المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب نواقض الوضوء - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ١

[عبد الله البسام]

فهرس الكتاب

- ‌مقدِّمة الطبعة الخامسة

- ‌الإلمام في أصول الأحكام

- ‌الأصل الأولفيمصطلح الحديث

- ‌ مصطلح علم الحديث

- ‌تعريفات:

- ‌تقسيم الحديث باعتبار طرقه:

- ‌أقسام الآحاد:

- ‌تقسيم الحديث من حيثُ القبولُ:

- ‌أنواع الأحاديث المردودة:

- ‌ضعف الحديث من حيثُ فَقْدُ العدالة والضبط:

- ‌ضعفُ الحديث من حيث فَقْدُ الاتصال:

- ‌ضعفُ الحديث من حيثُ وجود الشذوذِ أو العلة:

- ‌أقسامُ الحديث باعتبار من أُضِيفَ إليه:

- ‌فائدة:

- ‌من أنواع الكتب في علم الحديث:

- ‌من أخرج لهم المؤلِّف في بلوغ المرام:

- ‌الذي اطَّلَعْتُ عليه من شروح بلوغ المرام:

- ‌ترجمة المؤلِّف

- ‌دراسته ومشايخه:

- ‌رحلاته:

- ‌أعماله:

- ‌مؤلَّفاته:

- ‌بلوغ المرام

- ‌صلتي ببلوغ المرام:

- ‌الأصل الثانيفيأصول الفقه

- ‌ العلم

- ‌الجهل:

- ‌رُتَبُ المُدْرَكَات:

- ‌النظر:

- ‌الدليل:

- ‌ناصب الدليل:

- ‌المستدِلّ:

- ‌المستدل عليه:

- ‌المستدَلُّ له:

- ‌الاستدلال:

- ‌أصول الفقه:

- ‌أولًا: التعريف الإضافي:

- ‌ الأحكام

- ‌ثانيًا: التعريف اللقبي:

- ‌فائدة أصول الفقه:

- ‌أقسام الأحكام الشرعية:

- ‌فالأحكام التكليفية خمسة:

- ‌الأحكام الوضعية:

- ‌الكلام:

- ‌والاسم:

- ‌الأمر:

- ‌ما يقتضيه الأمر:

- ‌النهي:

- ‌موانع التكليف:

- ‌العامُّ:

- ‌حكمه:

- ‌ التخصيص

- ‌الخاصُّ:

- ‌أقسام التخصيص:

- ‌المطلَقُ والمقيَّد:

- ‌العمل بالمطلق:

- ‌المجمَل والمبيَّن:

- ‌المُبَيَّن:

- ‌العمل بالمُجْمَل:

- ‌النصوص الشرعية:

- ‌كتاب الله تعالى:

- ‌السنة النبوية:

- ‌منزلة السنة من الكتاب:

- ‌النسخ:

- ‌ما يمتنع نسخه:

- ‌شروط النسخ:

- ‌حكمة النسخ:

- ‌تعارض النصوص:

- ‌الإجماع:

- ‌حجية الإجماع:

- ‌مستند الإجماع:

- ‌القياس:

- ‌مسألتان هامَّتان

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌الاجتهاد:

- ‌شروط المجتهد:

- ‌الأصل الثالثفيالقواعد الفقهية

- ‌تعريف وتاريخ:

- ‌معنى القواعد الفقهية

- ‌مَيْزَاتُهَا:

- ‌أنواع القواعد الفقهية ومراتبها:

- ‌الفرق بين القاعدة، والضابط:

- ‌الفرق بين أصول الفقه، والقواعد الفقهية:

- ‌القواعد الكليَّة الخمس الكبرى

- ‌القاعدة الأولى من القواعد الكبرى: (الأمور بمقاصدها):

- ‌القاعدة الثانية من القواعد الكبرى: (لا ضرر ولا ضرار):

- ‌القاعدة الثالثة من القواعد الكبرى: (اليقين لا يزول بالشك):

- ‌القاعدة الرابعة من القواعد الكبرى: (المشقة تجلب التيسير):

- ‌القاعدة الخامسة من القواعد الكبرى: (العادة محكَّمة):

- ‌قرار المجمع الفقهي بشأن موضوع العرف

- ‌قرار رقم (9) بشأن العرف:

- ‌القواعد الكلية غير الكبرى

- ‌القاعدة الأولى: (إعمال الكلام أولى من إهماله):

- ‌القاعدة الثانية: (إذا تعذرت الحقيقة يُصار إلى المجاز):

- ‌القاعدة الثالثة: (المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصًّا أو دلالة):

- ‌القاعدة الرابعة: (التأسيس أولى من التأكيد):

- ‌القاعدة الخامسه: (إذا تعذَّر الأصل يُصار إلى البدل):

- ‌القاعدة السادسة: (التصرف في أمور الرعية منوط بالمصلحة):

- ‌القاعدة السابعة: (المرء مؤاخَذ بإقراره):

- ‌القاعدة الثامنة: (الجواز الشرعي ينافي الضمان):

- ‌القاعدة التاسعة: (اليد الأمينة لا تَضْمَنُ إلَاّ بالتَّعَدِّي أو التَّفريط):

- ‌القاعدة العاشرة: (الخراج بالضمان):

- ‌القاعدة الحادية عشرة: (على اليد ما أخذَتْ حتى تؤدِّيه):

- ‌القاعدة الثانية عشرة: (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص):

- ‌القاعدة الثالثة عشرة: (ما لا يتم الواجب إلَاّ به فهو واجب):

- ‌القاعدة الرابعة عشرة: (من استعجل شيئًا قبل أوانه، عُوقِبَ بحرمانِهِ):

- ‌القاعدة الخامسة عشرة: (ما ثبت بالشرع مقدَّم على ما ثبت بالشرط):

- ‌القاعدة السادسة عشرة: (إذا عاد التحريم إلى نفس العبادة أفسدها، وإن عاد إلى أمر خارج عنها لم تفسد):

- ‌القاعدة السابعة عشرة: (الأصل براءة الذمَّة):

- ‌القاعدة الثامنة عشرة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان):

- ‌القاعدة التاسعة عشرة: (البيِّنة على المدَّعِي، واليمين على المدَّعَى عليه):

- ‌القاعدة العشرون: (إذا قويت القرينة، قدِّمت على الأصل):

- ‌القاعدة الحادية والعشرون: (الصلح جائز بين المسلمين إلَاّ صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، والمسلمون على شروطهم إلَاّ شرطًا أحل حرامًا أو حرَّم حلالاً):

- ‌القاعدة الثانية والعشرون: (الأصل في العبادات الحظر، فلا يُشْرَعُ منها إلَاّ ما شرعه الله ورسوله):

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون: (الأصل في العادات الإباحة؛ فلا يُمْنَعُ منها إلَاّ ما حرَّمه الله ورسوله):

- ‌القاعدة الرابعة والعشرون: (الشارع لا يأمر إلَاّ بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلَاّ عما مفسدته خالصه أو راجحة):

- ‌القاعدة الخامسة والعشرون: (إذا تزاحمتِ المصالحُ، قدِّم أعلاها) و (إذا تزاحمت المفاسد، قدِّم أخفُّها):

- ‌القاعدة السادسة والعشرين: (الضرورات تبيح المحظورات):

- ‌القاعدة السابعة والعشرون: (درء المفاسد أولى من جلب المنافع):

- ‌القاعدة الثامنة والعشرون: (الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا):

- ‌القاعدة التاسعة والعشرون: (العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني):

- ‌القاعدة الثلاثون: (الحدود تُدرأ بالشبهات):

- ‌القاعدة الحادية والثلاثون: (الوجوب يتعلَّق بالاستطاعة؛ فلا واجب مع العجز، ولا محرَّم مع الضرورة):

- ‌القاعدة الثانية والثلاثون: (الشريعة مبنية على أصلين: الإخلاص لله، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌فائدة:

- ‌الأصل الرابعفيالمقاصد الشرعية

- ‌المقاصد

- ‌القسم الأول فيما يرجع إلى قصد الشارع من وضع الشريعة

- ‌النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة

- ‌المسألة الأولى: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق:

- ‌المسألة الثانية: المقاصد عامة في جميع التكاليف والأزمان والأحوال:

- ‌المسألة الثالثة: المقاصد المعتبرة في الشريعة:

- ‌المسألة الرابعة: الدليل على اعتبار مقاصد الشريعة الكلية:

- ‌النوع الثاني: في بيان قصد الشَّارع في وضع الشريعة للتكليف بالمقدور وما لا حرج فيه

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية: لا تكليفَ بما لا يطاق:

- ‌المسألة الثالثة: لا تكليفَ بما فيه حرج:

- ‌المسألة الرابعة: الحكمة من نفي الحرج في التكليف:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة: الاعتدال في التكاليف والدعوة إلى امتثالها:

- ‌النوع الثالث: في بيان قصد الشَّارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية: تقسيم المقاصد إلى أصلية وتبعية:

- ‌المسألة الثالثة: العملُ إذا وَقَعَ على وَفْقِ المقاصد الشرعيَّة:

- ‌المسألة الرابعة: الإنسان قد يدع حظَّ نفسه في أمر إلى حظ ما هو أعلى منه:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌العادة إذا قصد بالإتيان بها وجه الله:

- ‌لا يكون العمل صحيحًا أو مقبولاً إلَاّ إِذا رَاعَى وجه الله في القصد التابع:

- ‌يعظم الأجر بقصد المصلحة العامة:

- ‌العادات إذا كانت مصلحتها تعبُّدية، جازت فيها النيابة:

- ‌خير العمل ما وُوظِبَ عليه:

- ‌الشريعة عامَّة ما لم يقم دليل الخصوصية:

- ‌القياس يدل على عموم الأحكام ولا خصوصية للصوفية:

- ‌أحكام العادات:

- ‌الأصل في العبادات التعبد، وفي العادات التعليل:

- ‌القسم الثاني فيما يرجع إلى مقاصد المكلّف في التكليف

- ‌ينبغي أن يكون قصد المكلف من عمله موافقًا لقصد الشَّارع من تشريعه ذلك العمل:

- ‌من قصد من العمل غير ما قصده الشارع بطل عمله وأهدر ثوابه:

- ‌قصد المكلف العمل أقسام:

- ‌ليس لأحد أن يسقط حق الله في نفسه أو ماله أو عمله:

- ‌سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن الزيادة على المشروع مع الداعية إلى الزيادة نهي عن الزيادة:

- ‌مقدمة

- ‌اصطلاحات خاصة في هذا الشرح:

- ‌مقدمة الحافظ ابن حجر لكتابه بلوغ المرام

- ‌كتاب الطهارة

- ‌باب المياه

- ‌باب الآنية

- ‌باب إزالة النجاسة وبيانها

- ‌باب الوضوء

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب نواقض الوضوء

- ‌باب آداب قضاء الحاجة

- ‌باب الغسل وحكم الجُنُب

- ‌باب التيمم

- ‌باب الحيض

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌باب الأذان والإقامة

الفصل: ‌باب نواقض الوضوء

‌باب نواقض الوضوء

مقدمة

النواقض: جمع ناقض، والنقضُ في الأجسام: إبطال تركيبها، وفي المعاني: إخراجها عن إفادة ما هو المطلوبُ منها.

