الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الوضوء
مقدمة
الوضوء لغةً: بضم الواو: مصدر هو الفعل، مأخوذٌ من الوضاءة، وهي النظافة والحُسْن؛ وأمَّا بالفتح: فالماء الذي يُتوضأ به.
قال النووي: بالضم: إذا أُريد الفعل الذي هو المصدر، وبالفتح: إذا أُريد الماء.
وشرعًا: استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة، على صفةٍ مخصوصة في الشرع، بأنْ يأتي بها مرتَّبة متوالية.
وهو ثابتٌ بالكتاب والسنَّة والإجماع: فالكتاب: آية المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية.
والأحاديث فيه قولاً وفعلاً وتقريرًا كثيرة.
وأجمع العلماء: على أنَّ الطهارة من الحدث شرطٌ لصحَّة الصلاة.
ما يعرف من حِكمة الوضوء:
جوهر الصلاة وروحها هو أنْ يتصوَّر العبد أنَّه أمام الله تعالى، ولكي يتهيأ ذهنه لذلك، ويتخلَّص من شواغل الحياة، فُرِض الوضوءُ قبل القيام بالعبادة؛ لكون الوضوء آله هادئة لتنبيه ذهنه المستَغْرِقِ في أعمال الحياة إلى أداء الصلاة.
فإنَّ المستغرق بفكره في أعمال تجارته أو صناعته ونحوهما، لو قيل له: قم للعبادة، لوجد صعوبة في تأديتها، وهنا كانت حكمة الوضوء؛ لأنَّه يساعد على ترك التفكير الأوَّل، ويعطيه الوقت الكافي ليبدأ في تفكيرٍ عميقٍ من نوع آخر.
وبالجملة: فللنَّفْسِ انتقالٌ واقعيٌّ، وتنبيه من خصلة إلى خصلة، هو
العمدة في المعالجات النفسية، وإنَّما يحصل هذا التنبيه بمراكز في صميم طبائعهم وجذور نفوسهم.
وتقتصر الطهارة الصغرى على غسل الأطراف التي جرت العادة بانكشافها وخروجِهَا من اللباس، فتسرع إليها الأوساخ، كما جرت العادة بنظافتها عند الأعمال النظيفة، وعند الدخول على الكبراء، وتقابُلِ النَّاس بعضهم ببعض.
كما أنَّ غسل هذه الأعضاء الأربعة فيه تنبيه للنَّفس من النوم والكسل.
قال شيخ الإِسلام: جاءت السنَّة باجتناب الخبائث الجسمانية والتطهُّر منها، وكذلك جاءت باجتناب الخبائث الروحانية والتطهُّر منها؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم:"إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليستنثر ثلاثًا؛ فإنَّ الشيطان يبيت على خيشومه"، وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا قام أحدكم من نوم الليل، فلا يغمس يده حتَّى يغسلها ثلاثًا؛ فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده"؛ فعلَّل الأمر بالاستنشاق بمبيت الشيطان على خيشومه؛ فعلم أنَّ ذلك سبب الطهارة من غير النجاسة الظاهرة.
والوضوء من أهم شروط الصلاة؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: "إنَّ الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتَّى يتوضأ"، ولما روى مسلم:"الوضوء شطر الإيمان"، ونزلت فريضته من السماء في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية.
واختلف العلماء هل فرض في مكَّة أو في المدينة؟ والمحققون: على أنَّه فرض بالمدينة؛ لعدم النص النَّاهض على خلافه.
قال شيخ الإسلام: الوضوء من خصائص هذه الأمَّة؛ كما جاءت به الأحاديث الصحيحة: "إنَّهم يُبْعَثُون يوم القِيامَةِ غُرًّا محجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوضوء"، وأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته بهذه السيماء؛ فدلَّ على أنَّه لا يشاركهم فيها غيرهم. وأمَّا ما رواه ابن ماجه:"أنَّ جبريل علَّم النَّبي صلى الله عليه وسلم الوضوء" زاد عليه أحمد وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي"، فضعيفٌ لا يحتج به.
29 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَة، وَذَكَرَهُ البُخَارِيُّ تَعْلِيْقًا (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
هذا الحديث رواه البخاري (887)، ومسلم (252)، من حديث أبي هريرة؛ لكن بلفظ:"مع كلِّ صلاة".
قال ابن منده: إسناده مجمع على صحته، وفي معناه عدَّة أحاديث عن عدَّة من الصحابة: عن علي، وزيد بن خالد، وأم حبيبة، وعبد الله بن عمرو، وسهل بن سعد، وجابر، وأنس، وأبي أيوب، وابن عبَّاس، وعائشة.
قال ابن الملقن في البدر المنير: قد ذكر في السواك زيادة عن مائة حديث.
وأمَّا رواية: "مع كلِّ وضوء" فقد أخرجها مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن حميد، عن أبي هريرة، وأخرجها عنه: أحمد، والنسائي، وسندها صحيح.
قال ابن عبد الهادي في المحرَّر: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أنْ أشقَّ على أُمَّتي، لأمرتهم بالسواك مع كلِّ وضوء"، رواته كلهم أئمة أثبات.
* مفردات الحديث:
- لولا: حرف شرط وابتداء، وهي كلمة لربط امتناع الثانية لوجود الأولى،
(1) مالك (148)، أحمد (7364)، النسائي (2/ 197)، ابن خزيمة (748).
والمعنى هنا لولا مخافةُ أنْ أشق على أُمَّتي، لأمرتهم أمر إيجاب، وهي مركَّبة من "لو" الدَّالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، و"لا" النَّافية؛ فدلَّ الحديث على انتفاء الأمر لثبوت المشقَّة، ولابُدَّ لها من جواب مذكور، أو مقدَّر إذا دلَّ عليه دليل، ولا تكثر اللَّام في جوابها.
- أنْ: مصدرية، هي وما دخلت عليه في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: لولا مخافة المشقَّة على أمَّتي، ويجوز أنْ يكون مرفوعًا بفعلٍ محذوف، والتقدير: لولا خيفت المشقَّة.
- أشق: الشِّقُّ، بكسر الشين: الجهد والمشقَّة، {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)} .
- لأمرتهم: جواب لولا.
- بالسواك: بكسر السِّين، وفتح الواو، بعدها ألف، فكاف، أي: باستعمال السواك؛ لأنَّ السِّواك آلة، وسيأتي بيانه في موضعه، إِنْ شاء الله تعالى.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تأكد استحباب السواك مع كلِّ وضوءٍ، وأنَّ ثوابه قريبٌ من ثواب الواجبات.
2 -
أنَّ السِّواك عند الوضوء وعند غيره من العبادات ليس بواجب، فقد منعه صلى الله عليه وسلم من إيجابه على أُمَّته مخافة مشقتهم.
3 -
أنَّ الذي منع الأمر بوجوبه هو خشية عدم القيام به، ممّا يترتَّب عليه الإثمُ بتركه.
4 -
هذا الحديث الشريف من أدلَّة القاعدة الكبرى: "المشقَّة تجلب التيسير"؛ فخشية المشقَّة سبب عدم فرضيته.
5 -
كثير من العبادات الفاضلة يترك النَّبي صلى الله عليه وسلم فعلها مع أمته، أو أَمْرَهُمْ بها، خشيةَ فرضها عليها؛ وذلك مثل صلاة الليل في رمضان جماعة، والسواك، وتأخير صلاة العشاء إلى وقتها الفاضل؛ كل ذلك شفقةً على أمته ورحمةً
بهم وخوفًا عليهم، وهذا من خُلُقِهِ الكريم الذي وصفه الله تعالى بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)}
6 -
سعة هذه الشريعة وسماحتها، ومسايرتها للحالة البشرية الضعيفة؛ قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
7 -
هذا الحديث العظيم دليلٌ على القاعدة الشرعية، وهي:"درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح"؛ فمفسدة الوقوع بالإثم من ترك الواجب، مَنَعَتْ من مصلحة وجوب السِّواك عند كل وضوء.
8 -
قال ابن دقيق العيد: السر أنا مأمورون في كلِّ حالةٍ من أحوال التقرُّب إلى الله عز وجل، أنْ نكون في حالة كمال النظافة؛ لإظهار شرف العبادة.
وقيل: إن ذلك الأمر يتعلق بالمَلَكِ، فإنَّه يتأذى بالرائحة الكريهة.
قال الصنعاني: ولا يبعد أن السر مجموع الأمرين المذكورين؛ لما روى البخاري (854)، ومسلم (564) من حديث جابر مرفوعًا:"من أكل الثوم أو البصل أو الكراث، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم".
9 -
فحوى الحديث يدل على تعيين وقت السواك في الوضوء، وعند المضمضة.
10 -
المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لا يجزىء في السِّواك إلَاّ استعمال العود، والرَّاجح: أنَّه يُجزىء بغيره من أصبع وخرقة وغيرهما؛ ولذا قال الموفق والنووي: يجزىء بأي شيءٍ يزيل التغير.
11 -
يدل الحديث على قاعدة أصولية، وهي: أن الأمر المطلق يفيد الوجوب، ووجهه: أنَّه لو كان الأمر يفيد الاستحباب، لما امتنع صلى الله عليه وسلم من أمرهم بالسواك؛ ولكن ما يقتضيه الأمر، وما يفهمه الصحابة والعلماء من الأمرِ المجرَّدِ عن قرينة صارفة، هو الوجوب، وهو الذي منعه من أمرهم بالسواك.
12 -
إذا تعارضت الأدلة الشرعية بين الوجوب والاستحباب، أو بين التحريم والكراهة، وليس هناك أصلٌ يُبنى عليه -فإنَّ طبيعة الشريعة السمحة ومنهجها بالتخفيف على العباد، وورود النصوص العامَّة فيها، تجعل الأخذ بأيسر القولَيْنِ وأبعدهما عن التحريم والوجوب أقرَبَ وأرجَحَ؛ فقد جاء في الصحيحين:"أنَّه صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلَاّ اختار أيسرهما".
* خلاف العلماء:
عموم الحديث يفيد استحباب السِّواك كُلَّ وقت للصائم وغيره، أوَّل النَّهار وآخره، ولا يوجد دليلٌ يخصِّص هذا العموم بالفطر، إلَاّ قوله صلى الله عليه وسلم:"لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك"[رواه البخاري (5927) ومسلم (1151)]، وهذا ليس فيه صريح الدلالة، فإنَّ الخلوف ينشأ من خلو المعدة من الطعام، وليس من الفم.
وأمَّا حديث: "إذا صمتم، فاستاكوا في الغداة، ولا تستاكوا بالعشي" فضعيف، وهو معارَضٌ بالأحاديث التي منها ما رواه أحمد (1525) والترمذي (721) وحسَّنه، وعلَّقه البخاري، من حديث كعب بن مالك، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوَّك وهو صائم"، ولم يقيده بوقتٍ دون آخر.
وممَّن قال باستحباب السِّواك مطلقًا: الإمامان أبو حنيفة ومالك، واختاره الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية، قال في الفروع: وهو أظهر.
أمّا من كرهه للصائم بعد الزوال: فهما الإمامان الشَّافعي وأحمد وأتباعهما وإسحاق، استدلالاً بحديث:"إذا صمتم فاستاكوا في الغداة، ولا تستاكوا في المساء"، ولكنَّه حديثٌ ضعيف كما تقدَّم. واستدلوا بحديثٍ صحيح وهو:"لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، ولكن لا دلالة فيه؛ لأنَّ السواك لا يزيل الخلوف؛ لأنَّ مصدره المعدة، وليس مصدره الفم.
30 -
وَعَنْ حُمْرَانَ: "أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- دعا: بمعنى: طلب الوَضُوء.
وضوء: بفتح الواو: اسمٌ للماء الذي يُتوضَّأ به، وأمَّا بالضم: فاسمٌ للفعل.
- كفيه: تثنية كف، والكف هي الرَّاحة مع الأصابع، مؤنث، جمعه كفوف وَأَكُفُّ، وحدُّها: مفصل الذراع، سُمِّيت كَفًّا؛ لأنَّ الإنسان يكف بها عن نفسه.
- تمضمض: المضمضة: "أنْ يجعل الماء في فمه، وكمالها أنْ يديره في فمه، ثمَّ يمجه أو يبلعه.
- وجهه: جمع الوجه: وجوه، وهو ما تحصُلُ به المواجهةُ، وهي المقابلة.
وحدُّه: من منابت شعر الرأس المعتاد إلى منتهى اللَّحْيَيْنِ طولاً، ومن الأُذُنِ إلى الأُذُنِ عرضًا، يؤخذ حده الشرعي من معناه اللغوي، حيث لم يجر له حَدٌّ في الشرع.
استنشق: يُقال: استنشق الماء يستنشقه استنشاقًا: أدخل الماء في أنفه وجذبه
(1) البخاري (1934)، مسلم (226).
