الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الآنية
مقدمة
الآنية: جمع إناء على أفعلة؛ مثل كساء وأكسية.
أصله: (أأنية) بهمزتين، قُلِبَت الثانية ألفًا.
وجمع الآنية: أوانٍ، وهي الأوعية لغةً وعرفًا.
ومناسبة ذكرها هنا: أنَّه لمَّا كانت الطهارة بالماء، وهو سَيَّال لابد له من وعاء، ناسب بيان أحكام الآنية بعده.
والأواني تكون من الحديد والنحاس والصُّفْر والخزف والخشب والجلود، ومن أي شيءٍ صلح لجعله إناء، ولو كان ثمينًا؛ كالجواهر والزمرد.
والأصل في الأواني: الإباحة؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} .
فهذا أصلٌ كبيرٌ يفيد أنَّ ما في هذه الحياة من العادات والمعاملات والصنائع والمخترعات، وما يجري استعماله من الملابس والفرش والأواني وغير ذلك، الأصلُ فيها الإباحةُ المطلقةُ، وَمَنْ حرَّم شيئًا منها لم يحرِّمه الله، فهو مبتدع.
فهنا الأواني لا يحرمُ منها إلَاّ ما حرَّمه الله ورسوله، وهي أواني الذهب والفضة؛ كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
***
14 -
عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنهما قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (1)
ــ
* مفردات الحديث:
- لا تشربوا ولا تأكلوا: "لا" ناهية في الفعلين فجزمتهما، والنَّهي عند الأصوليين: قولٌ يتضمن طلب الكف بصيغة مخصوصة، هي المضارع المقرون بـ"لا" النَّاهية.
- الذهب: عنصر فلزي أصفر اللون، جمعه أذهاب وذهوب، وهو جوهرٌ نفيس يستخدم لِسَكِّ النُّقود.
- الفضة: عنصر أبيض قابل للسحب والطرق والصقل، من أكثر المواد توصيلاً للحرارة والكهرباء، وهو من الجواهر النفيسة التي تستخدم لسكِّ النقود؛ كما تستعمل أملاحها في التصوير، جمعه فضض وفِضَاض.
- صحافهما: بكسر الصاد: جمع صَحْفَة، وهي: إناء من آنية الطعام.
- فإنَّها لهم في الدنيا: ليس هذا تعليلاً، وإنَّما بيان الواقع منهم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وصحافهما.
2 -
النَّهي يقتضي التحريم والمنع.
3 -
أنَّ الحكم عامٌّ في حقِّ الرِّجال والنِّساء.
4 -
النَّهي عن استعمالهما في الأكل والشرب يعم استعمالهما لأي منفعة، إلَاّ ما أذن فيه، ممَّا سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.
5 -
إذا كان استعمالهما حرامًا -وهو مظنَّة الحاجة والابتذال- فاتخاذهما أواني
(1) البخاري (5426)، مسلم (2067).
زينة وتحفًا مثله في التحريم وأولى.
6 -
ليس في الحديث إباحة استعمال أواني الذهب والفضة للكفَّار في الدنيا، وإنَّما المقصود بيان حالهم وما هم عليه؛ وإلَاّ فإنهم مخاطَبون ومعذَّبون على أصول الشريعة وفروعها، وعلى أوامرها ونواهيها.
أمَّا المسلمون المتقون الله تعالى في اجتنابها: فإنَّهم يتمتعون باستعمالها في الآخرة؛ جزاءً لهم على تركها في الدنيا، ابتغاء ثواب الله تعالى.
7 -
النَّهي والتحريم عن استعمال أواني الذهب والفضة واتخاذها عامٌّ، سواءٌ كانت ذهبًا خالصًا أو فضَّةً خالصة، أو مموَّهًا أو مضبَّبًا بهما، أو غير ذلك من أنواع التجميل والتَّحلية؛ فالنَّهي والتحريم عامَّان.
قال النووي: انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيهما، وجميع أنواع الاستعمال في معنى الأكل والشرب بالإجماع.