فنواقض الوضوء هي العلل المؤثِّرة في إخراجِ الوضوء عمَّا هو المطلوبُ منه، ثُمَّ استُعْمِلَ في إبطال الوضوء بما عيَّنه الشَّارع مبطلًا.

والنواقض قسمان:

أحدهما: أحداثٌ تنقُضُ الوضوء بنفسها.

الثاني: أسبابٌ، وهي ما كان مظنَّةً لخروج الحدث؛ كالنَّوم والمس.

والنواقض من حيث الدليل كالآتي:

الغائط: ثبت نقضه بالكتاب، والسنَّة، والإجماع.

البول: ثبت نقضه بالسنَّة، والإجماع، والقياس على الغائط.

المذي: ثبت نقضه بالسنَّة، والإجماع، والقياس على البول.

دم الاستحاضة: ثبت نقضُهُ بما رواه أبو داود (286) من حديث عائشة في قصَّة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش: "فتوضئي وصلي؛ فإنَّما ذلك عرق"، ورجال إسناده ثقات، وقال بذلك عامَّة أهل العلم.

النَّوم: تعارضَتْ فيه الآراء، واختلفَتْ فيه المذاهب: فبعضهم يرى النَّقض من قليله وكثيره، وبعضهم لا يرى النَّقض منه أصلاً، والجمهور سلكوا مسلك الجمع، وهو النَّقض بالكثير دون القليل، ولهم في النَّوم النَّاقض وغير النَّاقض تفصيل.

أمَّا ما عدا هذه الأشياء فقد قَوِيَ فيها خلافُ العلماء، وستأتي إنْ شاء الله.

ص: 280

61 -

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَهْدِهِ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤُوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ. فأصله في صحيح مسلم بلفظ: "كانُوا يتنظرون العشاء فينامون ثمَّ يصلون ولا يتوضؤون"، وقد صحَّحه الترمذي والدَّارقطني، قال البيهقي: رجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر: إسناده صحيح.

* مفردات الحديث:

- عهده: العهد: الزمن، يُقال: كان ذلك على عهد فلان، أي: على زمانه، جمعه عهود وعهاد.

- ينتظرون: يترقَّبون حضوره لأداء الصلاة.

- العِشَاء: بكسر العين والمد، وأوَّل دخول وقته بعد غياب الشفق الأحمر، سُمِّيَتِ الصلاة به؛ لأنَّها تُفْعَلُ فيه، ويُقال لها: العِشَاءُ الآخرة.

- حتَّى: حرفٌ يأتي لعدَّة معان، منها أنَّه يكون للغاية والانتهاء، وهو المراد هنا.

- تخفق: بكسر الفاء، فهو من باب ضرب، أي: تميل من النُّعاس.

قال في المصباح: خَفَقَ برأسه: إذا أخذته سِنَةٌ من النُّعاس، فمال رأسه دون سائر جسده.

(1) مسلم (376)، أبو داود (200)، الدَّارقطني (1/ 133).

ص: 281

- رؤوسهم: جمع رأس، وَرَأْسُ كلِّ شيء: أعلاه، ومنه سمي الرأس في الإنسان.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

النومُ اليسير من الجالس لا يَنْقُضُ الوضوء.

2 -

النومُ الكثير ناقضٌ للوضوء؛ لما تقرَّر في نفس الصحابي الرَّاوي أنَّ النَّوم ناقضٌ للوضوء، إلَاّ هذا القَدْرَ الذي شاهده.

3 -

الطهارةُ من الحدث شرطٌ لصحة الصلاة؛ فنفي الوضوء في هذه الحالة دليلٌ على وجوبها في غيرها، ممَّا يوجبُ نَقْضَ الطهارة.

4 -

استحبابُ تأخير صلاة العشاء عن أوَّل وقتها؛ فقد جاء في الصحيحين أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يستحبُّ أنْ يؤخِّر العشاء، ويقول: إنَّه لَوَقْتُها، لولا أنْ أَشُقَّ على أمتي.

5 -

حرص الصحابة رضي الله عنهم على البقاء في المسجد انتظارًا للصلاة، وفضل انتظارها؛ فقد جاء في البخاري (647) ومسلم (362) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزال أحدكم في صلاةٍ ما دامت الصلاة تحبسه".

6 -

جواز النعاسِ والرقودِ في المسجد، لاسيَّما لانتظار الصلاة.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في النوم هل ينقض الوضوء؟ على ثلاثة أقوال:

فذهب بعضهم: إلى أنَّ قليله وكثيره ناقض؛ بناءً منهم على أنَّ نفس النَّوم حَدَثٌ ينقض الوضوء.

وذهب بعضهم: إلى أنَّه لا ينقض قليله ولا كثيره، ما لم يتحقَّقْ خروج حدث؛ بناءً منهم على أنَّ النوم ليس بناقض، ولكنَّه مَظِنَّةُ الحدث.

وذهب جمهور العلماء: إلى أنَّ الكثير المستثقل ناقضٌ دون النوم اليسير، ولهم تفاصيلُ في تحديد القليل من الكثير، وصفاته النَّاقضة مذكورةٌ في كتب الأحكام.

ص: 282

وهذا القول هو الرَّاجح الذي تجتمعُ فيه الأدلَّة:

فإنَّ حديث صفوان بن عسَّال: "كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كُنَّا في سفر أنْ لا ننزع خفافنا ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ إلَاّ من جنابة، ولكن من غائطٍ وبولٍ ونوم"[رواه الترمذي (3352)، والنسائي (127)]-أثبَتَ نقضَ الوضوء من النومِ؛ كالغائط والبول.

وحديث أنس: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده ينتظرون العشاء حتَّى تَخْفِقَ رؤوسهم، ثمَّ يصلون ولا يتوضؤون" -دليلٌ على أنَّ يسير النوم لا ينقض.

***

ص: 283

62 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ? قَالَ: لَا، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِلْبُخَارِيِّ: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ". وَأَشَارَ مُسْلِمٌ إِلَى أَنَّهُ حَذَفَهَا عَمْدًا (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أُستحاض: من الاستحاضة، وهي سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة، من مرضٍ وفساد، فيخرج الدم من عِرْقٍ فَمُهُ في أدنى الرحم، يسمَّى "العرق العاذل" وسيأتي بيانه بأتمَّ من هذا في باب الحيض، إنْ شاء اللهُ تعالى.

- أفأدع الصلاة: الهمزة للاستفهام الاستخباري، والفاء للتعقيب، وبعدها فعل مضارع للمتكلِّم.

- أفأدع: وَدَعْتُهُ أدَعُهُ وَدْعًا، أي: تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثمَّ حذفت الواو، ثُمَّ فُتِحَ لأجل حرف الحلق.

قال النحاة: إنَّ العرب أماتَتْ ماضي "يَدَع"، ومصدره واسم فاعله، فلا توجد.

لا: تأتي على ثلاثة أوجه، أحدها: أنْ تكون جوابًا مناقضًا لـ"نعم"، وهي

(1) البخاري (228)، مسلم (333).

ص: 284

المرادة هنا.

- ذلِكِ: بكسر الكاف: خطابٌ للمرأة السَّائلة، و"ذا": إشارةٌ إلى الدمِ الخارج منها.

- عرق: بكسر العين المهملة، وسكون الرَّاء، آخره قاف.

قال في الفتح: إنَّ هذا العرق يسمَّى العاذل، وقال في القاموس: يُسمَّى العاذر، أي: أنَّ دمك بسبب انفجار من عرق.

- فاذا أَقْبلَتْ حَيْضَتكِ: بفتح الحاء، ويجوز كسرها، المراد بالإقبال: حصول وقتها، وابتداء خروج دَم الحيض أيام عادتها.

- وإذا أدبرت: هو وقتُ انقطاعِ الدمِ عنها عند انتهاء أيام عادتها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ الخارج من السبيلين ناقضٌ للوضوء، ومنه خروجُ الدم، وهو إجماع العلماء.

2 -

أنَّ دم الاستحاضة ليس حَيْضًا، وإنَّما هو دمٌ له أسبابُهُ، وخصائصه، وأحكامه:

فسببه: انفتاحُ عرق العاذل، فهو مرضٌ يستدعي البحثَ عن سببه وعلاجه؛ ولذا ينظر الأطباء بقلقٍ بالغٍ إلى خروج الدم في غير وقت الحيض؛ لأنَّها تدل على وجود مرض، إمَّا بجسم المرأة وغددها، أو بجهازها التناسلي.

أمَّا دم الحيض: فيخرُجُ من قعر رحم المرأة.

فأخبرها صلى الله عليه وسلم باختلاف المَخْرَجَيْن، وهو ردٌّ وتوجيهٌ لقولها:"فلا أطهر"، فأبان لها أنُّها طاهرة تلزمها الصلاة.

3 -

أمَّا خصائصُ دم الاستحاضة، فقال الأطباء: إنَّه دمٌ أحمَرُ مشرِقٌ خفيف، ليس ذا رائحة، بينما دمُ الحيض: أسودُ ثخين، له رائحة منتنة.

4 -

أمَّا أحكامُ دم الاستحاضة: فإنَّه لا يمنعُ شيئًا من العبادات، ولا الأمور التي يتوقَّف فعلها على طهارة المرأة من الحيض، فالمستحاضة تعتبر في حكم

ص: 285

الطاهرة.

