المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الغسل وحكم الجنب - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ١

[عبد الله البسام]

فهرس الكتاب

- ‌مقدِّمة الطبعة الخامسة

- ‌الإلمام في أصول الأحكام

- ‌الأصل الأولفيمصطلح الحديث

- ‌ مصطلح علم الحديث

- ‌تعريفات:

- ‌تقسيم الحديث باعتبار طرقه:

- ‌أقسام الآحاد:

- ‌تقسيم الحديث من حيثُ القبولُ:

- ‌أنواع الأحاديث المردودة:

- ‌ضعف الحديث من حيثُ فَقْدُ العدالة والضبط:

- ‌ضعفُ الحديث من حيث فَقْدُ الاتصال:

- ‌ضعفُ الحديث من حيثُ وجود الشذوذِ أو العلة:

- ‌أقسامُ الحديث باعتبار من أُضِيفَ إليه:

- ‌فائدة:

- ‌من أنواع الكتب في علم الحديث:

- ‌من أخرج لهم المؤلِّف في بلوغ المرام:

- ‌الذي اطَّلَعْتُ عليه من شروح بلوغ المرام:

- ‌ترجمة المؤلِّف

- ‌دراسته ومشايخه:

- ‌رحلاته:

- ‌أعماله:

- ‌مؤلَّفاته:

- ‌بلوغ المرام

- ‌صلتي ببلوغ المرام:

- ‌الأصل الثانيفيأصول الفقه

- ‌ العلم

- ‌الجهل:

- ‌رُتَبُ المُدْرَكَات:

- ‌النظر:

- ‌الدليل:

- ‌ناصب الدليل:

- ‌المستدِلّ:

- ‌المستدل عليه:

- ‌المستدَلُّ له:

- ‌الاستدلال:

- ‌أصول الفقه:

- ‌أولًا: التعريف الإضافي:

- ‌ الأحكام

- ‌ثانيًا: التعريف اللقبي:

- ‌فائدة أصول الفقه:

- ‌أقسام الأحكام الشرعية:

- ‌فالأحكام التكليفية خمسة:

- ‌الأحكام الوضعية:

- ‌الكلام:

- ‌والاسم:

- ‌الأمر:

- ‌ما يقتضيه الأمر:

- ‌النهي:

- ‌موانع التكليف:

- ‌العامُّ:

- ‌حكمه:

- ‌ التخصيص

- ‌الخاصُّ:

- ‌أقسام التخصيص:

- ‌المطلَقُ والمقيَّد:

- ‌العمل بالمطلق:

- ‌المجمَل والمبيَّن:

- ‌المُبَيَّن:

- ‌العمل بالمُجْمَل:

- ‌النصوص الشرعية:

- ‌كتاب الله تعالى:

- ‌السنة النبوية:

- ‌منزلة السنة من الكتاب:

- ‌النسخ:

- ‌ما يمتنع نسخه:

- ‌شروط النسخ:

- ‌حكمة النسخ:

- ‌تعارض النصوص:

- ‌الإجماع:

- ‌حجية الإجماع:

- ‌مستند الإجماع:

- ‌القياس:

- ‌مسألتان هامَّتان

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌الاجتهاد:

- ‌شروط المجتهد:

- ‌الأصل الثالثفيالقواعد الفقهية

- ‌تعريف وتاريخ:

- ‌معنى القواعد الفقهية

- ‌مَيْزَاتُهَا:

- ‌أنواع القواعد الفقهية ومراتبها:

- ‌الفرق بين القاعدة، والضابط:

- ‌الفرق بين أصول الفقه، والقواعد الفقهية:

- ‌القواعد الكليَّة الخمس الكبرى

- ‌القاعدة الأولى من القواعد الكبرى: (الأمور بمقاصدها):

- ‌القاعدة الثانية من القواعد الكبرى: (لا ضرر ولا ضرار):

- ‌القاعدة الثالثة من القواعد الكبرى: (اليقين لا يزول بالشك):

- ‌القاعدة الرابعة من القواعد الكبرى: (المشقة تجلب التيسير):

- ‌القاعدة الخامسة من القواعد الكبرى: (العادة محكَّمة):

- ‌قرار المجمع الفقهي بشأن موضوع العرف

- ‌قرار رقم (9) بشأن العرف:

- ‌القواعد الكلية غير الكبرى

- ‌القاعدة الأولى: (إعمال الكلام أولى من إهماله):

- ‌القاعدة الثانية: (إذا تعذرت الحقيقة يُصار إلى المجاز):

- ‌القاعدة الثالثة: (المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصًّا أو دلالة):

- ‌القاعدة الرابعة: (التأسيس أولى من التأكيد):

- ‌القاعدة الخامسه: (إذا تعذَّر الأصل يُصار إلى البدل):

- ‌القاعدة السادسة: (التصرف في أمور الرعية منوط بالمصلحة):

- ‌القاعدة السابعة: (المرء مؤاخَذ بإقراره):

- ‌القاعدة الثامنة: (الجواز الشرعي ينافي الضمان):

- ‌القاعدة التاسعة: (اليد الأمينة لا تَضْمَنُ إلَاّ بالتَّعَدِّي أو التَّفريط):

- ‌القاعدة العاشرة: (الخراج بالضمان):

- ‌القاعدة الحادية عشرة: (على اليد ما أخذَتْ حتى تؤدِّيه):

- ‌القاعدة الثانية عشرة: (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص):

- ‌القاعدة الثالثة عشرة: (ما لا يتم الواجب إلَاّ به فهو واجب):

- ‌القاعدة الرابعة عشرة: (من استعجل شيئًا قبل أوانه، عُوقِبَ بحرمانِهِ):

- ‌القاعدة الخامسة عشرة: (ما ثبت بالشرع مقدَّم على ما ثبت بالشرط):

- ‌القاعدة السادسة عشرة: (إذا عاد التحريم إلى نفس العبادة أفسدها، وإن عاد إلى أمر خارج عنها لم تفسد):

- ‌القاعدة السابعة عشرة: (الأصل براءة الذمَّة):

- ‌القاعدة الثامنة عشرة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان):

- ‌القاعدة التاسعة عشرة: (البيِّنة على المدَّعِي، واليمين على المدَّعَى عليه):

- ‌القاعدة العشرون: (إذا قويت القرينة، قدِّمت على الأصل):

- ‌القاعدة الحادية والعشرون: (الصلح جائز بين المسلمين إلَاّ صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، والمسلمون على شروطهم إلَاّ شرطًا أحل حرامًا أو حرَّم حلالاً):

- ‌القاعدة الثانية والعشرون: (الأصل في العبادات الحظر، فلا يُشْرَعُ منها إلَاّ ما شرعه الله ورسوله):

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون: (الأصل في العادات الإباحة؛ فلا يُمْنَعُ منها إلَاّ ما حرَّمه الله ورسوله):

- ‌القاعدة الرابعة والعشرون: (الشارع لا يأمر إلَاّ بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلَاّ عما مفسدته خالصه أو راجحة):

- ‌القاعدة الخامسة والعشرون: (إذا تزاحمتِ المصالحُ، قدِّم أعلاها) و (إذا تزاحمت المفاسد، قدِّم أخفُّها):

- ‌القاعدة السادسة والعشرين: (الضرورات تبيح المحظورات):

- ‌القاعدة السابعة والعشرون: (درء المفاسد أولى من جلب المنافع):

- ‌القاعدة الثامنة والعشرون: (الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا):

- ‌القاعدة التاسعة والعشرون: (العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني):

- ‌القاعدة الثلاثون: (الحدود تُدرأ بالشبهات):

- ‌القاعدة الحادية والثلاثون: (الوجوب يتعلَّق بالاستطاعة؛ فلا واجب مع العجز، ولا محرَّم مع الضرورة):

- ‌القاعدة الثانية والثلاثون: (الشريعة مبنية على أصلين: الإخلاص لله، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌فائدة:

- ‌الأصل الرابعفيالمقاصد الشرعية

- ‌المقاصد

- ‌القسم الأول فيما يرجع إلى قصد الشارع من وضع الشريعة

- ‌النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة

- ‌المسألة الأولى: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق:

- ‌المسألة الثانية: المقاصد عامة في جميع التكاليف والأزمان والأحوال:

- ‌المسألة الثالثة: المقاصد المعتبرة في الشريعة:

- ‌المسألة الرابعة: الدليل على اعتبار مقاصد الشريعة الكلية:

- ‌النوع الثاني: في بيان قصد الشَّارع في وضع الشريعة للتكليف بالمقدور وما لا حرج فيه

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية: لا تكليفَ بما لا يطاق:

- ‌المسألة الثالثة: لا تكليفَ بما فيه حرج:

- ‌المسألة الرابعة: الحكمة من نفي الحرج في التكليف:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة: الاعتدال في التكاليف والدعوة إلى امتثالها:

- ‌النوع الثالث: في بيان قصد الشَّارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية: تقسيم المقاصد إلى أصلية وتبعية:

- ‌المسألة الثالثة: العملُ إذا وَقَعَ على وَفْقِ المقاصد الشرعيَّة:

- ‌المسألة الرابعة: الإنسان قد يدع حظَّ نفسه في أمر إلى حظ ما هو أعلى منه:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌العادة إذا قصد بالإتيان بها وجه الله:

- ‌لا يكون العمل صحيحًا أو مقبولاً إلَاّ إِذا رَاعَى وجه الله في القصد التابع:

- ‌يعظم الأجر بقصد المصلحة العامة:

- ‌العادات إذا كانت مصلحتها تعبُّدية، جازت فيها النيابة:

- ‌خير العمل ما وُوظِبَ عليه:

- ‌الشريعة عامَّة ما لم يقم دليل الخصوصية:

- ‌القياس يدل على عموم الأحكام ولا خصوصية للصوفية:

- ‌أحكام العادات:

- ‌الأصل في العبادات التعبد، وفي العادات التعليل:

- ‌القسم الثاني فيما يرجع إلى مقاصد المكلّف في التكليف

- ‌ينبغي أن يكون قصد المكلف من عمله موافقًا لقصد الشَّارع من تشريعه ذلك العمل:

- ‌من قصد من العمل غير ما قصده الشارع بطل عمله وأهدر ثوابه:

- ‌قصد المكلف العمل أقسام:

- ‌ليس لأحد أن يسقط حق الله في نفسه أو ماله أو عمله:

- ‌سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن الزيادة على المشروع مع الداعية إلى الزيادة نهي عن الزيادة:

- ‌مقدمة

- ‌اصطلاحات خاصة في هذا الشرح:

- ‌مقدمة الحافظ ابن حجر لكتابه بلوغ المرام

- ‌كتاب الطهارة

- ‌باب المياه

- ‌باب الآنية

- ‌باب إزالة النجاسة وبيانها

- ‌باب الوضوء

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب نواقض الوضوء

- ‌باب آداب قضاء الحاجة

- ‌باب الغسل وحكم الجُنُب

- ‌باب التيمم

- ‌باب الحيض

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌باب الأذان والإقامة

الفصل: ‌باب الغسل وحكم الجنب

‌باب الغسل وحكم الجُنُب

مقدمة

الغُسْلُ: بضم الغين: اسم مصدر للاغتسال، يعني الفعل.

