سرته دمًا، في أوقاتٍ معلومة من السنة فيمرض منه، فإذا تكامل، سقط جلده الذي هو وعاؤه، فيكون منه أحسن العطور؛ وقد قال المتنبي يمدح سيف الدولة:

فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ

فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ

ص: 151