الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التيمم
مقدِّمة
أصل التيمُّم: تَأَمُّمٌ، فأبدلت الهمزة ياء.
والتيمُّم لغةً: القصد.
وشرعًا: مسحُ الوجه واليدَيْن بصعيدٍ على وجهٍ مخصوص.
والتيمُّم: مشروعٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس:
قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6].
أمَّا دليله من السنة: فكثرَتْ فيه الأحاديث الصحيحة، ومنها ما في مسلم (522) من حديث حذيفة:"وجُعِلَتْ تربتها لنا طهورًا؛ إذا لم نجد الماء".
وهو إجماع العلماء.
وأمَّا القياسُ: فقال شيخ الإِسلام: والحق: أنَّ التيمُّم على وَفْقِ القياس الصحيح، فنشأتنا وقوَّتنا من مادَّتَي الماء والتراب، فالتراب أصل الإنسان، والماء حياة كل شيء، وهو الأصل في الطبائع، وكان أصلَحُ ما يقع به تطهيرُ الأدناس هو الماءَ، وفي حالة عَدَمِهِ أو العذرِ باستعماله، يكونُ لأخيه وشقيقه التراب؛ فهو أولى.
أمَّا الأستاذ سيِّد قُطْب فيقول:
نقفُ أمامَ حرص المنهج الربانيِّ على الصلاة، وعلى إقامتها، في وجه جميع الأعذار والمعوِّقات؛ عند تعذُّر وجود الماء، أو عند التضرُّر بالماء، إنَّ هذا كله يدُلُّ على حرص المنهجِ الربانيِّ على الصلاة، بحيث لا ينقطع المسلم
عنها لسبب من الأسباب.
إنَّ هذا ما استطعنا أنْ نستشرفه من حِكْمة النصِّ، وقد تكونُ هناك أسرارٌ من الحكمة، لم يُؤْذَنْ لنا باستجلائها، فللَّه في شرعه حِكَمٌ وأسرار.
وهو من خصائص هذه الأمَّة؛ ففي البخاري (335) ومسلم (521): "أُعْطِيتُ خمسًا لم يعطهنَّ أحدٌ قَبْلِي: جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا".
وشُرِعَ في السَّنة السادسة في غزوة بني المصطلق، لمَّا ضاع عِقْدُ عائشة رضي الله عنها ومكثوا في طلبه على غير ماء؛ فنزلَتْ آية التيمم.
***
108 -
عَنْ جَابِرِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ
…
" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (1).
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه عِنْدَ مُسْلِمٍ: "وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا؛ إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ"(2).
وَعَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ: "وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا"(3).
ــ
* مفردات الحديث:
- أُعطيت: مبني للمجهول، أي: أعطاني الله تعالى.
- خمسًا: أي: خمس خصال، وقد صحَّ أكثر من خمسٍ، قال القرطبي: ليس في هذا تعارُضٌ؛ فإنَّ ذكر العدد لا يدُلُّ على الحصر.
- الرُّعْب: بضم الرَّاء وسكون العين، وهو الخوفُ والفزع، يُقال: رعب الرجل وأرعبته رعبًا، أي: ملأته خوفًا، والاسم الرُّعْب.
- مسيرة شهر: يُقال: سار يسير سَيْرًا ومَسِيرًا، يستعمل فعله لازمًا ومتعديًا، والمسيرة: المشي ليلًا أو نهارًا.
(1) البخاري (335)، مسلم (521).
(2)
مسلم (522).
(3)
أحمد (765).
والنكتة في جعل الغاية شهرًا: أنَّه لم يكن بينه صلى الله عليه وسلم وبين أحدٍ من أعدائِهِ أكثرُ من شهرٍ.
- مسجدًا: المسجد لغةً: مَفْعِلٌ بالكسر، قال الصِّقِلِّيّ: ويقال: مَسْيِدٌ، وهو ظرف مكان من الثلاثيِّ المجرَّد، وهو موضع السجود، ولا يختص به موضعٌ دون آخر.
وشرعًا: كلُّ موضعٍ في الأرض فإنَّه مسجد.
- تُربتها: بضم التاء: هي طبيعةُ الأرض، تقول: أرضٌ جيِّدة التربة.
- طهورًا: بفتح الطاء: هو الطَّهور بذاته، المطهِّر غيره.
- فليصل: خبر المبتدأ، ودخولُ الفاء فيه؛ لكون المبتدأ متضمِّنًا لمعنى الشرط، والَّلام للأمر.
- الغنائم: جمعُ غنيمة، وهي ما حصَلَ من الكفَّار بالحَرْبِ بإيجافٍ وركاب.
* ما يؤخذ من الحديث:
هذا حديثٌ فيه فوائدُ جمَّة، وأحكامٌ مهمَّة نقتصرُ على البارز منها:
1 -
تفضيلُ نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، وخصائصُهُ كثيرة، صنِّفت فيها الكتب، ولعلَّ أوسعها "الخصائص الكبرى" للسيوطي.
2 -
شُرِعَ تعديدُ نِعَمِ الله تعالى على العبد على وَجْهِ الشكر لله، وذِكْرِ آلائه؛ فإنَّه يُعَدُّ عبادةً وشكرًا لله تعالى عليها، واعترافًا بفضله ومننه وكَرَمِهِ على عبده.
3 -
أنَّ الله -تعالت قدرته- نصَرَ نبيَّه محمدًا بالرعب، فيصابُ عدوُّه بالخوف، ولو كان بينهما مسيرةُ شهر، وهذا من أكبر العَوْن والنصر على الأعداء؛ فإنَّه عاملٌ قويٌّ يَفُتُّ في عضد العدو حتَّى يصابَ بالانهيار والخذلان، وحدد بالشهر؛ لأنَّه لم يكن بينه وبين عدوه زَمَنَ حروبه أكثَرُ من ذلك.