لينزل ما فيه؛ فالاستنشاق: جذب الماء إلى داخل الأنف.
- استنثر: يُقال: نَثَرَ الشيء يَنْثُرُهُ نثرًا: رماه متفرِّقًا، ومنه إخراج ما في الأنف من مخاط وغيره بالماء؛ فالاستنثار: إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق.
قال ابن قتيبة وغيره: الاستنشاق والاستنثار واحد، وقال الكرماني: إنَّ هذا الحديث دليلٌ على قول من قالوا: إنَّ الاستنثار هو غير الاستنشاق، وهو الصواب، فالاستنشاق هو إدخال الماء داخل الأنف، والاستنثار: إخراج الماء منه.
- إلى: قال النحاة: "إلى" تأتي لانتهاء الغاية الزمانية والمكانية؛ فالزمالية مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، والمكانية مثل قوله تعالى:{مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} ، وهي هنا للغاية المكانية.
أمَّا ما بعد "إلى": فيجوز أنْ يكون جُزْءٌ منه، أو كله، داخلاً فيما قبلها، وجائز أنْ يكون غَيْرَ داخل، ويعرف دخول ذلك أو عدم دخوله بالقرينة، فإنْ لم يكن هناك قرينة تدل على دخوله أو خروجه: فإنْ كان من جنس ما قبلها، جاز أنْ يدخل وأنْ لا يدخل، وإِلَاّ فالغالب أنَّه لا يدخل.
وهي هنا داخلٌ ما بعدها فيما قبلها؛ لدلالة الأحاديث التي يأتي تفصيلها في فقه الحديث، إنْ شاء الله.
- المِرْفَق: بفتح الميم وكسر الفاء، وبالعكس، لغتان، هو موصل الذراع في العضد، جمعه: مرافق، وهما مرفقان، سُمِّيَ مرفقًا؛ لأنَّه يرتفق به في الاتكاء ونحوه، ويجوز فيه: فتح الميم والفاء؛ على أنْ يكون مصدرًا.
- إلى الكعبين: تثنية كعب: هما العظمان الناتئان عند ملتقى السَّاق بالقدم، لحديث النعمان بن بشير في صفة الصلاة:"فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه"[رواه أحمد (17962) والبيهقيُّ (1/ 76)].
- مسح برأسه: مسح يتعدَّى بنفسه؛ فالباء -هنا- زائدة مؤكِّدة أنَّ المسح هو لعموم الرأس، وليس لبعضه.
قال بعضهم: إنَّ الباء هنا للتبعيض.
وقال ابن جني: أهل اللغة لا يعرفون أنَّ الباء تأتي للتبعيض، وإِنَّما يُورِدُ هذا المعنى الفقهاء
قال النحاة: والإلصاق لا يفارق الباء في جميع معانيها؛ فتكون هنا مفيدة لهذا المعنى، ليكون المسح ظاهرًا فيها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الحديث جعله المؤلِّف -رحمه الله تعالى- أصلاً في بيان صفة وضوء النَّبي صلى الله عليه وسلم، وجعل ما بعده من الأحاديث والروايات مكمِّلات له.
2 -
ينبغي لمن يريد عبادة من العبادات -ومنها الوضوء والطهارة- أنْ يستعد لها بأدواتها؛ لئلا يحتاج إلى ذلك أثناء أدائها.
3 -
استحباب غسل اليدين ثلاثًا، قبل إدخالهما في ماء الوضوء عند الوضوء، وهو سنة بالإجماع؛ والدليل على أنَّ غسلهما سنة فقط: هو أنَّه لم يأت ذكر غسلهما في الآية، وفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم المجرَّد لا يدل على الوجوب، وإنَّما يدل على الاستحباب؛ وهذه قاعدة أصولية.
4 -
استحباب التيمُّن في تناول ماء الوضوء، لغسل الأعضاء؛ فتكون اليد اليمنى هي المتناولة له.
5 -
وجوب المضمضة والاستنشاق؛ فإنَّهما داخلان في مسمَّى الوجه، المنصوصِ على غسله في آية المائدة.
6 -
لم يقيد المضمضة والاستنشاق بثلاث، ولكن ما دمنا علمنا أنَّ الفم والأنف من مسمَّى الوجه، فيكفي في استحباب التثليث فيهما ما جاء في الوجه.
7 -
استحباب الاستنثار بعد الاستنشاق؛ قال العلماء: ويجوز بلعه.
8 -
استحباب التثليث في غسل الوجه، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل اليدين، والرجلين؛ فكل هذه الأعضاء يستحب التثليث فيها.
9 -
جوب غسل اليدين مع المرفقين.
10 -
وجوب مسح الرَّأس؛ قال شيخ الإِسلام: اتفق الأئمة على أنَّ السنَّة مسح جميع الرأس؛ كما ثبت بالأحاديث الصحيحة.
11 -
المسح مبني على التخفيف فلا يشرع تكريره، وإنَّما يقتصر فيه على مرَّة واحدة، يُقْبِلُ الماسح بيديه ثُمَّ يُدْبر؛ ليعم المسح جميع الرَّأس.
12 -
الأذنان من مسمَّى الرأس؛ ولذا فإنَّ المشروع أنْ يُمْسَحَا بماءِ الرَّأس، ولا يُؤْخَذ لهما ماء جديد غير ماء الرَّأس.
13 -
في الحديث التصريح بوجوب غسل الرجلين، والرد على من قال بمسحهما.
14 -
فيه وجوب ترتيب غسل الأعضاء والموالاة بينها.
15 -
ما جاء في هذا الحديث هو وضوء النَّبي صلى الله عليه وسلم الكامل.
16 -
ينبغي للمتوضىء ولكلِّ قائمٍ بعبادةٍ من العبادات، أنْ يستحضر عند فعلها ثلاثة أمور:
(أ) طاعة الله؛ لِتَعْظُمَ العبادة في قلبه.
(ب) التقرُّب إلى الله؛ ليصل إلى درجة المراقبة، فيحسن عبادته.
(ج) الاقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم؛ ليحصل على تحقيق المتابعة.
17 -
الحديث اشتمل على الواجبات والمستحبات، والذي ينبغي للمسلم أنْ يمتثل أمر الشرع، من دون نظر إلى أنَّ هذا واجب أو مستحب، وإنَّما يفعله امتثالاً لشرع الله تعالى، واقتداءً بنبيِّه صلى الله عليه وسلم، وطلبًا للأجر، ولا يأتي البحث عن الحُكْمِ إلَاّ عند تركه، لينظر هل ترك واجبًا أو مستحبًّا؛ وهذا في حقِّ المتعبد.
أمَّا البحث العلمي ومعرفة الأحكام، فيعرف هذا وهذا.
18 -
فيه التعليم بالقول والفعل، وهذا ما يُسمَّى في التربية: بوسائل الإيضاح، وهذا التعليم عن طريق السمع والبصر.
19 -
لم يصرِّح في هذا الحديث بالمضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة أو بأكثر، وقد يؤخذ منه الأول؛ لأنَّه ذكر تكرار غسل الوجه والكفين، وأطلق أخذ الماء للمضمضة والاستنشاق، وحديث عبد الله بن زيد يدل على أنهما من غرفة واحدة.
21 -
الاستنثار يكون باليد اليسرى، وليس في الحديث ما يقتضي أنَّه باليمين.
22 -
جواز الاستعانة بإحضار الطَّهُور.
23 -
المضمضة أصلها يشعر بالتحريك؛ فيدل على تحريك الماء في الفم.
* خلاف العلماء.
ذهب الأئمة الثلاثة وسفيان وغيرهم: إلى عدم وجوب المضمضة والاستنشاق، وأنَّهما مستحبان فقط.
ودليلهم: ما جاء في الحديث: "عشر من الفطرة
…
" [رواه مسلم (261)]، ومنها الاستنشاق، والسنَّة غير الواجب. وهذا الاستدلال ضعيفٌ جدًّا، فإنَّ السنَّة في الحديث هي الطريقة، لا أنَّها العمل الذي يُثاب فاعله ولا يعاقب تاركه؛ فإنَّ هذا الاصطلاح أصوليٌّ متأخِّرٌ.
كما استدلُّوا بآية المائدة، وهو استدلال فيه نظر؛ لأنَّ الفم والأنف من مسمَّى الوجه.
وذهب الإمام أحمد: إلى وجوب المضمضة والاستنشاق؛ وهو مذهب ابن أبي ليلى، وإسحاق، وغيرهما.
استدل الموجبون بأدلَّةٍ منها:
أوَّلاً: استمرار النَّبي صلى الله عليه وسلم على إتيانه بهما، وعدم إخلاله بذلك؛ ممَّا يدل على الوجوب، فلو كانا مستحبين، لتركهما ولو مرَّة لبيان الجواز، والفعل المقترن بالأمر دليل الوجوب، وقد أمر الله بهما بقوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فهما من الوجه داخلان في حدوده.
ثانيًا: حديث عائشة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابدَّ منه"؛ رواه أبو بكر في "الشَّافي".
ثالثًا: ما أخرجه مسلم (237) عن أبي هريرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم، فليستنشق بمنخريه من الماءِ، ثمَّ ليستنثر".
رابعًا: ما أخرجه أبو داود والدَّارقطني عن لَقِيطِ بن صبرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأت، فمضمض".
خامسًا: الأمر بغسل الوجه بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أمرٌ بغسلهما؛ فإنَّ الفم والأنف من الوجه؛ لأنَّهما عضوان ظاهران داخلان في مسمَّاه، كما تقدَّم.
فالأرجح صحَّة المذهب الأخير؛ لقوَّة أدلته، وعدم ما يعارضها.
31 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ، بَلْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي البَابِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
فقد أخرجه الثلاثة بإسنادٍ صحيح، وقال الترمذي: إنَّه أصح شيءٍ في الباب.
قال في المحرَّر: رواته صادقون مخرَّج لهم في الصحيح.
وأخرجه أبو داود من ست طرق.
وروي عن سلمة بن الأكوع، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس مثله، أي: مثل حديث علي.
قال الحافظ: وإسناده صالح.
* مفردات الحديث:
- مسح: يتعدَّى بنفسه؛ فالباء زائدة مؤكِّدةٌ أنَّ المسح إنَّما هو لعموم الرَّأس.
قال النحاة: والإلصاق لا يفارق الباء في جميع معانيها فتكون -هنا- لهذا المعنى.
…
(1) أبو داود (115)، الترمذي (32)، النسائي (92).
32 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنهما في صِفَةِ الْوُضُوءِ قَالَ: "وَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: "بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ". (1)
ــ
* مفردات الحديث:
- فأقبل بيديه وأدبر: فسَّر الإقبال باليدين والإدبار في الرواية الأخرى، بأنَّه بدأ من مقدم رأسه حتَّى ذهب بهما إلى قفاه، ثُمَّ ردَّهما إلى المكان الذي بدأ منه.
- بدأ: بدأتُ الشيءَ: ابتدأتُ به، وبدأتُ الشيءَ: فعلته ابتداءً، أما "بدا" بلا همزة في آخره، فمعناه: ظهر.
- ومقدم الرَّأس: ابتداؤه من منابت شعر الرَّأس المعتاد غالبًا.
- القفا: مقصور، وقد يمد، وهو مذكَّر، جمعه: أَقْفٍ وأقفية، وهو مؤخَّر العنق، والمراد هنا: أعلى مؤخَّر العنق.
…
(1) البخاري (185)، مسلم (235).
33 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما فِي صِفَةِ الْوُضُوْءِ قَالَ: "ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. (1)
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ. رواه أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، قال المنذري في تهذيب السنن: أخرجه النسائي (140) وابن ماجه (422).
وعمرو بن شعيب تَرَكَ الاحتجاجَ به جماعةٌ من الأئمة، قال ابن عدي: أحاديثه عن أبيه عن جدِّه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم اجتَنَبَها النَّاس، ولم يُدْخِلوها في الصحاح.
وقال أبو الحسن بن القطَّان: عمرو بن شعيب عندنا واهٍ. وقد وثَّقه بعضهم؛ قال العجلي: ثقة، وقال ابن معين وأحمد: رُبَّما احتججنا به، وقال البخاري: رأيت أحمد والحميدي وإسحاق يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه.
قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث صحيح على طريقة من يُصَحِّحون حديث عمرو بن شعيب؛ لأنَّ إسناده صحيح.
وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: عمرو بن شعيب ضعَّفه ناسٌ مطلقًا، ووثَّقه الجمهور، وضعَّف بعضهم روايته عن أبيه عن جدِّه.
وقال في التلخيص: جاء من طرق صحيحة، وقال ابن القيم: احتج بها الأئمة الأربعة.
(1) أبو داود (135)، النسائي (140).