5 -

لم يرخص لها النَّبي صلى الله عليه وسلم في ترك الصلاة، وإنَّما نهاها عن تركها.

6 -

أَمَرَهَا عليه الصلاة والسلام أنْ يتميز بين دم حيضها ودم استحاضتها، وذلك بأنْ تجلس فلا تصلي أيام عادتها؛ لأنَّ العادة أقوى من سائر الأدلة على تمييز دم الحيض من دم الاستحاضة.

فإنْ لم تعلم عادتها، عملت بالتمييز بين الدمين، فدم الحيض أسود ثخين منتن، ودم الاستحاضة خلاف ذلك.

7 -

وجوبُ غَسْلِ دمِ الحيض للصلاة؛ لأنَّه نجس، والطهارة من النَّجاسة شرطٌ لصحة الصلاة.

8 -

أنَّ على المستحاضة أنْ تتوضأ لكلِّ صلاةٍ، ومثلها كل مَنْ به حدثٌ دائم من سلس بولٍ، أو جُرحٍ لا يَرْقَى دمه، أو استمرارِ خروج الرِّيح.

9 -

نَهْيُ الحائض عن الصلاة، وتحريمُ ذلك عليها، وفسادها منها، وهو إجماع العلماء.

10 -

أنَّ الحائض لا تقضي الصلاة بعد طهرها؛ وذلك أخذًا من عدم أمره صلى الله عليه وسلم لها بذلك في هذا الحديث؛ فإنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

11 -

الحديثُ دليلٌ على قبول قول المرأة في أحوالها، من الحمل، والحيض والعدَّة وانقضائها، ونحو ذلك.

12 -

أنَّ المستحاضة تصلِّي ولو مع جريان الدم؛ لأنَّها تعتبر من الطَّاهرات من الحيض.

13 -

وَرَدَ في بعض طرق هذا الحديث عند البخاري: "واغتسلي"، والمراد به الاغتسال من الحيض إذا أدبرت أيام حيضها، لا أنَّه أمرٌ بالاغتسال لكلِّ صلاة.

14 -

قوله: "ثمَّ توضئي لكلِّ صلاة" زيادة رواها البخاري، وحذفها مسلم عمدًا؛

ص: 286

لاعتقاده أنَّها زيادة غير محفوظة، وإنَّما تفرَّد بها بعض بالرواة.

لكن قال الحافظ في فتح الباري: إنها زيادة ثابتة من طرقٍ، ينتفي معها تفرُّد من ذكرهم مسلم.

15 -

المؤلِّف أورد هذا الحديث في باب نواقض الوضوء لأجل هذه الزيادة: "ثمَّ توضئي لكلِّ صلاة"، وإلَاّ فمناسبة الحديث أن يُذْكَرَ في "باب الحيض" وقد أعاده هناك، والله أعلم.

16 -

جوازُ سماعِ الرجلِ الأجنبيِّ صوتَ المرأة عند الحاجة، إذا لم تليِّنه وتُخْضِعْهُ.

17 -

الأمرُ بإزالة النَّجاسة.

18 -

فيه أنَّ الدَّم نجسٌ، وهو إجماعٌ إلَاّ خلافًا شاذًّا.

19 -

أنَّ الصلاة تجب بمجرّد انقطاع دم الحيض.

20 -

أنَّ الصلاة تصح حتَّى في حال جريان الدم الذي لا ينقطع.

***

ص: 287

63 -

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: "كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ? فَقَالَ: فِيهِ الْوُضُوءُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- رجلًا: خبر كان، و"مذَّاء" صفة لرجل.

- مذَّاء: بفتح الميم، وتشديد الذَّال المعجمة، ثُمَّ ألف ممدودة، من صيغ المبالغة، من كثرة المذي، والمذي، بفتح الميم، وسكون الذَّال المعجمة، وأيضًا: بكسر الذَّال، وتشديد الياء، جمعه: مُذًى، ومُذَايَات، ومُذَى.

وقال في الصحاح: قال الأزهري: الوديّ والمذيّ والمنيّ مشدَّدات، قال أبو عبيدة: المنيّ مشدَّد، والآخران مخففان، وهذا أشهر.

والمَذْيُ: ماءٌ أبيضُ لزجٌ رقيق، يخرُجُ عند الملاعبة ونحوها، وخروجه من مجرى البول من إفراز الغدد المبالية.

- أنْ يسأل: أي: بأن يسأل، فـ "أنْ " مصدرية، أي: أمرتُه بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- فيه الوضوء: جملة اسمية؛ لأنَّ "الوضوء" مبتدأ مؤخر، وقوله:"فيه" خبر مقدَّم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ خروج المذي يوجب الوضوء، ولا يوجب الغسل؛ وهو إجماع.

2 -

في بعض ألفاظ الحديث عند البخاري (178): "فاستحييت أنْ أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وفي لفظ مسلم (303)"لمكان فاطمة".

(1) البخاري (132)، مسلم (303).

ص: 288

فالحياء هو الذي منع عليًّا رضي الله عنه من أنْ يشافه النَّبي صلى الله عليه وسلم بهذا السؤال.

3 -

فيه قبول خبر الواحد، والعمل به في مثل هذه الأمور.

4 -

جاء في أحد ألفاظ مسلم لهذا الحديث: "اغسلْ ذكرك وتوضَّأ"، وورد في بعض ألفاظه أيضًا:"واغسل الأُنثيين".

فقد دلَّت هاتان الروايتان على وجوب غسل الذكر والأنثيين، والوضوء بعد ذلك؛ لأنَّ المذي مخرجه مخرج البول، ولما سيأتي من رواية أبي داود في الفقرة السابعة.

5 -

الأمر بغسل الذكر والأنثيين دليلٌ على نجاسة المذي، ولكن بعض العلماء قال: يُعْفَى عن يسيره لمشقَّة التحرُّز منه.

6 -

أنَّه لا يكفي في الطهارة من المذي الاستجمار، بل لابد من الماء؛ وذلك -والله أعلم- لأَنَّه ليس من الخارج المعتاد؛ كالبول.

7 -

ذهب الحنابلة وبعض المالكية: إلى وجوب غسلِ الذكر كله، والأنثيين من خروج المذي؛ مستدلين بهذا الحديث ورواياته الثابتة، فقد صرَّحت بغسل الذكر وهو حقيقة يطلق عليه، ولما جاء في رواية أبي داود (208) فقال:"يغسلُ ذكره وأُنثييه ويتوضَّأ".

***

ص: 289

64 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف، ومنهم من قوَّاهُ وصحَّحه.

قال ابن حجر في التلخيص: الحديث معلول، ذكر علَّته أبو داود، والتِّرمذي، والنِّسائي، والدَّارقطني، والبيهقيُّ، وابن حزم، وقال: لا يصح في هذا الباب شيءٌ.

قال الترمذي: سمعت البخاري يضعِّف هذا الحديث، وأبو داود أخرجه من طريق إبراهيم التيمي عن عائشة، ولم يسمع منها شيئًا؛ فهو مرسل.

وقال المصنف: رُوِيَ من عشرة أوجه عن عائشة أوردها البيهقي في الخلافيات وضعَّفها. وقوَّى الحديثَ جماعةٌ من الأئمة؛ منهم: عبد الحق وقال: لا أعلم له علَّة، وقال الزيلعي: سنده جيد، وصحَّحه أحمد شاكر والألباني.

* مفردات الحديث:

- قبَّل: تقبيلاً، والاسمُ: القُبْلة، جمعها قُبَلٌ، مثل غرفة وغرف، والقُبْلة هنا: اللَّثْمَةُ على الفَمِ.

- بعض نسائه: هي عائشة راوية الحديث رضي الله عنها فقد أخرج إسحاق في مسنده (2/ 172)، عن عروة عن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلها وقال:"إنَّ القبلة لا تنقض الوضوء".

(1) أحمد (6/ 210).

ص: 290

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

ظاهر الحديث يدل على أنَّ تقبيل المرأة ولمسها لا ينقض الوضوء، وهو الأصل، والحديث مقرِّر لهذا الأصل من عدم الوجوب.

2 -

لكن الحديث معارَضٌ بالآية الكريمة: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، واللَّمْسُ الحقيقي في اليد، وإذا وجد احتمال إرادة الجماع، فقراءة:{أَوْ لَامَسْتُمُ} ظاهرة في مجرَّد لمس اليد، والأصل اتفاق معنى القراءتين.

3 -

الأفضل هو حمل هذا الحديث على تقبيل لم يصاحبه شهوة، وإنَّما هو تقبيل مودَّة ورحمة، وهذا النوع من اللمس قد تقرَّر عَدَمُ نقضه للوضوء؛ لما جاء "أن عائشة نامَتْ معترضةً في مصلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد أنْ يسجد، غمزها في الظلام، لتكف رجليها"، رواه البخاري (375)، ومسلم (512).

واللمس ذاته ليس ناقضًا، ولكنَّه مَظِنَّةُ خروج ناقض، فيبقى اللمس المعتاد المجرَّد عن الشهوة على أصل عدم النَّقض.

4 -

على فرض صحته حُمِلَ الحديث على ما تقدَّم، وإلَاّ فهو ضعيفٌ؛ فالبخاري يضعِّفه، وذكر أصحاب السنن أنَّ له علَّة، وقال ابن حزم: لا يصح في هذا الباب شيءٌ، وقال ابن حجر: الحديث معلول.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في اللمس هل ينقض الوضوء أم لا؟:

ذهب الحنفية: إلى عدم النقض باللمس مطلقاً، ومن أدلتهم حديث الباب، وحديث اعتراضِ عائشة رضي الله عنها في مصلَّى النبي صلى الله عليه وسلم، وغمزِه لها واستمرارِهِ في الصلاة.

وذهب مالك: إلى انتقاض الوضوء بلمس المتوضىء البالغ بلذَّة لشخص يلتذ به عادة.

وذهب الإمام الشَّافعي: إلى أنَّ مجرَّد لمس الرجل المرأة، أو المرأة

ص: 291

الرَّجل أنه ناقضٌ للوضوء، بشرط عدم المحرميَّة بينهما، فلا ينتقض بلمس المحرم على الصحيح عندهم.