4 -
أنَّ الله تعالى تفضَّل على نبيه صلى الله عليه وسلم حينما أحلَّ له الغنائم التي هي مكاسبُ الحروب الشرعية، وفوائدُ جهادِ الأعداء الدنيويَّة، بينما كان الأنبياءُ قبله:
إمَّا لم يؤذنْ لهم بالجهاد، أو أُذِنَ لهم ولكنْ لم تَحلَّ لهم الغنائم، وكانوا يجمعونها، ثمَّ تنزل عليها نارٌ من السماء فتحرقها.
5 -
أنَّ شرَفَ نبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم بشمولِ دعوته وعمومِ رسالته؛ فكان كلُّ رسولٍ قبله إنَّما يُبْعَثُ في قومه خاصَّةً، وفي زمن مؤقَّت محدَّد، أمَّا رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: فهي الرسالة التي عمَّتْ جميع النَّاس؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]؛ بل إنَّ رسالته صلى الله عليه وسلم شملت الثقلين -الجن والإنس- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء]، ورسالته ممتدَّة حتَّى تقوم السَّاعة.
وما العمومُ والشمولُ في هذه الرسالة المحمَّدية إلَاّ لما أودعها الله تعالى مِنْ عواملِ البقاء، وعناصرِ الخلود، وما أقامها عليه مِنْ قواعدِ الشمول والعموم.
7 -
قوله في باقي الحديث: "النَّاس" لا يشمَلُ الجنَّ، ولا خلاف أنَّه صلى الله عليه وسلم أُرْسِلَ للثقلين، ولعلَّه من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى.
8 -
أنَّ الله تعالى سيُظْهِرُ كمالَ فضل هذا النَّبيِّ الكريم، ومقامه العظيم يوم القيامة، باختياره للمقام المحمود، وهي الشفاعةُ العُظْمَى التي يتدافعها كبارُ الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ويتأخَّرون عنها، فتنتهي إليه الرئاسة والشرف، فحينما يقبلها يسجد لله تعالى تحت العرش، ويمجِّد ربَّه بمحامد يلهمه الله إيَّاها، ثُمَّ يُعْطى سؤله، وَتُقْبَلُ شفاعته في ذلك اليوم الذي يحمد فيه الله تعالى، ويحمدُهُ جميعُ الخلائق، حينما شفَعَ فقُبِلَتْ شفاعته؛ لإراحة الخلائق مِنْ شدَّه ذلك اليوم الطويل العصيب؛ فهذا المقام الذي قال تعالى فيه مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء].
9 -
أنَّ الأرض كلَّها جعلت له ولأمَّته مسجدًا، فيصلِّي في أي مكان تدركه الصلاة فيه، فلا يختصُّ به موضعٌ دون غيره، بينما غيره من الأنبياء لا
يصلُّون هم ولا أممهم إلَاّ في أمكنةٍ خاصَّة؛ ولذا جاء في بعض روايات هذا الحديث: "وكان مَنْ قبلي إنَّما يصلون في كنائسهم"[قال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله ثقات (10/ 367)]، وفي رواية أخرى:"ولم يكن أحدٌ من الأنبياء يصلِّي حتَّى يبلغ محرابه"[رواه البيهقي (2/ 433)].
وعمومُ الأرض في هذا الحديث مخصوصٌ بما نَهَى الشَّارعُ عن الصلاة فيه من الأماكن، ممَّا سيأتي بيانه في موضعه، إنْ شاء الله تعالى.
10 -
أنَّ الله تعالى يسَّر أمر هذا النبيِّ الكريمِ، وَأَمْرَ أمته، فجعَلَ له صعيدَ الأرض طهورًا؛ فقال:"وجعلت تربتها لنا طهورًا؛ إذا لم نجد الماء"، وكما جاء في الحديث الآخر:"الصعيد وَضُوءُ المسلم، وإنْ لم يجد الماء عشر سنين"[رواه الدَّارقطني (1/ 181)]، بينما الأممُ السَّابقة لا يطهِّرها إلَاّ الماء، فالتيمُّم والصلاة في جميع الأرض هي خصوصيةٌ خَصَّ اللهُ بهما هذه الأمَّة؛ تخفيفًا عنها، ورحمة بها، فله الفضل والمنَّة.
11 -
أنَّ الأصل في الأرض الطهارة؛ فتجوزُ الصلاة فيها، والتيمُّم منها.
12 -
أنَّ كل أرضٍ صالحةٌ للتيمُّم منها، سواءٌ كانت رملية أو صخرية، أو سبخة رطبة أو يابسة.
13 -
قوله: "فأيما رجلٍ" لا يراد به جنس الرِّجالِ وحدهم، وإنَّما يراد النساء أيضًا، فالنساءُ شقائقُ الرجال.
14 -
قوله: "وجعلت ترتبها لنا طهورًا" دليلٌ على أنَّ التيمُّم رافعٌ للحدث كالماء؛ لاشتراكهما في الطهورية، وبهذا قال الحنفية، أمَّا المشهور من مذهب الحنابلة والمالكية والشَّافعية: فإنَّه مبيح لا رافع، ولكنَّه قولٌ ضعيفٌ، فالتيمُّم بدل الماء، وله أحكامه.
15 -
المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ التيمُّم يكون لنجاسة البدن، والرواية الأُخرى: أنَّه لا تيمُّم لها؛ لأنَّ الشرع إنَّما ورد بالتيمُّم للحدث دون
النجاسة، وهو قولُ الأئمة الثلاثة، واختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو القولُ الرَّاجح.
* تنبيه:
اقتصر المؤلِّف من الحديث على ذكر خصوصيَّتَيْن، أمَّا الثلاثُ الباقية -وهي: حِلُّ الغنائم، والشفاعةُ الكبرى لإراحةِ النَّاسِ من الموقف، وعمومُ رسالتِهِ صلى الله عليه وسلم إلى النَّاسِ كافَّة- فلم يَأتِ بها، وقد أتينا على شرحها وبيانها.