قال محرِّره عفا الله عنه: والحديثُ له شواهدُ كثيرة، منها حديث المقدام بن معديكرب عند أحمد (16737) وأبي داود (121)، وحديث الربيِّع بنت معوِّذ عند أبي داود (129)، وحديث ابن عبَّاس عند النسائي (101)، وصححه الترمذي (36)، وبهذا فَمَسْحُ ظاهر الأُذنين وباطنهما بإبهاميه اعتضد بهذه الشواهد الجياد، والحمد لله.
* مفردات الحديث:
- إصبعيه: تثنية إصبع، الإِصبع مؤنثة، وكذلك سائر أسماء الأصابع، مثل الخنصر، وفي الإِصبع عشر لغات: إحداها بكسر الهمزة وفتح الباء، قال في المصباح: وهي التي ارتضاها الفصحاء.
والإصبع أحد أطراف الكف أو القدم، جمعه أصابع، والمراد هنا أطراف الكف، والمراد الأنملة، فهو مجاز من إطلاق الكلِّ على الجزء؛ كقوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} أي: أنامل أصابعهم.
- السباحتين: تثنية سباحة، هي الإِصبع التي بين الإبهام والوسطى، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّه يُشارَ بها عند تسبيح الله تعالى، والمراد الأنملة منها.
- ظاهر أُذُنَيْه: أي: أعلاهما، والجزء الظاهر منهما.
- أذنيه: تثنية أذن، عضو السمع في الإنسان والحيوان مؤنثة، والجمع آذان.
- إِبْهَامَيْهِ: تثنية الإبهام، تُذَكَّر وتُؤنَّث، جمعه بُهُم وأباهيم، والإبهام هي الإِصبع الغليظة الخامسة من أصابع اليد والرِّجل، وهي ذات أنملتين، وهي أنفع الأصابع، وأقربها إلى الرسغ.
* مَا يُؤْخذ من الأحاديث الثلاثة:
1 -
حديث عليٍّ رضي الله عنه يدل على أنَّ مسح الرأس مرَّة واحدة، وأنَّ المسح لا يُكَرَّر، كما يكرر الغسل؛ لأنَّ المسح أخف من الغسل، مخففٌ في كيفيته وفي كميته، ولعلَّ الحكمة الرَّبَّانيَّة في التخفيف في الرأس، من
كونه يمسح مسحًا ولا يغسل، وأن مسحه مرَّة واحدة فلا يكرر، هو التيسير على الأمة؛ فإنَّ الرَّأس موطن الشعر، فصَبُّ الماء عليه وتكريره، رُبَّما سبَّب أذيَّةً ومرضًا، فخفَّف الله تعالى عن عباده.
2 -
حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه يدل على صفة المسح، وهو أنْ يبدأ بمقدَّم رأسه، فيذهب بيديه إلى قفاه، ثمَّ يردَّها إلى المكان الذي بدأ منه، وتكون هذه الرواية مفسِّرة للرواية التي قبلها، من أنَّه "أقبل بيديه وأدبر"؛ فإنَّ معنى أقبل بيديه، أي: بدأ بهما من قِبَل الرَّأس، وأدبر أي: عاد بهما من دبره، والإقبال والإدبار باليدين يُعْتَبَرُ مسحةً واحدة لا مسحتين؛ لأنَّ شعر مقدَّم الرأس متجه إلى الوجه، ومؤخر الرَّأس متجه إلى القفا، فإذا بدأ بالمقدَّم مسح ظهور الشعر المقدَّم، وأصول الشعر المؤخَّر، وإذا أدبر بهما مسح ظهور الشعر المؤخَّر، وأصول الشعر المقدَّم؛ فالحكمة في الإقبال والإدبار مسح وجهي الشعر، قال بعضهم: هذا المسح يقيم النائم، وينيم القائم؛ فحصل مسحة واحدة لا مسحتان، وليست هذه الصفة واجبة، فعلى أي صفة مسح أجزأ.
3 -
قال ابن القيم في زاد لمعاد: الصحيح أنَّه لم يكرر صلى الله عليه وسلم مسح رأسه، بل كان إذا كرَّر غسل الأعضاء، أفرد مسح الرَّأس، ولم يصح عنه خلافه ألبتة.
4 -
وقال: كَان صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه كله، ولم يصح عنه في حديثٍ واحد، أنَّه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة.
5 -
قال العلماء: من لا شعر له أو حلق رأسه، فلا يستحب له الرد؛ لأنَّه لا فائدة فيه، وكذلك لا يستحب لمن له شعرٌ كثير مضفور، ويكون خرج مخرج الغالب.
6 -
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يدل على مسح الأُذُنين مع الرَّأس، وصفة مسحهما: أنْ يدخل أصبعيه السبَّاحتين في صماخي أذنيه، ويمسح بإبهاميه ظاهر أذنيه.
7 -
أنَّ مسح الأذنين منصوصٌ عليه في الآية الكريمة: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ذلك أنَّ الأُذنين داخلتان في مسمَّى الرأس شرعًا ولغةً وعرفًا، فالأمر بمسح الرَّأس في الآية أمرٌ بمسحهما؛ ولذا فالسنَّة أنْ تمسحا بماء الرَّأس، لا بماء جديد لهما.
8 -
الحكمة في تخصيص الأذنين بالمسح، هو كمال طهارتهما من ظاهرهما وباطنهما، ويستخرج منهما الذنوب التي اكتسبتها، كما تخرج الذنوب من سائر أعضاء الوضوء؛ فإنَّ الأذنين أداتا حاسَّة السمع، فيطهَّران طهارةً حسيَّة بمسحهما بالماء، وطهارة معنوية من الذنوب.
9 -
لمسلم (235) عن عبد الله بن زيد في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم: "ومسح رأسه بماء غير فضل يديه" وهذا هو المحفوظ، وأمَّا رواية البيهقي:"أنَّ عبد الله بن زيد رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم يأخذ لأُذنيه ماءً غير الماء الذي أخذه لرأسه فهي شاذة، وحديث: "الأذنان من الرأس" [رواه أبو داود (134) والترمذي (37)] وأقوال الصحابة أنَّه صلى الله عليه وسلم: "مسح رأسه وأذنيه مرَّة واحدة" دليلٌ على أنَّه عليه الصلاة والسلام كان يمسح رأسه وأذنيه بماءٍ واحد.
10 -
حد الرأس من منابت شعر الرأس المعتاد ممَّا يلي الجبهة، إلى مفصل الرأس من الرقبة، ومن الأذن إلى الأذن، ولا يمسح ما نزل من شعر الرأس أسفل من ذلك؛ لأنَّه قد تجاوز مكان الرأس من الإنسان.
11 -
ظهر الأذن هو ما يلي الرأس، أمَّا الغضاريف فهي من باطن الأذن.
* خلاف العلماء:
اتفق الأئمة على أنَّ مسح الرأس من فروض الوضوء، وعلى أنَّ المشروع مسحه جميعه، واختلفوا في وجوب مسحه كله:
فذهب أبو حنيفة والشافعي: إلى جواز مسح بعضه؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته.
وذهب الإمام مالك والإمام أحمد: إلى وجوب مسحه كله؛ كما ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة والحسنة.
قال شيخ الإِسلام: لم يُنْقَل عن أحدٍ أنَّه صلى الله عليه وسلم اقتصر على مسح بعض الرأس.
وقال ابن القيم: لم يصح عنه حديث واحد أنَّه اقتصر على مسح بعض الرأس ألبتة، وقال تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، والباء لا تدل على مسح البعض؛ لأنَّها للإلصاق، ومن ظنَّ أنَّها للتبعيض، فقد أخطأ على أئمة اللغة.
* تنبيه:
ورد في كيفية مسح الرَّأس عدَّة روايات منها:
1 -
حديث عليٍّ: "مسح برأسه مرَّةً واحدة"[رواه أبو داود (115) والترمذي (32)].
2 -
حديث عبد الله بن زيد: "فأقبل بيديه وأدبر"[رواه مسلم (235)].
3 -
الرواية الأخرى: "بدأ بمقدِّم رأسه حتَّى ذهب بهما إلى قفاه، ثمَّ ردهما إلى المكان الذي بدأ منه".
4 -
حديث الربيِّع بنت مُعَوِّذ: "مسح برأسه فبدأ بمؤخر رأسه ثمَّ بمقدمه"[رواه أبو داود (129)].
ويوجد أيضًا بعض الروايات الأُخر التي من أجلها قال الصنعاني: ويحمل اختلاف لفظ الأحاديث على تعدد الحالات.
قلت: تعدُّد الروايات يدل على جواز المسح على أي كيفية جاءت، وإنَّما مدار الوجوب هو تعميم الرأس بالمسح، واختيار أصح الرويات وأفضلها، لتكون الغالبة في الوضوء.
قال ابن القيم: لم يثبت أنَّه أخذ لأذنيه ماءً جديدًا.
قال الحافظ: المحفوظ أنَّه مسح رأسه بماء غير فضل يديه، والأُذنان من الرأس؛ كما ورد في الحديث.
واختار الشيخ: أنَّ الأذنين يمسحان بماء الرأس؛ وهو مذهب الجمهور.
34 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فليستنثر: "اللَّام" لامُ الأمر.
- استيقظ: انتبه من نومه من غير أنْ يُنَبَّه.
- منامه: أي: نومه؛ ومنه قوله تعالى عن إبراهيم: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ؛ كما يطلق على اسم الزمان المصوغ من الفعل؛ ليدل على زمان الحدث.
- الشيطان: قَالَ أهل اللغة: في الشيطان قولان:
أحدهما: أنَّه من "شطن": إذا بَعُدَ عن الحق؛ فتكون النون أصلية.
والقول الثاني: أن الياء أصلية والنون زائدة عكس الأوَّل، وهو من شاط يشيط: إذا هلك.
والشيطان: من مخلوقات الله شرِّيرٌ مفسد، واحد الشياطين، وهم عالم غيبي، الله أعلم بكيفية خلقهم، وهم من ذريَّة إبليس، وقد جعل الله لهم قدرة على التكيف والتشكل؛ لحكمةٍ أرادها جلَّ وعلا.
- يبيت: يُقال: بات يبيت بيتوتة، أي: أدركه الليل وقضاه، نام أو لم ينم.
- خيشومه: بفتح الخاء وسكون الياء وضم الشين، هو أعلى الأنف من داخله.
(1) البخاري (3295)، مسلم (238).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
بعض الروايات قيدت هذا الاستنثار عند الوضوءة فيكون هو المنصوص عليه مع الوضوء، وبعض الرويات أطلقته ولم تقيده، فالأولى الاستنثار ثلاثًا، إنْ لم يصادف بعد الاستيقاظ من نوم الليل وضوء؛ فإنَّ فيه شَبَهًا قويًّا بغسل اليدين بعد الاستيقاظ من البيتوتة.
2 -
يدل الحديث على مشروعية الاستنثار؛ لأنَّه ورد بصيغة الإرشاد، والاستنثار يلزم منه الاستنشاق.
3 -
تقييده بنوم الليل، أخذًا من لفظ "يبيت"؛ فإنَّ البيتوتة لا تكون إلَاّ من نوم الليل، ولأنَّه مظنَّة الطول والاستغراق.
4 -
علَّل ذلك بأنَّ الشيطان يبيت على خيشومه.
قال القاضي عياض: يحتمل أنْ يكون على حقيقته؛ فإنَّ الأنف أحد منافذ الجسم، وليس شيء من منافذه ليس عليه غلق، سوى الأنف والأذنين، وجاء الأمر بالكظم عند التثاؤب من أجل دخول الشيطان حيننئذٍ في الفم.
5 -
الاحتراس من الشيطان؛ فإنَّه يريد الولوج إلى ابن آدم مع كلِّ طريق، وهو يجري منه مجرى الدم، ويحاول إضلاله وإفساد عباداته، فابن آدم ملاحَقٌ ومحاصَر منه، والمعصوم من عصمه الله تعالى، واستعان بالله عليه، واستعاذ بالله من شرِّه.
6 -
مثل هذه الأحكام السمعية إذا صحَّت، فالواجب على المؤمن التصديق بها والتسليم، ولو لم يدرك كيفيتها؛ قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} .
7 -
يرى شيخ الإِسلام ابن تيمية: أنَّ غسل يدي المستيقظ من نوم الليل، والاستنثار بعد النوم: أنَّ ذلك من ملامسة الشيطان، فقد علَّل الغسل بأنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده، وهنا علَّل الاستنثار بأنَّ الشيطان بات على
خيشومه؛ فعلم أنَّ ذلك هو سبب الغسل والاستنثار.
