الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب إزالة النجاسة وبيانها
مقدمة
الإزالة: يقال: أزلت الشيء إزالة وزلته زيلاً، والإزالة التنحية.
النجاسة: لغة: اسم مصدر، جمعها أنجاس، والنجس: هو المستقذر المستخبَث، ويشمل النجاسة العينية والحُكْمية.
وعرفًا: تختص بالعينية.
والنجاسة شرعًا: قذر مخصوص؛ كالبول، يمنع جنسه الصلاة ونحوها.
وهذا الباب يذكر فيه أحكام النجاسة، وكيفية إزالتها، وتطهير محلها، وما يعفى عنه منها، وما يتعلَّق بذلك.
واتفق العلماء على وجوب إزالتها، وأنَّه شرط لصحة الصلاة.
قال الوزير: أجمعوا على أنَّ طهارة البدن من النجس شرط في صحة الصلاة للقادر عليها.
والنجاسة قسمان:
أحدهما: الحُكْمية، وهي الطارئة على محلٍّ طاهر؛ فهذه يكفي في تطهيرها إجراء الماء على جميع مواردها، بعد إزالة عينها عن المحل الطَّاهر.
الثاني: العينيَّة: فهذه لا تطهر بحال.
وعند الجمهور -ومنهم الحنابلة-: أن النَّجاسة إنَّما تزال بالماء دون غيره من المائعات.
ومذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد: أنَّها تزال بكلِّ مائعٍ طاهرٍ مزيل للعين والأثر؛ واختاره ابن عقيل، والشيخ تقي الدِّين.
والنجاسة لها ثلاث صفات: طعمٌ، وريحٌ، ولون:
فبقاء الطعم والريح بعد الغسل: دليل على بقاء عينها، وأنَّها لم تَزُلْ، أمَّا بقاء اللون بعد الغسل الجيد: فلا يضر؛ لأنه معفوٌّ عنه.
وأثر النجاسة من الروائح الكريهة السَّامة تختلط بالهواء، وتدخل في البدن بواسطة مسامه، فتضر الجسم وتخل بالصحة؛ لأنَّ الهواء سيَّال مركَّبٌ لطيف، يدخل بما يحمل معه بسهولة في أضيق مسام الأجسام؛ ولذا عيَّن الشَّارع الحكيم الماء لإزالة النجاسات؛ لأنَّ الماء في حالته الطبيعية فيه رقَّة وسيلان، وقوَّة في إزالة المستقذرات، والله أعلم.
قال العلماء: الأصل في كلِّ شيءٍ أنَّه طاهر؛ لأنَّ القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام، والأصل عدم ذلك، والبداهة قاضية بأنَّه لا تكليف بالمحتمل، حتَّى يثبت ثبوتًا بنقل في ذلك، وليس مَنْ أثبَتَ الأحكامَ المنسوبة إلى الشرع؛ بدون دليل -بأقل إثمًا ممَّن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام؛ فالكل من التقوُّل على الله بما لم يقل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجَّة، ومن أصيب بالوسواس، فعلاجه أنْ يعلم يقينًا أنَّ الأصل في الأشياء الطهارة، وأنَّه لا يحكم بنجاسة شيءٍ حتَّى يعلم يقينًا بنجاسته.
***
22 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "سُئِلَ رَسُوْلُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلاًّ? قَالَ: لَا" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حسنٌ صَحِيْحٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الخمر: ما أسكر من عصير العنب وغيره، وسُمِّيت خمرًا؛ لأنَّها تخامر العقل فتغطيه، وهي مؤنثة وقد تذكر، جمعه خمور.
- خَلاًّ: بفتح الخاء وتشديد اللَّام، الخل: ما حَمُضَ من عصير العنب وغيره، جمعه خلول.
- لا: حرف نفي، وتأتي على ثلاثة أوجه؛ منها: أنْ تكون جوابًا مناقضًا لنعم، وهذه تحذف الجمل بعدها كثيرًا، وهي المرادة هنا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الخمر محرمة؛ فعلاجها لتعود خلاًّ لا يجوز، ولو بنقلها من ظلٍّ إلى شمس أو عكسه، وهذا المفهوم من قوله:"تتخذ خلاًّ"، أمَّا عند الشَّافعية: فالأصح أنَّه يطهر بنقلها من الظلِّ إلى الشمس، وبالعكس؛ كما في شرح النووي على مسلم (13/ 152).
2 -
إذا خللت، فإنَّها لا تباح بالتخليل، بل حرمتها باقية؛ ويؤيد هذا ما روى أبو داود (3675)، والترمذي (1294):"أنَّ الخمر لما حرمت، سأل أبو طلحة النبي صلى الله عليه وسلم عن خمر عنده لأيتام هل يخلِّلها؟ فأمره بإراقتها".
3 -
أمَّا إذا تخللت بنفسها بدون تخليل، بأن انقلبت من كونها خمرًا إلى أنْ
(1) مسلم (1983)، الترمذي (1295).
صارت خلاًّ، فإنَّها تباح؛ لأنَّ غليانها المطرب قد زال؛ فصارت مباحة، والقاعدة:"الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا".