8 -
قوله: "فإنَّها لهم في الدنيا" معناه: أنَّه من استعملها، فقد شابههم في استحلالهم إيَّاها، ومن تشبَّه بقومٍ، فهو منهم، وأعظم ما يكون التشبه في الاعتقاد والتحليل والتحريم.
9 -
الأصل في الأمر بمخالفة المشركين هو الوجوب، ما لم يَدُلَّ دليل على جواز ترك المخالفة: فمثلاً ما جاء في البخاري (5892)، ومسلم (259) من حديث ابن عمر؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خالفوا المشركين وفِّروا الِّلحى"، لا نعلم وجود دليل صارف عن وجوب إعفاء اللحية، فيبقى الإعفاء واجبًا، وحلقها محرَّم؛ لأنَّ فيها تشبُّهًا بالمشركين.
أمَّا النوع الثاني: فقد روى أبو داود (652) بإسنادٍ صحيح من حديث شدَّاد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا اليهود؛ فإنَّهم لا يُصلُّون في نعالهم ولا خفافهم"؛ فقد جاء في سنن أبي داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيًا ومنتعلاً".
15 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- يُجرجر: بضم المثناة التحتية، وجيم مفتوحة، فراء، فجيم مكسورة، والجرجرة: صوت جرع الإنسان للماء، وجرجر فلان الماء: جرعه جرعًا متواترًا له صوت؛ شبه نزول العذاب في بطن الشارب في إناء الفضة بهذا الصوت المخيف.
- نار: بالرفع والنصب، فمن رفع جعل الفعل للنَّار، أي: تنصب نار جهنَّم في جوفه، ومن نصب جعل الفعل للشَّارب، أي: يصب الشارب نار جهنَّم، والنصب أجود.
- جهنَّم: من الجهومة وهي الغلظة، وجهنَّم: عَلَمٌ على طبقة من طبقات النَّار، وسُمِّيت جهنَّمَ؛ لِبُعْدِ قَعْرِهَا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تحريم الشرب في إناء الفضة، ومثله الذهب وأولى، والنصوص الشرعية كثيرًا ما تذكر شيئًا وتترك مثله وما هو أولى منه، من باب الاكتفاء؛ كقوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] يعني: والبرد؛ فإنَّه أولى.
2 -
الوعيد الشديد على الشَّارب في إناء الفضة ومثله الذهب؛ فإنَّ عذابه غليظ شديد؛ فإنَّه بارتكاب هذه المعصية سَيُسْمَعُ لوقوع عذاب جهنَّم في جوفه صوتٌ مرعب منكر.
(1) البخاري (5634)، مسلم (2065).
3 -
في الحديث إثبات الجزاء في الآخرة، وإثبات عذاب النَّار يوم القيامة؛ وهو أمرٌ واجب الاعتقاد معلومٌ من الدِّين بالضرورة.
4 -
وفيه أنَّ الجزاء يكون موافقًا للعمل؛ فهذا الذي أتبع نفسه هواها، وتمتَّع بالشرب بإناء الفضة، سيتجرَّع عذاب جهنَّم، مع تلك المواضع من بدنه التي تمتعت واستلذت بالمعصية في الدُّنيا؛ وهكذا فالجزاء من جنس العمل.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في العلَّة التي من أجلها حرِّم استعمال الذهب والفضَّة: فقال بعضهم: هي الخيلاء، وكسر قلوب الفقراء.
وقال بعضهم: هو هدفٌ تربويٌّ أخلاقيٌّ؛ فإنَّ الإِسلام يصون المسلم عن الانحلال والترف المُفْسِدَيْنِ.
وقال بعضهم: العلَّة هي كونهما نقدين؛ فالذهب والفضة هما الرصيد العالمي للنَّقد، الذي تقوم به الأشياء، وتحصل به المطالب والضرورات والحاجات؛ فاتخاذهما واستعمالهما أواني أو تحفًا ونحو ذلك، هو شَلٌّ للحركة التجارية، وتعطيلٌ لقيم الحاجات والضرورات، بدون وجود مصلحة راجحة.