وشرعًا: استعمالُ الماء في جميع البدن على وجهٍ مخصوص، وهو ثابتٌ بالكتاب والسنَّة والإجماع:

قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].

والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ، ومنها:"إذا جلَسَ بين شعبها الأربَعِ، ثمَّ جهدها؛ فقد وَجَبَ الغسل"[رواه البخاري (291)، ومسلم (348)].

وأجمع العلماء على أنَّ الجنابة تَحُلُّ جميعَ البدن، وأنَّه يجبُ الغسلُ منها.

وسُمِّيَ جُنُبًا؛ لأنَّهُ يجتنب بعض العبادات وأمكنتها؛ قال تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النِّساء: 43]، وأجمع الأئمة على أنَّه يَحْرُمُ على الجنب المُكْثُ في المسجد، ورخَّص أحمدُ للمتوضِّىء في المكث في المسجد والنَّوم؛ لفعل الصحابة.

حكمةُ الاغتسال من الجنابة: ما جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، عن أبي رافعٍ؛ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم طاف ذاتَ يومٍ على نسائه يغتسلُ عند هذه وعند هذه، قال: فقلت: يا رسول الله، ألا تجعله غسلًا واحدًا؟ قال:"هذا أزكى وأطيب وأطهر".

ص: 366

وقد ظهرت الآن هذه الحكمةُ النبوية، وهذا الإعجازُ العلمي، قال الجرجاوي: إنَّ الشَّارعَ الحكيمَ فرَضَ الاغتسال بعد خروج المنيِّ، ولم يفرضه بعد خروجِ البولِ، مع أنَّهما من مكانٍ واحدٍ وعضوٍ واحدة ذلك أنَّ البول عبارة عن فضلة المأكول والمشروب، وأمَّا المنيُّ فهو عبارةٌ عن مادَّةٍ مكوَّنةٍ من جميع أجزاء البدن، ولذا نرى الجسم يتأثَّر بخروجه، ولا يتأثَّر بخروج البول؛ ولذا نرى الإنسان بعد الجماع تضعُفُ قوَّة بدنه، فالغسلُ بالماء يُعِيدُ إلى البدن هذه القوَّة المفقودة بخروجِ المنيِّ؛ كما أنَّ خروج هذه القوَّة من الجِسْمِ تسبِّب الكسل، والاغتسالُ يعيد إلى الجسْمِ نشاطه.

وقد صرَّح الأطبَّاء أنَّ الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته، وأنَّه أنفع شيء له في تنشيط دورة الدم في الجسم؛ ليعود إليه نشاطه وقوته، وأنَّ ترك الاغتسال يسبِّب له أضرارًا كبيرة.

فالطَّهارة عمليةٌ نافعةٌ جدًّا للرَّجُلِ والمرأة على السَّواء، إذا فقد بالعملية الجنسية النَّشاط والحيوية، فإنَّ الاغتسالَ يعيدُ إلى الجسمِ ذلك النَّشاطَ، وتلك الحيوية، ولله في شَرْعِهِ حِكَمٌ وأسرار.

***

ص: 367

93 -

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الماء من الماء: مبتدأٌ وخبر، فالماءُ الأوَّل؛ ماءُ الاغتسال، والثَّاني: المنيُّ النَّازلُ دفقًا بلذةٍ، وقد سمَّاه اللهُ مَاءً؛ فقال تعالى:{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)} [الطارق: 6]، وبين اللفظين جناس تام لاتفاق حروفهما في الهيئة والنَّوع والعدد والتَّرْتيِب.

- مِن: للتَّعْليل، وفي بعض الطرق:"إنَّما المَاء من الماء".

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديثُ يدلُّ على أنَّ وجوب الاغتسال من الجنابة لا يكون إلَاّ من إنزال الماء الذي هو المني، وأنَّه إنْ لم ينزلْ، فلا غُسْلَ عليه من الجنابة.

2 -

الحديث يدلُّ على أنَّ هذا الحكم بمفهوم الحصر المستفاد من تعريف المسند إليه، وهو الماء الأوَّل، كما وَرَدَ في الصحيح محصورًا بأداة "إنَّما" بقوله:"إنَّما الماء من الماء"؛ فهذا الحصر يفيد أنَّه لا غُسْلَ إلَاّ من الإنزال.

3 -

الاغتسال هو إفاضة الماء على عموم الجسم، وأجمعوا على مشروعيَّة الدلك، إلَاّ أنَّهم اختلفوا هل يجب أو لا يَجِبُ؟ والصَّحيحُ الذي عليه الجمهور: أنَّه لا يجب؛ لأنَّ الدلك ليس مِنْ مسمَّى الاغتسال.

4 -

مفهومُ الحديث معارَضٌ بمنطوقِ حديثِ أبي هريرة الذي بعده، وليس له محملٌ يوجَّه إليه؛ ولذا قال جمهور العلماء: إنَّه منسوخٌ به.

(1) مسلم (343).

ص: 368

5 -

الحكمةُ في الغسل من الجنابة -والله أعلم- أنَّ البدن بعد الجماع يصابُ بالخمولِ والكسل والضَّعف، والاغتسالُ يعيد إليه نشاطَهُ وحيويَّته وقوَّته، والله لطيفٌ بعباده.

وقد قال صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بعد الجماع: "فإنَّه أنشطُ للعود"[رواه ابن خزيمة (1/ 110)، وابن حبَّان (4/ 12)، والحاكم (2/ 333)]، فتعميم الغسمل بالماء أشدُّ نشاطاً وقوَّة.

***

ص: 369

94 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ:"وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

إذا جلس: "إذا" شرطية، فعلها: جلس.

- شُعَبها الأربع: بضم الشين المعجمة، قال ابن الأثير: والشُّعَبُ: النواحي، واختلفوا في المراد بالشعب الأربع، والرَّاجح: أنَّ المراد بها يَدَا المرأة ورجلاها، وهو كنايةٌ عن الجماع.

- جهدها: يُقال: جَهَدَ في الأمر يَجْهَدُ جهدًا، من باب نَفَعَ، والجهد: الطاقة والمشقَّة، وفيه لغتان: ضم الجيم وفتحها، فالضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغيرهم، وقيل: المضموم الطاقة، والمفتوح المشقَّة، والمراد هنا: بلوغ الرَّجل طاقته بحركته.

- فقد: "الفاء" رابطةٌ للجواب، و"جلس ثمَّ جهد": جملتان هما الشرط، "قد" حرف توكيد، وإذا دخلت على الماضي، أفادت تحقيق معناه؛ كما في هذا الحديث.

الغُسْل: "أل" هنا للعهد الذهني، وهو ما يكون مصحوبًا معهودًا ذهنًا، فينصرف إليه الفكر بمجرَّد النطقِ به، مثل "حَضَرَ الأمينُ".

والغُسْل: بضم الغين، المراد: به الفعل.

(1) البخاري (291)، مسلم (348).

ص: 370

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الشُّعَبُ الأربع هنا: يدا المرأة ورجلاها، وجلوسُ الرجل بينها أثناءَ الجماعِ هي أليقُ صفةٍ من صفات الجماع، مع جواز غيرها، ما دام الإيلاجُ في مكان الحرث، وهو القُبُل.

2 -

أنَّ نَفْسَ الإيلاج بتغييب الحَشَفَة مُوجِبٌ للغسل، وإنْ لم يَحْصُلْ إنزال.

3 -

المراد بالجهد هنا الكَدُّ بحركته، الذي يكونُ مع الإيلاج، ويفسِّره روايةُ أبي داود (216):"وألزَقَ الختانَ بالختان، ثمَّ جهدها".

4 -

أنَّ منطوقَ الحديث ناسخٌ لمفهومِ حديث أبي سعيدٍ السَّابق، ودليلُ النسخ ما رواه الإمام أحمد (5/ 116) عن أُبي بن كعب قال:"كانوا يقولون: إنَّ الماءَ من الماءِ، رخصةٌ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص بها في أوَّل الإِسلام، ثمَّ أمر بالاغتسال بعده"، صحَّحه ابن خُزَيمة وابن حبَّان، وقال الإسماعيلي: إنَّه صحيح على شرط البخاري، وهو صريح بالنسخ، ويؤيِّد هذا الحديث الآية الكريمة:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].

قال الشَّافعي: الجنابة تُطْلَقُ بالحقيقة على الجماعِ ولو لم يحصُلْ إنزال.

أمَّا منطوقُ حديث أبي سعيد: فليس منسوخًا بحديث أبي هريرة؛ فإنَّ الإنزال يوجب الغسل.

5 -

قوله: "فقد وجب الغسل" فيه دلالةٌ على أنَّه ليس على الفَوْرِ؛ وهو إجماع العلماء.

***

ص: 371

95 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ -وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ- قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْغُسْلُ إِذَا احْتَلَمَتْ? قَالَ: نَعَمْ؛ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ

" الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- احتلمت: من الحُلْمِ، بضم الحاء المهملة وسكون الَّلام، وهو عبارةٌ عمَّا يراه ويتخيَّله النَّائمُ في نومه من الأشياء، والمرادُ هنا: إذا رأتِ المرأةُ في نومها مثلَ ما يرى الرجلُ مِنْ صورة الجماعِ وتمثيله.

- رأت الماء: يعني: إذا خرجِ منهَا المني إثر الرؤيا المناميَّة؛ كما جاء في رواية ابن ماجه (602): "لَيْسَ عَلَيْهَا غُسْلٌ، حتَّى تُنْزِلَ كما يُنْزِلُ الرَّجُلُ".

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ المرأة تحتلم في المنام كما يحتلم الرجل، فتتخيَّل العمليَّة الجنسيَّة في منامها كما يتخيَّل الرجل، فرُبَّمَا حَصَلَ منها إنزال.

2 -

هذا التخيُّل المناميُّ لا يَدُلُّ على نقصٍ في الدِّين، ما دام أنَّه يَلُمُّ بفُضْلَيَاتِ النِّساء، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يسمعه منهنَّ، ولم ينصحهنَّ بمجاهدتِهِ وأسبابه، فهذا أمرٌ طبيعي، لمن عنده قوَّةٌ غريزيَّة كبتها العقلُ الظَّاهر، فإذا غابتْ مراقبة هذا العقل، تنبَّه العقلُ الباطن؛ ليُشْبعَ هذه الغريزة الطبيعية.