4 -
الحديث يدل على نجاسة الخمر، ولقوله تعالى:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، وحكى أبو حامد الغزالي الإجماع على نجاستها، وقال ابن رشد: الخلاف شاذ.
5 -
أمَّا الصنعاني فيقول في سبل السَّلام: الحق أنَّ الأصل في الأعيان الطهارة، وأنَّ التحريم لا يلزم النجاسة؛ فإنَّ الحشيشة محرَّمة طاهرة، وكل المخدرات والسموم القاتلات لا دليل على نجاستها.
وأمَّا النجاسة: فيلازمها التحريم، فكل نجس محرم، ولا عكس؛ وذلك لأنَّ الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كلِّ حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم، فإنَّه يحرم لبس الحرير والذهب، وهما طاهران إجماعًا.
وإذا عرفت هذا: فإنَّ تحريم الخمر الذي دلَّت عليه النصوص لا يلزم منه نجساتها، بل لابد من دليل آخر، وإلَاّ بقينا على الأصل المتفق عليه من الطهارة، فمن ادَّعى خلافه، فالدليل عليه. أهـ.
وتقدَّم كلام الغزالي وابن رشد حكاية الإجماع على نجاستها، وتقدَّم دليل نجاستها من السنَّة المطهرة في حديث رقم (19).
* خلاف العلماء في طهارة النجاسة بالاستحالة:
اختلف العلماء هل تطهير النجاسة بالاستحالة؟ ذلك بأنْ تنقلب من حالتها إلى حالة أخرى:
ذهب أبو حنيفة وأهل الظاهر: إلى أنَّ النجاسة تطهير بالاستحالة؛ وهو رواية في مذهب الإمامين مالك وأحمد، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية.
وذهب جمهور العلماء: إلى أنَّها لا تطهير بالاستحالة؛ وهو مذهب الأئمة
الثلاثة: مالك، والشَّافعي، وأحمد.
ودليلهم: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجَلَّالة وألبانها؛ لأنَّ أكلها النجاسةُ.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: الصواب أنَّ ذلك طاهر، إذا لم يبق أثر النجاسة ولا طعمها ولا لونها ولا ريحها؛ لأنَّ الله تعالى أباح الطيبات وحرَّم الخبائث، وذلك يتبع صفات الأعيان وحقائقها، فإذا عادت العين، خلاًّ دخلت في الطيبات.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الاستحالة تطهير النجس.
وهذا هو الصحيح وأدلَّة هذا القول واضحة.
* خلاف العلماء:
اتفق العلماء على أنَّ الماء الطهور يزيل النجاسة، واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها:
فذهب أبو حنيفة وأصحابه: إلى أنَّ النجاسة تطهَّر في أي موضعٍ كان، بأي طاهرٍ مزيل لعين النجاسة، سواءٌ كان مائعًا أو جامدًا.
وذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنَّه لا يطهَّر المحل من النجاسة إلَاّ بالماء الطهور، إلَاّ في الاستجمار فقط.
قال ابن رشد: وسبب اختلافهم هو: هل المقصود بإزالة النجاسة بالماء هو إتلاف عينها فقط، فيستوي في ذلك مع الماء كل ما يتلف عينها، أم أنَّ للماء في ذلك مزيد خصوص ليس بغير الماء؟
استدل أبو حنيفة بأحاديث وآثار في هذا الباب، منها: ما رواه أبو داود (386) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وطىء أحدكم الأذى بنعليه، فإنَّ التراب له طهور".
وبما رواه الترمذي في سننه (143) من حديث أم سلمة؛ أنَّها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنِّي امرأةٌ أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يطهِّرُهُ ما بعده"، وهناك أحاديث أخرى وآثار.
وهذا الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا الحديث ممَّا رواه مالك فصح، وإنْ كان غيره لم يره صحيحًا. وسُئِلَ الإمامُ أحمد عن حديث أم سلمة، فقال: ليس هذا عندي على أنَّه أصابه "ذيلَ ثوبها" بولٌ، فمر بعدها على الأرض، فطهره؛ ولكنَّه يمر بالمكان فيقذره، فيمر بمكانٍ أطيب منه فيطهره.
والرواية الأُخرى عن الإمام أحمد على هذا القول، واختاره ابن عقيل، والشيخ تقي الدِّين.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أن النجاسة إذا زالت بأي شيءٍ، فإنَّها تطهر، وكذلك إذا انتقلت صفاتها الخبيثة، وخلفتها الصفات الطيبة، فإنَّها تطهر بذلك كله؛ لأنَّ النجاسة تدور مع الخبث وجودًا وعدمًا.
***
23 -
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا رِجْسٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْه (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- خيبر: بفتح الخاء، وسكون الياء المثناة التحتية، بعدها باء موحدة، آخرها راء، بلدةٌ تقع شمال المدينة المنورة بمسافة نحو (160 كيلو متر)، وكان يسكنها طائفةٌ من اليهود، ففتحها النَّبي صلى الله عليه وسلم في السنة السَّابعة من الهجرة، والآن هي بلدة عامرة فيها الدوائر الحكومية، والمرافق العامة، وفيها بعض الآثار.
