الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الأذان والإقامة
مقدمة
الأذان لغةً: مِنْ أذَّن يؤذِّنُ تأذينًا وأذانًا، فالأذان: اسم المصدر القياسي، وهو لغةً: الإعلام؛ قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أي: إعلامٌ منهما إلى النَّاس.
والأذان شرعًا: إعلامٌ بدخول وقت الصلاة، بألفاظٍ مخصوصة.
والإقامة شرعًا: إعلامٌ بالقيام إلى الصلاة، بذكرٍ مخصوص.
الأدلة على مشروعيتهما:
وهما مشروعان بالكتاب، والسنَّة، وإجماع الأُمَّة: قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 58]، وفيما رواه مسلم (387) وغيره من حديث معاوية أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"المؤذِّنون أطولُ النَّاس أعناقًا يوم القيامة".
قال ابن رشد: والأمر بالأذان منقولٌ بالتواتر، والعلمُ به حاصلٌ ضرورة، وأجمعتِ الأمَّة على مشروعيته.
حكمهما: وهما: فرض كفاية، فليس لأهل مدينةٍ، ولا قريةٍ، أنْ يَدَعُوهما؛ لأنَّهما من الشعائر الظاهرة.
قال الشيخ تقي الدِّين: هما فرضا كفاية، وكثيرٌ من العلماء يُطْلِقُ السُّنَّة على ما يثابُ عليه شرعًا، ويعاقب تاركه شرعًا؛ فالنِّزاعُ إذًا لفظي.
وفرض الكفاية: هو ما يَلْزَمُ جميعَ المسلمين إقامتُهُ، وإذا قام به من يكفي، سقطت الفرضيَّة عن الجميع، وإلَاّ أثموا.
والأذان: جامعٌ لعقيدة الإيمان؛ فأوَّله: إثبات الذَّات والإجلال والتعظيم
لله تعالى، ثمَّ إثباتُ الوحدانية له، ونَفْيُ ضدِّها من الشرك بالله تعالى، ثمَّ إثباتُ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثمَّ دعوةٌ إلى الصلاة، الَّتي هي عمودُ الإسلامِ، ثمَّ دعوةٌ إلى الفلاح، الَّذي هو الفوزُ والبقاء في النَّعيمِ المقيم، ثمَّ التذكيرُ بإقامة الصلاة.
فهذه المعاني العظيمةُ الجليلة محتوياتُ الأذان والإقامة.
ويجب الأذانُ والإقامةُ على الرِّجَال؛ لما روى البيهقيُّ (1/ 408) وضعَّفه عن أسماء بنت يزيدَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ليس على النِّساءِ أذَانٌ ولَا إقَامَةٌ".
وصَحَّ عن ابن عمر موقوفًا عند البيهقي (1/ 458)، كما قال ابن الملقِّن في "خلاصة البدر"(1/ 106).
قال الوزير: أجمعوا على أنَّهما لا يُشْرَعان لهنَّ ولا يسنَّان، ويجبان -على الصحيح- حضرًا وسفرًا؛ فلم يكن صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُمَا حضرًا ولا سفرًا.
قال النووي: لا يشرعان لغير المكتوباتِ الخمس عند جمهور العلماء من السلف والخلف.
جمل الأذان: والأذان المختارُ خمسَ عشرةَ جملةً.
قال الشيخ: مذهبُ أهلِ الحديث هو تسويغُ كلِّ ما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكرهون شيئًا من ذلك.
حكم استبدال الأذان بالإسطوانات:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: إنَّنا ننكر استبدالَ الأذان بالإسطوانات؛ فإنَّ ذلك يفتح على النَّاسِ بابَ التلاعُبِ بالدِّين.
ولا بأس باستعمال رافعِ الصوت في الأذان وخُطْبةِ الجمعة والعيدين ونحو ذلك؛ ليحصُلَ به إسماعُ الأذان في مسافاتٍ بعيدة.
وليس هذا من البدع؛ فإنَّ البدعة هي الطريقة المحدثة في الدِّين، مضاهاةً للشريعة، والميكروفون لا يقصد باستعماله إلَاّ رَفْعُ الصوت فقطْ، فهو وسيلةُ تبليغٍ، وهي ترجعُ إلى العادات، والله أعلم.