وقال ابن القيم: العلَّة في استعمالهما هي ما يكسب القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية، منافاةً ظاهرة.
ولهذا علَّل صلى الله عليه وسلم بأنَّها للكفَّار في الدنيا؛ إذ ليس لهم نصيبٌ من العبودية التي ينالون بها الآخرة.
والله تعالى أعلم، فله في شرعه أسرارٌ وحِكَمٌ، ولا مانع أنَّ كلَّ هذه العلل مقصودة!!.
***
16 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَعِنْدَ الْأَرْبَعَةِ:"أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ". (1)
ــ
* مفردات الحديث:
- إذا: شرطية غير جازمة، و"دبغ" فعل الشرط، و"الفاء" رابطة بين فعل الشرط وجوابه وهو "طهر"، و"قد" للتحقيق.
- دُبغَ: فعل ماضٍ مبني للمجهول، ويدبغ الجلد بمادَّة خاصَّة؛ ليلين وليزول ما به من رطوبة ونتن.
- الإهاب: بزنة كتاب: هو جلد الحيوان قبل أنْ يُدْبَغ، وجمعه: أُهُبٌ بضم الهاء وسكونها.
- طهر: بضم الهاء وفتحها، أي: صار طاهرًا.
- أيُّما: "أي" اسم جازم يجزم فعلين، الأوَّل فعل الشرط، وهو هنا "دُبغ"، والثاني جوابه وجزاؤه، وهو هنا "طهر"، و"ما": زائدة، و"أيما": من صيغ العموم.
…
(1) مسلم (366)، أبو داود (4123)، الترمذي (728)، النسائي (4252)، ابن ماجه (3609).
17 -
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طُهُورُهَا" صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال الحافظ في التلخيص: أخرجه أحمد (24688)، وأبو داود (4125)، والنسائي (7/ 173)، والبيهقي (1/ 17) وابن حبَّان (2/ 291) من حديث الجون بن قتادة، عن سلمة بن المحبق، وإسناده صحيح، وفي الباب عن ابن عبَّاس مرفوعًا بلفظ:"دِبَاغ الإِهَابِ طُهُوره" رواه الدَّارقطني، وأصله في مسلم.
وقد أخرجه بسندٍ صحيح عن عائشة كلٌّ من النسائي (4244) والطحاوي (1/ 470) وابن حبان (4/ 105)، وذكر كل من الكتاني والمناوي أنَّه حديثٌ متواتر، وأنَّه جاء عن أربعة عشر من الصحابة، وساق الدَّارقطني أسانيده بألفاظٍ مختلفة، ثمَّ قال: أسانيدها صحاح. وقد صحَّحه الإمام النووي.
* مفردات الحديث:
- المُحَبِّق: بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، ثمَّ باء مكسورة مشدَّدة، آخره قاف، هذلي من قبيلة هذيل.
- جلود: جمع جلد، والجلد: غشاء الجسم.
- الميتة: بالتخفيف: الحيوان الذي مات حتف أنفه، أو مات على هيئة غير مشروعة.
…
(1) ابن حبان (2/ 291).
18 -
وَعَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا، فَقَالَ:"لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا! فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: "يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. (1)
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن بشواهده.
قال الحافظ في التلخيص: رواه مالك (2/ 498)، وأبو داود (4126)، والنسائي (4248)، وابن حبَّان (2/ 291)، والدَّارقطني (1/ 45)، من حديث العالية بنت سُبيع، عن ميمونة، وصححه ابن السكن، والحاكم، ولكن في إسناده عبد الله بن مالك بن حذافة، وأمه العالية، وفيه جهالة، وأخرجه الدَّارقطني من طريق يحيى بن أيوب، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله عن ابن عبَّاس، ولكن الحديث حسن بشواهده.
* مفردات الحديث:
- شاة: الواحدة من الضأن والمعز، يُقَال للذكر والأُنْثَى، والجمع شاء وشياه.