***
109 -
وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: "بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
أجنبت: أي: أصابتني جنابة.
فتمرَّغت: بفتح المثنَّاة الفوقية والميم، وتشديد الرَّاء، فغين معجمة، أي: تقلَّبت على الأرض كما تتقلَّب الدَّابة، قياسًا منه للتيمُّم من الجنابة على الغُسْلِ منها.
- في الصعيد: بفتح الصّاد المشدَّدة، ثُمَّ عين مهملة، فياء، فدال مهملة: هو وجه الأرض، جمعه صُعْدان وصُعُد.
- الدابَّه: كل ما يدب على الأرض؛ كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقد غلَبَ على ما يُرْكَبُ من الحيوان، ويُسمَّى به المذكَّر والمؤنث، جمعه دَوابُّ.
- أنْ تقول بيديك هكذا: فيه استعمالُ القول في معنى الفعل؛ قال في القاموس:
(1) البخاري (338، 347) مسلم (368).
الفعل حركة.
- ظاهر كفيه: ظاهرُ الكفِّ: هو المقابل لباطنه، والكفُّ: من الرسغ إلى أطراف أصابع اليد.
- نفخ: بفمه: أخرَجَ منه الريح، وأراد هنا إزالةَ ما كَثُرَ على اليدين من التراب، قال الجوهري: أوله -أي: ما يخرجه الإنسان في فمه- البَزْقُ، ثمَّ التَّفْل، ثمَّ النَّفْث، ثمَّ النَّفْخ.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعيَّةُ التيمُّم للصلاة، وغيرها من العبادات الواجب لها الطهارةُ؛ فالتيمُّم أحدُ الطهورَيْن المشروعَيْن.
2 -
بيانُ صفة التيمُّم، وهو أنْ يضرب الأرض بيديه ضربةً، فيمسح وجهه بباطن كفيه، ويمسح كلَّ ظاهر يدٍ بالأخرى، سواءٌ في الحدث الأصغر أو الأكبر، فصفته واحدة.
3 -
جوازُ تخفيف الغبارِ الكثيرِ العالقِ باليدين من ضرب الأرض بالنفخ، ثمَّ مسح الوجه والكفين بهما، ولا يتعدَّاهما إلى الذراعين.
4 -
أنَّ التيمُّم ضربةٌ واحدة تكفي للوجه واليدين.
5 -
جوازُ الاجتهاد في مسائل العلم، حتَّى في زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة خلافيَّةٌ بين الأصوليين، وأرجَحُ الأقوال الثلاثة: جوازه في غيبة النَّبي صلى الله عليه وسلم، والبُعْدِ عن سؤاله.
6 -
فيه استعمالُ أصل القياس، وإقرارُ النَّبي صلى الله عليه وسلم صاحبه، فهذا عمّارٌ قاس التطهُّر بالتراب على التطهُّر بالماء، فكما أنَّ الماء يَعُمُّ البدنَ في الغسل من الجنابة، فكذلك يقاسُ عليه الترابُ، فيعمّم به البدن.
وحكى ابن الملقِّن عن تقي الدِّين فقال: استعمالُ القياس لابد فيه من تقدَّم العلم بمشروعيَّة التيمُّم، وكأنَّ عمَّارا لمَّا رأى الوضوءَ خاصٌّ ببعض
الأعضاء، وكان بدله -وهو التيمم- خاصًّا، وجب أنْ يكون بَدَلُ الغُسْلِ الذي يَعُمُّ جميعَ البدن، عامًّا لجميع البدن.
7 -
النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمَّارًا بالإعادة؛ فدل هذا على أنَّ مَنْ عَبَدَ الله على طريق غير مشروعة جهلاً، فإنَّه يعلَّم لمستقبل أمره، ولا يُؤْمَرُ بقضاء ما فاته في أيَّام جهله ولهذه المسألة أدلَّةٌ كثيرة في الشرع، منها هذا، ومنها: قصَّة الرجل المسيء في صلاته.
قال شيخ الإسلام: وما تركه لجهله بالواجب، مثلُ مَنْ كان يصلِّي بلا طمأنينة، فالصحيحُ: أنَّ مِثْلَ هذا لا إعادةَ عليه إذا خرَجَ وقت العبادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته:"اذهب فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ"[رواه البخاري (724)، ومسلم (397)].
8 -
التعليمُ بالقول والفعل يكونُ بتمثيل المطلوب تعلُّمه، وهو ما يسمَّى الآن "وسائل الإيضاح".
9 -
سماحةُ هذه الشريعة ويُسْرُها؛ كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
10 -
فيه مراجعة العلماء فيما حَصَلَ به الاجتهاد؛ فإنَّ عمَّارًا راجَعَ فيما اجتهد فيه.
***
110 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَ الْأَئِمَّةُ وَقْفَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ، والصوابُ وَقْفُهُ على ابن عمر.
أمَّا ضعفه، فقال المصنِّف في فتح الباري: الأحاديثُ الواردةُ في صفة التيمُّم، لم يصحَّ منها سوى حديث ابن جهيم، وحديثِ عمَّار، وما عداهما فضعيفٌ أو مختلفٌ في رفعه، والرَّاجحُ عدَمُ رفعه.
وقال المؤلِّف في التلخيص: قال أبو زرعة: حديثٌ باطل.
وأمَّا وقفه فقال المؤلِّف هنا: وصحَّح الأئمة وقفه، قال الحافظ: الحديث مرفوعًا ضعيفٌ، وأمَّا الموقوفُ: ففيه علي بن ظبيان، طعن فيه أكثر الأئمة، والثقاتُ رَوَوْهُ موقوفًا.
وقال الدَّارقطني في سننه: وقفه يحيى القطان، وهُشَيْم، وغيرهما؛ وهو الصواب. وفي معناه عدَّة روايات كلها غير صحيحة، بل إمَّا موقوفة أو ضعيفة، فالعمدة حديثُ عمَّار، وبه جزم البخاري في صحيحه.