143 -
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ رضي الله عنه قَالَ: "طَافَ بِي وأنَا نَائِمٌ رَجُلٌ فَقَالَ: تَقُوْلُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، فَذَكرَ الأَذَانَ بِتَرْبِيعِ التَّكبِيرِ، بِغَيْرِ تَرْجِيْعٍ، وَالإِقَامَةَ فُرَادَى، إِلَاّ "قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ"، قَالَ: فَلَمَّا أصْبَحْتُ أتيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنَّهَا لَرؤْيَا حَقٍّ .. " الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَزَادَ أَحْمَدُ في آخِرِهِ قِصَّةَ قَوْلَ بِلَالِ رضي الله عنه فِي أَذَانِ الفَجْرِ: "الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ".
وَلاِبْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "مِنَ السُّنَّةِ إِذَا قَالَ المُؤَذِّنُ في الفَجْرِ: حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ، قَالَ: الصَّلاةُ خَيْرٌ من النَّوْمِ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والدارمي (1/ 286)، وابن الجارود (2/ 49)، والدَّارقطني (1/ 241)، والبيهقي (1/ 415).
وسنده حسن.
وقد صحَّحه جماعةٌ من الأئمة؛ كالبخاري والنووي والذَّهبي وغيرهم.
وأمَّا زيادة أحمد: فقال سعيد بن المسيب: "أُدْخِلَتْ هذه الكلمةُ في التأذين لصلاة الفجر".
(1) أحمد (4/ 43)، أبوداود (499)، الترمذي (189)، ابن خزيمة (1/ 371).
قال في سبل السلام: "وصحَّح الزيادةَ ابنُ خزيمة وابنُ السكن".
قال ابن حزم: "وإسنادُهُ صحيح، والأحاديثُ لم تَرِدْ بإثباتها إلَاّ في صلاة الصبح".
قال ابن عبد البر: "روى قصَّةَ عبد الله بن زيد هذه جماعةٌ من الصحابة بألفاظٍ مختلفة، ومعانٍ متقاربة؛ فالأسانيدُ في ذلك متواترةٌ من وجوهٍ حسان".
وقال ابن رشد: "إنَّها منقولةٌ بالتواتر، وإنَّ العلم بها حاصلٌ بالضرورة".
* مفردات الحديث:
- طَافَ بِي: طَافَ يَطِيفُ طَيْفًا، من باب باع.
قال في المصباح: "أصله الواو فهو يَطُوفُ؛ لكن قُلِبَتْ واوه ياءً؛ إمَّا للتخفيفِ، وإمَّا لغة؛ فالطائف: ما ألَمَّ بالإنسان".
وقال في المحيط: "طاف بالشيء: دَارَ حوله، وطاف الخيالُ: جاء في النوم".
- بتربيع التكبير: تكريره أربع مرَّاتٍ.
- ترجيع: رجَّع -بالتشديد- المؤذِّنُ في أذانه تَرْجِيعًا، بمعنى: أنْ يأتيَ بكلٍّ من الشَّهادتينِ مرَّتَيْنِ خافِضًا بهما صوتَهُ، ومرَّتين رافعًا بهما صوته.
- الإِقَامَة: يُقال: قام يقوم قومًا وقيامًا، ويتعدَّى بالهمزة، فيُقال: أقام الصلاة إقامة: نادى لها.
- رُؤيا: يقال: رأى يَرَى رؤية.
قال في المحيط: "الرؤيا كالرؤية، غير أنَّها مختصَّةٌ بما يكونُ في النوم، فرقًا بينهما، فالرؤيا: ما رأيته في منامك، جمعها رُؤًى".
- حي: بتشديد الياء، بمعنى: هَلُمَّ وأَقْبِلْ، وهو اسم فعلٍ بمعنى الأمر، مبنيٌّ على الفتح، فقول المؤذِّنين:"حي على الصلاة" يعني هلم وأقبل إلى الصلاة.
- فرادى: قال في المصباح: "فرادى: جمع فرد على غير قياس"، ومعناه: لا
تكرير في شيءٍ من ألفاظها، إلَاّ "قد قامت الصلاة"، فإنَّها المقصودة من الإقامة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استشار النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بوسيلةٍ يعلمون بها دخول وقت الصلاة المفروضة، فتفرَّقوا قبل أنْ يَصِلُوا إلى حَلًّ.