أمَّا المشهور من مذهب أحمد: فإنَّ النَّقض لا يكون إلَاّ من مس بشهوة بلا حائل، وهذا هو الرَّاجح؛ ذلك أنَّ مظنَّة خروج المذي، إنُّما يكون من لمس مصاحب للشهوة.

***

ص: 292

65 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا? فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- إذَا وَجَدَ: أحسَّ شيئًا؛ كالقرقرة، بتردُّد الرِّيح في بطنه.

- فأشْكَلَ عَلَيْهِ: التبس عليه الأمر، أَوَجَدَ ناقضٌ للوضوء أم لا؟

-صوتًا أو ريحًا: أي: صوتَ الرِّيح عند خروجها من الدبر، أو نَتْنَ ريحها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث أحد أدَّلة القاعدة الكلية الكبرى، وهي:"اليقين لا يزول بالشك"؛ فاليقين: هو طمأنينةُ القلب على حقيقة الشيء.

فلذا: فإنَّ الأمر المتيقَّن ثبوته لا يرتفع إلَاّ بدليلٍ قاطع، ولا يحكم بزواله بمجرَّد الشك، كذلك الأمر المتيقن عدم ثبوته، لا يحكم بثبوته بمجرَّد الشك؛ لأنَّ الشكَّ لا يقاوِمُ اليقينَ، فلا يعارضه ثبوتًا ولا عدمًا.

2 -

قال النووي: هذا الحديثُ أصلٌ من أصول الإسلام، وقاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الفقه، وهي أنَّ الأشياء يحكم ببقائها على أصولها، حتَّى يُتيقنَ خلاف ذلك، ولا يضر الشكُّ الطارىء عليها.

فمن ذلك: مسألة الباب التي ورد فيها الحديث، وهي أنَّ من تيقنَّ الطهارةَ، وشكَّ في الحدث-: حكم ببقائه على الطهارة، ولا فرق بين

(1) مسلم (362).

ص: 293

حصول هذا الشك في نفس الصلاة، أو حصوله خارج الصلاة.

3 -

العقل السليم يؤيِّد هذه القاعدةَ الشرعية؛ ذلك أنَّ اليقين أقوى من الشك؛ لأنَّ في اليقين حكمًا قطعيًّا جازمًا، فلا ينهدم بالشك.

4 -

إذا خُيِّل إلى الإنسان أنَّه خرَجَ منه شيءٌ ناقضٌ للوضوء، وأشكَلَ عليه أخرَجَ منه شيءٌ أم لا؟ فالأصل: بقاء طهارته، فلا يبطل وضوؤه، ولا ينفتل من صلاته حتَّى يتيقنَ أنَّه خرَجَ منه شيء؛ لأنَّ اليقين لا يزول بالشك، وقد بوَّب البخاري رحمه الله لهذا الحديث بقوله:"باب لا يتوضأ من الشك حتَّى يستيقن".

5 -

أنَّ الرِّيح الخارجة من الدُّبر-بصوت أو بغير صوت- ناقضةٌ للوضوء.

6 -

يراد بسماع الصوت ووجدان الرِّيح في الحديث التيقُّنُ من ذلك، فلو كان لا يسمع ولا يشم، وتيقَّن بغير هاتين الطريقتين -انتقض وضؤوه، وإنَّما خصَّهما بالذِّكْر؛ لكونهما الغالب.

7 -

تحريم الانصراف من الصلاة لغير سبب بيِّن.

8 -

قال الخطابي: في الحديث حجَّة لمن أوجب الحدَّ على من وُجِدَتْ رائحةُ المسكر من فيه، وإنْ لم يشاهَدْ يشربه، ولا شَهِدَ عليه الشهود، ولا اعترف به.

***

ص: 294

66 -

وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: مَسِسْتُ ذَكَرِي، أَوْ قَالَ: الرَّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ، أَعَلَيْهِ الْوُضُوءٌ? فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا، إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ" أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

وَقَالَ ابْنُ الْمَدِيْنِيِّ: هُوَ أَحْسَنُ مِنْ حَدِيْثِ بُسْرَةَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيحٌ.

قال في التلخيص: رواه أحمد، وأصحاب السنن، والدَّارقطني، وقال ابن المديني: هو عندنا أحسن من حديث بسرة، وقال الطحاوي: إسناده مستقيمٌ غيرُ مضطرب، بخلاف حديث بسرة، وصحَّحه أيضًا ابن حبَّان، والطبراني، وابن حزم، وضعَّفه الشَّافعي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدَّارقطني، والبيهقي، وابن الجوزي، وأوضَحَ ابنُ حِبَّان ذلك.

* مفردات الحديث:

- مسست ذكري: مَسِسْتُهُ مَسًّا من باب قتل، ومعناه: أفضيت بيدي،

- أعليه: الهمزةُ للاستفهام، وتأتي لطلب التصوُّر أو التصديق، والمراد هنا طلب التصور الذي جوابه بنعم أو لا؛ ولذا أجاب صلى الله عليه وسلم بِلَا.

- إنَّما هُوَ بِضْعَةٌ مِنْكَ: تعليل لعدم وجوب الوضوء من مسَّ ذكره.

- إنَّما: "إنَّ" حرف توكيد، ينصب الاسم، ويرفع الخبر، إلَاّ أنَّ "ما" الحرفية

(1) أحمد (4/ 23)، أبو داود (182)، الترمذي (85)، النسائي (165)، ابن ماجة (483)، ابن حبان (3/ 402)، الدَّراقطني (1/ 149).

ص: 295

كفَّتها عن العمل، فصار منهما أداة حصر قامت مقام النَّفي و"إلَاّ"؛ فأفادت الحصر.

- بضعة: بفتح الباء الموحَّدة وكسرها، بعدها ضاد معجمة ساكنة: هي القطعة من اللحم وغيره.

- منك: أي: من جسدك، مثل اليد والرجل وغيرهما.

***

ص: 296

67 -

وَعَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ". أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

رواه مالك (93)، والشَّافعي (2/ 12)، وأبو داود، والنسائي، والترمذي والدَّارقطني والحاكم، وصحَّحه أحمد والبخاري والترمذي والدَّارقطني وابن معين والحازمي والبيهقي (1/ 132) وغيرهم.

قال في التلخيص: قال البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بُسْرة على حديث طَلْق: أنَّ حديث طلق لم يخرجه الشيخان، ولم يحتجَّا بأحد رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته، إلَاّ أنَّهما لم يخرجاه.

قال مُحَرِّره عفا الله عنه: إذا تأمَّلنا كلامَ أئمَّة الحديث في الحديثين: حديث طلق وحديث بسرة، لم نجد فيهما ما يوجبُ إسقاطَ أحدهما بالآخر، وعدم اعتباره، فيبقَى وجه الجمع بين الحديثَيْن، وسيأتي في الكلام على متن الحديثين إنْ شاء الله تعالى.

* مفردات الحديث:

- بسرة: بضم الباء الموحدة، وسكون السِّين المهملة: القرشية الأسدية.

- مَنِ: اسمُ شرط جازم، "مَسَّ" فعل الشرط، و"الفاء" رابطة، و"ليتوضأ" جواب الشرط.

(1) أحمد (6/ 406)، أبو داود (181)، الترمذي (82)، النسائي (447)، ابن ماجة (479).

ص: 297

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

الحديثان صحيحان، ومهما أمكَنَ الجمع بينهما وإعمالُهُما، فهو أولَى من إسقاط أحدهما بالآخر.

2 -

حديث طلق يدُلُّ على أنَّ مسَّ الذَّكَرِ لا ينقضُ الوضوء، وقد علَّله صلى الله عليه وسلم بقوله:"إنَّما هُو بَضْعَةٌ مِنْكَ"، والبضعة: القطعة من أي عضوٍ من أعضائك.

3 -

حديث بسرة يدل على أنَّ مسَّ الذَّكَر ينقض الوضوء.

4 -

أفضل ما يجمع بين الحديثَيْن بأحد طريقين:

الأوَّل: أنَّه ينقُضُ الوضوء إذا مسَّه مِنْ غير حائل، فإنْ مسَّهُ بحائل لم ينقض؛ ويؤيِّد هذا القول رواية:"الرجُلُ يَمَسُّ ذكره في الصلاة"، فالصلاة ليست محلَّ لَمْسِ الفرج بلا حائل.

الثاني: أنَّ مسَّه بشهوةٍ ينقُضُ الوضوء، ومسَّه بدونها لا ينقُضُ.

والجمع الأخير أوجه وأقرب، ذلك أنَّ الذَّكر قطعة وبضعةٌ منك، فما دام أنَّ المس مس عادي، لم يصاحبه شهوة، فمجرَّد اللمس ليس ناقضًا، وإنَّما النَّاقض ما يخرج من أحد السبيلَيْن بسبب اللمس، وبدون شهوة هذا الخارجُ منتفٍ، أمَّا إذا صاحبته الشهوة، فإنَّ ذلك يكون مظنَّةَ خروج المذي، وهو ناقضٌ؛ كما أنَّ فوران الشهوة وحرارتها المنافية للعبادة لا يُطْفِئُها ويسكِّنُ هيجانَها إلَاّ الماءُ، لاسيَّما بنيَّة الوضوء، وهو عبادة يصاحبها من النية والذكر ما يسكِّن الشهوة.

***

ص: 298

68 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلَسٌ، أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف، والصواب إرساله.

قال الحافظ في التلخيص: أعلَّه غير واحد بأنَّه من رواية إسماعيل بن عيَّاش، عن ابن جريج، ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة، وقد خالفه الحفَّاظُ من أصحاب ابن جريج، فَرَوَوْهُ عنه، عن أبيه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وصحَّح هذه الطريقَ المرسلةَ محمدُ بن يحيى الذهلي، والدَّاقطني في العلل، وأبو حاتم، وقال: رواية إسماعيل خطأ، وقال ابن معين: حديث ضعيف، وقال ابن عدي: هكذا رواه إسماعيل مرَّةً، وقال مرَّةً: عن ابن جريج، عن أبيه، عن عائشة، وكلاهما ضعيف، وقال أحمد: الصوابُ: عن ابن جريج، عن أبيه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

* مفردات الحديث:

- قَيْء: بفتح القاف المثنَّاة، وسكون الياء، بعدها همزة، وهو تفريغُ محتويات المعدة عن طريق الفم، وينشأ عادةً من تهيج الغشاء المخاطي، وله عدَّة أسباب، وإذا استمرَّ، فهو من النزلات المعوية.