8 -
اسْتَدَلَّ بهذا الحديث من يرى غسل النجاسة ثلاث مرَّات، وهي إحدى الروايات الثلاث عن الإمام أحمد، ولكن ما دام أنَّنا لم نتحقَّق موجب الاستنثار ثلاثًا، وأنَّ ذلك خاصٌّ بنوم الليل دون النَّهار، فإنَّ الاستدلال بهذا الحديث، وبحديث غسل اليدين ثلاثًا من نوم الليل -ليس بواضح، مع وجود أدلَّة كثيرة صحيحة، دالَّةٍ على الاكتفاء بغسلة واحدة، تذهب بعين النجاسة، عدا نجاسة الكلب.
***
35 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- إذَا اسْتَيْقَظَ: تَنَبَّه من نومه، والاستيقاظ بمعنى التيقظ، وهو لازم. "إذا" شرطية غير جازمة، جوابها:"فلا يغمس يده".
- لا يغمس: يُقال: غَمَسَ يَغْمِس غمسًا من باب ضرب، أي: لا يدخل يده في الماء.
- يده: يراد باليد: الكف، وتقدم أنَّها الرَّاحة والأصابع، وَحَدُّها: من أطراف الأصابع إلى مفصلها من الذراع.
- فلا يغمس يده: الغمس أنْ يغيب اليد في الماء الذي في الإناء، و"لا" ناهية، و"يغمس" مجزوم بها، وجاء في بعض روايات البخاري:"فلا يغمسنَّ" بنون التوكيد الثقيلة.
- فإنَّه لا يدري: إيماء إلى أنَّ الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة؛ لأنَّ الشَّارع إذا ذكر حكما وعقَّبه بعلَّة؛ دلَّ على ثبوت الحكم لأجلها.
-أين: ظرف مكان مبني على الفتح ومحله النصب، ولعلَّ المكان المسؤول عنه جزء من جسد النَّائم، أو ملامسة الشيطان ليده.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
وجوب غسل اليدين بعد القيام من نوم الليل، ثلاث مرَّات، فلا تكفي الغسلة ولا الغسلتان، واليد عند الإطلاق: يراد بها الكف فقط، فلا يدخل فيها الذراع؛ وهذا هو مذهب الإمام أحمد، والجمهور: على أنَّه مستحب.
(1) البخاري (162)، مسلم (237).
2 -
قيدناه بنوم الليل؛ لقوله: "فإنَّه لا يدري أين باتت يده"، والبيتوتة: اسم لنوم الليل، وسيأتي مذهب الجمهور: أنَّها تغسل من عموم النوم، ليلاً أو نهارًا ..
3 -
النَّهي عن إدخالهما الإناء قبل غسلهما ثلاثًا، لكن لو غسل يدًا واحدة ولم يغسل الأُخْرى، فله إدخالها وحدها؛ فلكلِّ يد حكمها.
وذكر الإناء دليلٌ على أنَّ النَّهي مخصوص بالأداة، دون البِرَكِ والحياض.
4 -
أخذ أصحابنا من هذا الحديث أنَّ الماء المغموس فيه يد القائم من نوم الليل سلبت الطهورية منه، وأنَّه أصبح طاهرًا غير مطهِّر، ولكن هذا قول مرجوح، والصحيح: أنَّه باقٍ على طهوريته لما تقدَّم، من أنَّ الماء لا ينجس، إلَاّ إذا تغيَّرت صفة من صفاته بالنجاسة.
5 -
قال الخطابي: فيه أنَّ الأخذ بالاحتياط في باب العبادات أولى.
قال النووي: ما لم يخرج عن حدِّ الاحتياط، إلى حدِّ الوسوسة.
6 -
فيه استحباب الكناية عمَّا يستحيا منه، إذا حصل الإفهام بها.
7 -
يجب على السَّامع لِسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يتلقَّاها بالقبول، وإذا لم يفهم المعنى، فَلْيَرُدَّ هذا إلى قصور في العقل البشري؛ وإِلَّا فأحكام الله تعالى مبنيَّةٌ على المصالح؛ والله تعالى يقول:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} ، أمَّا الخواطر الرديئة، فليدفعها عن نفسه؛ فإنَّها من إلقاء الشيطان ووسوسته.
* خلاف العلماء:
ذهب الشافعي والجمهور: إلى أنَّ كلَّ نومٍ من ليلٍ أو نهار، يشرع بعده غسل اليدين؛ لعموم قوله:"من نومه"؛ فإنَّه مفرد مضاف، وهو يعم كل نوم، وأمَّا قوله:"أين باتت يده" فهو قيدٌ أغلبيٌّ، ومتى كان القيد أغلبيًّا، فهو عند الأصوليين لا مفهوم له؛ كما قال تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فهنا قيدان: أحدهما: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} . فهذا قيد مقصود، ولذا جاء مفهومه، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}. القيد الثاني: قوله تعالى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ؛ فهذا قيدٌ أغلبيٌّ والقيد الأغلبي لا مفهوم له، ولذا لم يأتِ له مفهوم في الآية الكريمة. ومثل هذا القيد في حديث الباب، بقوله:"باتت يده"؛ فإنَّه قيدٌ أغلبيٌّ، فلا يقتضي التخصيص، ولا مفهوم له، وإذًا فليس نوم الليل شرطًا في غسل اليد ثلاثًا من النوم.
وأمَّا المشهور من مذهب الإمام أحمد: فإنَّه لا أثر لنوم النَّهار، وإنَّما وجوب الغسل خاص بنوم الليل؛ لقوَّة:"فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده".
واختلف العلماء في الحكمة من غسل اليدين ثلاثًا، بعد الاستيقاظ من النوم:
فذهب بعضهم: إلى أنَّها من الأمور التي طويت عنَّا حكمتها، فلم نعلمها، مع اعتقادنا أنَّ أحكام الله تعالى مبنيَّة على المصالح والمنافع، وأنَّ قول النَّبي صلى الله عليه وسلم:"لا يدري أين باتت يده" يشير إلى هذا الخفاء في العلَّة.
وبعضهم قال: لها علَّة مدركة محسوسة، والإنسان يده معه حال نومه، وإنَّما فيه إشارة إلى أنَّ يد النَّائم تجول في بدنه بدون إحساس، وأنَّها قد تلامس أمكنة من بدنه، لم يتم تطهيرها بالماء؛ فَتَعْلَقُ بها النجاسة.
أمَّا شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فيقول: إنَّ مشروعية غسل اليدين، هو ملامسة الشيطان لهما؛ ويدل على ذلك التعليل:"فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت"، ومثله جاء في الحديث الذي قبله:"فَإنَّ الشيطان يبيت على خيشومه"[رواه البخاري (3295) ومسلم (238)].
وهذا تعليل مرضيٌّ مقبول؛ ولعلَّ المصنِّف لم يقرن الحديثين هنا، إلَاّ إشارة إلى تقارب المعنى بينهما، والله أعلم.
واختلف العلماء -أيضًا- هل لهذا الأمر معنًى، أم أنَّه تعبدي؟:
والرَّاجح من قولي العلماء: أنَّه معقول؛ ويدل عليه قوله: "فإنَّه لا يدري أين باتت يده". وممَّن يرى أنَّ الأمر فيها تعبدي: المالكية والحنابلة.
36 -
وَعَنْ لَقِيْطِ بْنُ صَبْرَةَ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ، إِلَاّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ: "إِذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ". (1)
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال المصنَّف: صحَّحه ابن خزيمة، وقال في التلخيص: أخرجه الشَّافعي وابنُ الجارود وابنُ خزيمة وابنُ حبَّان والحاكم والبيهقيُّ وأصحاب السنن الأربعة مطوَّلاً ومختصرًا، وصحَّحه الترمذي والبغويُّ وابن القطَّان.
وفي الباب حديث ابن عبَّاس: "استنثروا مرَّتين بالغتين أو ثلاثًا" رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن الجارود، والحاكم، وصححه ابن القطان.
* مفردات الحديث:
- أسبغ: من الإسباغ، وهو الاتساع والإتمام، و"أسبغْ" و"خلِّل" و"بَالِغْ" -كلها أفعال أمر، وفعل الأمر ما دلَّ على طلب وقوع الفعل من الفاعل المخاطب، والأصل أنَّه مبنيٌّ على السكون، فأسبغ الوضوء: وفِّ كلِّ عضوٍ حقه في الغسل؛ فهو الإتمام واستكمال الأعضاء.
قال في القاموس: أسبغ الوضوء: أبلغه مواضعه.
- خلِّل: تخليل الأصابع: التفريج بينها، وإسالة الماء بينها، والمراد أصابع
(1) أبو داود (142، 144)، الترمذي (788)، النسائي (87)، ابن ماجه (448)، ابن خزيمة (150).
اليدين والرجلين؛ لحديث ابن عبَّاس: "إذا توضأت، فخلِّل أصابع يديك ورجليك"[رواه أحمد (15945) والترمذي (28)].
- بالغ: ابذل الجهد واستقص، بإيصال الماء إلى أقصى الأنف.
- صائمًا: الصيام شرعًا: هو إمساك بنيَّةٍ عن مفسدات الصوم، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، من المسلم العاقل غير الحائض والنفساء، وسيأتي إِنْ شاءَ الله.
"إلَاّ أنْ تكون صائمًا": هذا الاستثناء لا يعود إلَاّ على المبالغة في الاستنشاف، وأمَّا إسباغ الوضوء وتخليل الأصابع، فلا يعود عليهما؛ لأنَّ الصيام لا يتأثَّر إلَاّ من الاستنشاق.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الإسباغ مشترك بين الواجب وبين المستحب، فيستعمل للوجوب فيما لا يتم الوضوء إلَاّ به، ومستحب فيما عدا ذلك.
2 -
استحباب تخليل أصابع اليدين والرجلين عند غسلهما، وتخليلهما: جعل الماء يتخلَّل بينهما، والصَّارف عن الوجوب دقَّةُ الماء، ووصولُهُ إلى ما بينها بدون تخليل، وبهذا يحصل القدر الواجب؛ فيبقى الاستحباب على الاحتياط في ذلك.
3 -
استحباب المبالغة في الاستنشاق عند الوضوء، إلَاّ مع الصيام، فيكره؛ خشية وصول الماء إلى الجوف، والصَّارف له عن الوجوب: أنَّه لو كان واجبًا، لما منعه الصيام، ولوجب التحرز عن نزول الماء في الجوف مع المبالغة، وهو أمرٌ ممكن.
ويلحق به استحباب المبالغة في المضمضة لغير صائم؛ لأنَّهما في معنى الاستنشاق؛ كما نصَّ على ذلك الفقهاء.
4 -
وجوب المضمضة عند الوضوء، وتقدَّم الخلاف في ذلك، وهو الرَّاجح من
قول العلماء في ذلك.
5 -
قوله: "إِلَاّ أنْ تَكُونَ صائِمًا": الاستثناء عائد على الاستنشاق؛ لأنَّه لا أثر له في الإسباغ والتخليل؛ وإِلَاّ؛ فالأصل أنَّ الاستثناء يعود على جميع ما تقدمه من الجمل، إلَاّ أنْ يدلَّ دليلٌ يخصه ببعضها، كهذا الحديث.
6 -
قوله: "أسبغ الوضوء
…
إلخ" وجه الأمر لواحد، إلَاّ أنَّه أمرٌ لجميع الأمَّه، وهكذا الأوامر والنَّواهي الشرعية؛ لأنَّ الأحكام لا تتعلَّق بالأشخاص، وإنَّما تتعلَّق بالمعاني، والعلل التي أوجبتها، هذا ما لم يكن هناك دليلٌ يدل على تخصيص شخص بعينه؛ كقصَّة أبي بردة وأضحيته.
***
37 -
وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ فِي الْوُضُوءِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. (1)
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف، وله شواهد عن عددٍ كبيرٍ من الصحابة، لا تخلو من مقالٍ، ولكنَّه يَتَقَوَّى بها.
قَالَ الحافظ في التلخيص: رواه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم والدَّراقطني وابن حبَّان عن عثمان، وأورد له الحاكم شواهد: عن أنسٍ وعائشة وعليٍّ وعمَّارٍ.
قلت: وفيه أيضًا عن أمِّ سلمة وأبي أيوب وأبي أمامة وغيرهم، وعدَّدهم الحافظ في التلخيص، وذكر طرقهم وأسانيدهم.
وذكره الكتاني والسيوطي في الأحاديث المتواترة، فقد روي عن ثمانية عشر صحابيًّا، وقد ضعَّف أحاديث التخليل بعض المحدِّثين، وتكلَّموا في أسانيدها؛ كالعقيلي، وابن حزم، والزيلعي.
قال الإمام أحمد وأبو حاتم: ليس في تخليل اللحية شيءٌ صحيحٌ.
* مفردات الحديث:
- لحيته: اللحية: شعر العارضَيْن والذَّقَنِ، جمعه: لحًى، بكسر اللام وضمها.