وفي الباب: عن جابر، صحَّحَهُ الحاكم، ووافقه الذهبي، وصوَّب الدَّارقطني وقفه.
* مفردات الحديث:
- التيمُّم: في اللغة: مصدر تيمَّم من باب التفعُّل، وأصله من الأمِّ، بفتح الهمزة
(1) الدَّارقطني (1/ 182).
وتشديد الميم، وهو القصد، ويُقال: أَمَّه يؤمُّه: إذا قصده؛ لأنَّه يقصد التراب فيتمسَّح به.
وفي الشرع: قَصْدُ صعيد طاهر مباح، واستعمالُهُ بصفةٍ مخصوصة؛ لاستباحة الصلاة ونحوها، وامتثال الأمر.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّ التيمُّم يكون بضربتين، لا ضربة واحدة.
2 -
تكونُ أولى الضربتَيْن لمسح الوجه، والضربة الثانية تكونُ لمسح اليدين.
3 -
الحديثُ معارِضٌ لحديث عمَّار السابق، الَّذي ليس فيه إلَاّ ضربةٌ واحدةٌ، تكونُ للوجه ولليدين.
4 -
قال العلماءُ عن هذا التعارُضِ بين حديثِ عمَّارٍ وحديثِ ابن عمر:
(أ) حديثُ عَمَّارٍ في الصحيحين، وحديثُ ابن عمر في سنن الدَّارقطني، التي لم يلتزمْ صاحبها بِصِحَّةِ الأحاديث، بل كثيرًا ما يروي فيها الأحاديثَ الضعيفة، فحديثُ ابن عمر ليس له نسبةٌ مع حديث عمَّار من حيثُ الصحةُ.
(ب) حديث عمَّار مرفوعٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، أما حديثُ ابن عمر فهو من كلام ابن عمر، وليس من كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان مما لا مجالَ فيه للرأي، فَفَرْقٌ بين المرفوع والموقوف.
(ج) كلُّ الروايات التي وردَتْ بالضربتين، فهي إما موقوفةٌ لم تُرْفَعْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإما ضعيفةٌ لا تقومُ بها حُجَّة.
5 -
قال ابن عبد البر: الآثارُ المرفوعةُ ضربةٌ واحدة، وما روي من ضربتين فكلُّها مضطربةٌ، وقال أبو زرعة عن حديث ابن عمر: حديثٌ باطل، وقال ابن القيم: لم يصحَّ شيءٌ في الضربتين، وقال الألباني: وفي الضربتين أحاديثُ واهيةٌ معلولةٌ.
6 -
لذا فالصحيح في هذا الباب والعمدة هو حديثُ عمَّار، وبه جزم البخاريُّ في صحيحه، فقال:"باب: التيمُّمُ ضربةٌ"، وقال في الفتح: هذا هو الواجب المجزىء.
وقال الإمام أحمد: من قال: إنَّ التيمُّم إلى المرفقين، فإنُّما هو شيءٌ زاده من عنده.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في صفة التيمم:
فذهب الإمام أحمد: إلى أنَّ المشروع في التيمُّم هو ضربةٌ واحدة، يمسح وجهَهُ بباطنِ أصابعه ويمسَحُ كفيه براحتيه، ولا يُسَنُّ مسحُ ذراعيه إلى المرفقين، بل يقتصر في المسح إلى الكوعين، هذا هو الصحيح والمشهور من مذهبه.
قال الترمذي: وهو قولُ غير واحد من أهل العلم من الصحابة والتَّابعين، منهم علي وعمَّار وابن عبَّاس وعطاء والشعبي وإسحاق، واختاره ابن المنذر، وأهل الظاهر، وهذا هو قول فقهاء الحديث، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيِّم، والشوكاني، وعليه العمل عند علماء الدعوة السلفية في نجد.
وذلك لما جاء في البخاري (347) ومسلم (368) من حديث عمَّار: "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ بيديه الأرض ضربةً واحدةً، ثمَّ مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه".
وذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنَّ التيمُّم ضربتان، يمسح بإحداهما وجهه، وبالأخرى يديه إلى مرفقيه.
واستدلُّوا بحديث الباب: "التيمُّم ضربتان، ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين"، ومثله عند الدَّارقطني عن جابر.
قال الخلال: الأحاديث في ذلك ضعيفةٌ جِدًّا، ولم يُورِدْ منها أصحاب السنن إلَاّ حديثَ ابن عمر، وقال أحمد: ليس بصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى فرضِ صلاحية تلك الأحاديثِ للاستدلال، فلا تُعارِضَ ما في الصحيحين.
***
111 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الصَّعِيدُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِيْنَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ" رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَلَكِنْ صَوَّبَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِرْسَالَهُ (1)، وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوُهُ، وَصَحَّحَهُ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
وله شاهد أشار إليه المؤلِّف وصحَّحه وروى هذا الشَّاهد أحمد (20863)، والترمذي (124)، وأبو داود (333)، والنسائي (420)، والدَّاراقطني، والحاكم، وغيرهم، وصحَّحه الترمذي، وابن حبَّان، والدَّارقطني، وأبو حاتم، والحاكم، والذهبي، والنووي، وابن دقيق العيد.
* مفردات الحديث:
- الصعيد: وجهُ الأرض البارز، ترابًا كان أو غيره.
- عشر سنين: المقصودُ منه: المبالغةُ دون التحديد.
- فليمسه بشرته: فليجعلِ الماءَ يصيبُ بدنه بالتطهُّر به، لمستقبل العبادة.
- البَشَرة: بفتح الباء والشين: ظاهر الجلد.
(1) البزار (310 كشف الأستار)، الدَّارقطني (1/ 187).
(2)
الترمذي (124).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية التيمُّم عند فقد الماء، وعدم حصوله.