- القَرَظ: بفتحتين، حب شجر السلم، وشجره من شجر العضاه ذو سوق، أمثال شجر الجوز، وهي من الفصيلة القرنية، يدبغ بحبه الأديم، وكان الدباغ معروفًا بالقرظ عند العرب.
* ما يؤْخَذ من الأحاديث الثلاثة:
1 -
حديث ابن عبَّاس عمومه يدل على أنَّ أي إهاب دُبغ فقد طهر، من حيوان طاهر في الحياة أو غير طاهر.
(1) أبو داود (4126)، النسائي (4248).
2 -
حديث سلمة بن المحبق يدل على أنَّ الدباغ يطهر جلود الميتة.
3 -
حديث ميمونة يدل على أنَّ الدباغ يطهر جلد الشاة الميتة، ومثل الشاة غيرها من الحيوانات الحلال أكلها.
4 -
ما دام أنَّ الجلد قد طهر بعد الدبغ، فإنَّه يجوز استعماله في اليابسات والمائعات، ويجوز لبسه وافتراشه وغير ذلك من الاستعمالات.
كما أنَّه ذو قيمة مالية، فيجوز التصرف فيه بأنواع التصرفات من بيعٍ وغيره.
5 -
يجوز الدباغ بكل شيءٍ ينشف فضلات الجلد، ويطيبه ويزيل عنه النتن والفساد، سواءٌ كان من القرظ، أو قشور الرُّمَّان، أو غيرهما من المنقيات الطاهرات.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في طهارة جلد الميتة بعد الدبغ، إذا كانت الميتة طاهرة في الحياة:
فذهب الإمام أحمد -في المشهور من مذهبه-:
إلى أنَّ جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، ولو كان الحيوان طاهرًا في الحياة، وإنَّما يجوز استعماله في اليابسات، وهو المروي عن عمر، وابنه، وعمران بن حصين، وعائشة، رضي الله عنهم.
والدليل على ذلك: ما رواه أحمد والأربعة عن عبد الله بن عُكَيْم الجهني؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قبيلة جهينة: "رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي، فلا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصب"؛ قال الإمام أحمد: إسناده جيد. وهذا الحديث ناسخٌ لما قبله من الأحاديث التي جاءت بطهارته.
وذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنَّه يطهر من الجلود ما كان حيوانه طاهرًا في حال الحياة، ولو كان ميتة.
قال في المغني: روي ذلك عن ابن عبَّاس، وابن مسعود، وعطاء، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وسعيد بن جبير، والأوزاعي، والليث، والثوري،
وابن المبارك، وإسحاق، وهو رواية عن الإمام أحمد.
واختار هذه الرواية عن أحمد جماعةٌ من أصحابه، منهم الموفَّق، والشارح، وتقي الدِّين، وصاحب الفائق، ومن علمائنا المعاصرين: الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ عبد العزيز بن باز، ودليلهم أحاديث الباب المتقدِّمة وغيرها.
وقد وَرَد في طهارة الجلد بالدباغ خمسة عشر حديثًا، منها أحاديث الباب.
وأجاب من يرون طهارته عن حديث عبد الله بن عُكَيْم بأنَّه مضطربٌ في سنده وفي متنه، وأَنَّه حديث مرسل؛ ذلك أنَّ عبد الله بن عكيم لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا الحديث لا يقوى على النسخ؛ لأنَّ أحاديث التطهير بالدباغ أصح منه، فبعضها متفق عليه.
أما جواب الشيخ تقي الدِّين، فإنَّه يقول: حديث عبد الله بن عكيم ليس فيه نهي عن استعمال الجلد المدبوغ، فيمكن أنْ يكون تحريم الانتفاع بالعصب والإهاب قبل الدبغ، وهذا ما تثبته النصوص المتأخرة، وأمَّا بعد الدبغ، فلم يحرم ذلك قط.
* فائدة:
عموم حديث ابن عبَّاس (16) يدل على أنَّ أي جلد إذا نقِّي بالدباغ، فقد طهر، ولو كان من حيوان محرم الأكل كالذئب؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشَّافعي وغيرهما، والرَّاجح خلافه.