- رُعاف: بضم الرَّاء المهملة، ثُمَّ عين مهملة، ثمَّ ألف، بعدها فاء: هو نزيفٌ

(1) ابن ماجة (1221).

ص: 299

من داخل تجويف الأنف، ينتج عن أسباب محلِّية في الأنف، أو أسباب عامَّة كالالتهاب، والاحتقان، وزيادة ضغط الدم.

- قَلَس: بفتح القاف، وسكون اللام وفتحها، ثمَّ سين مهملة: القيء الذي لا يزيد عن ملء الفم أو دونه.

- ليبن علي صلاته: اللَاّم لام الأمر، ومعنى البناء على الصلاة، أنْ يحسب ما كان قد صلَّى قبل الوضوء من ركعة أو أكثر، ويصلِّي ما كان باقيًا.

* مفردات الحديث:

1 -

يَدُلُّ الحديث بظاهره على أنَّ من أصابه قيءٌ أو رعافٌ أو قلس أو مذي، وهو في الصلاة، فعليه أنْ يَنْصرِفَ عنها، ثمَّ يتوضَّأ، ثمَّ ليبن علي صلاته ويتمَّها، فهي لم تَبْطُلْ.

2 -

شَرَطَ في ذلك أنه لا يتكلَّم؛ فمفهومه أنَّه لو تكلَّم، بَطَلَتْ صلاته، ولا يمكنه البناء عليها، بل يجبُ عليه إعادتها.

3 -

أخَذَ بهذا -وهو جواز البناء على الصلاة-: الحنفية والزيدية ومالك وأحد قولي الشَّافعي، وذهب جمهور العلماء إلى بطلان الصلاة إذا حصل ناقضٌ للوضوء، وعدم جواز البناء عليها.

4 -

الحديث ضعيف؛ فقد ضعَّفه الشَّافعي وأحمد والدَّارقطني وغيرهم، هذا لو سلم من المعارض، فكيف وهو معارضٌ بنصوصٍ صحيحة صريحة، منها ما رواه أبو داود (205) من حديث علي بن طلق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فسا أحدكم في الصلاة، فلينصرفْ وليتوضأ، وليعد الصلاة"، قال الترمذي (1164): هذا حديث حسن.

5 -

وجه الشذوذ في الحديث هو جوازُ البناء على الصلاة في مثل هذه الحال، أمَّا المعدوداتُ في الحديث: فإنَّ بطلانَ الوضوء فيها موضعُ نزاعٍ قويِّ بين العلماء، عدا المذي، فهو ناقضٌ بالإجماع؛ لأنَّه خارجٌ من أحد السبيلين.

ص: 300

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في الخارج النَّجسِ من غير السبيلين غير البول والغائط؛ وذلك كالقيء والدم والصديد ونحوها، هل خروجُها ينقُض الوضوءَ أو لا؟:

ذهب الإمامان مالك، والشَّافعي: إلى أنَّ خروج هذه الأمور وأمثالها لا ينقض الوضوء ولو كثر.

قال البغوي: هو قول أكثر الصحابة والتَّابعين.

قال النووي: لم يثبت قطّ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أوجَبَ الوضوء من ذلك.

قال الشيخ تقي الدِّين: الدم والقيء وغيرهما من النجاسات الخارجة من غير المخرج المعتاد لا تنقض الوضوءَ ولو كَثُرَتْ.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ الدم والقيء ونحوهما لا ينقض الوضوء -قليلها وكثيرها-؛ لأنَّه لم يَرِدْ دليلٌ على نقض الوضوء بها والأصلُ بقاءُ الطهارة.

استدل هؤلاء بأدلَّة:

أحدها: البراءةُ الأصليَّة؛ فالأصل بقاء الطهارة ما لم يثبُتْ ضدُّها، ولم يثبت عندهم شيء.

الثاني: عدمُ صلاحية القياس هنا؛ لأنَّ علَّة الحكم ليست واحدة.

الثالث: يروون في ذلك آثارًا منها:

1 -

صلاة عمر بن الخطاب وجُرْحُهُ يثْعَبُ دمًا.

2 -

كان ابن عمر يعصر الدمَ من عينه، ويصلِّي ولم يتوضأ.

3 -

قال الحسن البصري: ما زال المسلمون يصلُّون في جراحاتهم.

وذهب الإمامان أبو حنيفة، وأحمد: إلى أنَّ خروج هذه الأمور وأمثالها ينقض إذا كان كثيرًا، ولا ينقض اليسير منه.

استدلُّوا على ذلك بما رواه أحمد (26989) والترمذي (87)، من

ص: 301

حديث أبي الدرداء؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ، قال الألباني: صحيح ورجاله ثقات.

وأجاب الأولون: بأنَّ الفعل لا يدل على الوجوب، وغايته إنَّما يدل على مشروعية التَّأسِّي به في ذلك.

قال شيخ الإسلام: استحبابُ الوضوء من الحجامة والقيء ونحوهما متوجِّه ظاهر، والله أعلم.

ص: 302

69 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُوْمِ الْغَنَمِ? قَالَ: إِنْ شِئْتَ، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ? قَالَ: نَعَمْ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الغَنَم: بفتح الغين المعجمة والنون: القطيع من المعز والضأن، اسم جنس، مؤنثة، لا واحد لها من لفظها، جمعه: أغنام، سُمِّيت بذلك لأنَّه ليس لها آلة دفاع، فكانت غنيمة لكلِّ طالب.

- الإِبِل: بكسر الهمزة وكسر الباء الموحَّدة: الجمال والنوق، لا واحد له من لفظه، مؤنَّث، جمعه آبال.

- أتوضأ من لحوم الغنم: بتقدير همزة الاستفهام المحذوفة، والأصل: أأتوضأ

إلخ.

- من لحوم الغنم: أي: لأجل أكلها.

- نعم: تقدَّم شرحها في حديث رقم (60).

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

إباحةُ الوضوء بعد أَكْلِ لحومِ الغنم ولا يجبُ؛ لأنَّ لَحْمَها غيرُ ناقضٍ للوضوء.

2 -

أن أكل لحوم الإبل ينقُضُ الوضوء، ويوجبه عند فِعْلِ الصلاة، ونحوها ممَّا يشترط له الطهارة.

3 -

المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ النَّاقض من أجزاء الإبل هو الهَبْرُ فقط؛

(1) مسلم (360).

ص: 303

لأنَّهم خصُّوا اللحم بالهَبْرِ دون بقيَّة أجزائها، فهم يَرَوْنَ أنَّ القلب، والكبد، والكرش، والسنام، ونحو ذلك من أجزائها، لا يتناوله النَّص.

قال في المغني: والوجه الثاني: ينقض؛ لأنَّه مِنْ جملة الجزور، وإطلاقُ اللحم في الحيوان يراد به جملته؛ لأنَّه أكثر ما فيه، وكذلك لما حرَّم الله تعالى لحم الخنزير، كان تحريمًا لجملته.

قال في المبدع: الوجه الثاني: ينقض؛ فإطلاق لفظ اللحم يتناوله.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيحُ أنَّ جميع أجزاء الإبل، كالكَرِشِ، والقلب داخلٌ في حكمها ولفظها ومعناها، والتفريق بين أجزائها ليس له دليل ولا تعليل. ولا يدخل في ذلك الحليبُ، واللبن، والدهن؛ لأنَّه ليس لحمًا، ولا يشمل مسمَّاه.

4 -

لا يوجد في الشريعة الإسلامية حيوان تُبَعَّضُ الأحكامُ في أجزائه، بعضها حلال، وبعضها حرام، وإنَّما الحيوانُ: إمَّا حرامٌ كلُّه كالخنزير، وإمَّا حلالٌ كله كبهيمة الأنعام.

وهذا التبعض يوجد في شريعة اليهود؛ فهم الذين حرَّمُ الله عليهم من الحيوانِ الطاهِرَ الحلال، فأباحَ لهم البَقَرَ والغنم، وحرَّم عليهم بعض شحومها.

أما هذه الملَّة السمحة: فإنَّ الله لم يعنتها، ولم يشدِّد عليها، فالحيوان إمَّا خبيث فكله حرام، وإمَّا طيب فكله حلال.

5 -

الأصل في وجوب الوضوء من لحم الإبل: حديثان صحيحان، هما: حديث جابر بن سمرة وحديث البراء بن عازب، وكلاهما في صحيح مسلم، ولكن العلماء تلمسوا معرفة السر والحكمة، فكان أقرب ما وصَلُوا إليه هو أنَّ الإبلَ فيها قوَّةٌ شيطانية، أشار إليها النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"إنَّها من الجِنِّ" [رواه

ص: 304

أحمد (20034)] فأكلها يورث قوَّةً شيطانية تزولُ بالوضوء، والله أعلم.

ويؤيِّد ذلك: أنَ رعاة الإبل عندهم كِبْرٌ وَزَهْوٌ وترفّع، اكتسبوا هذه الطباع من طول بقائهم عندها، ومعاشرتهم لها، بخلاف أصحاب الغنم: فعليهم السكينةُ والهدوءُ ولِينُ القلب، ولعلَّ هذا هو السِّرُّ في أنَّه ما من نَبِيِّ إلَاّ وقد رعى الغنم.

6 -

قوله: "إنْ شِئْتَ" يفيد: عدم وجوب الوضوء من أكل لحم الغنم.

7 -

لدينا حديثان:

أحدهما: حديث الباب: "أتوضا من لحوم الغنم؟ قال: إنْ شئت"[رواه مسلم (360)].

الثاني: ما رواه مسلم (253) عن عائشة وأبي هريرة؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "توضؤوا ممَّا مسَّت النَّار".

ففي هذين الحديثين عمومٌ وخصوص، فالأوَّل عامٌّ في المطبوخ من لحم الغنم، والثاني عامٌّ في الشيء المطبوخ.

والفاصل في ذلك: ما رواه أبو داود (192)، والنسائي (185)، عن جابر قال:"آخِرُ الأمرَيْن من رسول الله صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الوضوءِ ممَّا مسَّت النَّار".

وما جاء في البخاري (210) ومسلم (355)"أنَّ النبَّيَّ صلى الله عليه وسلم أكَلَ من كتف شاة وصلى، ولم يتوضأ".