3 -

أنَّ المرأة إذا احتلمتْ ورأت الماء، فعليها الغسل.

(1) البخاري (282)، مسلم (313).

ص: 372

4 -

أنَّ المرأة تنزلُ كما ينزل الرَّجل، فالجنينُ يولد من نطفتي الرَّجُلِ والمرأة، وهي نطفةُ الأمشاجِ التي قال الله تعالى عنها:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2]، ومن نطفتها يكونُ شبه الولد بها.

5 -

إثباتُ صفة الحياءِ لله تعالى إثباتًا حقيقيًا يليقُ بجلاله.

6 -

أنَّ الحياءَ لا ينبغي أنْ يمنع من تعلُّم العلم، حتَّى في المسائل التي عادةً يُسْتحيا منها؛ فقد قالت عائشة رضي الله عنها:"نِعْمَ النِّساءُ نساءُ الأنصار، لم يمنعْهُنَّ الحياءُ من التفقُّه في الدِّين".

7 -

أنَّ من الأدبِ وحسنِ المخاطبة أنْ يُقَدِّمَ أمام الكلامِ الذي يُسْتحيا منه مقدمةً تناسبُ المقام تمهيدًا للكلام، وليَخِفَّ وقعه، ولئلا يُنْسَبَ صاحبه إلى الجفاء.

8 -

مشروعيةُ سؤال الإنسان ما يحتاجُ إليه في أمور الدِّين.

9 -

الاحتلام المجرَّد عن الإنزال لا يوجبُ الغسل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا رأت الماء".

10 -

الذي يجد بعد استيقاظه من النومِ بللًا في ثوبِهِ أو بدنه، مِنْ ذكرٍ أو أنثى، لا يخلو من ثلاث حالات:

الأولى: أنْ يتحقَّق أنَّه منيٌّ، فيغتسل، ولو لم يذكر احتلامًا.

الثانية: أنْ يتحقق أنَّه مَذْيٌ، فهو نجاسةٌ لا غير، يجب عليه غسلها، وليس عليه غسل، وإنما يَغْسِلُ ذكره وأنثييه.

الثالثة: أنْ يكونَ جاهلًا بكونه منيًّا أو مَذْيًا، ففي هذه الحال:

إنْ سبق نومَهُ ملاعبةٌ أو فكرٌ أو انتشارٌ ونحو ذلك، فالغالب: أنَّه مَذْي؛ فيجب عليه غسل ما أصاب بدنه أو ثوبه منه، ولا يجب عليه غسل.

وإنْ لم يسبق نومَهُ خروجُ المذي، فهنا يجبُ عليه الغسل، ويجبُ عليه غَسْلُ ما أصاب بدنه أو ثوبه احتياطًا.

***

ص: 373

96 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ؟ قَالَ: تَغْتَسِلُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

زَادَ مُسْلِمٌ: "فَقَالَتْ أُمُّ سُلَمَةَ: وَهَلْ يَكُونُ هَذَا? قَالَ: نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ?! ". (1)

ــ

* مفردات الحديث:

- نعم: حرف جواب، يؤتَى به للدلالة على جملة الجوابِ المحذوفة، فإذا قيل: أتذهَبُ؟ فقلت: نعم، فالمعنَى: نعم أذهَبُ؛ فالجَوابُ في الحديث تقديره: نَعَمْ على المرأةِ غُسْلٌ إذا احتلمَتْ.

- الشبه: بفتحتين، جمعه أشباه، وهو المثلُ والمشابهة.

قال في المصباح: أشبه الرجلُ أباه: إذا شاركه في صفة من صفاته.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

فيه ما في الحديث الذي قبله مِنْ إمكانِ حُلْمِ المرأة في المنامِ كالرجل، وأنَّها إذا احتلَمَتْ وأنزلت، وجَبَ عليها الغسلُ من الجنابة.

2 -

وفيه أنَّ شبه الولد (ذكرًا أو أنثى) بأمِّه يكونُ مِنْ سبب مائها، الذي يلتقي بماء الرجل أثناء العمليَّة الجنسيَّة، فأي الماءين غلَبَ كان له الشبه؛ كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري، عن أنس؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"أمَّا الشبه في الولد، فإنَّ الرجل إذا غَشِيَ المَرأةَ فَسَبقَهَا ماؤه، كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها، كان الشبه لها".

3 -

قانونُ الوراثة عند الأطباء هو انتقالُ العواملِ التي تسبِّب في تشابه الذرية

(1) البخاري (6121)، مسلم (313).

ص: 374

بالأب والأم، بواسطة عمليَّة التناسُلِ في الحيوان، واكتُشِفَتْ أخيرًا الصِّبْغِيَّاتُ باعتبارها أساسًا ماديًّا بانتقالِ الصفات الوراثية، فيرث كلُّ فردٍ من أبويه عند إخصاب البويضة بالخليَّةِ الذَّكَرية، وليس هذا فحسبُ، بل إنَّ تأثير الوراثة ضِمْنَ الجِينَاتِ يمتدُّ عبر القرون ليتصلَ بالآباءِ والأجداد.

فالعلمُ الحديثُ كشَفَ أن ضمن "الجِينَاتِ" تكمُنُ أسرار، يظهرها الله تعالى متى شاء، ومِنْ ضِمْنِ تلك الأسرار: الصفاتُ والسيماتُ والملامحُ التي تعطي الإنسان صفته وشكله، واستعدادَهُ لكثيرٍ من الأخلاق والصفاتِ البدنية والنفسية، وهذا الاكتشافُ الجديد أظهَرَ معجزةً علميَّةً نبويَّة في الحديث الشريف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"عسى أنْ يكونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ"[رواه البخاري (305)، ومسلم (1500)].

4 -

قال الدكتور محمَّد علي البار:

هذه كلمةٌ موجزةٌ عن قانون الوراثة التي تنتقلُ بموجبها الصفاتُ الخَلْقِيَّة من الأبوين إلى المولود.

وخلاصةُ الكلام: أنَّ الصفاتِ الوراثيةَ إمّا أنْ تكونَ "سائدة"، أو "متنحِّية": فإذا كانتْ سائدة، فإنَّ وجودها في أحد الأبوَيْن يكفي لظهورها في نصف الذرية.

وإنْ كانت متنحية، فإنها لا تظهر في الذرية إلَاّ إذا كانتْ هذه الصفةُ موجودةً في الأبوين كليهما، دون أنْ تظهر عليهما، فتظهَرُ على ربع الذرية، ويكونُ الربع الثاني خاليًا تمامًا من هذه الصفات.

وبما أنَّ الصفاتِ الوراثيةَ محمولةٌ على ما يسمَّى "الصِّبغِيات"، وبما أنَّ هذه الصبغيات تكونُ على هيئة أزواجٍ في الخلايا الجسدية للأب أو للأم، فإنَّها تتعرَّض للانقسامِ الاختزاليِّ في المبيض، لتكون البيضة في الخصية ليكوَّن الحيوان المنوي.

ص: 375

ويمثِّل موضوعَ الوراثة قولُهُ تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)} [عبس]. فالتقديرُ يكونُ في النطفة؛ فإنَّ الصفاتِ الوراثيةَ كلَّها تحملها النطفة المذكَّرة من الآباء والأجداد، وتَحْمِلها النطفة المؤنَّثة "البويضة" من جهة الأمِّ مِنْ آبائها وأجدادها.

فقوله صلى الله عليه وسلم: "فعسى أنْ يكونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ" تقريرٌ لكيفيَّةِ وراثةِ الصفات الوراثية "المتنحِّية"، التي لا تكون ظاهرةً في الأبوين، ويكونان حامِلَيْنِ لها، فتظهر في بعض الأولاد، والله أعلم.

***

ص: 376

97 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمِنَ الْحِجَامَةِ، وَمِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف، ومنهم من قوَّاه.

رواه الحاكم (1/ 267) وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ونقل ابن عبد الهادي في المحرَّر عن الإمام البخاري أنَّه قال: رواة هذا الحديث كلُّهم ثقات، وتركه مسلم فلم يخرِّجه، ولا أراه تركه إلَاّ لطعن بعض الحفَّاظ فيه، في حين نقَلَ المنذريُّ في تهذيب سنن أبي داود، عن الإمام البخاري؛ أنَّ حديث عائشة في هذا الباب ليس بذاك، ونقل عن أبي داود أنَّه حديثٌ ضعيفٌ، وأنَّه منسوخ.

وعلَّة ضعفه: أنَّ في سنده مصعَبَ بنَ شيبة، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: قال أحمد: رَوَى أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم: لا يحمدونه، وليس بالقوي، وقال النسائي: منكر الحديث، وقال الدَّراقطني: ليس بالقوي ولا بالحافظ، وقال ابن عدي: تكلَّموا في حفظه.

ووثَّقه كلٌّ من يحيى بن معين، والعجلي، ولكن الجرح المفسَّر مقدَّم على التعديل. والحديث الذي معنا صحَّحه ابن خزيمة، وضعَّفه كلٌّ من البخاري، والشَّافعي، وأبو داود، وابن المنذر، والخطابي.

والغُسْلُ من الجنابة، وللجمعة، ومِنْ غسل الميت: ثبت بأحاديث أخر.

(1) أبو داود (348)، ابن خزيمة (1/ 126).

ص: 377

* مفردات الحديث:

- أربع: لفظ العدد يؤنَّث مع المذكَّر، فيُقال: أربعةُ رجالٍ، ويذكَّر مع المؤنث فيُقال: أربعُ نساء، وذلك من الثلاثة إلى التسعة، وكذلك العشرة، إنْ لم تُرَكَّب.

- الحِجَامة: بكسر الحاء: حِرْفةُ الحَجَّام، وهي: امتصاصُ الدمِ بالمِحْجَم.

- غَسْل الميت: بفتح الغين: تغسيله بعد وفاته، وغاسل الميت: هو من يباشر تقليبه وَدَلْكَهُ ولو بحائل، لا مَنْ يَصُبُّ الماء ونحوه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

يدل الحديثُ على مشروعيَّة الاغتسال من هذه الأمور الأربعة الآتية:

(أ) الجنابة: والاغتسالُ منها واجبٌ إجماعًا، ونصوصُ ذلك في القرآن الكريم، وصحيح السنَّة؛ كما تقدم بعضه.

(ب) غسل يوم الجمعة: مستحبٌّ عند جمهور العلماء، وأوجبه بعضهم، وسيأتي ذكر خلافه، إنْ شاء الله، وسند من يرى الوجوبَ قولُهُ صلى الله عليه وسلم:"غُسْلُ يومِ الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلمٍ"[رواه البخاري (2665) ومسلم (846)].