19 -
وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: لَا تَأْكُلُوا فِيهَا، إِلَاّ أَنْ لَا تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيْهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- ثعلبة: بفتح المثلثة، بعدها عين مهملة ساكنة، فلام مفتوحة، فموحدة.
- الخشني: بضم الخاء المعجمة، فشين معجمة مفتوحة، فنون، نسبة إلى خُشَيْن بن النمر، من قضاعة.
- إِنَّا: إنَّ، بكسر الهمزة وتشديد النون، حرف توكيد ينصب الاسم، وهو هنا ضمير المتكلمين.
- قوم: الجماعة من النَّاس، وخُصَّ بجماعة الرِّجال لقيامهم بالعظائم والمهمات، والجمع أقوام.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} . وقال زهير:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي
…
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
- أهل كتاب: صفة لقوم، والكتاب هو التوراة أو الإنجيل، وأهله هم اليهود أو النصارى.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النهي عن الأكل في أواني أهل الكتاب: وهم "اليهود والنَّصارى"؛ لأنَّهم لا يتحاشون النجاسات، وربما وضعوا فيها خمرًا، أو لحم خنزير؛ فالاحتياط
(1) البخاري (5478)، مسلم (1930).
اجتناب أوانيهم.
2 -
أواني المشركين وأَواني الكفَّار أَوْلَى بالمنع؛ ذلك أنَّ أهل الكتاب أقرب منهم إلى الحق، فلهم تعاليم سماوية، أمَّا بقية الكفَّار: فهم أبعد من الكتابيين عن تعاليم الأديان، فهم أقرب منهم إلى النجاسة.
3 -
إذا احتاج المسلم إلى استعمال الآنية، ولم يجد إلَاّ آنية الكفار، فله استعمالها بعد غسلها؛ ليحصل له اليقين من طهارتها.
4 -
إباحة تبادل المنافع والمصالح من الكفار؛ لأنَّ هذا ما هو إلَاّ مجرَّد معاملة، وأداء حقوق جيرة وقرابة ونحوها، ليس معها ميلٌ قلبي إليهم، ولا ركون إلى اعتقاداتهم.
5 -
سماحة الشريعة ويسرها؛ ذلك أنَّ الواجب على الإنسان الابتعاد عن مواطن الريبة؛ لحديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، فإن احتاج الإنسان إلى ما لا يتحقق تحريمه، فلا حجر عليه ولا تضييق، فإنَّه يجوز استعمال ما نزِّه عن استعماله لأجل حاجته.
6 -
في هذا الحديث دليلٌ على نجاسة الخمرة ففي رواية مسلم في صحيحه (1930): "إنَّا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدروهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ وجدتم غيرها، فكلوا واشربوا فيها، وإنْ لم تجدوا غيرها، فارحضوها -أي: اغسلوها- بالماء، وكلوا واشربوا".
وقد استدل بهذا الحديث على نجاسة الخمر: الخَطَّابِيُّ في "معالم السنن"(4/ 257)، وابن دقيق العيد في كتابه "الإمام"، كما نقله عنه الزيلعي في "نصب الرَّاية"(1/ 95)، وابن الهمام في "فتح القدير"(1/ 51)، وينظر:"فتح باب العناية" لِمُلَّا علي القاري بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ص (295).
20 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّؤُوا مِنْ مَزَادَةِ امْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- المزادة: بفتح الميم، بعدها زاي، ثمَّ ألف، ثمَّ قال مهملة، وهي الراوية التي يتزوَّدون بها الماء من الموارد، قال أبو عبيد: ولا تكون إلَاّ من جلدين، تزاد بجلدٍ ثالث بينهما لتتسع.