* ما يؤخذ من اللحية:
1 -
مشروعية تخليل اللحية في الوضوء، وهو تفريقها وإسالة الماء فيما بينها؛ ليدخل ماء الوضوء خلال الشعر، ويصل إلى البشرة.
(1) الترمذي (430)، ابن خزيمة (1/ 86).
2 -
الشعر الذي في الوجه قسمان:
أحدهما: أنْ يكون خفيفًا، ترى البشرة من ورائه؛ فهذا يجب غسله، وغسل ما تحته من البشرة.
الثاني: أنْ يكون كثيفًا، وذلك بأنْ لا ترى البشرة من ورائه، فهذا يجب فيه غسل ظاهره، ويستحب تخليل باطنه، وأمَّا في الغُسْلِ: فيجب غسله، وإيصال الماء إلى البشرة، وأصول الشعر.
3 -
هذا التفصيل والبيان جاء من التتبع، والاستقراء للوضوء الشرعي، فما ظهر من الوجه يجب غسله، ومنه ما تحت الشعر الخفيف، وما استتر منه لكثافة الشعر، كلحيته صلى الله عليه وسلم، فالمشروع تخليلها.
***
38 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتَيَ بِثُلُثَيْ مُدٍّ، فَجَعَلَ يَدْلُكُ ذِرَاعَيْهِ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. (1)
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح. فقد صحَّحه أبو زرعة الرَّازي، وابن خزيمة، وأخرجه الحاكم، وابن حبَّان.
وقد أخرج أبو داود (94) من حديث أمِّ عمارة الأنصارية بإسنادٍ حسن: "أنَّه صلى الله عليه وسلم توضأ بإناءٍ فيه قدر ثلثي مد"، ورواه البيهقي (1/ 196) عن عبد الله بن زيد.
والخلاصة: أن عباد بن تميم قد روى الحديث عن عبد الله بن زيد، وعن أم عمارة، وهو ثقة؛ فالروايتان صحيحتان.
* مفردات الحديث:
- مُدّ: بضم الميم المشدَّدة المهملة، المد: وحدة قيل شرعية، وهي رُبُعُ الصاع النبوي، وقدرها (750 ملل).
- يدلك: دلك الجسد بيده ليغسله، ويوصل الماء إلى مغابنه.
- ذراعيه: الذِّراع من الإنسان: هي من طرف المرفق إلى الكف، جمعه أذرع.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية الوضوء بثلثي المد، والمُدُّ: ربع الصالح النبوي، والصاع النبوي (3 لتر).
قال في القاموس: هو ملء كف الإنسان المعتدل، إذا ملأهما ومدّ يده بهما.
(1) أحمد (16006)، ابن خزيمة (1/ 62).
2 -
استحباب التقليل بقدر الحد الذي توضأ به النَّبي صلى الله عليه وسلم، ومثله الغُسْل؛ فإنَّ هذا من هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم.
3 -
استحباب دلك أعضاء الوضوء؛ لأنَّ ذلك من الإسباغ المستحب.
4 -
بهذه الكيفية للغَسْل، يُعْرَفُ الفرق بين المسح وبين الغَسْل؛ فإنَّ المسح: بَلُّ اليد بالماء، ومسح المكان بها، وأمَّا الغسل: فهو إجراء الماء على المحل، ولو أدنى جريان.
5 -
الأفضل هو الاقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الكمية في ماء الوضوء، ولا تضر الزيادة اليسيرة، وأمَّا الإسراف في الماء فحرامٌ؛ لما روى أحمد (6646) والنسائي (140) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال:"جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسأله عن الوضوء؟ فأراه ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هذا الوضوء؛ فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدَّى وظلم".
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم الدلك، هل هو مستحبٌّ أو واجبٌ؟:
فذهب الإمام مالك: إلى وجوبه؛ استدلالاً بهذا الحديث.
وذهب الإمام أحمد: إلى عدم وجوبه؛ لأنَّه لم يرد ما يدل على الوجوب، وأمَّا فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم فيدل على الاستحباب، والمأمور به هو الغسل، وليس الدلك منه.
لكن إِنْ كان الماء لا يصل إلى البشرة إلَاّ بالدلك، فهو واجب، وليس وجوبه من هذا الحديث، وإنَّما مراعاةً للإسباغ الواجب، وإِتمامًا للوضوء.
39 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه "أَنَّه رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً غَيْرَ الْمَاءِ الَّذِي أَخَذَهُ لِرَأْسِهِ" أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: "وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيْرَ فَضْلِ يَدَيْهِ" وَهُوَ الْمَحْفُوظُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الرواية الأولى من الحديث شاذة، والرواية الثانية محفوظة، وحكم الشاذ الرد، وحكم المحفوظ القبول؛ ولذا قال المؤلف في التلخيص: وفي صحيح ابن حبَّان: "ومسح رأسه بماءٍ غير فضل يديه" ولم يذكر الأذنين.
* ما يُؤْخذ من الحديث:
في الحديث روايتان:
إحداهما: أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أخذ لمسح أذنيه ماء، غير الماء الذي أخذه لرأسه.
الثانية: أنَّه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بماءٍ غير فضل يديه، وهذه الرواية هي الصحيحة؛ لما يأتي:
أوَّلاً: أنَّها هي الرواية المحفوظة، فتكون الرواية المقابلة لها رواية شاذة حسب اصطلاح المحدِّثين؛ فإنَّ الحديث الشاذ: ما رواه راوٍ مخالفًا لمن هو أوثق منه، بوجهٍ من وجوه الترجيحات.
ثانيًا: أنَّ الرواية الأولى أخرجها البيهقي، وأمَّا الثانية فهي عند مسلم؛ فلها مزيد صحة.
(1) مسلم (236)، البيهقي (1/ 196).
ثالثًا: تقدَّم أنَّ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أخرجه أبو داود والنسائي وصحَّحه ابن خزيمة: "أنَّه صلى الله عليه وسلم مسح برأسه، وأدخل إصبعيه السبَّاحتين في أُذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه"، ولم يذكر أخذ ماء جديد لأذنيه.
رابعًا: تقدم لنا أن الأذنين من الرأس؛ فهما داخلتان في مسمَّاه لغةً وشرعًا.
خامسًا: قال ابن القيم في الهدي: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه أخذ لأذنيه ماءً جديدًا.
وقال في تحفة الأحوذي: لم أقف على حديثٍ مرفوعٍ صحيح خال من الكلام، يدل على مسح الأذنين بماء جديد.
***
40 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. (1)
ــ
* مفردات الحديث:
- أُمَّتي: الأمة: الجماعة من النَّاس تجمعهم صفات موروثة، أو مصالح واحدة، أو يجمعهم دينٌ واحد، والمراد هنا: أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعون لهديه.
- يوم القيامة: يوم بعث الله الخلائق للحساب والجزاء، سمي بذلك لقيام النَّاس فيه من قبورهم، أو لإقامة عدل الله بينهم، أو لقيام الأشهاد.
- غُرًّا: بضم الغين وتشديد الرَّاء، جمع أغر، أي: ذو غرَّة، والغرَّة أصلها: لمعةٌ بيضاء في جبهة الفرس، فأطلقت على نور وجوه هذه الأمَّة المحمدية، و"غرًّا": حالٌ من ضمير يأتون.
- محجَّلين: جمع محجَّل بتشديد الجيم المفتوحة، من التحجيل، وهو بياضٌ في قوائم الفرس كلها، والمراد: نور هذه الأعضاء يوم القيامة.
- من أثر الوضوء: علة للغرة والتحجيل المذكورين.
أثر: جمعه آثار، والأثر: العلامة على الشيء، وبقيته.
- الوضوء: بضم الواو مصدر، هو الفعل، مشتق من الوَضَاءة: هي الحُسْن، تقول: وَضُؤَ الرجل صار وضيئًا؛ وأمَّا الوَضُوء، وبفتح الواو: فهو الماء الذي يُتوضأ به؛ هذا هو أشهر قولَيْ أهل اللغة في ذلك.
(1) البخاري (136)، مسلم (246).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فضيلة الوضوء، وأنَّه سببٌ قويٌّ لحصول السعادة الأبدية.
2 -
أنَّ أثر الوضوء على الأعضاء سبب لنورها؛ ففي الوجه لمعةٌ بيضاء مشرقة، وفي اليدين والرجلين نورٌ مضيءٌ.
3 -
أنَّ هذه ميزةٌ خاصَّة، وأمارةٌ فارقة لأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، تلك الأمة الممتثلة والقائمة بطاعة الله تعالى.
4 -
الرَّاجح: أنَّ الوضوء من خصائص أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في الأمم السَّابقة؛ ذلك أنَّ الله تعالى جعل الغرَّة في وجوههم، والتحجيل في أيديهم وأقدامهم، سيما خاصَّةً لهم من أثر الوضوء؛ لما جاء في صحيح مسلم (247)؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"لكم سيما ليست لأحدٍ من الأمم تَرِدُونَ عليَّ غرًّا محجلين من أثر الوضوء"، ولو كان غيرهم يتوضأ، لصار لهم مثل ما لأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإِسلام: الوضوء من خصائص هذه الأمة كما جاءت به الأحاديث الصحيحة، أمَّا ما رواه ابن ماجه: فلا يحتج به، وليس له عند أهل الكتاب خبر عن أحدٍ من الأنبياء، أنَّه يتوضأ وضوء المسلمين.
5 -
أنَّ طاعة الله تعالى سببٌ للفلاح والنجاح والفوز، فكل عبادةٍ لله تعالى لها جزاء يناسبها.
6 -
إثبات المعاد والجزاء فيه، وهو ممَّا علم من الدِّين بالضرورة، فإنَّ الإيمان بالبعث هو من أركان الإيمان الستَّة، فلا يصح إسلام أحدٍ إلَاّ بالإيمان بالبعث والجزاء بعد الموت.
7 -
البعث يكون للأرواح والأجساد؛ كما صحَّ بذلك الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ النَّاس يحشرون يوم القيامة حفاة عراةً غرلًا.
8 -
قوله: "من أمتي": الأمة قسمان: أمة دعوة، وأمَّة إجابة؛ فكل وصفٍ أنيط
بأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فالمراد به أمَّة الإجابة، وما عدا ذلك، فهم أمَّة الدعوة.
* خلاف العلماء:
ذهب أبو حنيفة، والشافعي وأحمد وأتباعهم: إلى استحباب مجاوزة الفرض في الوضوء، وهو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا ببقية حديث الباب:"فمن استطاع منكم أنْ يطيل غرَّته، فليفعل".
قال النووي: اتفق أصحابنا على غسل ما فوق المرفقين والكعبين.
وذهب الإمام مالك وأهل المدينة: إلى عدم استحباب مجاوزة محل الفرض، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإِسلام، وابن القيم، واختار هذه الرواية من علمائنا المعاصرين الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ عبد العزيز بن باز، وغيرهم.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
أوَّلاً: مجاوزة محل الفرض على أنَّها عبادة، دعوى تحتاج إلى دليل.
ثانيًا: كل الواصفين لوضوء النَّبي صلى الله عليه وسلم ذكروا أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يغسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين.
ثالثًا: آية الوضوء حدَّدت محل الفرض: المرفقين والكعبين، وهي من آخر ما نزل من القرآن.
رابعًا: لو سلمنا بهذا، لاقتضى الأمر أنْ نتجاوز حدّ الوجه، إلى بعض شعر الرأس، وهذا لا يسمَّى غرَّة؛ فيكون متناقضًا.
خامسًا: الحديث لا يدل على الإطالة؛ فإنَّ الحلية إنَّما تكون زينة في السَّاعد والمعصم، لا العضد والكتف.
سادسًا: أمَّا قوله: "فمن استطاع منكم أنْ يطيل غرَّته وتحجيله، فليفعل" فهذه الزيادة مدرجةٌ في الحديث من كلام أبي هريرة، لا من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في رواية أحمد (8208)، وقد بين ذلك غير واحدٍ من الحفَّاظ.
ففي مسند الإمام أحمد: قال نُعَيْمٌ المُجَمِّرُ راوي الحديث: لا أدري: قوله: "من استطاع منكم أنْ يطيل غرَّته، فليفعل" من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو شيء قاله أبو هريرة من عنده؟!.
وقال ابن القيم: وكان شيخنا يقول: هذه اللفظة لا تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ الغرَّة لا تكون في اليد، ولا تكون في الوجه، وإطالتها غير ممكنة وإذا كانت في الرأس، فلا تسمَّى تلك غرة. أهـ.