- ينهيانكم: تثنية الضمير لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- لحوم: جمع لحم، واللحم من جسم الحيوان والطير: الجزء العضلي الرخو بين الجلد والعظم.
- الحمر: بضمتين، جمع حمار، وهو حيوان داجن من الفصيلة الخيلية، يستخدم للحمل والركوب، والأُنثى: حمارة وأتان.
- الأهلية: مؤنث الأهلي نسبة إلى الأهل ضد الوحش، والأهلي الأليف من الحيوان.
- رجس: بكسر الرَّاء، وسكون الجيم، آخره مهملة، جمعه أرجاس، أي: قذر محرَّم، وأكثر ما يُقال في المستقذر طَبْعًا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
نجاسة الحمر الأهلية في لحمها ودمها، وبولها وروثها.
2 -
أمَّا عرقها ولعابها وبدنها، ففيه خلاف سيأتي إنْ شاء الله.
(1) البخاري (4198)، مسلم (1940).
3 -
تحريم أكل لحومها وشرب لبنها؛ فإنَّها رجسٌ، والرِّجس هو القذر النَّجس.
4 -
تقييده بالحمر الأهلية، دليلٌ على طهارة وإباحة الحمر الوحشية؛ ذلك أنَّها صيدٌ طاهرٌ حلال.
5 -
التعليل بأنَّها رجس، دليل على أنَّ كلَّ عين نجسة، فهي محرَّمة؛ لما فيها من المضارِّ الصحية، ولأنَّه خبيثٌ مستقذر.
6 -
قوله "ينهيانك" تثنية الضمير أحدهما يعود إلى الله تعالى، والآخر يعود إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء مثل هذا في عدَّه نصوص، منها:"أنْ يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما" رواه البخاري (16) ومسلم (43).
أمَّا قوله صلى الله عليه وسلم للخطيب الذي قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس الخطيب أنت" رواه مسلم (870)؛ فقد حملوا هذا على أنَّ الخُطَبَ ينبغي فيها البسط والإطناب؛ ليحصل التبليغ الكامل.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على أنَّ روث الحمار الأهلي والبغل، وبوله ودمه ولحمه: نجسة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحمار: "إنَّه رجس" وقال عن روثه: "إنَّه رجس".
واختلفوا في بدنه وما يفرزه من عرق، وفي فمه وما يخرج منه من ريقٍ وسؤره، وأنفه وما يخرج منه من مخاط، هل هي نجسة أو طاهرة؟:
فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه: إلى نجاستها، وتبعه على ذلك أصحابه؛ قال في المقنع والإنصاف: والبغل والحمار الأهلي نجسة، هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، قال ابن الجوزي: هذا هو الصحيح من المذهب.
وذهب الإمامان مالك والشَّافعي إلى أنَّهما طاهران؛ وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه ومنهم الموفَّق؛ قال في المغني: والصحيح طهارة البغل والحمار، قال في الإنصاف: قلت: وهو الصحيح والأقوى دليلاً.
واختارها بعض مشايخنا المعاصرين:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ:" إنَّها طاهرة في الحياة، ولا ينجس منها إلَاّ البول والروث والدم.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح الذي لا ريب فيه أنَّ البغل والحمار طاهران في الحياة كالهِرِّ، فيكون ريقهما وعرقهما وشعرهما طاهرًا.
واستدل الأولون على نجاستهما بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّها رجس"، والرجس هو النجس؛ فعموم الحديث يقتضي نجاسة كل شيءٍ منه، والأصل أنَّ كلَّ حيوان محرَّم فهو نجس خبيث، هو وجميع أجزائه.
أمَّا الذين يرون طهارة بدنهما وريقهما ومخاطهما وعرقهما وشعورهما: فلهم على ذلك أدلةٌ، منها:
أوَّلاً: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه كانوا يركبونهما، ومع هذا لم يأمر بالتوقِّي من هذه الفضلات منهما، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ثانيًا: أنَّه صلى الله عليه وسلم قال عن الهرَّة: "إنَّها ليست بنجس؛ إنَّها من الطوافين عليكم"، وهذه العلَّة موجودة في الحمار والبغل وأكثر؛ فإنَّ ركوبهما واستعمالهما أكثر لصوقًا وأمس حاجةً من الهِرَّة، فإذا عفي عن الهرَّة لتطوفها، فهو في الحمار والبغل أولى.
ثالثًا: القاعدة الشرعية الكليَّة الكبرى، وهي "المشقَّة تجلب التيسير"؛ فمشقَّة ركوب الحمار والبغل والحمل عليهما مسألةٌ جزئية من هذه القاعدة العظيمة.
ولذا قال الإمام أحمد: البغل والحمار طاهران ريقهما وعرقهما وشعورهما.
وقال في المغني: الصحيح عندي طهارة البغل والحمارة لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يركبهما ويُرْكَبَانِ في زمنه، فلو كانا نجسين، لبيَّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: هذا القول هو الأليق بالشريعة المحمدية شريعة اليسر، والبعد عن الحرج والمشقَّة.
وقال ابن القيم: دليل النجاسة لا يقاوم دليل الطهارة.