فيكون حديثُ الباب من نواسخ حديثِ الوضوء ممَّا مسَّت النَّار.

8 -

ألبانُ الإبل فيها روايتان عن الإمام أحمد في نقضها الوضوء، والرواية الرَّاجحةُ في المذهب: أنَّ الألبان لا تنقض، وهو الصحيح؛ فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر العُرَنِيِّينَ بالوضوء من ألبان الإبل، وقد أمرهم بشُرْبها، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، أمَّا قياسها على اللحم بجامع التغذِّي بها كاللحم: فإنَّ هذه العلَّة لم ينصَّ عليها، وإنَّما ظنَّها بعضُ العلماء ظنًّا.

ص: 305

* خلاف العلماء:

ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، والشَّافعي، وأتباعهم: إلى عدم الوضوء من أكل لحم الجزور.

قال النووي: احتجَّ أصحابنا بأنباء ضعيفة، في مقابل هذين الحديثين، وكأن الحديثين لم يصحَّا عند الإمامِ الشافعي؛ ولذا قال: إنْ صحَّ الحديث في لحوم الإبل، قُلْتُ به.

وقال النووي في موضعٍ آخر: لعلَّهم لم يسمعوا نصوصه، أو لم يعرفوا العلَّة.

وذهب الإمام أحمد، وأتباعه: إلى نقض الوضوء من أكل لحم الإبل، وهو قول إسحاق بن راهويه.

قال الخطابي: ذهب إلى هذا عامَّةُ أصحاب الحديث.

وقال ابن خزيمة: لم نر خلافًا بين علماء الحديث.

وأشار البيهقي إلى ترجيحه، واختياره، والذبِّ عنه.

وقال الشَّافعي: إنْ صحَّ الحديث في لحوم الإبل، قلت به.

قال البيهقي: قد صحَّ فيه حديثان.

وقال النووي في المجموع: القولُ القديم: إنَّه ينقض، وهو الأقوى من حيثُ الدليلُ، وهو الذي أعتقد رجحانه.

ودليل النقض هذا الحديثان الصحيحان:

أحدهما: حديث البراء بن عازب: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل أنتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قال: نعم، قال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: لا" رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.

الثاني: حديث جابر بن سمرة أنَّ رجلًا سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم: "أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إنْ شِئْتَ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم" أخرجه مسلم.

ص: 306

واختار البيهقي هذا القولَ، والنوويُّ، والشيخ تقي الدِّين، وابن القيم، والشوكاني، وعلماء الدعوة السلفية النجدية، ورجال الحديث الذين يقدِّمون الآثار على الآراء.

* فائدة:

أصحابُ القياس الفاسد قالوا: إنَّ الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس؛ لأنَّها لحمٌ، واللحم لا يُتَؤَضَّأُ منه.

أمَّا صاحبُ الشريعة صلى الله عليه وسلم: ففرَّق بين لحم الإبل، ولحم الغنم ونحوها؛ كما فرَّق بينهما في:

1 -

المعاطن: حيث أجازَ الصلاةَ في معاطن الغنم، ومنع الصلاة في معاطن الإبل.

2 -

أصحابُ الإبل أصحابُ فَخْرٍ وخيلاء، وأصحابُ الغنمِ ذَوُو سكينةٍ وهدوء.

ذلك أنَّ الإبل فيها قوَّة شيطانية، والغذاء له تأثيرٌ على المتغذِّي؛ ولذا حرَّم أَكْلَ كلِّ ذي نابٍ من السِّباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير؛ لأنَّها جارحة؛ فالاغتذاءُ بلحومها يجعَلُ في خُلُقِ الإنسان من العدوان ما يَضُرُّ بدينه، فنُهِيَ عن ذلك، والثورةُ الشيطانية إنَّما يطفئها الماءُ، فكان الوضوءُ من لحومها على وفق القياسِ الصحيح، والله أعلم.

***

ص: 307

70 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَسَّلَ مَيْتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

رَجَّحَ أكثر الأئمة وقفه، وهو حسن بكثرة طرقه.

قالَ البَيْهَقِي: والصحيح أَنَّهُ مَوْقُوف، وقَالَ البُخاري: الأشبه أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَقال ابن أَبي حَاتم: لا يرفعه الثقات، إنَّما هو موقوف، وقال الرَّافعي: لمْ يُصحِّح علماء الحديث في هَذا البَابِ شَيْئًا مرفوعًا.

وقال الإمام أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء، وقال الذهبي: لا أعلم فيهم حديثًا ثابتًا. وَقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت.

وقال ابن المديني: لا يصح في هذا الباب شيءٌ.

وقد حسَّنه الترمذي والذهبي، وصحَّحه ابن حبَّان وابن القطَّان وابن حزم وابن دقيق العيد والألباني، وقال ابن دقيق العيد: رجاله رجال مسلم.

وفي الباب: عن عائشة رواه أحمد وأبو داود وفيه مصعب بن شيبة، ضعَّفه أحمد وأبو زرعة والبخاري وصحَّحه ابن خزيمة، وفيه عن حذيفة، قال ابن أبي حاتم والدَّارقطني: لا يثبت.

* مفردات الحديث:

- ميتاً: بالتثقيل والتخفيف، فأَمَّا الحيِّ: فبالتثقيل "ميَّت"؛ كقوله تعالى: {إِنَّكَ

(1) أحمد (9553)، الترمذي (993)، ولم يروه النسائي.

ص: 308

مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30] أي: ستموتون، وأَمَّا الإنسان الذي فارق الحياة فبالتخفيف؛ قال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122].

والموتُ: مفارقةُ الرُّوح للجسد، وتدلُّ عليها تغيُّراتٌ ظاهرة تحدُثُ إثرَ مفارقة الحياة، وأُخرى خفيَّة تحدث ببطء، وأَوَّل ما يحدثُ في الموت وَقْفُ التنفُّس.

- مَن: اسمُ شرطٍ جازمٌ يجزم فعلين، الأوَّل: فعل الشرط، وهو "غسَّلَ" المبنيُّ على الفتح في محل جزم، والثاني: جوابه وجزاؤه، وهو المجزومُ بالسكون بلام الأمر، والجملة جواب الشَّرْط، والفاء رابطةٌ للجواب.

وهكَذا إِعْراب: "وَمن حمله فليتوضَّأ".

* ما يُؤْخَذُ مِن الحديث:

1 -

ظاهر الحديث وجوبُ الغُسْل على من غسَّل ميتًا كله أو بعضه.

2 -

عمومُ الحديث يفيدُ عمومَ الأموات، من كبيرٍ أو صغيرٍ، ذكرًا كان أو أُنثى، مسلمًا كان أو كافرًا، بحائلٍ أَوْ بِدون حائل.

3 -

قال الفقهاء: الغاسل: هو من يقلِّبه ويباشره ولو مرَّةً، لا من يَصُبُّ الماء ونحوه، ولا من ييمِّمه؛ فليسوا بغاسلين.

4 -

عارض هَذا الحديثَ ما رواه البيهقي (1/ 306) عن ابن عبَّاس؛ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عليكم في غُسْلِ ميتكم غُسْلٌ إذا غسَّلتموه، إنَّ ميتكم يموت طاهرًا وليس بنجس، فحسبكم أنْ تغسلوا أيديكم"، قال الحافظ ابن حجر: حديثٌ حسن.

والجمع بين الحديثين: أَنَّ الأمر في حديث أبي هريرة للنَّدب، ويؤيد هذا الجمع: ما روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن ابن عمر قال: "كُنَّا نغسِّل الميت، فمنَّا من يغتسل، ومنَّا من لا يغتسل"، قَال الحافظ: إسناده صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين هذين الحديثين.

ص: 309

5 -

يؤيد هذا الجمع قاعدةُ ذكرها ابن مفلح في "الفروع" هي أَنَّ الحديث الضعيف إِذا كان دالاًّ على الوجوب بصيغته، أو دالاًّ على التحريم بصيغته، فإنَّه يُحْمَلُ على الاستحباب في الأمر، وعلى الكراهة في النَّهْي؛ احتياطًا، ولا يُلْزَمُ المسلمون بحكمه وجوبًا أو تحريمًا.

6 -

أَمَّا قوله: "ومن حمله فليتوضَّأ" فقال الصنعاني: "لا أَعلَمُ قائلاً بالوضوء من حَمْلِ الميت، والوضوءُ يُفَسَّر بغسل اليدين فقطْ، فيكونُ غسلُ اليدين مندوبًا من حَمْلِ الميت، وهو يناسبُ نظافةَ الإسلام؛ ويدل على ندب غسل اليدين ما تقدَّم من حديث ابن عبَّاس: "حسبكم أنْ تغسلوا أيديكم".

ولولا وجودُ هذا الحديثِ، وعدَمُ وجود قائلٍ بالوضوء مِنْ حمله، وضعفٌ ظاهرٌ في حديث الأصل أيضًا -لحملنا الحديث على الحقيقة الشرعية، وهي الوضوءُ الشرعيُّ بغَسْلِ الأعضاء الأربعة من حمل الميت؛ لأنَّ الأصل في ألفاظ الشرِع أنْ تُحْمَلَ على الحقائق الشرعية.

7 -

الحمل هنا مطلقٌ سواء باشرَ الحملَ بيده، أوْ حمله بنعشه.

***

ص: 310

71 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رحمه الله: "أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ" رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ مَعْلُولٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

إلَاّ أَنَّ المُحَدِّثِيْنَ اخْتَلَفُوا في صحَّة هَذا الحديث، فقال أبو داود: قد أُسْنِدَ هذا الحديث ولا يصح، والذي في إسناده سليمان بن داود وهمٌ، إنَّما هو سليمان بن أرقم، وهَكَذَا قالَ أَبُو زرعة الدمشقي: إنَّه الصَّوَاب، وتبعه صالح جزرة، وأبو الحسن الهروي.

وَقالَ النَّسائِيُّ: وهذا أشبه بالصواب (يعني: عن سليمان بن أرقم).

وقال ابن حزم: صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا تقوم بها حجَّة، وسليمان بن داود متفق على تركه.

قَالَ ابن حبَّان: سليمان بن داود اليمامي ضعيف، وسليمان بن داود الخولاني ثقة، وكلاهما يروي عن الزهري، والذي روى حديث الصدقات هو الخولاني، فمن ضعَّفه فإنَّما ظنَّ أنَّ الرَّاوي له هو اليمامي.