2 -
رأى عبد الله بن زيد في منامه رجلاً يَحْمِلُ ناقوسًا، فقال: أتبيعُ النَّاقوس؟ فقال الهاتف: وما تصنع به؟ قال: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير؟ قَالَ: بلى، قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر
…
إلى آخر الأذان، فاخبر به النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنَّها لرؤيا حقٍّ"، وأمر بالعمل بها.
3 -
دلَّ الحديثُ على مشروعيَّة الأذان لدعاء الغائبين إلى الصلاة في المساجد.
4 -
مشروعيَّةُ الشفع في الأذان، بأنْ يأتيَ بجُمَلِهِ مَثْنَى، أو رُبَاعَ، كالتكبير في أوَّله، ويكون بخمسَ عشرةَ جملةً، كلُّها مشفوعةٌ إلَاّ الجملةَ الأخيرة؛ فهذا أذان عبد الله بن زيدٍ المختار.
5 -
مشروعية إفراد الإقامة إلَاّ التكبيرَ في أوَّلها، و"قد قامت الصلاة"، فهي مشفوعة، وظاهر الحديث: إفراد التكبير في أوَّله، ولكن جمهور العلماء على أنَّ التكبير في أوَّلها مرَّتان.
6 -
الأفضلُ تركُ الترجيع، الَّذي هو الإتيانُ بالشهادتين بصوتٍ منخفضٍ، ثمَّ إعادَتُهُمَا بصوتٍ عال.
7 -
استحبابُ أنْ يقولَ المؤذِّن في صلاة الصبح، بعد "حي على الفلاح":"الصلاة خيرٌ من النوم" مرَّتين.
8 -
مناسبةُ هذه الجملة لهذا الوقت؛ لأنَّ الناس غالبًا في منامهم، فيحتاجون إلى هذا التذكير.
9 -
الحكمةُ في تكرير الأذان، وإفرادِ الإقامة: هي أنَّ الأذان لإعلام الغائبين؛
فاحتيج إلى التكرير ورفع الصوت، وأنْ يكونَ على مرتَفَعٍ؛ بخلاف الإقامة: فإنَّها لإعلام الحاضرين، وإنَّما كرِّرت "قد قامت الصلاة"؛ لأنَّها مقصود الإقامة.
10 -
قال ابن الملقِّن: ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشياء:
(أ) إظهارُ شعار الإسلام.
(ب) كلمةُ التوحيد.
(ج) الإعلامُ بدخول وقت الصلاة، ومكانها.
(د) الدعاءُ إلى الجماعة.
11 -
ذكر العلماءُ أغلاطَ المؤذِّنين، التي منها:
(أ) مَدُّ الهمزة في "أشهد"؛ ليخرج إلى الاستفهام.
(ب) مَدُّ الباء من "أكبر"؛ فينقلب المعنى إلى جمع "كَبَر" وهو الطبل.
(ج) الوقف على "إله"، ويبتدىء "إلَاّ الله".
(د) إدغام الدَّال في الرَّاء، من "محمدًا رسول الله".
(هـ) أنْ لا ينطق بالهاء من "الصلاة"، فيبقى دعاء إلى النَّار.
(و) الوقوفُ على آخرِ الكلمة بحركة.
***
144 -
وَعَنْ أَبِي مَحْذُوْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ الأَذَانَ فَذَكَرَ فِيْهِ التَّرْجِيع" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلكِنْ ذَكَرَ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ، وَرَوَاهُ الخَمْسَةُ فَذَكَرُوهُ مُرَبَّعًا (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث شاذٌّ بذكر التكبير في أوَّل الأذان مرَّتين.
فقد رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة أربع تكبيرات.
قال ابن عبد البر: "التكبير أربع مرَّات في أوَّل الأذان هو المحفوظُ من رواية الثقات، من حديث أبي محذورة، ومن حديث عبدالله بن زيد".
قال في التلخيص: حديث عبد الله بن زيد بتربيع التكبير في أوَّله هي قصَّة مشهورة، رواه أبوداود، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان.