وقال في النونية:
واحفظ حدود الرب لا تتَعَدَّهَا
…
وكذاك لا تجنح إلى النقصان
وانظر إلى فعل الرسول تجده قد
…
أبدى المراد وجاء بالتبيان
ومن استطاع يطيل غرَّته فمو
…
قوفٌ على الراوي هو الفوقاني
والرَّاجح الأقوى انتهاء وضوئنا
…
للمرفقين كذلك الكعبان
هذا الذي قد حدَّد الرحمن في الـ
…
ـقرآن لا تعدل عن القرآن
وإطالة الغرَّات ليس بممكن
…
أبدًا وذا في غاية التبيان
فأبو هريرة قال ذا من كيسه
…
فغدا يميزه أولو العرفان
وَنُعَيْمٌ الراوي له قد شكَّ في
…
رفع الحديث كذا روى الشيباني
***
41 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهُ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- يُعجبه: من الإعجاب، يُقال: أعجبني هذا الشيء لحسنه، والعجيب: الأمر يتعجَّب منه، والمصدر العَجَبُ بفتحتين، وأمَّا العُجْبُ بضم العين وسكون الجيم، فهو اسم من أُعْجِبَ فلان بنفسه، والمراد: أنَّه صلى الله عليه وسلم يُسَرُّ من التَّيمن ويستحسنه ويفضله ويقدمه، فأمَّا العَجْب بفتح فسكون، فهو أصل الذنب.
- التيمُّن: مصدر تيمَّن، وهو تقديم الأيمن على الأيسر، من الجهات والأشياء.
- في تنعله: أي: في لبسه النعل ونحوه من الخفين والجوربين، ومثله الثياب.
- وترجله: بتشديد الجيم، هو تسريح شعر رأسه ولحيته بالمشط.
- طُهوره: بضم الطاء، المراد التطهير بفعل الوضوء، والغسل، وإزالة الأنجاس.
- في شأنه: متعلِّق بالتيمن.
- في شأنه كله: من الأشياء المستطابة؛ فهذا تعميمٌ بعد تخصيص في كلِّ مُستطاب.
* ما يُؤْخذ من الحديث:
1 -
استحباب تقديم اليمين في التنعُّل، والترجُّل، والطهور، وما شابهها من الأمور المستطابة.
2 -
قوله: "في شأنه كلِّه" هو تعميمٌ بعد تخصيص؛ ولكنَّه تعميم في الأمور المستطابة كما تقدَّم. قال ابن دقيق العيد: هو عامٌّ مخصوص بدخول
(1) البخاري (168)، مسلم (268).
الخلاء، والخروج من المسجد، ونحوهما، فإنَّه يبدأ فيهما باليسار.
قال النووي: قاعدة الشرع المستمرَّة: استحباب البداءة باليمين، في كلِّ ما كان من باب التكريم والتنزيه، وما كان بضدها استحبَّ في التياسر.
3 -
أنَّ جعل اليسرى للأشياء المستقذرة، هو الأليق شرعًا وعقلاً وطبًّا.
4 -
أنَّ الشرع الحكيم جاء لإصلاح النَّاس وتهذيبهم، ووقايتهم من الأضرار عامَّة.
5 -
أنَّ الأفضل في الوضوء هو البداءة بغسل يمنى اليدين على يسراهما، ويمنى الرجلين على يسراهما.
قال النووي: أجمع العلماء على أنَّ تقديم اليمنى في الوضوء سنَّة، من خالفها فاته الفضل، وتمَّ وضوؤه.
قال في المغني: لا نعلم في عدم الوجوب خلافًا.
6 -
استحباب البداءة بأيمن الرأس عند ترجيله أو غسله أو حلقه أو غير ذلك.
7 -
يستحب تقديم اليمنى من اليدين ومن الرجلين، على اليسرى منهما في كلِّ عملٍ طيِّب ومستحسن، وأنْ يخصِّص اليسرى لما يليق بها؛ من إزالة الأوساخ والأقذار، ومباشرة الأشياء المستقذرة.
8 -
في الحديث دليلٌ على أنَّ المسلم الموفَّق يجعل من عاداته عبادات؛ فإنَّ الأمور العادية حينما يأتي بها متَّبِعًا في ذلك هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقاصدًا بها القُربة والعبادة، فإنَّ هذه العادات تصير عبادات، وقربات تزيد في حسنات العبد.
وبالعكس فإنَّ عبادات الغافل تصير عادات؛ لأنَّه يؤديها في حال غفلة وعدم استحضارٍ لنيَّة التقرب إلى الله تعالى، وعدم استحضار امتثال أمر الله تعالى في أدائها، وعدم استحضار اقتدائه حين أدائها بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّما يستحضر أنَّه قام بهذه العبادة، التي تعوَّد أنْ يقوم بها في مثل هذا الوقت، وغَفَلَ عن المعاني السَّابقة. ففرقٌ بين العبادتين كل منهما بنيَّة مخالفة لنيَّة الأخرى. والله الموفق.
42 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَوَضَّأْتُمْ، فَابْدَؤُوا بِمَيَامِنِكُمْ" أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. (1)
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ. قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأنْ يُصحَّح. وقد حسَّنه النووي في المجموع، وقد أخرجه أحمد (8438) وابن حبَّان (3/ 370) والبيهقي، والطبراني في الأوسط (2/ 21) ويؤيده الذي قبله.
* مفردات الحديث:
- إذا: ظرفٌ للمستقبل غالبًا، متضمِّنٌ معنى الشرط غالبًا، فعله ماضِي اللفظ مستقبل المعنى كثيرًا؛ كمثل هذا الحديث.
- توضأتم: أردتم الوضوء، أو شرعتم فيه.
- بميامنكم: مفرده يمين، ضد اليسار؛ للجهة، والجارحة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب التيامن في الوضوء بين اليدين وبين الرجلين، بأنْ يبدأ باليد اليمنى ثمَّ باليد اليسرى، ثمَّ يبدأ بالرجل اليمنى قبل اليسرى؛ كما يدل عليه حديث عائشة المتقدِّم من أنَّه صلى الله عليه وسلم:"كان يعجبه التيمن في تنعُّله وترجله وطهوره وفي شأنه كلِّه" رواه البخاري (168) ومسلم (268).
2 -
التيامن يتصوَّر بين اليدين والرجلين، بخلاف الوجه: فعضوٌ واحد يغسله
(1) أبو داود (4141)، ابن ماجه (402)، الترمذي (1766)، النسائي في الكبرى (5/ 482)، ابن خزيمة (1/ 91).
جميعه، والرأس عضوٌ واحدٌ فيمسح جميعه.
3 -
أجمع العلماء على أنَّ التيمُّن في الوضوء ليس بواجب، فلو قدَّم الشِّمال على اليمين، أجزأ الوضوء، مع فوات الفضيلة.
4 -
قوله: "إذا توضأتم" يعني: شرعتم في الوضوء، وأخذتم به.
5 -
أنَّ اليمين تُجْعَل للأعمال الطَّاهرة، وتقدَّم في الأحوال المُسْتطابة، والشمال لما سوى ذلك.
***
43 -
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخُفَّيْنِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- بناصيته: النَّاصية؛ قصاص الشعر، ومقدَّم الرَّأس إذا طال، جمعه نواصٍ وناصيات.
- العمامة: ثوبٌ يُلَف ويُدَار على الرَّأس، وسيأتي الكلام عليها إِنْ شَاءَ الله تعالى في باب الخفين.
- الخفان: مثنى خف، ما يلبسان في الرجلين، ويكون الخف من الجلد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه حكاية المسح على النَّاصية وعلى العمامة، وقال بالمسح عليهما معًا بعض العلماء، والرَّاجح أنَّ الجمع بينهما إنَّما هو برواية الحديث، وأنَّه صلى الله عليه وسلم مسح العمامة وحدها، ومسح الرَّأس وحده مبتدئًا بالنَّاصية، فجاءت رواية الحديث بالجمع بينهما؛ فظنَّ بعض العلماء أنَّ الجمع هو بالعمل أيضًا.
2 -
اقتصاره صلى الله عليه وسلم على مسح النَّاصية لم يُحفظ عنه، قال ابن القيم: لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة.
3 -
الحديث الذي معنا فيه المسح على النَّاصية وعلى العمامة، وتقدَّم أنَّ الرَّاجح أنَّ الجمع بينهما إنَّما هو برواية الحديث، لا الجمع بينهما بالمسح، وأنَّه صلى الله عليه وسلم إنْ مسح على العمامة، اقتصر عليها، وإنْ مسح على الرَّأس، مسح
(1) مسلم (274).
عليه كله لا بعضه.
4 -
جواز المسح على العمامة، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد؛ لهذا الحديث، ولما روى البخاري (205) عن عمرو بن أمية قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وخفيه"، وهو من مفردات مذهب الإمام أحمد؛ فلا يصح المسح عليها عند الأئمة الثلاثة.
5 -
قد اشترط أصحابنا لصحَّة المسح على العمامة ثلاثة شروط، هي:
(أ) أَنْ تكُونَ على ذَكَرٍ دون أُنثى.
(ب) أَنْ تكون ساترةً لغير ما العادة كشفه من الرأس.
(ج) أَنْ تكُون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.
وتشارك الخف في شروطه؛ كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
6 -
قوله: "توضأ" استدل به الحنابلة على جواز المسح على الخفين ونحوهما، إذا لبسهما بعد كمال طهارة بالماء، فإنْ كانت طهارته بتيمم، لم يصح، وعلى القول الثاني -من أنَّ التيمم طهارة قائمة مقام الطهارة بالماء- فإنَّه يجوز ولو كان بطهارة تيمم، وهو قولٌ وجيهٌ، ولا يعارضه قوله:"توضأ"؛ فإنَّه ليس له مفهوم.
***
44 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ هَكَذَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. (1)
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح. فهو قطعةٌ من حديث جابر في صفة حجَّة الوداع، وقد رواه مسلم عن جابر بن عبد الله بطوله.
وإنَّما اختلف -هنا- التعبير من لفظ الخبر عند مسلم، إلى لفظ الأمر عند النسائي.
* مفردات الحديث:
- ابدؤوا: فعل أمرٍ مبني على حذف النون، والواو فاعل.
- بما بدأ الله به: يشير إلى الترتيب بين الأعضاء في الوضوء؛ كما رتَّبته الآية.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الله تبارك وتعالى ذكر صفة الوضوء في آية المائدة، في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
…
} الآية [المائدة: 6]، فرتَّب أعضاء الوضوء مبتدئًا بالوجه، فاليدين، فمسح الرأس، فغسل الرجلين؛ فترتيبه حسب هذا الترتيب الحكيم جاء في الآية الكريمة.
2 -
أنَّ هذا الترتيب المذكور في الآية فرضٌ في الوضوء، فلو أتى به على غير هذا الترتيب، لم يصح وضوؤه، ومن الفقهاء من يصحِّحه.
3 -
ممَّا استدلَّ به على لزوم هذا الترتيب، هو إدخال الممسوح -وهو الرَّأس-
(1) مسلم (1218)، النسائي (5/ 236).
بين مغسولين؛ فإنَّه لم يدخله بينهما إلَاّ مراعاةً لترتيب الأعضاء على هذه الكيفية، وعادة النصوص الكريمة البداءة بالأهم فالأهم.
4 -
أمَّا الترتيب بين المضمضة والاستنشاق، وبين غسل الوجه، والترتيب بين يدٍ وأُخرى، أو بين رجل وأخرى، أو بين الأُذنين والرَّأس، فالإجماع على أنَّه سنَّة لا واجب؛ لأنَّها بمنزلة عضو واحد؛ إلَاّ أنَّ تقديم اليمين أفضل كما تقدَّم.
5 -
الحديث جاء في رواية: بالأمر بالبداءة، وفي روايةٍ أخرى: بالإخبار عن الفعل بالبداءة؛ فاجتمع فيه سنتان: أمره صلى الله عليه وسلم وفعله.
6 -
الحديث ورد في الحج لتقديم الصفا على المروة؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فيشرع أنْ يطبَّق في كلِّ أمرٍ رتَّبه الله تعالى، فيؤتى به على حسب ما رتَّبه الله تعالى.
المؤلِّف -رحمه الله تعالى- ساق هذه القطعة من حديث صفة حج النَّبي صلى الله عليه وسلم ليبين أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا الأمر -وإنْ كان قد ورد في مسألة السَّعي خاصَّة- لكنَّه بعموم الأمر لفظُهُ يدل على قاعدة كليَّةٍ تدخل تحتها آية الوضوء، وهو قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
…
} الآية، فيجب البداءة بما بدأ الله به.
***
45 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مُرْفَقَيْهِ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ؛ لأنَّ في إسناده القاسم بن محمد بن عقيل، وهو متروك، وضعَّفه أحمد، وابن معين، وغيرهما، وصرَّح بضعف الحديث جماعةٌ من الحفَّاظ؛ كالمنذري، وابن الصلاح، والنووي، وغيرهم.
قال الحافظ: يغني عنه ما رواه مسلم عن أبي هريرة: أنَّه توضَّأ حتَّى شرع في العضد، قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ.