قَالَ ابن حجر: ولولا ما تقدَّم من أنَّ الحكم بن موسى وهم في قوله: سليمان بن داود، وإنَّما هو سليمان بن أرقم، لكان لكلام ابن حبَّان وجه. وصحَّحه الحاكم، وابن حبَّان، والبيهقي، ونقل عن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحًا.

(1) مالك (468)، النسائي (4853)، ابن حبَّان (14/ 504).

ص: 311

وقد صحَّح الحديثَ بالكتاب المذكور جماعةٌ من الأئمة، لا من حيث الإسناد، لكنْ من حيث الشهرة:

فقال الشَّافعي: لم يقبلوا هذا الحديث حتَّى ثبت عندهم أنَّه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقال ابن عبد البر: هذا كتابٌ مشهورٌ عند أهل السير، معروفٌ ما فيه عند أهل العلم، معرفةً يستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنَّه أشبه التواتُرَ في مجيئه، لتلقِّي النَّاس له بالقَبُولِ والمعرفة.

وَقال العُقَيْليّ: هذا حديثٌ ثابتٌ محفوظٌ إلَاّ ألا نَرَى أَنَّه كتابٌ غير مسموعٍ عمَّن فوق الزهري.

وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابًا أصحَّ من كتاب عمرو بن حزم هذا؛ فإنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتَّابعين يرجعون إليه وَيَدَعُونَ رأيهم.

وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمامُ عصره الزهريُّ لهذا الكتاب بالصحة.

* مفردات الحديث:

- إلَاّ طاهر: الطَّاهر لفظ مشترك، يطلَقُ على الطَّاهر من الحَدَثِ الأكبر، ويطلق على الطَّاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على مَنْ لبس على بدنه نجاسة، والرَّاجحُ أنَّ المراد هُنا: الطَّاهر من الحدث الأصغر؛ كما سيأتي تحقيقه في الكلام على فقه الحديث، إنْ شاء الله تعالى.

- القرآن: مصدر مرادف للقراءة، ثُمَّ نُقَلِ، فجعل اسمًا للكلامِ المُعْجزِ المنزَّلِ على النَّبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم؛ من باب إطلاق المصدر على مفعوله.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

عمرو بن حزم الأنصاريُّ حينما بعثه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى نَجْرَانَ، ليفقَّههم في الدِّين كتب له هذا الكتاب العظيم، الذي جمع كثيرًا من السنن، وتلقَّته الأمَّة بالقبول.

ص: 312

قال الحاكم: حديث عمرو بن حزم من قواعد الإسلام.

2 -

في هذا الكتاب "أنَّه لا يمس القرآن إلَاّ طاهر"، والمؤلِّف ساقه لبيان منع المُحْدِث حدثًا أصغر من مسَّه، وكذلك صاحبُ الحَدَثِ الأكبر مِنْ باب أولى.

3 -

ظاهر الحديث تحريمُ مَسِّ المصحف بدون حائل لغير المتوضِّىء.

4 -

قال الوزير ابن هبيرة: أجمعوا أَنَّه لا يجوزُ للمُحْدِثِ مَسُّ المصحف بلا حائل.

وقال شيخ الإسلام: مذهب الأئمة الأربعة: أنَّه لا يمس المصحف إلَاّ طاهر، والَّذي دلَّ عليه الكتاب والسنَّة هو أنَّ مسَّ المصحف لا يجوز للمُحْدِثِ، وهو قولُ الجمهور، والمعروفُ عن الصحابة.

5 -

للصغير في مَسِّ المصحف وجهان:

أحدهما: المنعُ؛ اعتبارًا بالكبار.

الثاني: الجواز للضرورة؛ فلو لم يُمَكَّنْ منه، لم يحفظه.

قال في الإنصاف: فيه روايتان في المذهب.

قال الشيخ عبد الله أبابطين: المشهورُ من المذهب: أنَّه لا يجوز، وفيه روايةٌ عن أحمد بالجواز.

6 -

قوله: "إلَاّ طاهر" هذا اللفظ مشتَرَكٌ بين أربعة أمور:

(أ) المراد بالطاهر المسلم؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، فالمراد بها: طهارةٌ معنويَّهٌ اعتقادية.

(ب) المراد به الطاهرُ من النجاسة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في الهرَّة: "إنَّها ليست بنجس".

(ج) المراد به الطَّاهرُ من الجنابة؛ لما روى أحمد (640)، وأبو داود (229)، والترمذي (146)، والنسائي (265)، وابن ماجه (594) عن عليٍّ

ص: 313

-رضي الله عنه: "أنَّ النبَّي صلى الله عليه وسلم لا يحجزه شيءٌ عن القرآن ليس الجنابة".

(د) أنَّ المراد بالطَّاهر المتوضِّىءُ؛ لما روى البخاري (6954)، ومسلم (255) أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أحَدِكُمْ إذا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَؤَضَّأ".

كل هذه المعاني للطهارة في الشَّرع محتملَةٌ في المراد من هذا الحديث، وليس لدينا مرجِّح لأحدها على الآخر، فالأولى حَمْلُهَا على أدنى محاملها، وهو المُحْدِثُ حدثًا أصغر؛ فإنَّه المتيقن، وهو موافق لما ذهب إليه الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة وأتباعهم.

وهذا لا يعطي المسألة دليلاً قاطعًا على تحريم مَسِّ المصحف للمحدث؛ لأنَّ الشك في صِحَّته موجود، ولكن الاحتياط والأولى هو ذاك.

قال ابن رشد: السبَبُ في اختلافهم تردُّد مفهوم قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة]، بين أنْ يكون {الْمُطَهَّرُونَ} هم بنو آدم، وبين أنْ يكونوا هم الملائكة، وبين أنْ يكون هذا الخبر مفهومه النَّهْي، وبين أنْ يكون خبرًا لا نهيًا.

فمن فهم من {المطهرون} بني آدم، وفهم من الخبر النَّهي، قال: لا يجوز أنْ يَمَسَّ المصحفَ إلَاّ طاهر.

ومن فهم منه الخبَرَ فقطْ، وفهم من لفظ {المطهرون} الملائكة، فال: إنَّه ليس في الآية دليلٌ على اشتراط هذه الطهارة لِمَسِّ المصحف، وإذًا فلا دليلَ من كتابٍ ولا سنَّةٍ ثابتةٍ على قولِ مَنْ لا يرى قبولَ الحديث.

7 -

في الحديث تعظيمُ القرآن، وأنَّه يجبُ احترامه، فلا يجوزُ مَسُّ المصحف بنجاسة، ولا يُجْعَلُ في مكانٍ لا يليق؛ إمَّا لنجاستِهِ، وإمَّا بجانب صور، أو تعلق آياته بجانب صورٍ، أو يُتْلَى في مكانِ لهوٍ أو عند الأغاني، أو عند أحدٍ يشرب الدخان، أو في مكان لغطٍ وأصواتٍ، ونحو ذلك ممَّا يعرِّض كتاب الله تعالى للإهانة.

ص: 314

72 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أحيانه: جمع حين، قال في المصباح: الحِينُ: الزمان قلَّ أو كثر، والمراد بكلِّ أحيانه: معظمها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث مقرِّرٌ للأصْلِ، وهو ذِكْرُ الله تعالى على كل حالٍ من الأحوال، ولو كان محدثًا أو جنبًا، والذِّكْرُ بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، وشبهها من الأذكار جائزٌ كلَّ حين بإجماع المسلمين.

2 -

يدخُلُ في الذكر تلاوةُ القرآن، إلَاّ أنَّ التلاوة مخصَّصة بحديث عليٍّ رضي الله عنه قال:"كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً"[رواه الإمام أحمد (628)، وأبو داود (229)، والترمذي (146)، والنسائي (265)، وابن ماجه (594)، وصححه الترمذي].

3 -

يخصَّص كذلك بحالة البول والغائط والجماع. هذا إذا كان الذّكْرُ باللسان، أمَّا الذكْرُ في القلب: فلا مانع منه في هذه الأحوال، والرَّاجحُ أنَّ مراد عائشة باللسان.

4 -

هذا الحديثُ في معنى الآية الكريمة: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191].

(1) مسلم (373)، البخاري (2/ 114 فتح).

ص: 315

73 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَلَيَّنَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيفٌ.

قال الحافظ في التلخيص: في إسناده صالح بن مقاتل، وهو ضعيف، قال الدَّارقطني عقبه: صالح بن مقاتل ليس بالقوي، وذكره النَّووي في فصل الضعيف، ويروى ما يؤيِّد معناه عن عدَّه من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر علَّقه البخاري، وابن عباس رواه الشَّافعي، وعبد الله بن أبي أوفى وأبي هريرة ذكرهما الشَّافعي ووصلهما البيهقي، وجابر علَّقه البخاري ووصله ابن خزيمة وأبو داود. وفيه عقيل بن جابر لم يوثِّقه إلَاّ ابن حبَّان وصحَّح حديثه، وكذا ابن خزيمة والحاكم، وعن عائشة، قال الحافظ: لم أقف عليه.

* مفردات الحديث:

- احتجم: أخرج الدم بالمِحْجَمِ، والمحجم: أداةُ سَحْبِ الدَّمِ من المحجوم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ الحجامة لا تنقُضُ الوضوء، بل تجوزُ الصلاةُ بعدها.

2 -

الحديث مقرِّر للأصل، وهو أنَّ خروج الدَّم من البدن غير الفرجين لا ينقف الوضوء، والأصلُ عدمُ النَّقْضِ حتَّى يقوم ما يرفع الأصل.

3 -

المشهورُ من مذهب الإمام أحمد: أنَّ النَّجس الخارج من غير السبيلين إذا فَحُشَ أنَّه ينقُضُ الوضوء.

قال في الشرح الكبير: النجس من غير السبيلين غير البول والغائط ينقض

(1) الدَّارقطني (1/ 151).

ص: 316

كثيره، بغير خلافٍ في المذهب.

وقال مالك والشَّافعي وأصحابهما: لا وضوء منه؛ واختاره الشيخ تقي الدِّين؛ لأنَّه لا نصَّ فيه، ولا يصحُّ قياسه على الخارج من السبيل، وإِنَّما هو كالبُصاقِ والمُخَاط، والأصلُ بقاءُ الطهارة حتَّى يأتي ما يرفَعُ هذا الأصل، واختاره شيخُنَا عبد الرحمن السعدي، وتقدَّم الخلافُ في ذلك.