والتربيع عمل أهل مكَّة، وهي مَجْمَع المسلمين في المواسم، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة.
قال النووي: يقولُ المؤذِّن كلَّ تكبيرتين، بنَفَسٍ واحد.
* مفردات الحديث:
- فيه الترجيع: رجَّعت الكلام وغيره، أي: ردَّدته، والترجيعُ في الأذان، معناه: ترديد الشهادتين مرَّتين، الأُولَى بخفض الصوتِ، والثانية برفعه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ أبا محذورة هو أحدُ مؤذِّنِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكَّة المشرَّفة.
2 -
مشروعيةُ تعليمِ الأذان للجاهل به.
(1) ابن خزيمة (386).
3 -
الترجيعُ وَرَدَ في حديث أذانِ أبي محذورة، ولم يَرِدْ في أذانَيْ بلال وعبد الله ابن أم مكتوم، وفي مثل هذا يستحبُّ أنْ يؤتَى به أحيانًا، ففي ذلك إعمالُ السنَّة كلِّها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهبُ أهل الحديث وَمَنْ وافقهم هو تسويغُ كلِّ ما يثبُتُ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلا يكرهون شيئًا من ذلك إذا تنوَّعت صفته، كالأذان، والإقامة، والتشهُّدات، والقراءات، فمِنْ تمام اتباعِ السُّنَّة أنْ يفعل هذا تارة، وهذا تارة، فهذا أصل للإمام أحمد مستمرٌّ في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها.
4 -
استحبابُ أنْ يكون المؤذِّن حسَنَ الصوت، جميل الأداء.
5 -
مشروعية الترجيع، وذلك بالإتيانِ بالشهادتَيْن خافضًا بهما صوته، ثمَّ إعادتهما بصوتٍ مرتفع.
6 -
التكبيرُ مرَّتان في أوَّلِ الأذان في أذان أبي محذورة، أمَّا في أذان بلال فأربع، وهو الَّذي تلقَّاه عبد الله بن زيد في منامه.
7 -
يختلف أذان أبي محذورة عن أذان بلال، بعدد جُمَلِهِ.
8 -
أبو محذورة من بني جُمَح من قريش، كان بعد الفتح مع صِبْيَانِ مكَّة، يحكون الأذانَ استهزاءً، فسمعه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فأعجبه صوته، فدعاه وعلَّمه الأذان، فكان مؤذِّنَ أهلِ مكَّة، وبلالٌ مؤذِّنَ أهلِ المدينة.
***
145 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "أُمِرَ بِلالٌ أنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَيُوترَ الإِقَامَةَ إِلَاّ الإِقَامَةَ، يَعْنِي: إِلأَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ولَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ الاِسْتِثْنَاءَ.
وَلِلنَّسائِيِّ: "أمَرَ النَّبَيُّ صلى الله عليه وسلم بلَالاً"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أُمِرَ بلال: بضم الهمزة على صيغة المجهول، والرَّاجحُ عند الأصوليين: أنَّ الآمر هو الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم، قال الكرماني: الصوابُ أنَّه مرفوع.
- يشفع: يُقال: شفَعَ العددَ يشفعُهُ شَفْعًا، أي: صيَّره شفعًا، أي: زوجًا، والمعنى: أضافَ إلى الواحد آخر، وإلى الركعة أخرَى؛ فصار شفعًا.
- يوتر: يُقال: أوتَرَ يُوتِرُ إيتارًا: جعل الشفع وترًا، وأوتر الإقامةَ: جعَلَ جملها وترًا، والوتر الفَرْد.
- يوتر الإقامة إلَاّ الإقامة: المراد من "الإقامة" الأولى: جميعُ جملِ الإقامة، والمراد من "الإقامة" الثانية: جملة "قد قامت الصلاة".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديثُ مرفوع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا التعبير عن الصحابة في حكم الرفع؛ لأنَّ الآمر والنَّاهي هو النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
استحبابُ شَفْعِ جميعِ الأذان، وذلك لأجلِ أنْ تكرَّر جُمَلُهُ، فيسمعها البعيدون؛ لإعلامهم بدخول وقت الصلاة.
(1) البخاري (605)، مسلم (378)، النسائي (2/ 3).