- مشركة: المشرك شرعًا: هو من جعل لله شريكًا؛ فإنْ كان في أفعال الله تعالى، فهو شرك في الربوبية، وإن كان في أفعال العبد، فهو شركٌ في الألوهية والعبادة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جواز استعمال جلد الميتة بعد الدبغ حتَّى في المائعات، فوضوؤه صلى الله عليه وسلم من ماء المزادة إقرارٌ للاستعمال، ورضا به.
2 -
أنَّ الماء الذي في جلد الميتة المدبوغ طهور؛ ذلك أنَّ ذبيحة المشرك ميتة محرَّمة نجسة، لكن طهَّر جلدها الدباغ الذي أذهب فضلاتها النجسة.
3 -
الميتة: هي ما مات حتف أنفه أو قتل على هيئة غير مشروعة، وإذا ذكَّاه مشرك، فقد قتل على هيئة غير مشروعة.
4 -
أواني الكفَّار المجهول حالها طاهرة؛ لأنَّ الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك في نجاستها من استعمالهم لها.
أمَّا نجاسة الكفَّار في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ؛ فهي نجاسة اعتقاد، وليست نجاسة حسية.
(1) البخاري (344)، مسلم (682).
ولذا فلا يجب بجماع الكتابية إلَاّ ما يجب بجماع المسلمة، وهي كالمسلمة في قيامها بشؤون المنزل، من إعداد طعام وشراب، وغير ذلك.
***
21 -
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه "أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةٍ مِنْ فِضَّةٍ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- قَدَح: بفتحتين: إناءٌ يشرب به الماء ونحوه، جمعه أقداح، وأمَّا القِدْحُ بكسر فسكون: فالسهم قبل أنْ يراش ويركب نصله، وقدح الميسر أيضًا.
- انكسر: انشق.
- الشَّعْب: بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة: لفظ مشترك بين معانٍ كثيرة، والمراد هنا: الصدع والشق.
- سلسلة: بكسر السِّين: سلك من الحديد ونحوه أو قطعة منه، تصل بين طرفي الشّق، وبفتح السِّين: اتصال الشيء بالشيء، ومنه سلسلة الإناء، جمعه: سلاسل.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
ما دام أن الأصل في استعمال الذهب والفضة هو التحريم؛ كما جاء في النصين المتقدِّمين وأمثالهما، فإنَّ ما أُبيح منهما يتقيد بمورد النص.
2 -
جواز إصلاح الإناء المنكسر بضبة يسيرة أو سلسلة لطيفة، عند الحاجة إلى إصلاح الإناء المنكسر.
3 -
الحاجة هنا ليس معناها أنَّه لا يجد غيرها من الحديد والنحاس والصفر أو نحوها، وإنَّما معناها أنْ يتعلَّق بإصلاحه غرض من غير أغراض الزينة، وتجميل الإناء وتحسينه.
(1) البخاري (3109).
* فائدة:
يباح للنِّساء من حلي الذهب والفضَّة ما جرت عادتهنَّ بلبسه ولو كثر، ويباح للرجل خاتم من فضَّة لا من ذهب، ويباح تحلية السِّلاح وأدوات القتال بما جرت به العادة أيضًا، وكذا ما دعت إليه حاجة من رباط أسنان، واتخاذ أنف ونحو ذلك.
وما عدا ما جاءت النصوص بإباحته، فإنَّه حرام لا يجوز:
فلا يجوز للذكور كبارًا أو صغارًا لبس الذهب أو الفضَّة، ولا جعله سلاسل أو ساعات، أو أزارير أو رباط كبك، أو قلمًا أو مفتاحًا، أو أي نوع من أنواع الملابس، أو استعماله في أكل أو شرب أو غير ذلك، أو اتخاذ أواني الذهب أو الفضَّة تحفًا، أو غيره.
أمَّا استعمال الفضَّة في الفنادق الرَّاقية والمطاعم الممتازة أدواتٍ للأكل، كجعلها صحونًا أو ملاعق وشوكًا ونحو ذلك، فلا شكَّ في تحريمه ومخالفته للنُّصوص النَّاهية عنه.
وعلى ولاة الأمور والقادرين: إنكاره، ومنعهم من ذلك.
***