قال الشيخ تقي الدِّين: من امتنع عن الصلاة بالتيمُّم، فإنَّه من جنس اليهود والنَّصارى؛ فإنَّ التيمُّم لأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم خاصَّة.
2 -
أنَّ التيمُّم طهورٌ، وكافٍ عن الماء في رَفْع الأحداث، مهما طالتِ المدَّة عند عدم الماء.
3 -
جواز التيمُّم على جميع ما تصاعَدَ على وجه الأرض، من أيِّ نوعٍ من أنواع التربة، وعلى كلِّ ما على الأرض مِنْ طاهرٍ، من فرش ولبد وحيطان وصخور وغيرها، وسيأتي الخلافُ في ذلك، إنْ شاء الله تعالى.
4 -
أنَّ التيمُّمَ رافعٌ للحديث وليس مبيحًا فقط؛ فإنَّه عليه الصلاة والسلام سَمَّاه وَضُوءًا، وهو قول كثير من أهل العلم، ومذهب الإمام أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو القياس.
قال الشيخ تقي الدِّين: وعليه يدل الكتاب والسنَّة والاعتبار.
5 -
إذا وُجدَ الماء، بَطُلَ التيمُّم؛ فيجب على المسلم العُدُولُ عن التيمُّم إلى استعمال الماء، لما يُسْتَقْبَلُ من العبادات التي مِنْ شرطها الطهارة؛ وذلك أنَّ وجود الماء يرفع استصحاب الطهارة التي كانت بالتراب، كما هو المفهوم من الحديث.
6 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "عشر سنين" ليس توقيتًا لنهاية مدَّه التيمم، وإنَّما مثالٌ لطول المدَّة.
7 -
إذا وجد المتيمِّم الماء، وجب عليه أنْ يُمِسَّهُ بشرفه للمستقبل من الصلاة، ونحوها من العبادات؛ لأنَّ الله تعالى جعله قائمًا مَقَامَ الماء، فلا يخرجُ عنه إلَاّ بالدليل.
8 -
قال شيخ الإسلام: التيمُّمُ يقومُ مقام الماء مطلقًا، ويبقى بعد الوقت كما تبقى
طهارةُ الماء بعده، وهذا القولُ هو الصحيح؛ وعليه يدل الكتاب والسنَّة.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء هل التيمُّم يرفع الحدث أو لا يرفعه؟:
فذهب الحنابلة وغيرهم: إلى أنَّه مبيحٌ لا رافعٌ.
واستدلُّوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا وجد الماء، فليتق الله وَلْيُمِسَّه بشرته" وقالوا: إنَّ هذا دليل على أنَّ المتيمِّم إذا وجد الماء، وجب عليه إمساسه بشرته، لما سلف من جنابة عليه؛ فإنَّ التيمُّم لم يرفع حدثه، وإنَّما أباح له فعل ما شُرِعَتِ الطهارة له، وأمَّا الحدثُ فباقٍ عليه.
وذهب بعضهم، ومنهم الحنفية: إلى أنَّ التيمُّم قائم مقام الماء في كلِّ أحواله، وأنَّه بدَلٌ عنه، والبدل له حكم المُبْدَلِ منه؛ وبناءً عليه: فهو رافعٌ للحدث من الجنابة، فيصلِّي به ما شاء من الأوقات، فإذا وجد الماء بطل تيمُّمه لما يستقبله من عبادة؛ لأنَّ الله تعالى جعله بدلًا من الماء، فحُكْمُه حُكْمُه.
ومن أجل هذا قال شيخ الإسلام: إنَّ الخلاف بينهما خلافٌ لفظي؛ ذلك أنَّ الَّذين قالوا: لا يرفع الحدث، لم يوجبوا عليه الإعادة عند القدرة على استعمال الماء، والَّذين قالوا: يرفع الحدث، إنَّما قالوا: يرفعه رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، وقد ثبت بالنص والإجماع: أنَّ التيمُّم يبطل بالقدرة على استعمال الماء.
***
112 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءً، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ، وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ؟ فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ، وَقَالَ لِلْآخَرِ: لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث اختلف العلماء في وصله وإرساله، والصواب أنَّه مرسل.
فقال في التلخيص: رواه أبو داود، والدَّارمي (1/ 207)، والحاكم (1/ 286)، والدَّارقطني (1/ 188) موصولاً، ورواه النسائي (433)، وابن المبارك، والطبراني في الأوسط (8/ 48) مرسلاً.
وقال موسى بن هارون: رفعه وهمٌ؛ فإنَّ ابن نافع يدوِّن عن عطاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.
وله شاهدٌ مرفوعٌ عن ابن عبَّاسٍ، إلَاّ أنَّ فيه ابن لهيعة، وهو ضعيفٌ لسوء حفظه.
* مفردات الحديث:
- فحضرت الصلاة: دخل وقتها.
- صعيدًا: الصعيد: وجه الأرض.
(1) أبو داود (338)، النسائي (433).
- طيباً: طهورًا مباحًا.
- أصبتَ السُّنَّة: الطريقةَ الشرعية، أي: فِعْلُكَ صحيحٌ، موافقٌ للطريقة الشرعية التي سنَّها النَّبي صلى الله عليه وسلم.
- أجزأتك: يقال: أجزأه إجزاءً: إذا كفاه وأغناه، والمعنى: كفتك صلاتك.
- لك الأجر مرَّتين: أجرٌ للصلاة الأولى، وأَجْرٌ للصلاة الثانية، ولكنَّ إصابة السنَّة أفضلُ من ذلك.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعيَّة التيمُّم، واستقرارُ أمره لدى المسلمين في عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
فَقْدُ الماء هو أحدُ عُذْرَيِ الطهارة بالتيمُّم؛ كما قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
3 -
جوازُ التيمُّم على ما تصاعد على وجه الأرض من أي تربة كانت، وعلى أي شيء طاهر على ظهر الأرض؛ لعموم الحديث، وعدم تخصيصه بشيء.