(ج) الغسل من الحجامة: سُنَّةٌ وليس بواجبٍ لهذا الحديث، الذي ليس فيه إلَاّ فعله عليه السلام، وقيل: مباحٌ، ودليل الإباحة حديث أنس:"أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلَّى ولم يتوضأ"؛ والحديث ليس بالقوي.

(د) الغسل من تغسيل الميت: لحديث أبي هريرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غسَّل ميتًا فليغتسلْ"[رواه أحمد (9553) والترمذي (991)]، وهو ضعيف؛ فقد قال الإمام أحمد وابن المديني: لا يصح في هذا الباب شيءٌ، وقال الذهبي: لا أعلم فيه حديثًا، وحديثُ الباب ضعيفٌ، كما تقدَّم في بيان درجة الحديث.

2 -

في الحديث دليلٌ على القاعدة الأصولية: (إنَّ دليل المقارنة ليس صحيحًا) فإنَّ الحديث جمع بين ما هو واجبٌ إجماعًا، وهو الغسل من الجنابة، وما ليس بوِاجبٍ إجماعًا، وهو الغسل من الحجامة؛ فهذا التفريق في نصٍّ واحد دليلُ ضعْفِ دلالة المقارنة.

ص: 378

98 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ عِنْدَمَا أَسْلَم وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْتَسِلَ" رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَصْلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ؛ فقد رواه البيهقي (9/ 66) من طريق عبد الرزاق، وسنده صحيح من رجال الشيخين، وأصله فيهما، وصحَّحه أيضًا ابن خزيمة (1/ 125).

* مفردات الحديث:

- ثمامة: بضم الثاء المثلثة، وفتح الميم المخففة.

- ابن أثال: بضم الهمزة، هو الحنفيُّ من سادات بني حَنِيفَةَ في اليمامة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ من موجبات الغسل إسلامَ الكافر، ولو مرتدًّا.

2 -

ظاهرُ الحديث وجوبُ الغسل، سواءٌ وجد منه في كفره ما يوجب الغسل، أو لا.

3 -

قال الفقهاء: الحكمةُ في وجوب الغسل عليه: أنَّ الكافر لا يَسْلَمُ غالبًا من جنابة، فأقيمتِ المَظِنَّةُ مُقامَ الحقيقة؛ كالنوم.

4 -

قال الفقهاء: ولا يلزم الذي أسلم غسلٌ آخر، بسبب حدث وجد منه في حال كفره، بل يكفيه غسلُ الإِسلام.

5 -

قال الفقهاء: يستحبُّ للكافر إذا أسلَمَ أنْ يَحْلِقَ شعره، ويغسل ثيابه أو

(1) البخاري (2422)، مسلم (1764)، عبد الرزاق (10/ 318).

ص: 379

يبدلها بغيرها؛ لما روى أبو داود (356)، والبيهقي (8/ 323)، عن عُثَيْم بن كثير بن كليب الحضرمي، عن أبيه، عن جدِّه؛ أنَّه أسلم، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم:"ألق عنك شَعْرَ الكفرِ" قال النووي: إسناده ليس بالقوي؛ لأنَّ عُثَيْمًا ليس بمشهور، ولم يوثَّق، لكنَّ أبا داود رواه ولم يضعِّفه، وقد قال: إنَّه إذا ذكر حديثًا ولم يضعِّفه، فهو عنده صالح؛ فهذا الحديثُ عنده حسن.

* خلاف العلماء.

ذهب الإمامان مالك وأحمد: إلى وجوب الغُسْل عند الإِسلام من الكفر، سواءٌ حصَلَ منه حال كفره ما يوجبُ الغُسْلَ، أو لا، وهو مذهب أبي ثور، وابن المنذر؛ مستدلِّين بحديث الباب، وبما رواه أحمد والترمذي "أنَّ قيس بن عاصم لما أسلم أمره النَّبي صلى الله عليه وسلم أنْ يغتسل"؛ قال الشيخ الألباني: إسناده صحيح، والأمر يقتضي الوجوب.

وذهب الإمام الشَّافعي: إلى أنَّه لا يجب عليه الغسل، إلَاّ أنْ يكون وجد منه حال كفره ما يوجب الغسل.

وذهب الإمام أبو حنيفة: إلى أنَّه لا يجب عليه الغسلُ بحال.

ودليلُ هؤلاء: أنَّ الإِسلام يَجُبُّ ما قبله، وأنَّ الجمَّ الغفير أسلموا فلو أمر كلَّ من أسلم بالغسل، لنقل نقلاً متواترًا، أمَّا حديث قيس بن عاصم: فيحمل على الاستحباب، قال الخطابي: وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلم.

* تحقيق الخلاف:

قول الإمام الشافعي بأنَّ مَنْ وُجِدَ منه حالَ كفره ما يوجبُ الغسلَ وجَبَ عليه الغسلُ عند إسلامه، ومَنْ لا، فلا يجبُ عليه: قولٌ لا يؤيِّده دليل؛ لأنَّه لم ينقلْ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يستفسرُ ممَّن دخل الإِسلام عن ذلك، ولو كان واجبًا، لسألهم، ولو سألهم، لنُقِل نقلاً متواترًا؛ لكثرة من يُسْلِمُ بمحضر الصحابة.

يبقى علينا القولُ بوجوبِهِ مطلقًا، أو استحبابِهِ مطلقًا؛ فقصَّة ثُمَامةَ بن أُثَالٍ

ص: 380

فيها روايتان:

إحداهما: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فَمُرُوهُ أنْ يغتسل"[رواه أحمد (7977) وابن خزيمة (1/ 125)].

ويؤيِّده حديثُ قيس بن عاصم؛ أنَّه أسلَمَ، فأمره النَّبي صلى الله عليه وسلم "أنْ يغتسلَ بماءٍ وسدر"[رواه أحمد (20088)، والترمذي (605) وحسَّنه].

أمَّا الرِّواية الثانية -التي في الصحيحين في قصَّة إسلام ثمامة-: فإنَّه هو الذي ذهب بنفسه واغتَسَلَ ثمَّ أسلم، فيكونُ اغتسالُهُ من باب إقرارِهِ عليه صلى الله عليه وسلم لا أمره به، وهذا لا يدُلُّ على الوجوب؛ كما هو عند الأصوليين.

ولذا فالرَّاجحُ: أنَّ غسل الكافر إذا أسلم مستحبٌّ وليس بواجب؛ لما يأتي:

أوَّلًا: أنَّ العدد الكثير والجم الغفير أسلَمُوا، فلو أمر كلَّ من أسلم بالغسل، لنقل نقلًا متواترًا أو ظاهرًا.

ثانيًا: بعَثَ النَّبيُّ معاذًا إلى اليمن، وقال:"ادعُهُمْ إلى شهادة أن لا إله إلَاّ الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله"، ولو كان الغسل واجبًا، لأمرهم به؛ لأنَّه أوَّل واجبات الإِسلام.

قال الخطابي: أكثرُ أهلِ العلم على استحبابِ الغسلِ، لا على إيجابه.

والاستحباب هو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، اختارها جماعةٌ من الحنابلة، قال في الإنصاف: وهو أولى.

وبهذا: فحديثُ قيس بن عاصم وحديثُ ثمامة بن أثال، يُحْمَلَانِ على الاستحباب.

وقد أجمَعَ العلماءُ على مشروعية الاغتسال، إلَاّ أنَّ بعضهم يرى الوجوب، وبعضهم يرى الاستحباب.

***

ص: 381

99 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ (1).

==

* مفردات الحديث:

- واجب: الواجبُ لغةً: الساقطُ؛ قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي: سَقَطَتْ.

وشرعًا: ما يُثابُ فاعله امتثالًا، ويستحقُّ العقابَ تاركه.

- مُحْتَلِم: بضم الميم، وسكون الحاء المهملة، ثمَّ تاء ولام وميم: بلَغَ سن الحُلُم.

قال في النِّهاية: بلغ الحلم: جَرَى عليه حكْمُ الرِّجال، سواءٌ احتلم أو لم يحتلم؛ فالمحتلم: هو البالغ المُدْرِك؛ ولذا فإنَّ الاحتلام هنا مجاز، والقرينةُ المانعة عن الحقيقة: أنَّ الاحتلام إذا كان معه الإنزال، فهو موجب للغسل، سواءٌ كان يوم الجمعة، أو لا.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

يحتمل نسبة الغسل إلى زمانه، وهو يوم الجمعة؛ فيكونُ الغسلُ خاصًّا لليوم، وفضيلتُهُ حاصلةٌ وَقَعَ الغسلُ قبل الصلاة أو بعدها.

ويحتملُ أنْ تكون نسبته إلى صلاة الجمعة، فهو من إضافة الشيء إلى سببه؛ وحينئذٍ لا تحصل فضيلةُ الغسل إلَاّ إِذَا وقع للصلاة قبلها، وهذا هو

(1) البخاري (2665)، مسلم (846)، أبو داود (341)، الترمذي (493)، النسائي (1375)، ابن ماجة (1089)، أحمد (10644).

ص: 382

الرَّاجحُ؛ لأنَّ سبب الحديث يشير إلى هذا المعنى، ولما جاء في البخاري (877) ومسلم (844) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا جاء أحدكم الجمعة، فليغتسل"، وهو مذهب جمهور العلماء.

2 -

قوله: "على كلِّ محتلم" يدل على أنَّ غسل الجمعة -وإنْ كان واجبًا للصلاة نفسها- فإنَّه لا يجبُ على الصغار، وإنْ أتوا إليها وصلَّوْهَا، ولولا قيد "الاحتلام"، لوجب على كل من صلاها من الذكور، ولو كانوا صغارًا؛ لأنَّهم إذا تلبَّسوا بها، وجب عليهم كلُّ ما لا تتمُّ عبادتهم إلَاّ به، من الأركان والشروط والواجبات؛ وإلَاّ لَمَا صَحَّتْ عبادتهم.

3 -

ظاهر الحديث وجوب غسل يوم الجمعة على كلِّ بالغ، وفيه خلاف يأتي تحقيقه قريبًا إنْ شاء الله تعالى.

4 -

من لم يبلغ لا يجبُ عليه الغسل؛ لأنَّ التكاليفَ الشرعية لا تجبُ على الصغيرِ والمجنون.

5 -

تخصيصُ مشروعية الغسل يوم الجمعة، وتخصيصُهُ بالرِّجال دون النساء دليلٌ على أنَّ الغسل هو لصلاة الجمعة، فلا يجزىء بعدها، وتقدَّم ذكره.