24 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ رضي الله عنه قَالَ: "خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَلُعَابُهَا يَسِيْلُ عَلَى كَتِفَي"، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
فقد صحَّحه الترمذي، وفيه شهر بن حوشب مُخْتَلَفٌ فيه، ووثَّقه البخاري، ويؤيده ما ثبت في البخاري (6802) ومسلم (1671) وغيرهما؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين بأنْ يشربوا من أبوال الإبل، فإذا كان البول طاهرًا، فاللعاب أولى.
* مفردات الحديث:
- مِنًى: بالتنوين، أحد المشاعر المقدَّسة، فيها الجمرات الثلاث، ويشرع المبيت فيها ليالي الأيَّام المعدودات، وهي أدنى المشاعر من مكَّة، وفيها الآن جميع المرافق والخدمات التي تسهِّل على الحاج أداء نسكه، من الطرق والجسور، والماء والكهرباء، وغير ذلك من الخدمات، وسيأتي تفصيل أحكام المناسك فيها وتحديدها؛ إنْ شاء الله تعالى.
- راحلته: بالحاء المهملة، هي من الإبل: الصَّالحة لأنْ ترحل، جمعها رواحل. وقال بعضهم: الرَّاحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال.
- لعابها: بضم اللام فعين مهملة وبعد الألف باء موحَّدة، هو ما سال من الفم وهو إحدى عصارات الهضم، سائلٌ لزج لا لون له يميل إلى الحموضة وقت إفرازه.
(1) أحمد (17211)، الترمذي (2126).
- يسيل: سال سيلاً وسيلانًا: جرى.
- الكتف: بفتح الكاف، وكسر التاء، آخره فاء، وهو عظم عريض خلف المنكب، تكون للإنسان والحيوان، مؤنثة، جمعه أكتاف.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
طهارة لعاب البعير، وأنَّه ليس بنجس، وهذا بإجماع المسلمين؛ ذلك أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم يرى اللعاب يسيل على عمرو بن خارجة، ولم يأمره بغسله، وإقرارُهُ على الشيء من سنته، وعلى فرض أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يعلم، فإنَّ الله تعالى يعلم، ولو كان نجسًا، لم يقرَّه الله عليه، فإقراره عليه دليلٌ على طهارته.
2 -
مثل لعابه -على الصحيح- بوله وروثه فإنَّه طاهر؛ لحديث العرنيين وغيره.
3 -
مثل البعير سائرُ بهيمة الأنعام وغيرها من الحيوانات الطاهرة في حال الحياة؛ لنصوصها الخاصَّة؛ للعلَّة الواحدة الجامعة بينها وبين البعير.
4 -
جواز الخُطْبة والموعظة على الرَّاحلة.
5 -
استحباب الخطب والمواعظ على الأمكنة العالية؛ لأنَّه أبلغ في الإعلام والإفهام، ويحصل به المقصود.
6 -
استحباب الخطبة ثاني أيام التشريق بمِنًى من ولي أمر المسلمين أو نائبه؛ ليعلم النَّاس بقيَّة أحكام المناسك ووداع البيت؛ فإنَّ هذه الخطبة منه صلى الله عليه وسلم هي في ذلك اليوم.
7 -
جواز جعل الخطيب من يساعده في مهمته -تحته- في إبلاغ خطبته، وتوجيه النَّاس أو تسكيتهم أو ترتيبهم، ولا يعتبر هذا من التعالي والكبرياء، ما دام القلب مطمئنًّا.
***
25 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُوْلُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ الْغَسْلِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: "لَقَدْ كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرْكًا فَيُصَلِّي فِيه".
وَفِي لَفْظٍ لَهُ: "لَقَدْ كُنْتُ أَحُكُّهُ يَابِسًا بِظُفُرِي مِنْ ثَوْبِهِ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- المني: هو سائلٌ أبيضُ غليظٌ تَسْبَحُ فيه الحيوانات المنوية، منشؤه إفرازات الخصيتين.
- أفركه: بضم الرَّاءِ، الفرك: هو الدلك والحك، يُقال: فرك الثوب ونحوه: حكَّه، حتَّى يتفتَّت ما عَلِقَ به.
- فركًا: مصدر معناه تأكيد حقيقة الشيء، ونفي المجاز.
قال النحاس: أجمع النحويون على أنَّك إذا أكَّدْتَ الفعل بالمصدر، لم يكن مجازًا.
- بظُفْري: بضم الظاء، وسكون الفاء، مادة قرنية في أطراف الأصابع، جمعه: أظافر وأظفار وأظافير.
- أثر الغسل: بفتح الهمزة وبفتح الثَّاء، والأثر: بقيَّة الشيء.
(1) البخاري (229)، مسلم (288، 290).
- يابسًا: يَبِس يَيْبَس يبسًا، من باب تعب، جف بعد رطوبته، فهو يابس، و"يابسًا": حال من المفعول.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ سنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم هي الاقتصار على فرك المَنِيِّ إنْ كان يابسًا، وغسله إنْ كان رطبًا.