4 -
لابد من طهارةِ ما يُتيَمَّمُ به مِنْ ترابٍ أو متاع، فلا يصحُّ التيمُّم بنجس؛ لقوله:{صَعِيدًا طَيِّبًا} .
5 -
أنَّ مَنْ صَلَّى بالتيمم عادمًا للماء، ثمَّ وجده بعد الصلاة، لم يعدها، فقد أجزأته صلاتُهُ وأصابَ السُّنَّة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا وجد الماء، فليتق الله ولْيُمِسَّه بشرته" فهذا عامٌّ فيما قبل الصلاة الحاضرة ولما بعدها، إلَاّ أنَّه إن كان قد صلَّى بالتيمم عادمًا للماء، فصلاته صحيحة ولا يعيدها، ويبقى إمساسُ البشرة بالماء لما يستقبل من العبادات التي يشترط لصحتها الطهارة.
6 -
أمَّا المعيد فله أجران: أجر الصلاة بالتيمُّم، وأجر الصلاة بالماء، ولكنَّ إصابةَ السُّنَّةِ أفضلُ من الإعادة.
7 -
جوازُ الاجتهاد في مسائل العلم في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ أرجحَ الأقوال: أنَّ
الاجتهاد لا يكون في زمنه إلَاّ في حالِ غيبتِهِ، وبُعْدِهِ عن مكان المستفتي.
8 -
اختلَفَ العلماء في جواز التيمُّم بجميع ما تصاعد على وجه الأرض:
فذهب الإمامان الشَّافعي وأحمد: إلى أنَّه لا يصح التيمُّم إلَاّ بتراب له غبار؛ واحتجا بقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، وما ليس له غبار لا يَعْلَقُ باليد منه شيء، فلا يجوزُ التيمُّم به؛ كما احتجا بما رواه مسلم من حديث حذيفة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"وجعلت لنا الأرضُ مسجدًا، وجُعلت تربتها لنا طهورًا".
وذهب الإمامان أبو حنيفة، ومالك: إلى جواز التيمُّم بكلِّ ما تصاعد على وجه الأرض، سواءٌ كانت ذاتَ غبار أو غير ذات غبار؛ كالرمل، والحصى، والسباخ، والرطب، واليابس، ومحروق، وحجر، وحشيش، وشجر، وعلى ما عليها من فرش، وحيوان، وغير ذلك، فلا يستثنيان شيئًا ممَّا على وجه الأرض.
وذهب إلى هذا الأوزاعيُّ، وسفيان الثوري.
قال النووي: وهو وجهٌ لبعض أصحابنا.
وهو الروايةُ الأخرى عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام، وابن القيم، واستظهرها ابن مفلح في الفروع، وصوَّبها في الإنصاف؛ لقوله تعالي:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".
فعموم النصوص تفيدُ جوازَ التيمُّم بجميعِ ما تصاعَدَ على وجه الأرض.
***
113 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، قَالَ:"إِذَا كَانَتْ بِالرَّجُلِ الْجِرَاحَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْقُرُوحُ فَيُجْنِبُ، فَيَخَافُ أَنْ يَمُوتَ إِنْ اِغْتَسَلَ، تَيَمَّمَ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْقُوفًا، وَرَفَعَهُ الْبَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث موقوف.
قال الحافظُ في التلخيص: الصوابُ وقفه، قلت: والصوابُ: أنَّ له حكم الرفع؛ لأنَّ هذا ممَّا لا مجال للرَّأي والاجتهاد فيه، وقال البزَّار: لا نعلم أحدًا رفعه عن عطاء من الثقات إلَاّ جرير بن حازم، وقال أحمد، وابن معين، والعقيلي: إنَّ جريرًا سمع من عطاء بعد اختلاطه؛ ولذا لا يصح رفعه.
* مفردات الحديث:
- الجراحة: الجُرْحُ: هو الشَّقُّ في البدن، جمع الجُرْحِ: جروح، وجمع الجريح: جَرْحَى.
- مرضى: جمعُ مريض، قال القرطبي: المرَضُ: عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال. أهـ. والمراد هنا: المرض الذي يخشى معه التضرُّر من استعمال الماء.
- أو على سفر: "أو" حرف عطف، والجار والمجرور متعلِّق بمحذوف، معطوف على خبر "كنتم"، وهو قوله:"مرضى".
- القروح: جمع قرح، وهي: الجروح والشقوق من أثر السلاح، ومن مرض،
(1) ابن خزيمة (1/ 138)، الدَّارقطني (1/ 177) والحاكم (1/ 165).
كالبثور التي تخرج في البدن.
- يُجْنِب: بضم أوله، من أجنب، أي: صار جنبًا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تفسير ابن عبَّاس للآية بأنَّ من به قروحٌ، مثالٌ للضرر المبيح للتيمُّم، وإلَاّ فكلُّ مرض يبيحُ التيمُّم، ولو لم يصل استعمال الماء إلى الموت، وإنَّما يصل إلى الضرر فقط.
2 -
قال العلماء: مَنْ خاف باستعمالِ الماء ضَرَرَ بدنه مِنْ مرض يخشى زيادته، أو بُطْءَ بُرْئه، أو بقاءَ أثره، ونحو ذلك، فإنَّه يعدل عن استعمال الماء في الوضوء، أو الغسل، إلى التيمُّم حتَّى يبرأ.
أمَّا العذر بعدم الماء: فقد تقدَّم في أحاديث جابر، وعمَّار، وأبي هريرة، وأبي سعيد.