4 -

حديثُ عائشة السَّابقُ أنَّ الرُّعافَ والقيء والقَلَسَ ونحوها ممَّا يخرج من البدن من غير السبيلين: ناقضٌ للوضوء، ولكنَّ الحديثَ ضعيف، وعند الترجيح لا يعارِضُ هذا الحديث الذي معنا، لاسيَّما وهذا الحديثُ يقرِّر أصلًا هو أنَّ الأصل بقاء الطهارة.

5 -

الحجامة دواء؛ وقد جاء في صحيح البخاري (5680)، عن ابن عبَّاس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"الشِّفَاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيَّة نار".

قال ابن القيم: إذا كان المرض حَارًّا، عالجناه بإخراج الدَّم بالفصد أو بالحجامة؛ لأنَّ في ذلك استفراغًا للمادة، وتبريدًا للمزاج، ففيه استحباب التداوي، واستحباب الحجامة، وأنَّها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال.

6 -

استحباب التداوي؛ ففي مسلم (2204) من حديث جابر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكلِّ داءٍ دواء، فإذا أصيب بدواء الدَّاء، بَرَأَ بإذْنِ الله عز وجل".

وفي مسند الإِمَام أحمد (17987)، عنَ أسامة بن شريك؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا عباد الله تداوَوْا، فإنَّ الله لم يضعْ داءً إلَاّ وضع له شفاءً".

قال ابن القيم -لما ذكر أحاديث التداوي-: فقد تضمَّنت هذه الأحاديث الأسبابَ والمسبَّبات، وإبطالَ قول مَنْ أنكرها، ففي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنَّه لا ينافي التوكل.

فكان هديه صلى الله عليه وسلم فِعْلَ التداوي في نفسه، والأمْرَ به لمن أصابه مَرَضٌ من أهله، أو أصحابه.

ص: 317

74 -

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ، اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَزَادَ:"وَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ"، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيْثِ عَلِيٍّ، دُونَ قَوْلِهِ:"اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ"، وَفِي كِلَا الْإِسْنَادَيْنِ ضَعْفٌ (1).

وَلِأَبِي دَاوُدَ -أَيْضًا- عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا: "إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا". وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (2).

ــ

* درجة الحديث:

حديث عليٍّ حسنٌ، أمَّا حديثُ معاوية: فقد رواه أحمد، والطبراني، والدَّارقطني، وفي إسناده بقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، وهو ضعيفٌ، وكان قد سُرق بيته فاختلط.

وحديث عليٍّ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدَّارقطني، وفيه الوضين ابن عطاء -وهو ضعيف- عن محفوظ بن علقمة عن عبد الرحمن بن عائذ عن علي. قال أبو زرعة: لم يسمع منه، قال الحافظ: وفي هذا النَّفي نظر؛ لأنَّه يروي عن عمر كما جزم به البخاري، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذين الحديثين؟ فقال: ليسا بقويين، وقال الإمام أحمد: حديث علي أثبت من حديث معاوية.

وحسَّن حديث عليٍّ: المنذريُّ، وابن الصلاح، والنووي.

وأمَّا حديث ابن عبَّاس: فقد ضعَّفه البخاري، وأحمد، والترمذي، وقال

(1) أحمد (4/ 97)، الطبراني في الكبير (19/ 372)، أبو داود (203).

(2)

أبو داود (203).

ص: 318

أبو داود: إنَّه حديثٌ منكر، وقال البيهقي: تفرَّد به أبو خالد الدالاني، وأنكره عليه جميع أئمة الحديث، وقال ابن الملقن: هو حديثٌ ضعيفٌ باتفاقهم.

* مفردات الحديث:

- وكَاء: بكسر الواو والمد: الخيط الذي تُشَدُّ به الصُرَّةُ أو الكيسُ أو القربة.

- السَّه: بفتح السين المهملة وكسرها: هي حلقة الدبر، أصلها سَتَهٌ، فسقطت منها عين الكلمة. ومعنى كون العين وكاءَ السه: أنَّ اليقظةَ تحفظُ الدبر، وتمنع خروجَ الخارج منه، كما يحفظ الوكاءُ الماءَ في السِّقاء، ويمنَعُ خروجه.

- استطلق: يُقال: طَلُقَ يَطْلُقُ طلاقًا من باب كرم، والطلاق: أصله التخلية من القيد، وباقي معانيه متشعِّبةٌ منه.

والمراد هُنا: أنَّ النائم إذا نام، لم يكن له شعور يحبس به الخارج.

- مضطجعًا: أصله مضتجعًا؛ لأنَّه من باب الافتعال؛ فقلبت التَّاء طاءً.

وأمّا إعرابه فهو حال من فاعل نام، والاضطجاع معناه: وضع الجنب على الأرض.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

نقض الوضوء من الرِّيح الخارجة من الدبر بصوتٍ أو بدونه.

2 -

الحديثُ يدُلُّ على أنَّ النَّوْمَ ليس بناقضٍ بنفسه، وإنَّما هو مظنَّةُ النَّقض، فلا ينقُضُ إلَاّ النُّوْمُ المستغرقُ الذي هو مظنَّة الحدث، وأَمَّا الخفيف فلا ينقض.

3 -

مثل النوم كلُّ ما أزال العقل؛ من جنون، أو إغماء، أو سُكْر، أو غيره، فكله من نواقض الوضوء، بجامع زوالِ الإحساسِ في الكل.

4 -

قال علماءُ وظائفِ الأعضاء: إنَّ النَّوْمَ فترةٌ من الخمود مصحوبةٌ بنفي الإدراكِ والشعور، وأكثَرُ أجهزة الجسم توقُّفًا عن العمل أثناءَ النوم، هي المراكزُ العليا للمخ، التي تختصُّ بالإدراك والتمييز والتفكير، والرَّدِّ على المؤثِّرات الخارجية بما يناسبها، ومن أهم مميِّزات النوم: ارتخاء العضلات الإرادية، وعدَمُ القدرة على ضبط النفس.

ص: 319

75 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فِي صَلَاتِهِ فَيَنْفُخُ فِي مَقْعَدَتِهِ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ وَلَمْ يُحْدِثْ، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا". أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ (1)، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ (2)، وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه نَحْوُهُ (3).

وَلِلْحَاكِمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: "إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: إِنَّكَ أَحْدَثْتَ، فَلْيَقُلْ: كَذَبْتَ"، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ كَذلِكَ بِلَفْظِ:"فَلْيَقُلْ فِي نَفْسِهِ"(4).

ــ

* مفردات الحديث:

- ينفخ: نفَخَ بفمه نفخًا: أخرج منه الرِّيح.

- في مقعدته: يُقال: قعد يقعد قعوفا، من باب نصر، والمقعدة: بفتح الميم، وسكون القاف: السَّافلة من الشخص.

- يخيَّل إليه: يُقال: خال يخال خيلًا، من باب علم: إذا ظنَّ وتوهَّم، وخُيِّلَ له كذا -بالبناء للمجهول-: إذا توهَّمه أو ظنَّهُ، وهو من أفعال القلوب، والمعنى توهُّم خروج الرَّيحِ من مقعدته.

(1) البزار (281).

(2)

البخاري (137)، مسلم (361).

(3)

مسلم (362).

(4)

ابن حبان (2666)، الحاكم (134).

ص: 320

- أحدث: مأخوذٌ من الحدوث، وهو كون الشيء لم يكن؛ فالحدث شرعًا: وجود ما ينقض الطهارة.

- حتَّى: للغاية، بمعنى "إلى"، و"يسمع": منصوبٌ بـ"أن" مضمرة بعدها، وَ"يجد" معطوف عليه.

- صَوتًا

ريحًا: يعني يسمع صوتًا من الدبر، ويجد ريحًا من الدبر.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا كان الإنسانُ متطهِّرًا، فخيِّل إليه أنَّه أحدث، ولكنَّه لم يتحقَّقْ ذلك يقينًا، فالأصل أنَّه باقٍ على طهارته، ولا يلتفت إلى هذه الشكوك والوساوس.

2 -

أنَّ الشيطان يتكيَّف ويتمثَّل، فيعمل الأعمال التي يُظَنُّ أنَّها حقيقة، وهي في نفسِ الأمرِ ما هي إلَاّ من خِدَعِهِ، التي يريد أنْ يفسد بها على المسلم عبادته، ويوقعه في شكوكٍ وأوهامٍ.

3 -

الواجبُ على المسلم أنْ يكونَ قويَّ الإرادة، نافذ العزيمة، فلا يجدُ الشيطانُ سبيلًا إلى تلبيس عبادته عليه.

وأنْ يجاهد هذه الخيالات الشيطانيَّة، فإذا نَفَخَ الشيطانُ في رُوعِهِ فقال: إنَّك أحدثت، فليقل: كَذَبْتَ!.

4 -

الشيطانُ عدوٌّ مبينٌ لبني آدم، فمن تمادَى معه، أغواه وأضله، فإذا لم يستطع إغواءه بالشهوات، جاءه من طريق الشبهات؛ فالواجب على المسلم مجاهدته وطرده ودحره؛ قال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر].

5 -

الريِّح الخارجة من الدبر مبطلةٌ للوضوء، مفسدةٌ للصَّلاة، بشرط التيقُّن من خروجها.

6 -

إذا كثرت الشكوكُ مع الإنسان، فإنَّها لا تُؤَثِّرُ؛ فلا يلتفت إليها.

ص: 321

7 -

لا أثر للشكِّ بعد الفراغ من العبادة، فلو فَرَغَ من الوضوء، وشَكَّ هل تمضمَضَ؟ أو فرغ من الصلاة، وشكَّ هل قرأ الفاتحة؟ أو لم يسجد إلَاّ مرَّةً واحدة؟ فلا يلتفت إلى ذلك، والأصل صحَّة العبادة.

قال ابن عبد القوي:

وَلا الشَّكَّ مِنْ بَعْدِ الفَرَاغ بمُبْطِلٍ

يُقَاسُ عَلَى هَذَا جَمِيعُ التَّعبُّدِ

***

ص: 322