* مفردات الحديث:
- أدار الماء: أجرى الماءَ، وعمَّمه على جميع المرفقين.
- مرفقيه: تثنية مرفق، بكسر الميم وفتح الفاء، وبالعكس، جمعه مرافق، وهو: موصل الذراع في العضد، سُمِّيَ مرفقًا؛ لأنَّه يرتفق به في الاتكاء ونحوه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قوله: "إذا توضأ" يعني: شرَعَ في الوضوء، ووصَلَ إلى غسل اليدين.
2 -
وجوبُ إدارة الماء على المرفقين عند غسل اليدين؛ لأنَّهما بقيَّة اليد ومنتهاها، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمَّا توضأ: "من توضأ نحو وضوئي هذا
…
".
3 -
قال تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]؛ قال جمهور المفسِّرين: إنَّ "إلى" هُنا بمعنى "مع"، كما قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] يعني: مع أموالكم، وتقدَّم أنَّ ما بعد "إلى" تارةً يكونُ داخلًا فيما
(1) الدَّارقطني (1/ 83).
قبلها، وتارةً غَيْرَ داخل، وأنَّ الذي يعيِّنه هو القرينة، وهنا أبانت النصوص أنَّ ما بعدها داخلٌ فيما قبلها؛ فلابُدَّ من غسله.
4 -
قال ابن القيم: حديث أبي هريرة في مسلم في صفة وضوء النَّبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّه غسل يديه حتَّى شرع في عضديه" يدل على إدخال المرفقين في الوضوء.
***
46 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ. (1)
وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ سَعِيْدِ بْنِ زَيْدٍ (2)، وَأَبِي سَعِيْدٍ (3) نَحْوُهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَثْبُتُ فِيْهِ شَيْءٌ.
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف؛ ولكن له طرق يتقوَّى بها.
قال الحافظ في التلخيص: قال أحمد: ليس فيه شيءٌ يثبت، فكل ما روي في هذا الباب ليس بقويٍّ.
وقال العقيلي: الأسانيدُ في هذا الباب فيها لين.
وقال أحمدُ حينما سُئِلَ عن التسمية: لا أعلَمُ فيه حديثًا صحيحًا.
وقال أبو حاتم وأبو زرعة: إنَّ الحديثَ ليس بصحيح.
ثمَّ قال ابن حجر: الظَّاهِرُ: أنَّ مجموعَ الأحاديث يحدث منها قوَّة، تدل على أنَّ له أصلاً.
وقال الشوكاني: ولا شكَّ أنَّ طرق الحديث تنهض للاحتجاج بها، وقد حسَّنه ابن الصلاح وابن كثير.
(1) أبو داود (101)، ابن ماجة (399)، أحمد (9137).
(2)
الترمذى (25).
(3)
العلل الكبير للترمذي (1/ 112).
وممَّن صحَّح هذا الحديث: المنذري وابن القيم والصنعاني والشوكاني وأحمد شاكر.
* مفردات الحديث:
- لا وضوء: "لا" نافية للجنس، و"وضوء" اسمها، وشِبْهُ الجملة خبرها، والأصل أن النَّفْيَ نَفيٌ للصحَّة، فهي الحقيقة الشرعية، وقيل: للكمال.
- اسم الله: المراد به قول: "باسم الله".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
وجوب قوله "باسم الله" عند البداءة في الوضوء، قال العلماء: لا يقوم غيرها مقامها؛ للنَّص عليها.
قال النووي: التسمية أنْ يقول: "باسم الله" فتحصل السنَّة، وإنْ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فهو أكمل.
2 -
ظاهر الحديث نفي صحة الوضوء، الذي لم يذكر اسم الله عليه.
3 -
الحديث بكثرة طرقه صالحٌ للاحتجاج به؛ ولذا أوجب الفقهاء من أصحابنا التسمية عند الوضوء مع الذكر، وتسقُطُ مع النسيان.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في وجوب التسمية عند الوضوء:
فذهب الإمام أحمد، وأتباعه: إلى أنَّها واجبة في طهارة الأحداث كلها، ودليلهم حديث الباب وغيره. قال البخاري: إنَّه أحسن شيءٍ في هذا الباب، وقال المنذري: لا شكَّ أنَّ أحاديث التسمية تكتسب قوَّةً، وتتعاضد بكثرتها، وقال ابن كثير: يشد بعضها بعضًا؛ فهو حديثٌ حسنٌ أو صحيح.
وهذا القول من مفردات المذهب.
قال في شرح المفردات: الصحيحُ مِنَ المذهب: أنَّ التسمية واجبةٌ في
الوضوء، وكالوضوء الغسلُ والتيمُّم، وهو مذهب الحسن وإسحاق.
وذهَبَ الأئمة الثلاثة: إلى أنَّها سنَّةٌ، وليست بواجبة، وعدم وجوبها رواية عن أحمد، اختارها الخرقي، والموفق، والشَّارح، وغيرهم.
قال الخلَّال: إنَّه الذي استقرَّت عليه الرواية.
وقال الشيخ تقي الدِّين: لا تشترط التسمية في الأصح.
وقال أحمد: لا أعلم في التسمية حديثًا صحيحًا.
وقال المجد: جميع أحاديث التسمية في أسانيدها مقال.
وقال السخاوي: لا أعلم من قال بوجوب التسمية إلَاّ ما جاء في إحدى الروايتين عن أحمد.
***
47 -
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه قَالَ:"رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ.
قال المؤلِّف: أخرجه أبو داود بإسنادٍ ضعيف.
وقال في التلخيص الحبير: فيه ليث بن أبي سُلَيْم، وهو ضعيف، وقال ابن حِبَّان: يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم، تركه ابن القطَّان، وابن معين، وأحمد.
وقال النوويّ في تهذيب الأسماء: اتفق العلماء على ضعفه.
* مفردات الحديث:
- يفصل: يُقال: فَصَلَ يَفْصِلُ فَصْلًا -من باب ضرب- والفصل: هو التفريق بين شيئين، ومعنى فعله صلى الله عليه وسلم، أنَّه يفرِّق بين المضمضة والاستنشاق، فيأخذ ماءً للمضمضة، ثم يأخذ ماءً جديدًا للاستنشاق.
- بين: ظرف مبهم، لا يتبيَّن معناه إلَاّ بإضافته إلى اثنين فصاعدًا، كهذا الحديث.
وقد تزاد الألف لإشباع الفتحة، فتكون "بينا" كما جاء في حديث أبي هريرة في قصة أيوب عليه السلام:"بينا أيوب يغتسل"، وقد تزاد فيه "ما" فيكون "بينما"، فإذا أشبع، أو مع الإشباع زيدت فيه "ما"؛ فحينئذ يكون ظرف زمان بمعنى المفاجأة.
(1) أبو داود (139).
48 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ: "ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا، يُمَضْمِضُ وَيَنْثُرُ مِنَ الْكَفِّ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَاءَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ.
ذكر المؤلِّف في التلخيص رواياتِ المضمضة والاستنثار من كف واحد عن علي رضي الله عنه أنَّها في مسند الإمام أحمد (626، 874)، وفي سنن ابن ماجة (2405)، والرواية الثالثة التي معنا في هذا الحديث، وذكر رواية رابعة التي أفرد فيها المضمضة عن الاستنشاق، تلك الرواية التي أنكرها ابن الصلاح، ولكن المؤلِّف أيدها بقوله: قلت: روى ابن السكن في صحاحه عن شقيق بن سلمة قال: "شهدت عليًّا وعثمان توضَّأ اثلاثًا ثلاثًا، وأفردا المضمضة من الاستنشاق، ثمَّ قالا: هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم توضَّأ"؛ فهذا صريح في الفصل، فبطل إنكار ابن الصلاح، فإسناد الحديث صحيح، وممَّن صحَّحه ابن الملقِّن.
* مفردات الحديث:
- الكف: مؤنث، وهي من الكوع إلى أطراف الأصابع، والمراد من غرفة واحدة من الماء.
- تمضمض: يُقال: مضمض يمضمض مضمضة، حرك الماء بإرادته في فمه.
- استنثر: يُقَال: نثر ينثر نثرًا، من باب قتل وضرب، والاستنثار إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، الذي هو إيصال الماء إلى جوف الأنف.
(1) أبو داود (111) والنسائي (95).
49 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ: "ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- كفٍّ واحدٍ: الكف: هي من الكوع إلى أطراف الأصابع، جمعُهُ: كفوفٌ وأَكُفٌّ، ولكون تأنيثه مجازيًّا جاز نعته بلفظِ "واحد".
* ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة:
1 -
حديث طلحة يدل على استحباب الفصل بين المضمضة والاستنشاق، وذلك بأنْ يأخذ لكلِّ واحدٍ ماءً جديدًا؛ ليكون أبلغ في الإسباغ والإنقاء.
2 -
حديث علي يدل على استحباب المضمضة والاستنشاق من كفٍّ واحدة، بثلاث غرفات؛ مراعاةً للاقتصاد في ماء الوضوء، ولأنَّ الفم والأنف جزآن من عضوٍ واحدٍ، وهو الوجه.
3 -
وحديث عبد الله بن زيد يدل على استحباب المضمضة والاستنشاق من كف واحدة، بثلاث غرفات أيضًا.
4 -
أحسَنُ توجيه للجمع بين هذه النصوص هو إعمالُها، وَحَمْلُهَا على تعدُّد الأحوال، واختلافِ الصفات مع كل مرَّة.
قال ابن القيم: وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يتمضمض ويستنشق تارةً بغرفةٍ، وتارةً بغرفتين، وتارةً بثلاث، وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق فيأخذ نصف الغرفة لفمه، ونصفها لأنفه، ولا يمكن في الغرف إلَاّ هذا.
(1) البخاري (185)، مسلم (235).
ولم يجيء الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديثٍ صحيح ألبتَّة، ولفظ أبي داود:"مضمض من الكفِّ الذي يأخذ فيه الماء"، ولفظ النسائي:"مضمض من الكفِّ الذي يأخذ به الماء".
أمَّا حديث طلحة بن مصرِّف، فلم يُرْوَ إلَاّ عن أبيه عن جدِّه، ولا يعرف لجدِّه صحبة. أهـ.
قال النووي: اتفق العلماء على ضعفه.
وقال الحافظ: إسناده ضعيف. أهـ.
وبهذا فيكون ما ورد من الصفات هو:
1 -
أنْ يمضمض ويستنشق ثلاث مرَّات من ثلاث غرفات، وهذا يفهم من حديث عليٍّ، وحديث عبد الله بن زيد، الذي في الصحيحين.
2 -
أمَّا حديث طلحة: فإنَّه يفصل بين المضمضة، وبين الاستنشاق؛ فيأخذ لكلِّ واحدةٍ غرفة، ولكنه لم يبيِّن عدد الغرفات.
***
50 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا، وَفِي قَدَمِهِ مِثْلُ الظُّفْرِ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ. فَقَالَ: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن، مع أنَّ العلماء اختلفوا في صحته:
فقد قال أبو داود: هذا حديثٌ غير معروف عن جرير بن حازم، ولم يروه إلَاّ ابن وهب، وله شاهدٌ عند مسلم (243)، موقوف على عمر.
وقال المنذري: في إسناده بقيَّة بن الوليد، وفيه مقال.
وقال الإمام أحمد: إسناده جيد، وقد صحَّحه ابن خزيمة، وأبو عوانة، والضياء المقدسي، وقال البيهقي: رواته كلهم ثقات مجمع على عدالتهم.
ويكفي أنْ نَسُوقَ ما قاله ابن القيِّم على هذا الحديث في تهذيب السنن، قال: علَّل المنذري وابن حزم هذا الحديث برواية بقيَّة له، وزاد ابن حزم أنَّ راويه مجهول.
والجواب عن هاتين العلَّتين:
أمَّا الأولى: فإنَّ بقيَّة ثقةٌ صدوق حافظ، وإنَّما نُقِمَ عليه التدليس، فإذا صرَّح بالسماع، فهو حجَّة، وقد صرَّح في هذا الحديث بسماعه له.
وأمَّا العلَّة الثانية: فباطلةٌ؛ فجهالة الصحابي لا تقدح بالحديث؛ لثبوت عدالتهم.
والحديث لمعناه شواهدُ تعضُدُهُ في البخاري (165) ومسلم (242) عن
(1) أبو داود (173)، وأمَّا النَّسائي فلم يروه، انظر التلخيص (1/ 29).
أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، قالوا: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ويلٌ للأعقاب من النَّار".
* مفردات الحديث:
- قَدَمه: القدم مؤنثة، وهي: ما يَطأُ الأرضَ من رِجْلِ الإنسان، وفوقها السَّاق، وبينهما المفصلُ الرسغ.