6 -

الحديثُ يدُلُّ على أنَّ وجوبَ الأحكامِ الشرعيَّة منوطٌ بالبلوغ؛ فلا يجب قبله شيء، وتقدَّم بحثه.

7 -

جاء في مسلمٍ (854) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير يومٍ طلعَتْ عليه الشمسُ يومُ الجمعة".

8 -

ذكر "اليوم" في الحديث دليلٌ على أنَّ الغسل لا يجزىء في ليلةِ الجمعة، بل وقته هو مِنْ طلوعِ الفجر.

9 -

فيه دليلٌ على تعظَيمِ هذا اليوم الجليل، ويكونُ تعظيمُهُ بشعور القلب بذلك، وبالاستعدادِ للصلاةِ، واجتماعِهِ بالغسلِ والطيبِ واللباسِ الحسن، والتفرُّغِ للعبادة فيه.

ص: 383

10 -

أخذ بعضُ العلماء من مشروعية اغتسال صلاة الجمعة، استحبابَ الاغتسالِ لكلِّ اجتماعٍ عامٍّ للعبادة؛ كصلاة العيد.

11 -

قال العلماء: يُسَنُّ أنْ يتنظَّف للجمعة بقَصِّ شاربه، وتقليم أظفاره، وقطع الروائح الكريهة بالسواك وغيره، وأنْ يتطيَّب، ويلبس أَحسَنَ ثيابه؛ لما روى البخاري (883) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يغتسلُ رجلٌ يوم الجمعة ويتطهَّرُ ما استطاعَ من طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ وَيَمَسُّ من طيبِ امرأتِهِ، ثُمَّ يصلِّي ما كُتِبَ له، إلَاّ غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأُخْرى".

***

ص: 384

100 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ، فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ" رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

مدار صحة الحديث مِنْ ضعفه، على صِحَّةِ سماع الحسن البصريِّ من سَمُرَةَ بنِ جندب، فقد اختلفَ العلماء في ذلك:

فعليُّ بن المَدِينيِّ، والترمذيّ، والحاكم: يحملون رواية الحسن عن سمرة على الاتصال، ويصحِّحون الحديث.

وقال البزار وغيره: لم يسمع منه، وإنَّما يحدِّث من كتابه.

قال ابن الملقِّن: وهو صحيحٌ على طريقة البخاري؛ لأنَّه يصحِّح حديث الحسن عن سمرة مطلقًا.

قال الألباني: رجاله ثقات، وله شواهد كثيرة.

* مفردات الحديث:

- من: اسمُ شرطٍ جازمٌ يجزم فعلين: الأوَّلُ فعلُ الشرط، والثَّاني جوابُهُ وجزاؤه.

- توضأ: فعل الشرط، وجوابه "بها"، والفاء رابطة.

- فيها: أي: بالسنة أخَذَ المتوضِّىء.

(1) أحمد (19585)، أبو داود (354)، الترمذي (497)، النسائي (1380)، ابن ماجة (1091).

ص: 385

- نعمت: قال أبو عليٍّ القالي: ولا يجوزُ: نِعْمَة، -بالهاء؛ لأنَّ مجرى التَّاء فيها مجرى التَّاء في قامَتْ وقعدَتْ.

قال ابن السِّكيت: التاء ثابتة في الوقف.

قال في المصباح: نِعْمَ الرجلُ زيدٌ، مبالغة في المدح، وقوله في الحديث:"فيها ونعمت" أي: نعمتِ الخَصْلَةُ السُّنَّةُ.

- أفضل: أَفْعَلُ التفضيل؛ إذِ الجانبُ المفضول فيه فضل، أقلُّ من الجانب الآخر.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

استحبابُ غُسْل يومِ الجمعة في يومها قبلها؛ إذ إنَّه شُرِعَ لأجل الصلاة.

2 -

أنَّ من لم يتمكَّن من الغسل لعذر، أو لم يُرِدِ الاغتسالَ من دون عذر، كفاه الوضوء؛ ولكنْ فاته الأجرُ والفضيلة.

3 -

هذا الحديث دليلٌ على عدم وجوبِ الغسل لصلاة الجمعة، وهو معارض للحديث السَّابق الذي يفيد الوجوب.

* خلاف العلماء:

ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة: إلى أنَّ غسل يوم الجمعة مستحبٌّ غير واجب.

واستدلُّوا على ذلك بحديث سمرة الذي معناة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضَّأ يوم: الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". أي: أنَّ من توضَّأ، فقد أخذ بالرخصة، ونعمتِ الرخصةُ التي أخذ بها، ومن اغتسل فقد زاد خيرًا، وهو أفضل من الاقتصار على الوضوء؛ وهذا حديثٌ صحيحٌ صريحٌ بعدم الوجوب؛ قال الألباني: رجاله ثقات، وله شواهدُ كثيرةٌ.

وذهب أهل الظَّاهر: إلى أنَّه واجبٌ، عملاً بحديث:"غسل يوم الجمعة واجب على كلِّ محتلم"، وبما في البخاري (894) ومسلم (844) أيضًا: "من

ص: 386

جاء منكم الجمعة، فليغتسل".

وتأوَّل الجمهور حديث أبي سعيد بأنَّه وجوبُ اختيارٍ لا وجوبُ إلزام؛ كقول الإنسان لصاحبه: حقُّكَ واجبٌ عليَّ.

وأنَّ الحديثَ ورَدَ موردَ التأكيدِ والاهتمامِ بالغُسْلِ لهذه الشعيرة الكبيرة.

وتوسَّط شيخ الإِسلام ابن تيمية فقال: هو مستحبٌّ، ولكنَّه يجبُ على مَنْ فيه رائحةٌ كريهة، وعنده عَرَقٌ يؤذي به المصلِّين والملائكة، فلا يجوز أنْ يحضر الجمعةَ واجتماعَ المسلمين بهذه الرَّائحة، حتَّى يقطعها بالاغتسال والتنظيف.

ويؤيِّد ما ذهب إليه الشيخ تقي الدِّين: ما جاء في البخاري (902)، ومسلم (847)، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان النَّاس ينتابون الجمعةَ من منازلهم ومن العوالي، فيأتون بالعباء ويصيبهم الغبار، فيخرُجُ منهم الريح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أنَّكم تطهَّرْتُمْ ليومكم هذا".

أمَّا ابنُ القيِّم فقال في الهَدْي: الأمرُ بالغُسْلِ يومَ الجمعة مؤكَّدٌ جِدًّا، ووجوبُهُ أقوَى من وجوبِ الوتر، وقَراءةِ البسملة في الصلاة، ووجوبِ الوضوء مِنْ مَسِّ النِّساء، ووجوبِهِ من مسِّ الذَّكر، ومِنَ الرُّعَافِ والحجامة.

***

ص: 387

101 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْخَمْسَةُ، وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ.

قال في التلخيص: رواه أحمد، وأصحاب السنن، وابن ماجه، وابن حبَّان، والحاكم (1/ 253)، والبزَّار، والدَّراقطني (1/ 119)، والبيهقي (1/ 288)، وألفاظهم مختلفةٌ، وصحَّحه الترمذي، وابن السكن، وعبد الحق، والبغوي.

قال ابن خزيمة: قال شعبة: هذا الحديث ثلث رأس مالي، وقال أيضًا: لم أحدِّثْ بحديثٍ أحسَنَ منه. أهـ.

* مفردات الحديث:

- كان: قال ابن دقيق العيد: "كان يفعل كذا" بمعنى: أنَّه يتكرَّر منه فعله، وكانت عادته، وقد تستعملُ "كان" لإفادة مجرَّدِ الفعل، ووقوع الفعلِ دون الدلالةِ على التكرار، والأوَّلُ أكثَرُ في الاستعمال، وعليه ينبغي حَملُ الحديث.

- يقرئنا القرآن: أي: يتلو القرآن علينا، ويعلِّمنا إيَّاه بتلقينه إيَّاه لنا.

- ما لم يكن جنبًا: "ما" مصدرية ظرفية، أي: مدَّةَ بقائه جنبًا؛ فقد حُذِفَ الظرفُ وخلفته "ما"، وأصبَحَ المصدر المؤوَّل بعدها منصوبًا على الظرفية؛ لقيامة

(1) أحمد (628)، أبو داود (229)، الترمذي (146)، النسائي (265)، وابن ماجة (594)، ابن حبَّان (3/ 79).

ص: 388

مقام المدَّة المحذوفة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تحريمُ قراءة القرآنِ الكريمِ على الجنب، ويدخُلُ فيه كلُّ من عليه حدثٌ أكبر، وربَّما كان الحديث ليس صريحًا في التحريم، إلَاّ أنَّ الَّذِي يؤيِّد التحريمَ ما رواه عليٌّ قال:"قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن، ثمَّ قال: هكذا لمن ليس بجنب"، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 276): رجاله موثقون.

2 -

قال في الرَّوْض المُرْبِعِ وحاشيته: وحَرُمَ على الجنب قراءة القرآن، أيْ: قراءة آية فصاعدًا، وله قراءةُ بعضِ آية ما لم تَطُلْ؛ كآية الدَّين. وله قولُ ما وافق قرآنًا؛ كالبسملة، والحمدلة، ونحوهما، ما لم يقصدِ القرآن، فإنْ قصده، حَرُمَ.

قال الشيخ تقي الدِّين: أجمع الأئمةُ على تحريمِ قراءة القرآن للجنب.

3 -

جواز قراءة القرآن للمُحْدِثِ حدثًا أصغر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم يكن جنبًا".

4 -

فضلُ تلاوةِ القرآن والاجتماعِ لذلك، والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ وصحيحة.

5 -

فضلُ تعليم القرآن لفظًا ومعنًى وسلوكًا؛ فقد جاء في صحيح البخاري (5027) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه"، وهذا هو تعليمه التَّامّ.

6 -

عدَمُ وجوب المبادرة بالاغتسال للجنب، وجوازُ مجالسته النَّاس؛ لما في البخاري (285) ومسلم (371) عن أبي هريرة:"أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ في بعض طُرُقِ المدينة، وهو جنب، قال: فانخَنَسْتُ منهُ، فذهبْتُ فاغتسلْتُ ثمَّ جئتُ، فقال: أين كنتَ يا أبا هريرة؟ قال: كنتُ جُنُبًا فكَرِهْتُ أنْ أُجالِسَكَ وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ".

7 -

فيه وجوبُ تعظيمِ القرآنِ واحترامِهِ، وأنْ يبعد عن كلِّ ما يَمَسُّ كرامته

ص: 389

وقدسيَّته من الأمكنة القذرة، والمَحالِّ المحرَّمة، من مجالس اللهو، والغناء، والفحش، والمناظر المُزْرية والصور المحرِّمة.

قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة].

وقال تعالي: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)} [عبس].

وقد روى مسلم (1869) عن ابن عمر: "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى أنْ يسافر بالقرآن إلى أرضِ العدو؛ مخافةَ أنْ ينالَهُ العدو".

وروى أبو داود في المراسيل ص (121) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَمَسُّ القرآنَ إلَاّ طاهرٌ".

ومِنْ إهانة القرآنِ: كتابتُهُ على الأواني واللوحات التي توضع بجانب الصور، وفي مجالس اللهو، وما حدَثَ أخيرًا من تجسيمِ كلمات القرآن على صور مناظر الطبيعة، كلُّ هذا يُعَدُّ من إهانةِ القرآن والتلاعُبِ به، وإنْ لم يقصد صاحبُهُ ذلك، إلَاّ أنَّه عرَّضه للإهانة والاستخفاف.

قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام].

***

ص: 390

102 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، زَادَ الْحَاكِمُ:"فَإِنَّهُ أَنْشَطُ لِلْعَوْدِ"(1).

وَلِلْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً" وَهُوَ مَعْلُولٌ (2).

ــ

* درجة الحديث:

صدر الحديث في مسلم؛ فلا داعيَ للكلام فيه.

أمَّا روايةُ الأربعة عن عائشة: فالمؤلِّف أعلَّها؛ لأنها من رواية أبي إسحاق عن الأسود، عن عائشة، قال أحمد: ليس بصحيح، وقال أبو داود: إنَّ أبا إسحاق لم يسمَعْ من الأسود.

قال المؤلِّف في التلخيص: أخرج مسلمٌ الحديثَ دون قوله: "ولم يمس ماءً"، وكأنَّه حذفها عمدًا، وقال مهنا، عن أحمد بن صالح: لا يحل أنْ يروى هذا الحديث، وقال ابن مفوز: أجمع المحدِّثون على أنَّه خطأ من أبي إسحاق، ثُمَّ قال ابن حجر: وتساهل في نقلِ الإجماع، فقد صحَّحه البيهقي.

قال الترمذي: وعلى فرض صحَّته، فيحمل على أنَّ المرادَ: لا يَمَسَّ ماءَ الغسلِ.

وبتأويل الترمذي يتبيَّن أنَّه يوافق أحاديثَ في الصحيحين، التي صرَّحت "بأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يتوضَّأ لأجل النوم والأكل والشرب والجماع".

(1) مسلم (308)، والحاكم (2/ 333).

(2)

أبو داود (228)، الترمذي (117)، النسائي في الكبرى (5/ 332)، وابن ماجة (581).

ص: 391

* مفردات الحديث:

- وضوءًا: مصدرٌ مؤكِّدٌ للوضوء الشرعي؛ ذلك أنَّ الوضوءَ لغةً: يطلقُ على غَسْل اليدين والفَرْج.

- لِلْعَوْدِ: بفتح العين، وسكون الواو، يُقَالُ: عاد إلى الشيء، وعاد له، وعاد فيه: صار إليه ورجع، والمراد -هنا- عاد إلى إتيانِ امرأته.

-وهو جنب: الواو للحال، والجملةُ الاسمية جملةٌ حالية، والجنب -بضمتين- مَنْ أصابته الجنابة.

- بينهما: أي: بين الجماعِ الأوَّل والجماعِ الثاني.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

استحباب الوضوء لمن جامَعَ أهله، ثُمَّ أراد العَوْدَ إلى الجماعِ مرَّةً أخرى، وقد ثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم غَشِيَ نساءَهُ ولم يُحْدِثْ وضوءًا بين الفعلين، وثبت أنَّه اغتسل بعد غِشْيانه كل واحدة؛ فالكل جائز.

2 -

عمومُ الحديث يفيد أنَّه سواءٌ كانت التي يريد العود إليها هي الموطوءة، أو الزوجة الأُخرى لمن عنده أكثرُ من واحدة.

3 -

الحكمةُ في هذا ما أشارَتْ إليه زيادة الحاكم: "فإنَّه أنشَطُ للعود"؛ ذلك أنَّ المجامع يحصُلُ له كسلٌ وانحلال، والماء يعيد إليه نشاطَهُ وقوَّته وحيويَّته، وأبلَغُ من الوضوء الغسلُ بإعادة النشاط والقوَّة.

4 -

جواز النومِ بعد الجماعِ، ولو كان جنبًا.

5 -

قوله: "من غير أنْ يمس ماء"، يفيدُ أنَّه ينامُ ولا يتوضَّأ.

قال الترمذي: على تقدير صحَّته: فيحتمل أنَّ المراد: لا يَمَسُّ ماءَ الغسل، دون ماء الوضوء، ويوافق أحاديث الصحيحين المصرِّحة بأنَّه يغسل فرجه ويتوضَّأ لأجل النوم والأكل والشرب والجماع.

ومنها: حديثُ ابن عمر؛ أنَّ عمر قال: يا رسولَ الله، أينام أحدنا وهو

ص: 392

جنب؟ قال: "نعم، إذا توضَّأ"[رواه البخاري (285) ومسلم (306)].

وعن عمَّار بن ياسر: "أنَّ النبَّي صلى الله عليه وسلم رخَّص للجنب إذا أراد أنْ يأكُلَ أو يشرَبَ أو ينامَ: أنْ يتوضَّأ وضوءه للصلاة"[رواه أحمد (18407) والترمذي (613) وصححه].

وحديث الباب يفيدُ استحبابَ الوضوءِ للجماع.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في نوم الجنب بدون وضوء:

فذهب الظاهرية: إلى التحريم؛ أخذًا بحديث ابن عمر وعمَّار وأمثالهما.

وذهب الإمام أحمد في الرواية المشهورة من مذهبه: إلى استحباب الوضوء، وكراهة تركه؛ ذلك أنَّ الوضوء يخفِّف غلظ الجنابة، وثقل حدثها للنَّائم، الَّذي ينبغي أنْ ينام على طهارة تامَّة؛ كما جاء في الترمذي (3589) وغيره من حديث البراء؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أخذْتَ مضجعك، فتوضَّأ وضوءك للصلاة".

قال شيخ الإِسلام: يستحبُّ الوضوء عند كل نومٍ لكل أحدٍ.

قال الزرقاني: ذهبَ جمهور الصحابة، التَّابعين: إلى جواز تركه بلا كراهة، وعليه فقهاء الأمصار.

والرَّاجحُ من هذه الأقوال: ما ذهب إليه الإمام أحمد من استحباب الوضوء، وكراهة تركه؛ فهذا أقلُّ حال ما تَدُلُّ عليه الأحاديثُ الكثيرة الصحيحة الصريحة في هذه المسألة.

***

ص: 393

103 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ، ثُمَّ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).

وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها: " ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى فَرْجِهِ وَغَسَلَهُ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِهَا الْأَرْضَ".

وَفِي رِوَايَةٍ:" فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ"، وَفِي آخِرِهِ:"ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ فَرَدَّهُ" وَفِيهِ: "وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ"(2)

ــ

* مفردات الحديث:

- اغتسل: شرَعَ في الاغتسال، وهو من التعبير بالفِعْلِ عن إرادته، من باب المجاز المرسل؛ لأنَّه تعبيرٌ بالمسبَّب عن السبب؛ فإنَّ الفعل مسبَّب عن الإرادة، فأُقِيمَ مُقَامَهُ لِلملابسة بينهما.

- من الجنابة: "من" للسببية، أي: بسبب الجنابة.

- الجنابة: ما أوجب غُسْلًا لإنزالٍ أو جماعٍ، سُمِّيَ بذلك: إمَّا لأنَّ الماء باعد محلَّه وجانبه، أو لأنَّ الجنب يجتنب ما لا يجتنبه الطاهر.

- أصول الشعر: أصل الشيء: أساسه الذي يقوم عليه، والمراد هنا: أسافله التي

(1) البخاري (262)، مسلم (316).

(2)

البخاري (266، 274)، مسلم (317).

ص: 394

تلي البشرة.

- فرجه: الفرج، لغةً: الفتحة، والشق، والصَّدْعُ بين الشيئين.

قال في المصباح: وكل منفرج بين الشيئَيْن فهو فرجة، والفرجُ من الإنسان: يطلق على القبل والدبر؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما منفرِجٌ، وكثر استعماله في العرف في القُبُل.

وقال في النِّهَاية: الفرجُ: ما بين الرِّجْلين، وبه سُمِّيَ فَرْجُ المرأةِ والرجل؛ لأنَّهما بين الرِّجْلَيْن.

- حفن: فعل ماضٍ، والحَفْنة: ملء الكف من شيء، جمعه حَفَنَاتٌ وحُفَن.

- أفاض: يفيض إفاضة، أي: أسال الماء على بقية جسده وأجراه عليه.

- سائر جسده: أي: بقية جسده. قال الأزهري: اتفق أهل اللغة على أنَّ سائر الشيء: باقيه، قليلًا كان أو كثيرًا.

قال الصَّغانِيُّ: سائرُ النَّاس: باقيهم، وليس معناه: جميعهم كما زعم من قصَّر في اللغة، وجعله بمعنى الجميع من نحو العوامِّ، ولا يجوزُ أنْ يشتقَّ من سُورِ البلد؛ لاختلاف المادتين.

- أفرغ: يُقال: أفرغ الإناءَ إفراغًا، وفرَّغه تفريغًا: إذا قلَبَ ما فيه وأخلاه ممَّا فيه، والمراد هنا: صَبَّ على يديه من الإناء.

- ضرب بها الأرض: مسح بيده الأرض؛ ليزيل ما عليها من لزوجة النجاسة، أو المنيِّ.

- المنديل: نسيجٌ من قطن أو حرير أو نحوهما مربَّع الشكل، يمسح به رذاذ الماء ونحوه، جمعه مناديل.

- فردَّه: هذه الروايةُ تؤيِّد أنَّ ما جاء في بعض روايات البخاري (266) من قوله: "فناولته خرقةً، فلم يَرُدَّهَا" أنَّها مخفَّفة، فإنَّ بعض المحدِّثين قال بالتشديد، والتخفيف أصح؛ ولذا فإنَّ ابن السكن عَدَّ رواية التشديد من الوهم.

ص: 395

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

في هذا الحديث صِفَةُ غُسْل النَّبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة ترويها عائشة رضي الله عنها.

2 -

استحبابُ البداءة بغَسْلِ يديه؛ لأنَّ اليدين هما أداةُ غَرْفِ الماء، وأداةُ دلك الجسد، فينبغي طهارتهما قبل كُلِّ شيءٍ، والمرادُ باليدين عند الإطلاق هما الكَفَّان.