2 -
طهارة مني الآدمي؛ فإنَّ اقتصار النَّبي صلى الله عليه وسلم على حكِّه دون غسله دليلٌ على طهارته؛ كما أنَّ تركه المني في ثوبه صلى الله عليه وسلم حتَّى ييبس -مع أنَّ المعروف من هديه المبادرة بغسل النجاسات وإزالتها- دليل على طهارته أيضًا.
3 -
الاستحباب في غسل المني، سواءٌ كان رطبًا أو يابسًا؛ لأجل كمال النظافة، كما يغسل المخاط ونحوه من الطَّاهرات.
4 -
عدم توقِّي مثل هذه الفضلات التي ليست بنجسة، وجواز بقائها في البدن أو الثوب أو غيرهما؛ أخذًا من بقاء المنِّي في ثوبه صلى الله عليه وسلم حتَّى ييبس.
5 -
ما كان عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم من التقلل من الحياة الدنيا ومتاعها؛ إذ إنَّ ثوب نومه هو ثوب صلاته وخروجه، وذلك كله إرشادٌ للأمَّة بعدم المغالاة فيها، والرغبة فيما عند الله تعالى من جزيل ثوابه وعطائه.
6 -
خدمة المرأة زوجها، وقيامها بخدمة بيته، والقيام بما يجب له، حسب ما جرت به العادة؛ فإنَّ هذا من العشرة الحسنة للزوج.
7 -
أنَّ الخروج على النَّاس مع وجود آثار الأمور العادية من الأكل والشرب والجماع، لا يعتبر إخلالًا بفضيلة خَصْلَةِ الحياء.
8 -
أنَّ المرأة الصالحة المتحبِّبة إلى زوجها لا تأنف ولا تترفَّع عن مثل هذه الأعمال، من إزالة الأوساخ والفضلات من ثوب أو بدن زوجها؛ لما تعلمه من عظم قدر حق زوجها عليها.
9 -
قال ابن الملقِّن في شرح العمدة: استدل جماعةٌ بهذا الحديث -حديث عائشة- على طهارة رطوبة فرج المرأة، وهو الأصح عندنا -الشافعية-.
وقال في المغني: في رطوبة فرج المرأة روايتان:
إحداهما: نجاسته؛ لأنَّه بللٌ في الفرج لا يُخْلَقُ منها الولد؛ لذا أشبه المذي.
الثانية: طهارته لأنَّنا لو حكمنا بنجاسته، لحكمنا بنجاسة منيها.
وقال في الإنصاف: وفي رطوبة فرج المرأة روايتان؛ إحداهما: طاهر؛ وهذا هو الصحيح من المذهب.
* فائدة:
قال الزركشي: الخارج من الإنسان ثلاثة أقسام:
أحدها: طاهر بلا نزاع: وهو الدمع، والريق، والمخاط، والبصاق، والعرق.
الثاني: نجس بلا نزل: وهو الغائط، والبول، والودي، والمذي، والدم.
الثالث: مختلف فيه: وهو المني، وسبب الاختلاف هو تردده في مجرى البول.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: المني طاهر، وكون عائشة تارةً تغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارةً تفركه لا يقتضي تنجيسه، فإنَّ الثوب يغسل من المخاط والوسخ.
وهذا قول غير واحدٍ من الصحابة.
وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، رحمه الله تعالى.
* خلاف العلماء:
ذهب الحنفية والمالكية: إلى أنَّ المني نجس؛ واستدلوا على ذلك بأمور:
أوَّلاً: أحاديث غسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والغسل لا يكون إلَاّ من نجاسة.
ثانيًا: أنَّه يخرج من مجرى البول، فيتعيَّن غسله بالماء؛ كغيره من النجاسات.
ثالثًا: قياسه على غيره من فضلات البدن المستقذرة من البول والغائط؛ لأنَّها كلها متحللةٌ من الغذاء.
رابعًا: لا مانع أن يكون أصل الإنسان وهو المنيُّ نجسًا؛ إذ مَنْ مَنَع ذلك يقول بنجاسة العلقة؛ لأنَّها دم، وهو نجس، وهي أصلٌ للإنسان أيضًا.
خامسًا: ليس في أحاديث فرك المني دليلٌ على طهارته، فقد يجوز أنْ يكون الفرك هو المطهِّرَ للثوب، والمني في نفسه نجس؛ كما قد روي فيما أصاب النعل من الأذى، فطهورهما التراب، فكان ذلك التراب يجزىء من غسلهما، وليس في ذلك دليلٌ على طهارة الأذى في نفسه.
وأيضًا: لو كان المني طاهرًا، فلماذا أمر صلى الله عليه وسلم بفركه، فلو كان طاهرًا، لجازت الصلاة به دون فركه. انتهى ملخصًا من شرح معاني الآثار للطحاوي.
وذهب الإمام الشافعي وأحمد: إلى أنَّه طاهر ليس بنجس؛ وقالوا: إنَّه لا يزيد وساخة على المخاط والبصاق؛ واستدلوا على ذلك بأمور:
أوَّلاً: أحاديث فركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتِّه من دون غسل، وهذا أكبر دليل على طهارته، ولو كان نجسًا، لم يكف فيه ذلك.