3 -
أنَّ السفر غالبًا يكون معه العذر إلى التيمُّم، ذلك أنَّهم كانوا ما يحملون معهم في سفرهم إلَاّ القليل من الماء، الَّذي يكونُ بقدر شربهم، وإصلاح طعامهم، فيتيمَّمون لصلاتهم؛ ولكن السفر نفسه ليس مبيحًا للتيمُّم؛ فلا يجوز للمسافر الَّذي يجدُ الماء، ولا يخاف الضرر باستعماله: أنْ يتيمَّم، بل يجبُ عليه الوضوءُ للصلاة، ولا يَحِلُّ له أنْ يصلِّي بطهارة تيمُّم.
***
114 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: "انْكَسَرَتْ إِحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ وَاهٍ جِدًّا (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال المؤلِّف في التلخيص: رواه ابن ماجه، والدَّارقطني (1/ 226)، وفي إسناده الواسطيّ، وهو كذاب، قال المروزي: سألت أحمد عنه؟ فقال: باطل ليس بشيء.
قال البغوي، والنووي: اتفق الحفَّاظ على ضعف هذا الحديث، وفي معناه أحاديث أُخر، قال البيهقي: لا يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيءٌ، وأصح ما فيه حديث جابر، بل صحَّحه ابن السكن، وسيأتي بعد هذا الحديث؛ فيكون عاضدًا لهذا، وصحَّح البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه توضَّأ وكفُّه معصوبة، فمسَحَ عليها وعلى العصابة، وغسَلَ ما سوى ذلك.
* مفردات الحديث:
- زَنْدَيّ: بفتح الزاء المعجمة، وسكون النون، ثُمَّ دال مهملة مفتوحة، وآخره ياء مشدَّدة مثناة تحتية: تثنية زند، الزندان: هما الساعد والذراع، فالأعلى منهما هو الساعد، والأسفل منهما هو الذراع، وطرفهما الذي يلي الإبهام هو الكُوع، والَّذي يلي الخنصر هو الكُرْسُوع، والرُّسْغ -بالغين المعجمة- مجتمع الزندين من أسفل، والمرفق: مجتمعهما من أعلى.
(1) ابن ماجه (657).
- الجبائر: جمع جبيرة، وهي ما يُجْبَرُ به العظمُ المكسور، من خرقة تُلَفَّ عليه، أو أعوادٍ تُشَدُّ عليه، أو غير ذلك.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فيه مشروعية المسح على الجبيرة، والجبيرةُ: كلُّ ما وضع على كسر أو جرح من أخشاب أو جبس أو خِرَق أو غير ذلك، تربط على الكسر أو الجرح.
2 -
المسحُ على الجبيرة يخالفُ المسحَ على الخفَّيْنِ وعلى العمامة والخمار ببعض الأحكام، وقد تقدَّمت في باب المسح على الخفين، ونعيدها هنا وهي:
(أ) يمسحُ على الجبيرة بالحدَثَيْنِ الأكبر والأصغر؛ بخلاف الخف والعمامة والخمار: ففي الأصغر فقط.
(ب) أنَّ مسح الجبيرة يمتد حتَّى يبرأ الجرح أو الكسر؛ بخلاف الخف ونحوه: فالمسح يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيَّام ولياليها للمسافر.
(ج) أنَّه يمسح على الجبيرة كلِّها، عند المالكية والشافعية والحنابلة، وقال الحنفية: يكفي مسح أكثرها؛ بخلاف الخف والعمامة والخمار: فعلى بعضه، وتقدَّمت صفته.
(د) الصحيح من قولي العلماء: أنَّه لا يشترط في الجبيرة ربطها على طهارة؛ بخلاف الخف والعمامة والخمار.
هذه أهم الأحكام التي تفارق الجبيرةُ فيها كلَّ واحد من الخفين والعمامة والخمار، وهي راجعةٌ إلى أنَّ مسح الجبيرة مَسْحُ ضرورة، لا يمكنُ قياسها على الخفين، وأمَّا ما عداهما فمسحُهُ رخصةٌ وسهولةٌ وتيسير.
3 -
هذا الحديثُ والَّذي بعده مِنْ أدلَّةِ مشروعية المسح على الجبيرة، وسماحةِ أحكامِ الشريعة.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في التيمم عمَّا تحت الجبيرة:
فذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد: إلى الاكتفاء بالمسح؛ فلا يجب التيمُّم معه.
وذهب الإمام الشافعي: إلى التيمُّم عمَّا تحت الجبيرة، مع المسح عليها.
والقولُ الأوَّل أصحُّ؛ إذ لا يجمع بين مبدل ومبدل منه.
ولعلَّ القول بمذهب الشَّافعي هو الذي حمَلَ المؤلِّف على ذكر هذا الحديث هنا.
***
115 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه فِي الرَّجُلِ الَّذِي شُجَّ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ عَلَى رُوَاتِهِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
رواه أبو داود (336) وابن ماجه (572)، وقد تفرَّد به الزبير بن خريق.
قال الدَّارقطني: وليس بالقوي، وخالفه الأوزاعي؛ فرواه عن عطاء، عن ابن عباس، وهو الصواب، وقال الدراقطني: اختلف فيه على الأوزاعي، والصواب: أنَّ الأوزاعي أرسل آخره عن عطاء، قال أبو زرعة وأبو حاتم: الأوزاعي لم يسمع هذا الحديث عن عطاء، وإنَّما سمعه من إسماعيل بن مسلم، عن عطاء.
* مفردات الحديث:
- شُجَّ: بضم الشين المعجمة، مبني للمجهول من شجَّهُ يَشِجُّهُ بكسر الشين وضمها، والشجة: هي الجرحُ في الرأس والوجه خاصَّة.
- يعصب: يشدُّ العصابة على رأسه، والعصابةُ: هي العمامة.
- خرقة: بكسر الخاء، وسكون الرَّاء: القطعة من الثوب الممزَّق.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قصة الحديث: قال جابر: خَرَجْنا في سفر، فأصاب رجلًا منَّا حجرٌ فشجَّه
(1) أبو داود (336).