3 -

إفراغُ الماء من اليد اليُمْنَى على اليد اليسرى، التي ستباشر غسل الفرج، الذي عليه آثارُ الجماع، فاليمنَى لتناوُلِ الماء، واليسرى لإزالة الأذى.

4 -

البداءةُ بغَسْلِ الفرج قبل بقيَّة البدن؛ لإزالةِ الأذى الَّذي عليه؛ لأنَّ غسله: إمَّا لإزالةِ نجاسة تجبُ إزالتها، أو لإزالةِ وساخةِ ينبغي إزالتها أيضًا، وتكون إزالةُ النجاسات والأوساخ قبل رَفْعِ الحدث.

5 -

بعد غسله فرجَهُ بشماله، يمسح يده بالتراب؛ وذلك لإزالة اللزوجة العالقة بها، من غسل الفرج المتلوِّث بالنجاسة أو المني، وليَكُونَ ذلك عند إزالة الأذى.

6 -

ثمَّ يتوضَّأ بغَسْلِ ما يغسل من أعضاء الوضوء، ومَسْح ما يمسح منها، فرَفْعُ الحدث الأصغر يكونُ قبل رفع الأكبر.

7 -

ثمَّ يروِّي بالماء أصول شعره، فإنَّه لو صَبَّ الماء على الشعر الكثيف بدون تخليلِ وتعاهدِ أصوله، لم يَصِلِ الماء إلى أصولها، ولا إلى ما تحتها من البشرة.

8 -

ثمَّ يَصُبُّ الماء على رأسه بثلاث حفنات، ليعمَّ الماء ظاهر الشعر وباطنه.

9 -

ثمَّ يغسل سائر جسده، ويفيض الماء عليه مرَّةً واحدة، وظاهر النص أنَّه دون أعضاءِ الوضوء التي سبَقَ غسلها، وهو الَّذي يدل لفظ "سائر"؛ فإنَّ السائر هو الباقي.

10 -

المشهورُ من المذهب: استحبابُ غسل البدن ثلاثَ مرَّات، ولكن الحديث

ص: 396

يدل على أنَّه لا يشرع غسل البدن إلَاّ مرَّةً واحدة؛ فإنَّ التثليث لم يرد إلَاّ في غسل الرَّأس، وهذا هو الصحيح، والله أعلم.

11 -

ثمَّ خصَّ رجليه بالغسل في آخر الأمر؛ لأنَّ كل ما تحدَّر من جسده من أوساخٍ وفضلاتٍ أصابت رجليه، فكان حقُّهما أنْ يطهَّرا بعد ذلك؛ لإزالة ما عَلِقَ بهما، وما نزَلَ عليهما.

وفي بعض ألفاظ حديث ميمونة: "ثُمَّ تنحَّى عن مقامه ذلك، فغسل رجليه"؛ وهذا أبلغ في تنظيفهما.

12 -

ذكر المؤلِّف في صفة غُسْل النَّبي صلى الله عليه وسلم حديثين: حديث عائشة، وحديث ميمونة:

فأمَّا حديث عائشة: فذكرت الوضوء، وقالت في إحدى رواياته:"ثمَّ توضَّأ وضوءه للصلاة"، ثمَّ قالت؛ "ثمَّ غسل رجليه"؛ ممَّا يفيد أنَّه كرَّر غسل الرجلين في أوَّل الغسل وآخره.

وأمَّا حديثُ ميمونة: فذكرت الوضوء إلَاّ غسل الرجلين، ثمَّ قالت:"ثمَّ تنحَّى مِنْ مقامه، فغسل يديه"، ممَّا يفيد أنَّه لم يغسل رجليه إلَاّ مرَّةً واحدة، بخلاف ما جاء في حديث عائشة من أنَّه توضَّأ وضوءه للصلاة، ثمَّ قالت:"ثمَّ غسل رجليه".

قال الحافظ: "ثمَّ غسل رجليه" أي: أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أنْ كان غسلهما في الوضوء؛ فيحمل هذا على حالةٍ أخرى.

13 -

كراهة التنشيف بالمنديل ونحوه بعد الغسل أو الوضوء؛ لأنَّ ما على البدن أو على أعضاءِ الوضوء هو مِنْ أثر العبادة، فينبغي بقاؤُهَا واستصحابها، ويكتفي بنفض زائد الماء باليد دون إزالته.

14 -

هذه الصفة هي أفضلُ الصفات للغُسْلِ من الجنابة، فقد جمعَتْ بين تنظيف أداة الغسل، وغَسْلِ الأذى، وترويةِ أصول الشعر، وإسباغِ الوضوء

***

ص: 397

والغُسْل، ففيها النظافةُ والطهارةُ الكاملة.

15 -

الحكمة الشرعية من تعدُّد زوجات النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّهُنَّ نَقَلْنَ من الأحكام الشرعيَّة -ولا سيما المنزليَّة- العلْمَ الكثير الذي نفَعَ الأمةَ الإِسلامية، وكلُّ واحدةٍ منهنَّ حفظَتْ وروت غالبًا ما لم تحفَظْ وَتَرْوِهِ الأخرى.

16 -

قال ابن الملقِّن: لتخليل الشعر ثلاثُ فوائد:

(أ) تسهيلُ إيصالِ الماء إلى الشَّعْرِ والبَشَرَة.

(ب) مباشرةُ الشعر باليد؛ ليحصلَ تعميمه.

(ج) تبليلُ البشرة؛ خشية أنْ يصاب بِصَبِّ الماء دفعةً واحدة، وَجَعٌ في رأسه.

***

ص: 398

104 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ شَعْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ?" -وَفِي رِوَايَةٍ:"وَالْحَيْضَةِ?" -"قَالَ: لا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أشدُّ شعر رأسي: شد الشيء: قوَّاه وأحكمه، والعقدَةَ: أحكمها وأوثقها.

- أفأنقضه: نقض الحبل أو الشعر: حلَّ إبرامه وعقده، والهمزة للاستفهام.

- يكفيك: كفى الشيءُ يكفي كفاية: حصل به الاستغناء عن غيره، فهو كاف، والمراد: يغنيك الحَثْيُ عن نقض شعرك.

- أنْ تحثي ثلاث حثيات: بالثاء المثلثة؛ يُقال: حَثَيْتُ وَحَثَوْتُ، لغتان مشهورتان، والحثية: هي الحفنة التي هي ملء الكفَّيْنِ من الماء وغيره، والجمع حَثَيَات.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

عدمُ وجوبِ نقض المرأة شعرها للغُسْلِ من الجنابة، أو الغسل من الحيض.

2 -

الاكتفاء بحثي الماء -ثلاث مراتٍ- على الرأس؛ هذا هو مذهب جمهور العلماء، وسيأتي تحقيق الخلاف، إنْ شاء الله تعالى.

3 -

يَدُلُّ الحديثُ على أنَّ للمرأة أنْ تَشُدَّ شعر رأسها، ولم يبيِّن صفة الشد هل تضفره أو تعكصه؟

وهذه الأمور عادية لا دخل لها في العبادة، فالعادةُ التي يعملها النَّاس وليسَتْ زيًّا خاصًّا بالكفَّار، يجوزُ فعلها.

(1) مسلم (330).

ص: 399

* خلاف العلماء:

قال في الشرح الكبير: لا يجبُ على المرأة نقضُ شعرها لِغُسْلِهَا من الجنابة، روايةً واحدة، ولا نعلم في هذا خلافًا، إلَاّ عن ابن عمر، والنخعي، ولا نعلم أحدًا وافقهما على ذلك، لما روتْ أم سلمة أنها قالت:"يا رسول الله! إني امرأةٌ أَشُدُّ شعر رأسي، أفأنقضه للجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاثَ حَثَيَاتٍ ثمَّ تفيضين عليك بالماء، فتتطهَّرين به"[رواه مسلم].

قال في المغني: اتفق الأئمةُ الأربعة على أنَّ نقضه غيرُ واجب. أهـ.

واختلفوا في وجوب نقضِ شَعْرِ المرأة لِغُسْلها من الحيض:

فذهب الإمام أحمد -في المشهور من مذهبه-: إلى وجوب نقضه، قال مهنَّا: سألتُ أحمد عن المرأة تنقُضُ شعرها من الحيض؟ قال: نعم، فقلت له: كيف تنقُضُهُ من الحيض ولا تنقُضُهُ من الجنابة؟ فقال: حدَّثَتْ أسماءُ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: تنقضه. أهـ.

ولما جاء في البخاري (316)، ومسلم (1211) من حديث عائشة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لها:"إذا كنت حائضًا فانقُضِي رأسك وامتشطي".

ولأنَّ أصل وجوب نقض الشعر ليتيقَّن وصولُ الماء إلى ما تحته، فعفي عنه في غسل الجنابة؛ لأنَّه يكثُرُ فيشُقُّ ذلك؛ بخلاف الحيض.

وذهب أكثر العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: إلى أنَّه لا يجب، لما روى مسلم عن أم سلمة أنَّها قالت يا رسول الله:"إنِّي أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: إنَّما يكفيك أنْ تحثي على رأسك ثلاث حثيات".

وهي رواية عن الإمام أحمد، اختارها الموفَّق، والمجد، والشَّارح والشيخ تقي الدِّين، وغيرهم، لحديث أم سلمة السَّابق.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز: الصحيح أنَّه لا يجب عليها نقضه في غسل الحيض؛ لما ورد في بعض روايات أم سلمة عند مسلم؛ أنَّها قالت للنَّبي صلى الله عليه وسلم:

ص: 400

"إنِّي امرأةٌ أشد ضفر رأسي أفأنقضه للحيض والجنابة؟ قال: لا".

ومذهب الجمهور: أنَّه إِذا وصَلَ الماء إلى جميع شعرها، ظاهره وباطنه من غير نقض لم يجبِ النَّقْضُ.

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: الرَّاجِحُ في الدليل: عدمُ وجوب النقض في غسلِ الحيض؛ كعدم وجوبه في الجنابة، إلَاّ أنَّه في الحيض مشروعٌ للأدلة، والأمرُ فيه ليس للوجوب؛ بدليل حديث أمِّ سلمة، وهذا اختيار صاحب الإنصاف، وأمَّا الجنابة: فليس مندوبًا في حقِّها، وإنَّما هو متأكِّد في الحيض.

قال الزركشي: الأوَّل هو الأولى؛ لحمل الحديثَيْن على الاستحباب.

ودليلُ من لا يوجبُ النقض: بعضُ روايات حديث أمِّ سلمة التي ذكرت الحيضَ مع الجنابة، وقد قال ابن القيِّم عن بعض هذه الروايات: الصحيحُ في حديث أمِّ سَلَمَةَ الاقتصارُ على ذكر الجنابة دون الحيض، وليس نقض شعر الرَّأس بمحفوظٍ للحائض.