ثانيًا: أنَّ هذا أصل خلق الإنسان الطاهر الذي كرَّمه الله، فكيف يكون أصله النجاسة؟! وأمَّا غسله بعض الأحيان من ثوبه صلى الله عليه وسلم، فلا يدل على النجاسة، وإنَّما لأجل النظافة، كما تزال البصقة والمخاط.
ثالثًا: عدم مبادرة النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى إزالته وتركه حتَّى ييبس، دليل على طهارته؛ ذلك أنَّ المعروف من هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم المبادرةُ في إزالة النجاسة، كما أمر الصحابة بغسل بول الأعرابي الذي بال في المسجد، وكما بادر بغسل ثوبه من بول الغلام الذي بال في حجره، وغير ذلك من الجزئيات.
والرّاجح: ما ذهب إليه الشَّافعي وأحمد، رحمهما الله تعالى.
***
26 -
وَعَنْ أَبِي السَّمْحِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الغُلَامِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح، وقد رجَّح البخاري صحته، وكذا الدَّارقطني؛ وقال البيهقي: الأحاديث المسندة في الفرق بين الغلام والجارية إذا ضُمَّ بعضها إلى بعضٍ، قَوِيَتْ.
والحديث رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم، من حديث أبي السمح.
وجاء في مسند الإمام أحمد (564) عن عليٍّ مرفوعًا: مثل حديث أبي السمح قال فيه: "بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل"، وإسناده على شرط مسلم.
وقد أعلَّ بعضهم حديث علي بالوقف وبالإرسال، وليس بشيءٍ، وله شواهد صحيحة. قال الكتاني: هي أحاديث متواترة جاءت عن خمسة عشر من الصحابة؛ ومنها ما جاء في البخاري (223) ومسلم (287) وغيرهما، من حديث أُمِّ قيس بنت محصن؛ أنَّها أتت بابنٍ لها صغير لم يأكل الطعام، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ، فنضحه ولم يغسله.
* مفردات الحديث:
- أبو السمح: بفتح السين المهملة، وسكون الميم، وفي آخره حاء، قال الرَّازي:
(1) أبو داود (376)، النسائي (304)، الحاكم (1/ 271).
اسمه إياد، وذكره ابن الأثير، وهو خادم النَّبي صلى الله عليه وسلم.
- من بول الجارية: "من" للتعليل، أي: لأجل إصابته الثوب أو البدن، والأصح أنْ تكون سببية.
- البول: بفتح الباء، وسكون الواو: سائلٌ تفرزه الكليتان، فيجتمع في المثانة حتَّى تدفعه إلى الخارج، جمعه أبوال.
- الجاريه: الفتيَّة من النساء، والمراد هنا: الطفلة من النِّساء.
- يُرَش: مبني للمجهول، الرش هو النضح، وهما دون الصب؛ ولذا جاء في بعض الروايات:"ولم يغسله".
- الغلام: بضم الغين، وفتح اللام وتخفيفها، هو من الولادة حتَّى البلوغ، وبعد البلوغ إنْ سمي به، فهو مجاز باعتبار ما كان، والمراد به هُنا، ما في زمن الرضاع حيث قيد بما جاء في الترمذي (606) قال صلى الله عليه وسلم:"بول الغلام الرضيع ينضح".
* ما يُؤْخذ من الحديث:
1 -
يؤخذ من الحديث: أنَّ الأصل في أحكام الغلام والجارية سواء؛ فتفريق السنة بينهما في البول دليل على أنَّ ما عداهما باقٍ على الأصل.
2 -
بول البنت نجس كغيره من النجاسات، ولو كانت في سن الرضاع.
3 -
فيغسل منه الثوب وغيره إذا أصابه؛ كما يغسل من سائر النجاسات.
4 -
بول الغلام الذي لم يأكل الطعام لشهوة: نجس؛ ولكن نجاسته أخفُّ نجاسةً من بول البنت.
5 -
يكفي في تطهير ما أصابه بولُ الغلام الذي لم يأكل لشهوة: رشُّه بالماء فقط، دون غسله.
6 -
فيه أنَّه لا يقتصر في تطهير بول الغلام على إمرار اليد، وإنَّما المقصود إزالة العين.
7 -
بحث العلماء في السِّر الذي من أجله حصل التفريق بين بول الغلام وبين بول الجارية: فقال بعضهم: إنَّ الغلام عادةً يكون أَرغَبَ عند أهله من
الجارية؛ فيكثر حمله وتكثر إصابة حامله ببوله، فمن باب التيسير خفف في غسل نجاسة بوله؛ فيكون من باب القاعدة الكبرى:"المشقة تجلب التيسير".
وقال بعضهم: إن بول الغلام يخرج من ثقب ضيق، من قضيب ممتد، فيخرج بقوة وشدة دفع، فينتشر بوله وتكثر الإصابة منه، فاقتضت الحكمة التخفيف من الحكم في تطهير نجاسته؛ أما الجارية: فيخرج بولها من ثقب فيه سعة وبدون قضيب، فيستقر في مكان واحدة فيثبت على أصل نجاسة البول.