- الظفر: فيه لغتان، أجودهما: ضم الظاء والفاء، جمعه أظفار، هو: جسم يكاد يكون شفافًا، موجود على ظهر السلامية الأخيرة، من أصابع اليدَيْن والقدمَيْن.
- لم يُصِبْهُ الماء: أصاب السهمُ إصابةً: وصل الغرض، فالمعنى: أخطأه الماء، فلم يصل إليه.
- أحسِنْ وضوءك: أحسِنْ فعلَ الشيء، أي أَجِدْ صُنْعَهُ، فَأَتِمَّ وضوءَكَ وأحسنه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
وجوب تعميم أعضاء الوضوء، وأنَّ ترك شيء من العضو -ولو قليلًا- لا يصحُّ معه الوضوء.
2 -
مشروعية إحسان الوضوء، وذلك بإتمامه وإسباغه، وهذا نص في الرِّجْل، وقياسٌ في غيرها.
3 -
أنَّ القدمين من أعضاء الوضوء، وأنَّه لا يكفي فيهما المسح، بل لابدَّ من الغسل؛ كما جاء صريحًا في آية المائدة الآية رقم 6.
4 -
وجوب الموالاة بين أعضاء الوضوء، فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أمره بأنْ يرجع ليحسن وضوءه كله، من أجل تأخير غسل الرِّجْلِ عن بقيَّة الأعضاء، ولو لم تعتبر الموالاة، لاقتصر على أمره بِغَسْلِ ما تركه فقطْ.
5 -
تعيُّن الماء في الوضوء؛ فلا يقوم غيره مقامه.
6 -
وجوبُ المبادرة إلى الأمرِ بالمعروف، وإرشادِ الجاهلِ والغافل؛ لتصحيحِ عبادته.
7 -
أنَّ إحسان الوضوء هو بإتمامه وإسباغه؛ ليَعُمَّ جميعَ العضو المغسول.
8 -
خصَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الأعقابَ بالعقاب بالنَّار؛ لأنَّها التي لم تُغْسَلْ غالبًا، والمراد صاحبُ الأعقاب؛ لأنَّهم كانوا لا يَسْتَقْصُونَ غسل أرجلهم في الوضوء.
9 -
في الحديث استحبابُ تحريك الخاتَمِ والسَّاعة في اليد؛ ليحصل اليقين إلى وصولِ ماء الوضوءِ إلى ما تحت ذلك.
* خلاف العلماء:
ذهب جمهورُ العلماء: إلى وجوب استيعاب أعضاء الوضوء بالماء؛ لما ثبت في الصحيحين: "ويلٌ للأعقاب من النَّار".
وذهب الإمام أبو حنيفة: إلى أنَّه يُعْفَى عن نصف العضو أو ربعه أو أقل من الدرهم، وهي روايات تحكى عنه، والصحيحُ عنه: أنَّه يجبُ الاستيعاب.
***
51 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الصاعُ: مكيالٌ معروفٌ، والمراد به الصاعُ النبويُّ، ويبلغ وزنه (480) مثقالًا من البر الجيد، وباللتر (3 لترات).
- المُدّ: بضم الميم، مكيالٌ معروف، وهو ربع الصالح النبوي، ويجمع على أمداد ومدد، ومقداره:(750) ملل.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
كان هديه صلى الله عليه وسلم الاقتصاد في الأمور، حتَّى في الأشياء المتوفِّرة المبذولة؛ إرشادًا للناس، وتوجيهًا لهم إلى عدم الإسراف في الأمور.
2 -
كان يتوضَّأ بالمُدِّ، وهو مكيال معروف؛ فالصَّاع أربعة أمداد، فيكون المد ربع الصاع، وقدره بالمعيار الحاضر (625) غرامًا، وباللتر (750) ملل.
3 -
كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، يعني: من الصاع إلى الصاع والربع، مع وفرة شعره صلى الله عليه وسلم، والصاع النبوي: ثلاث لترات.
4 -
فضيلة الاقتصاد في ماء الوضوء وفي غيره، وأنَّ الإسراف فيه ليس من هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم.
…
(1) البخاري (201)، ومسلم (325).
52 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنَ أَيِّهَا شَاءَ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ:"اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث في صحيح مسلم؛ فلا داعي لبحثه.
وأمَّا زيادة الترمذي فقال: إنَّ في سندها اضطرابًا، ولا يصح فيها شيءٌ، كما ضعَّفها أحمد شاكر، ولكن لها شواهد؛ منها: ما رواه البزَّار والطبراني في الأوسط من حديث ثوبان، وابن ماجه من حديث أنس، والحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد، وله شواهد أخرى؛ ولذا أثبته المباركفوري والألباني.
* مفردات الحديث:
- ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيسبغ الوضوء: "ما" نافيةٌ حجازيةٌ عاملةٌ، اسمها "أحد"، وخبرها "يتوضأ"، و"مِنْ" زائدة، و"أحد" مجرور المحل بـ"من" الزائدة وهو اسم "ما"، والفاء في "يسبغ" بمعنى ثُمَّ، فليست الفاء هنا للترتيب العطفيِّ بإسباغ الوضوء، وليس بمتأخِّر حتَّى يعطف بالفاء؛ ولذا فقد صار معنى الفاء هو معنى ثُمَّ، المفيد لبيان المرتبة.
- فيسبغ: الإسباغ: الإتمام والإكمال، وإيصال الماء إلى مغابن الأعضاء.
(1) مسلم (234)، الترمذي (255).
- إلَاّ: استثناءٌ من النَّفي، وهي في أوَّل الكلام للحصر.
- فُتِحَتْ: بالتخفيف والتشديد: أزيل إغلاقها، والتشديدُ مبالغةٌ في فتح أبواب الجنَّة.
- الجنَّة: مادة "جنن" تدل على الستر والإخفاء، والمراد بالجَنَّة هنا: دار النَّعيم في الآخرة، جمعها جِنَانٌ.
- الثَّمانية: هذه الأبوابَ جاءتْ مبيَّنةً في بعض الأحاديث؛ ففي الصحيحين: باب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الصيام، وباب الصدقة، وجاء في مسند أحمد وغيره: باب الكاظمين الغيظ، وباب المتوكِّلين، وباب الذكر، وباب التوبة.
وسيأتي تكميل البحث عنها في الكلام على فقه الحديث، إنْ شاء الله تعالى.
- التَّوَّابين: التوبة: الاعترافُ بالذنب، والنَّدَمُ والإقلاع، والعَزْمُ على أنْ لا يعاودَ الإنسانُ ما اقترفه من الذنوب؛ فهي الرجوع عن الذنوب والعيوب، إلى طاعة علَاّم الغيوب، وهذه الصيغةُ -صيغة فعَّال- تأتي للمبالغة، وتأتي للنسبة، وهي هنا محتملة للأمرين، أي: اجعلني من ذوي التوبة، فتكون للنسبة، وأنْ أكون من كثيري التوبة، فتكون للمبالغة؛ وكل من المعنيين صحيح.
- المتطهِّرين: بالخلاص من تبعات الذنوب السَّابقة، ومن التلوُّث بالسيئات اللَاّحقة.
- التَّوَّاب: من أسماء الله الحسنى، بمعنى: أنَّه الموفِّقُ للتوبة، القابلُ لها؛ قال تعالى:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]. يعني: وفَّقهم للتوبة، {وَأَنَا التَّوَّابُ} [البقرة: 160] يعني: قابل التوبة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فضيلةُ الوضوء، وما يعود به على صاحبه مِنَ الثواب الجزيل.
2 -
مشروعيةُ إسباغِ الوضوء وإتمامِهِ، وما يحصُلُ به من الأجر العظيم.
3 -
فضل هذا الذكر الجليل، وأنَّه سبب السعادة الأبدية، وهو مستحبٌّ بإجماع العلماء هنا، وبعد الفراغ من الغسل والتيمم؛ لأنَّه طهارة، فسن فيه الذكر.
4 -
أنَّ إسباغ الوضوء، والإتيان بعده بهذا الذكر، من أقوى الأسباب في دخول الجنَّة.
5 -
إثباتُ البعثِ، والجزاء بعد الموت.
6 -
إثباتُ وجودِ الجنَّةِ وأبوابِها الثمانية، والتخيير في الدخولِ من أبوابها لصاحب العمل الفاضل، ممَّن طهر ظاهره وباطنه.
7 -
تفتيح أبواب الجنَّة لصاحب هذه المنزلة، يُحمل على أمرين:
أحدهما: تيسيرُ الوصول وتسهيلُ سبل الخير إلى تلك الأبواب، بمعنى أنَّ الله تعالى يُهيِّىء له أسبابَ الأعمال الصالحة التي تبلِّغه هذه الأبواب؛ قال تعالي:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
الثاني: معنى "فتحت" أي: ستفتح يوم القيامة، فوضع الماضي موضع المستقبل لتحقُّق وقوعه وقربه، وهو ضربٌ من التعبير البلاغي؛ قال تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
8 -
مطابقة هذا الذكر مكمِّلٌ لطهارة الوضوء؛ فإنَّه بعد أنْ طهَّر ظاهره بالوضوء بالماء، طهَّر باطنه بعقيدة التوحيد، وكلمة الإخلاص التي هي أشرف الكلمات.
9 -
كلمة التوحيد: هي مجموعُ شهادةِ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَشَهادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ الله؛ فلا تكفي إحداهما عن الأخرى.
10 -
زيادة الترمذي لا تنافي الحديث ولا تعارضه، وهي زيادةٌ من ثقة، فهي زيادة مقبولة، فيكون الدعاء بطَلب التوبة، وتطهيرِ الظاهر بالماء، وتطهيرِ الباطن عن الأخلاق الرذيلة، والتطهُّرِ من دنس الذنوب والمعاصي -مناسبٌ عند انتهاء التطهُّر من الحدث الأصغر والأكبر.
فالتوبة: طهارة الباطن، والوضوء: طهارة الظاهر، فكان ذكرهما جميعًا في غاية المناسبة؛ فهو من الأدعية المستحبة في هذا الموطن.
وقال الطيبي: قول الشهادتين عَقِبَ الوضوء، إشارةٌ إلى إخلاصِ العمل من الشرك والرِّياء، بعد طهارة الأعضاء من الخَبَثِ والحدث.
قال الصنعاني: ولا يخفى حُسْنُ خَتْمِ هذا الباب بهذا الدعاء.
11 -
قال ابن القيم: كلُّ حديثٍ في أذكار الوضوء التي تقولها العامَّةُ عند كلِّ عضوٍ بدعةٌ لا أصل لها، وأحاديثها مُختَلَقَةٌ مكذوبةٌ؛ فلم يقل النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا علَّمه أمته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوَّله، وهذا الذكر في آخره، ولا نُقِلَ عن أحدٍ من الصحابة ولا التَّابعين ولا الأئمة الأربعة.
وقال النووي: الأدعية في أثناء الوضوء لا أَصْلَ لها، ولم يذكرها المتقدمون.
وقال ابن الصلاح: لم يصحَّ فيه حديث.
وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: روي عن علي من طرقٍ ضعيفةٍ جدًّا.
12 -
قال شيخ الإِسلام: الوضوءُ عبادةٌ كالصلاة والصوم، فهو لا يعلم إلَاّ من الشّارع، وكلُّ ما لا يعلم إلَاّ من الشَّارع فهو عبادة، وقال: من اعتقد أنَّ البدع قربةٌ وطاعةٌ وطريقٌ إلى الله تعالى، وجعلها من تمام الدين، فهو ضال.
13 -
التواب: اسم من أسماء الله تعالى، ويسمَّى الإنسان أيضًا بالتواب، ولكن الاشتراك هو باللفظ فقط.
أمَّا المعنى: فالله تعالى وصف نفسه بأنَّه توَّابٌ بقوله: {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة] يعني: أنا الذي أوفِّق عبادي للتوبة، وأقبلها منهم، ووصف عباده بالتوبة في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة]؛ فوصفهم بكثرة الرجوع إلى الله تعالى، ممَّا عسى أنْ
يبدر منهم من الذنوب، فلكلِّ لفظٍ معنًى، غير معنى اللفظ الآخر، مع العلم بأنَّ الله تعالى ليس كمثله شيء، في ذاته ولا صفاته.
- توبةُ العبد لله تعالى واجبة، لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8].
وللتوبة النصوح شروط:
أحدها: الندمُ على ما وقع من الذنب.
الثاني: الإقلاعُ عن الذنب إنْ كان متلبِّسًا به.
الثالث: العزمُ على أنْ لا يعود إليه في المستقبل.
الرادح: الإخلاصُ لله تعالى في التوبة.
الخامس: أنْ يتُوبَ قبل حضور الأجل، ومعاينة مقدِّمات الموت.
السادس: إنْ كان الحَقُّ الذي عليه لآدمي، ردَّه إليه أو استسمحه.
***