وقال الألباني: إنَّ ذكر الحيضة في الحديث شاذٌّ لا يثبت.

وبهذا فمذهبُ الإمام أحمد قويٌّ في هذه المسألة، وأنَّ حمل الحديثَيْن على الاستحبابِ محمَلٌ حَسَنٌ.

***

ص: 401

105 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

في سنده أفلت بن خليفة، مجهولُ الحال، لكنْ صحَّحَه ابن خزيمة، وحسنَّه ابن القَطَّان، وكذلك حسَّنه الزَّيْلَعِيّ في نَصْب الرَّاية، وسكت عنه أبو داود؛ فهو عنده صالح، وقال ابن سيِّد الناس: إنَّ التحسين أقلُّ مراتبه؛ لثقة رواته، ووجودِ الشواهد له من خارج.

* مفردات الحديث:

- لا أحل المسجد: من الحلال ضد الحرام، والمراد: لا أرخِّص للحائضِ والجنبِ أنْ يمكثا في المسجد.

- حائض: جمعها حُيَّض، ويكفي ولو بدون تاء التأنيث؛ لأنَّ الحيض وصفٌ مختصٌّ بالمرأة؛ فلا تحتاج -للفرق بينها وبين الرجل- إلى التاء، بخلاف الوصف المشترك، كـ"قائم" للذكر، فإنَّه يُقال للمرأة:"قائمة".

- جنب: بضمتين، مَنْ أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكَّر والمؤنث، والمثنَّى والجمع؛ قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تحريمُ المكث في المسجد للحائض، وَمِثْلُها النفساء، سواءٌ خشي منها

(1) أبو داود (232)، ابن خزيمة (2/ 284).

ص: 402

تلويثه أَوْ لا؛ وهو مذهب جمهور العلماء.

2 -

تحريمُ لبث الجنب في المسجد، أمَّا المرورُ في المسجد للجنب والحائض: فقد أجازه أكثر العلماء؛ لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، والمعنى: اجتنبوا مواضع الصلاة وهي المساجد، وأنتم جنب، إلَاّ عابري طريق.

3 -

قوله: "لا أحل المسجد" المسجد: ذاتٌ وعينٌ، وليس معنًى؛ ولذا فإنَّ التحريم المفهوم من النَّهْي لا يمكنُ أنْ يَنْصَبَّ على تلك الذَّات، وإنَّما المراد منافعُهُ من المكثِ والنومِ ونحو ذلك؛ كما قال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]؛ فليس المرادُ الأمَّ ذاتها، وإنَّما المراد نكاحُها.

4 -

قال في المغني: ويجوز العبورُ للحاجة، مِنْ أَخْذِ شيء أو تركه، أو كونِ الطريق فيه، وهو مذهب مالك، والشَّافعي، ورويت الرخصةُ عن ابن مسعود، وابن عبَّاس، وابن المسيّب، وابن جبير، والحسن.

ودليل جوازه: الآية الكريمة، وحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة:"ناوليني الخُمْرَةَ من المسجد، قالت: إنِّي حائض؟ قال: إنَّ حيضتك ليست في يدك"[رواه مسلم (298)].

وعن جابر قال: "كان أحدنا يمر في المسجد جنبًا مجتازًا"[رواه سعيد بن منصور (645)].

وعن عطاء بن يسار قال: "كان الرَّجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون جنبًا فيتوضَّأ، ثمَّ يدخل المسجد، فيتحدَّث فيه".

***

ص: 403

106 -

وَعَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وزَادَ ابْنُ حِبَّانَ:"وَتَلْتَقِي أَيْدِينَا"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- تختلف أيدينا فيه: اختلف الشيئان: لم يتفقا، ومعنى اختلاف أيديهما في الإناء، يعني: من الإدخال فيه والإخراج منه، وذلك أن يدخل كل واحدٍ منهما يده وتغرف من الإناء، بعد يد الآخر، ولعلَّه لضيق فم الإناء، وجاء في بعض روايات البخاري:"من إناء واحد، مِنْ قَدَح يُقال له: الفَرَق"، والفَرَق بفتحتين: قال النووي: هو الأفصح، قال ابن الأثير: يسع ستةَ عَشَرَ رِطْلاً.

وجملة "تختلف" محلها النصب؛ لأنَّها حال من قوله: "من إناء واحد"، والجمل بعد المعارف أحوال، وبعد النكرات صفات.

- تلتقي: تجتمعان أثناء الأخْذِ والغَرْفِ من الإناء.

- من الجنابة: متعلِّق بـ "اغتسل"، وفي "من" معنى السببية.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

وجوبُ الاغتسال من الجنابة على الرجل والمرأة.

2 -

أنَّ اغتسال المرأة والرجل من إناءٍ واحدٍ لا يؤثِّر في طهارة الماء بالإجماع.

3 -

أنَّ وضع الجنب يده في الإناء الَّذي فيه الماءُ لا يسلُبُهُ الطُّهُورية، بل هو باقٍ على طهوريته.

4 -

جواز أنْ يَرَى كلُّ واحدِ من الزوجين بَدَنَ الآخرِ وعورته، وهو داخلٌ تحت

(1) البخاري (261)، مسلم (319)، ابن حبان (3/ 395).

ص: 404

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون].

5 -

استحبابُ التقليل من ماء الوضوء والغسل؛ فهذا النَّبي صلى الله عليه وسلم هو وعائشة يغتسلان ويغترفان من إناءٍ واحد.

جاء في بعض روايات البخاري (250): "مِنْ قَدَحٍ يُقالَ له: الفَرَق" والقدح: إناءُ شرب.

قال الباجي: الصوابُ: أنَّه صاعان، أو ثلاثة آصُعٍ، كما عليه الجماهير.

6 -

في الحديث حُسْنُ عِشْرة النَّبي صلى الله عليه وسلم لأهله، ومشاركَتُهُ لهم في أحوالهم وأعمالهم؛ تطييبًا للقلب، وإزالةً للكلفة.

7 -

فيه فضلُ أزواجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، لا سيَّما الصدِّيقةُ بنت الصدِّيق، فكم نَقَلْنَ للأمَّة من الأحكامِ الشرعية، لا سيَّما الأعمالُ المنزليَّة التي لا يطَّلع عليها إلَاّ المُعاشِرُ في المنزل.

***

ص: 405

107 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً؛ فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَاهُ (1).

وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها نَحْوُهُ، وَفِيهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ (2).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

لأنَّه من رواية الحارث بن وجيه، قال أبو داود: حديثه منكر، وهو ضعيف. وقال الترمذي: غريبٌ لا نعرفه إلَاّ من حديث الحارث، وهو شيخٌ ليس بذاك.

وقال الشَّافعي: هذا الحديثُ ليس بثابت، وقال البيهقي: أنكره أهلُ العلم بالحديث، مثلُ البخاريِّ، وأبي داود، وغيرهما.

وأمَّا حديثُ عائشة عند الإمام أحمد، ففيه راوٍ مجهول، وجهالة الرَّاوي من غير الصحابة توجبُ ضَعْفَ الحديث.

ومع هذا الضعف، وبعد بيان ابن حجر في التلخيص الحبير له قال: وفي الباب عن عليٍّ رضي الله عنه مرفوعًا: "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها، فُعِلَ به كذا وكذا"، وقال: إسناده صحيح أخرجه أبو داود (249) وابن ماجه (2599)؛ لكن قيل: إنَّ الصواب وقفه على عليٍّ رضي الله عنه. أهـ.

قلت: ولا يضر وقفه؛ حيث له حُكْمُ الرفع؛ لأنَّه ممَّا لا مجال للرَّأي فيه، والله أعلم.

(1) أبو داود (248)، الترمذي (106).

(2)

أحمد (6/ 254).

ص: 406

* مفردات الحديث:

- جنابة: قال ابن دقيق العيد: تطلق على المعنى الحُكْمِيِّ الذي ينشأ عن التقاء الختانين أو الإنزال.

- أنقوا: نقى الشيءُ نقاوة ونقاء: نَظُفَ، فهو نقيّ.

- البَشَر: بفتح الباء الموحَّدة التحتية، وفتح الشين المعجمة، بعدها راء: ظاهر الجلد، مفرده بَشَرَةٌ.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

وجوبُ الغُسْلِ من الجنابة والتأكيدُ فيه؛ لأنَّه لا يصحُّ مع الحدث صلاة، ولا نحوُهَا من العبادات التي تتوقَّف صحَّتها على الطهارة.

2 -

وجوبُ تعميم الجسم بالماء؛ فلا تكمُلُ الطهارة بترك شيءٍ منه، ولو قليلًا لا يدركه الطَّرْف.

3 -

ذلك أنَّ الَّلذَّةَ قد عمَّت جميعَ البدن، واهتزَّ لها، فكذلك الماءُ لابدَّ أنْ يصيبَ جميعَ أجزائه، كما أنَّ جَلْدَ الزَّاني يَعُمُّ بدنه؛ لحصول الَّلذة في جميع البدن.

4 -

في تعميم البدن بالغسل دليلٌ على تعلُّقِ الأحكام بعللها، وأنَّ الجنابة نتيجة خروج السلالة من جميع البدن؛ كما قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} [السجدة]؛ فصار التطهير شاملاً لجميع البدن.

5 -

وجوبُ ترويةِ أصولِ الشعر، وإيصالِ الماء إلى ما تحتها من البشرة.

6 -

وجوبُ إنقاء البشرة، وذلك بتبليغ الماء إليها؛ وهو يدلُّ على استحباب ذلك في بقية البدن؛ للتحقُّق من وصول الماء إلى كل جزء منه.

7 -

قوله: "إنَّ تحت كل شعرة جنابة" إمَّا أنْ يحمَلَ على ظاهره؛ فيكون معناه أنَّ كلَّ شعرة تحتها جزءٌ لطيف من البدن لحقته الجنابة، فلابُدَّ من رفعها بإصابة الماء هذا الجزء، وإمَّا أنْ يحمل على المبالغة؛ فتكون المبالغة

ص: 407

جائزة، لاسيَّما في مواطن الحث والاهتمام.

8 -

قال العلماء: يجب على المغتسل من الحدث الأكبر: أنْ يوصلَ الماءَ إلى مغابنهِ وجميعِ بدنه، فيتفقَّدُ أصولَ شعره، وغضاريف أذنيه، وتحت حلقه وإبطَيْهِ، وعُمْق سُرَّته، وبين إلْيَتَيْهِ، وطَيَّ ركبتيه، ويكفي الظنُّ في الإسباغ.

***

ص: 408