وقال بعضهم: إنَّ الغلام فيه حرارة طبيعية زائدة على حرارة الجارية، وهو معلوم، وهذه الحرارة تخفِّف فضلات الطعام، فإذا صادف أنَّ الطعام خفيف أيضًا، وهو اللبن-: حصل من مجموع الأمرين خفَّة النجاسة، بخلاف الجارية، فليس لديها هذه الحرارة الملطِّفة، فتبقى على الأصل.
هذه من الحِكَمِ التي تلمَّسها العلماء للفرق بين بول الغلام وبين بول الجارية، فإنْ صحَّتْ، فهي حِكَمٌ معقولة؛ لأنَّها فروق واضحة، وإنْ لم تصح فالحكمة هي حُكْمُ الله تعالى؛ فإنَّنا نعلم يقينا أنَّ شرع الله هو الحكمة؛ فانَّ الشرع لا يفرِّقُ بين شيئين متماثلين في الظاهر، إلَاّ والحكمة تقتضي التفريق، ولا يجمع بينهما إلَاّ والحكمة تقتضي الجمع؛ لأنَّ أحكام الله لا تكون إلَاّ وفق المصلحة؛ ولكن قَدْ تظهر وقد لا تظهر.
أمَّا قَيْءُ الغلام والجارية، ففيهما قولان لأهل العلم: فمن جعل حكمه حكم البول من الغلام والجارية، ألحقه به من باب الأولى؛ لأنَّ القيء أخف نجاسةً من البول؛ وهذا مذهب الحنابلة.
وأمَّا من لم يلحقه، فقال: إنَّ الأصل أنَّهما سواء في الأحكام إلَاّ ما أخرجه النص، والنص لم يخرج القيء، فيبقى على أصله، وهو الاشتراك في حكم النجاسة بينهما.
***
27 -
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيْبُ الثَّوْبَ: "تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- دم الحيض: سيأتي بيانه، إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
- تَحُتُّه: بفتح المثناة، وضم الحاء المهملة، وتشديد المثناة الفوقية، من حَتَّ الشيءَ عن الثوب وغيره يَحُتُّهُ حَتًّا: فركه وقشره حتَّى أزال عينه.
- تَقْرُصُه: بفتح المثنَّاة الفوقية، وسكون القاف، وضم الرَّاء والصاد المهملتين، من باب نصر: تدلك الدم بأطراف أصابعها بالماء؛ ليتحلَّلَ بذلك ويخرُجَ ما شربه الثوب منه؛ قال في جمع الغرائب: هو أبلغ في إذهاب الأثر عن الثوب.
- تنضحه: بفتح الضاد المعجمة، من باب فتح يفتح: ترشه بالماء.
- ثُمَّ: تأتي للترتيب، فلا يسبق ما بعدها ما قبلها، فترتَّب إزالة النجاسة اليابسة هذا الترتيب.
قال ابن بطَّال: والحت والقرص ممَّا يتصوَّر في اليابس، ولا تأثير لذلك في الرطب.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
نجاسة دم الحيض، وأنَّه لا يُعْفَى عن يسيره؛ فتجب إزالته من الثوب والبدن وغيرهما ممَّا يجب تطهيره؛ لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسله؛ كما هي سُنَّته في إزالة النَّجاسات.
(1) البخاري (227)، مسلم (291).
2 -
أنَّ إزالةَ النجاسة مِنَ الثوبِ والبدنِ والبُقْعَةِ شرطٌ مِنْ شروطِ الصلاة؛ فلا تَصِحُّ الصلاة مع وجودها والقدرة على إزالتها؛ وذلك للأمر بغسل دم الحيض قبل الإتيان بالصلاة.
3 -
وجوب حتِّ يابسه ليزول جرمه، ثمَّ دلكه بالماء، ثمَّ غسله بعد ذلك لتزول بقيَّه نجاسته، فيراعى فيه هذا الترتيب الذي هو الأمثل في إزالة النجاسة اليابسة؛ لأنَّه لو عكس لانتشرف النَّجاسة، فأصابت ما لم تصبه من قبل.
4 -
جواز الصلاة في الثوب الذي حاضت به المرأة؛ فإنَّه بعد حتِّ ما أصابه، ثمَّ إتباعه بالماء، صار الثوب طاهرًا.
أمَّا بدن المرأة الحائض وعرقها ونحوه: فطاهر؛ فإنَّها لم تُؤْمَرْ بغَسْلِ ثوب حيضها، إلَاّ ما أصابه من بُقَعِ دمِ الحيض، وما عداه باقٍ على أصل الطهارة.
5 -
قوله: "ثمَّ تُصَلِّي فيه" دليلٌ على أنَّ النجاسة اليابسة لا تزول ويطهر محلها إلَاّ بهذه العمليات الثلاث، وأنَّها إنْ لم تفعل ذلك، فثوبها لم يطهر، وصلاتها لم تصح.
أمَّا الدم -وما تولد عنه من قيحٍ وصديد- الخارج من بقية البدن: فجمهور العلماء -وحُكِيَ إجماعًا- أنَّه نجس، لكن يُعْفى عن يسيره، وبهذا خالف دم الحيض والاستحاضة؛ فلا يُعْفَى عن شيءٍ منهما.