في رأسه، ثمَّ احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصةً في التيمُّم؟ قالوا: لا، ما نجدُ لك رخصةً وأنت تَقْدِرُ على الماء، فاغتسَلَ فمات، فلمَّا قدمنا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أُخْبِر بذلك؟ فقال:"قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذْ لم يعلموا؛ فإنَّما شفاء العي السؤالُ؛ إنَّما كان يكفيه أنْ يتيمَّم، ويعصب على جرحه خرقة، ثمَّ يمسح عليها، ويغسل سائر جسده".
2 -
هذا الحديثُ يوافقُ القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} ولا يخالفُ صحيح سُنَّة في جواز المسح على الكسور والجروح، وإنَّما الحديث ضعيف؛ فقد ضعَّفه البيهقي، وقال: لا يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، وضعَّفه الحافظ هنا فقال: رواه أبو داود بسندٍ ضعيف، ولكن كما تقدَّم له ما يَعْضُدُهُ.
3 -
يدل الحديث على مشروعية المسح على الجبيرة، سواءٌ كانت على جرح أو كسر، وهي عزيمةٌ وليست رخصة.
4 -
أنَّ الواجب المسحُ على كلِّ الجبيرةٍ، وليس على بعضها؛ كالخفين.
5 -
غسلُ بقيَّة بدنه الَّذي لم تصبه الجراح؛ ولذا قال بعض العلماء: إنَّه قد يجتمع في الجبيرة على العضو الواحد ثلاثة أمور: غسلٌ ومسحٌ وتيمُّم، فالغسل للبارز من العضو، والمسح لما فوق الجرح من جبيرة، والتيمُّم لما غطته الجبائر من الصحيح الَّذي تعدَّى قدر حاجة الربط، ويخشى الضرر بنزعه، ولعلَّ هذا هو المرادُ من الحديث الَّذي جَمَعَ التيمُّم والمسح والغسل، وهذا على القول الرَّاجح من أنَّ ما تحت الجبيرة لا يتيمَّم عنه بل يمسح فقط؛ كما هو مذهبُ الجمهور الذي بينَّاه في الحديث السَّابق.
***
116 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "مِنْ السُّنَّةِ: أَنْ لَا يُصَلِّيَ الرَّجُلُ بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا صَلَاةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلصَّلَاةِ الْأُخْرَى" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال المؤلِّفُ: رواه الدَّارقطني بإسنادٍ ضعيف جدًّا؛ لأنَّه من رواية الحسن ابن عمارة، وهو ضعيف جدًا، وفي الباب موقوفاً عن علي رواه الدَّارقطني، وفيه حجَّاج بن أرطأة والحارث الأعور، وعن ابن عمر رواه البيهقي، وقال: هو أصح ما في الباب، وعن عمرو بن العاص رواه الدَّارقطني، وفيه إرسال شديد بين قتادة وعمرو.
* مفردات الحديث:
- من السُّنَّة: يعني: سنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فله حكم الرفع.
- إلَاّ صلاةً: المستثنى هنا منصوب على أنَّه مفعول به؛ لأنَّ الفعل واقعٌ عليه، فهو مستثنى من كلام ناقص منفي.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
إذا قال الصحابي: من السنَّة كذا؛ فالحديث له حكم الرفع؛ لأنَّهم لا يريدون بالسنَّة إلَاّ سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
لا يجوز للمتيمِّم أنْ يصلِّي بالتيمُّم الواحد إلَاّ صلاةً واحدة، هذا هو ما يفهم من هذا الحديث، وسيأتي تحقيقُ المسألة قريبًا، إنْ شاء الله تعالى.
(1) الدَّارقطني (1/ 185).
3 -
يجب على المتيمِّم أنْ يتيمَّم للصلاة الأُخرى تيمُّمًا آخر.
4 -
عمومُهُ يفيد وجوب التيمُّمِ للصلاة الأخرى، سواءٌ كانت الصلاتان في وقتٍ واحدٍ، أو كل واحدةٍ منهما في وقت.
5 -
من يرى هذا الرَّأي يعلَّل بأنَّ طهارة التيمُّم إنَّما هي طهارةُ ضرورة، أُبيحَتْ بها العبادةُ فقطْ، وإلا فليستْ رافعةً للحديث كالوضوء بالماء.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء هل التيمُّم يرفع الحدث كالماء، أم أنَّه مبيح للصلاة ونحوها إلى حين القدرة على الماء، وأمَّا الحدث فقائمٌ بحاله؟:
وذهب إلى أنَّه رافع مطلقًا: أبو حنيفة؛ وهو رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام، وابن الجوزي.
وذهب مالك، والشَّافعي، وأحمد في المشهور عنه: إلى أنَّه غير رافع بل مبيح فقط؛ ولذا يجبُ أنْ يتيمَّم لوقت كلِّ صلاة؛ فإنَّ تيمُّمه يبطُلُ بدخول وقت الثانية. والصحيحُ دليلًا هو القولُ الأوَّل.
قال في الشرح الكبير: القياسُ أنَّ التيمُّم بمنزلة الطهارة حتَّى يجد الماء أو يُحْدِث؛ وهو مذهب سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي؛ لأنَّها طهارة تبيح الصلاة، فلم تقدَّر بالوقت كطهارة الماء. أهـ.
قال الإمام أحمد: القياسُ أنَّ التيمُّم بمنزلة الطهارة حتَّى يجد الماء.
قال في الإنصاف: اختاره الشيخ؛ وهو أصحُّ.
أمَّا الحديث الذي معنا فضعيفٌ، قال الحافظ: رواه الدَّارقطنىُّ بإسنادٍ ضعيف جدًّا.
لذا فإنَّ الصحيحَ هو أنَّ المتيمِّم يصلِّي بالتيمُّم الواحد ما شاء من فروض ونوافل، ويستبيحُ به كلَّ ما يستبيحُ بطهارة الماء، حتَّى يجدَ الماء، أو يحصُلَ له ناقضٌ من نواقض الوضوء.