6 -
الحديث دليل على أنَّ الواجب هو إزالة النجاسة فقط، وأنَّه لا يشترط عددٌ معيَّنٌ من الغسلات، فلو زالت بغسلةٍ واحدةِ، طَهُرَ المحل.
وهذا هو القول الرَّاجح من أقوال أهل العلم، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك إنْ شاء الله تعالى.
7 -
استدل به بعضُ العلماء -ومنهم أصحابنا- على أنَّه لابُدَّ في غسل النجاسات من الماء؛ فلا يكفي غيره؛ مِنْ حَتٍّ أو قرصٍ أو دَلْكٍ، أو شمسٍ أو ريح، وقالوا: إنَّ الماءَ هو المتعيِّن؛ لإزالة النجاسة دون غيره، ولو كانت قويةَ
الإزالة والتطهير؛ فإن الماء هو المتعين؛ لأنَّه جاء منصوصًا عليه في هذا الحديث؛ وهو الأصل في التطهير، لوصفه بذلك في الكتاب والسنَّة.
أمَّا شيخ الإِسلام: فيرى أنَّ التطهير قد يكون بغير الماء، وأمَّا تعينه وعدم إجزاء غيره، فيحتاج إلى دليل، ولم يَرِدْ دليلٌ يقضي بحصر التطهير بالماء، ومجرَّدُ الأمر به لا يستلزمُ الأمرَ به مطلقًا؛ فقد أَذِنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالإزالة بغير الماء في مواضع منها الاستجمارُ، ومنها قولُهُ في ذيل المرأة:"يطهره ما بعده"[رواه الترمذي (143)]، وقوله في النعلين:"ثمَّ ليدلكهما بالتراب؛ فإنَّ التراب لهما طهور"[رواه أبو داود (386)].
وهذا القول هو الصوابُ والله أعلم.
***
28 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ خَوْلَةُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ الدَّمُ? قَالَ: "يَكْفِيكِ الْمَاءُ، وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَسَنَدُهُ ضَعِيْفٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
ضعَّفه ابن حجر؛ لأنَّ فيه ابن لهيعة، وقد اختلط بعد احتراق كتبه، وَلمَّا ذكر الحافظ في التلخيص هذا الحديث برواية أبي داود، قال: ورواه الطبراني في الكبير (615) من حديث خولة بنت حكيم، وإسناده أضعف من الأوَّل، وله شاهدٌ مرسل.
أمَّا الشيخ ناصر الدِّين الألباني، فقال: صحيح رواه أبو داود (365)، والبيهقي (2/ 408)، وأحمد (8549)، بإسنادٍ صحيح عنه، وهو -وإنْ كان فيه ابن لهيعة- فإنَّه قد رواه عنه جماعةٌ منهم عبد الله بن وهب، وحديثه عنه صحيح، كما قال غير واحدٍ من الحفَّاظ. أهـ.
قلت: وله طريق أخرى ذكرها ابن حجر في الإصابة، أخرجها ابن منده من طريق ابن حفص، عن علي بن ثابت، عن الوازع بن نافع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن خولة بنت يسار.
* مفردات الحديث:
- لا يضرك: يُقال: ضرَّه: إذا أَلحق به مكروهًا أو أذى، والضر النقص، والمراد هنا: ولا ينقص من طهارة ثوبك.
(1) لم يخرجه الترمذي، وإنما أخرجه أبو داود (365). وانظر: تلخيص الحبير (1/ 36).
- فإنْ لم يذهب: أي: أثره بعد حتِّه وقرصه ونضحه.
- أثره: الأثر: العلامة، وبقيَّة الشيء، وهو هنا: بقيَّة لون الدم بعد الحَتِّ والقرص والغسل.
* ما يُؤْخذ من الحديث:
1 -
وجوب غسل دم الحيض من ثوب المرأة وبدنها.
2 -
يكون غسله بالماء.
3 -
أن الثَّوبَ ونحوه إذا غسل من دم الحيض، ثُمَّ بقي أثر لونه في الثوب أو البدن، أنَّه لا يضر في كمال التطهر، ولا يضر في صحة الصلاة ونحوها.
4 -
سماحة هذه الشريعة ويسرها؛ فالمسلم يتقي الله قدر استطاعته، وما زاد عن ذلك، فهو معفوٌّ عنه.
5 -
أنَّ بدن الحائض وعرقها طاهران، فإنَّها لم تؤمر بغسل شيءٍ إلَاّ ما أصابه الدم، وأمَّا البدن وبقيَّة الثوب، فهو باقٍ على طهارته الأصلية.
أما غُسْلُهَا من الحيض، فليس من أجل نجاستها، وإنما من أجل أن عليها حدثًا أكبر، وهو لا يوصف بأنه نجاسة، وإنما هو وصف يقوم بالبدن ويرتفع بالغُسْلِ، ولو كان نجاسة، لم يُغْسَلْ إلَاّ مكان الحيض، وَلَمَا جَازَ مباشرة الحائض وقربها، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة.
6 -
المقصود بالطهارة والابتعاد عن النجاسات، هو أنْ يكون المصلِّي على أكمل هيئة، وأحسن زينة؛ حين مناجاة ربِّه تبارك وتعالى.
***