3 -
استحبابُ وِتْرِ الإقامة، والإتيانِ بجملها مفردةً؛ لأنَّها لإعلامِ الحاضرين بإقامة الصلاة؛ فلا تحتاجُ إلى التكرير.
4 -
استحبابُ تكرير "قد قامت الصلاة" في الإقامة؛ لأنَّها المقصودُ من الإقامة؛ فصار لهذه الجملة مزيدُ عناية واهتمام.
5 -
يؤخذُ من الحديث استحبابُ تكرير الأشياء الهامَّة على النَّاس، إذا لم يسمعوها في الأول؛ ليعوها ويستوعبوها، سواءٌ في الخُطَبِ، أو الدرس، أو غير ذلك مِنْ مواطن الإرشاد والتعليم.
فقد جاء في صحيح البخاري من حديث أنسٍ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدُ الكلمةَ ثلاثًا؛ لِتُعْقَلَ عنه".
6 -
أحسنُ استدلالٍ على جواز تفاوت جُمَلِ الأذان -ما بين أذانِ بلالٍ وأذانِ أبي محذورة- هو أنَّ هذا الأذانَ ينادَى به كلَّ يومٍ خمس مرَّاتٍ على أعلى مكانٍ، ويجيبُ المؤذِّنَ المسلمون كلُّهم، زمن الصحابة، ثمَّ التابعين، ومع هذا لم يذكر اختلاف بينهم في جواز الأمرين.
***
146 -
وعَنْ أَبي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: "رَأَيْتُ بِلَالاً يُؤَذِّنُ وَاتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا وَإِصْبَعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَلاِبْنِ مَاجَهْ: "وَجَعَلَ إِصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ".
وَلأِبِي دَاوُدَ: "لَوَى عُنمهُ لَمَّا بلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ يَمِيْنًا وَشِمَالاً، وَلَمْ يَسْتَدِرْ"(1) وأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
رواه أحمد، والترمذي، والحاكم (1/ 399) قال الترمذي: حسنٌ صحيح، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
وصحَّح هذه الرواية -أيضًا- ابن خزيمة، وأبو عوانة.
وأمَّا رواية ابن ماجه: ففيها الحجاج بن أرطاة، وهو غير محتجٍّ به.
وأمَّا قوله: "لم يستدر" فقد قال عنها البيهقي: إنَّها لم ترد من طريق صحيح، لأنَّ مدارها على سفيان الثوري، وهو لم يسمعه من عون، إنَّما رواه عن رجلٍ عنه، والرَّجل يتوهَّم أنَّه الحجَّاج، والحجَّاج غير محتجٍّ به.
* مفردات الحديث:
- فاه: هو الفم، جمعه: أفواه، و"فو" من الأسماء الخمسة التي ترفع بالواو،
(1) أحمد (4/ 308)، أبو داود (520)، الترمذي (197)، ابن ماجة (711).
(2)
البخاري (634)، مسلم (503).
وتنصب بالألف، وتجر بالياء.
- هاهنا وهاهنا: "هنا" اسم إشارة للقريب، و"ها" للتنبيه، تدخل على أربعة مواضع، أحدها: الإشارة غير المختصَّة بالبعيد، كهذا الحديث.
- إصبعاه: مجازٌ عن الأنملة، من باب إطلاق الكُلِّ وإرادة الجزء.
- لوى عنقه: التفَتَ برأسه فقط.
- لم يستدر: استدار، بمعنى: دار، ومعنى لم يستدر: أن جسمه ثابتٌ تجاه القبلة ويلوي عنقه يمينًا بِـ"حي على الصلاة"، وشمالاً بِـ"حيَّ على الفلاح".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعيَّة الأذان، وقد تقدَّم أنَّه من شعائر الدِّين الظاهرة، وأنْ يضع المؤذِّنُ أعلى سبَّابتيه في أذنيه؛ لأنَّه أرفع لصوته، وإذا رآه البعيد، عَلِمَ أَنَّه يؤذِّن.
2 -
استحباب استقبال القبلة في الأذان، وأنْ لا ينصرف عنها بجملته إلى الجهتين في الحَيْعَلَتَيْنِ، وفي رواية عن أحمد وغيره: أنَّه لا يدورُ إلَاّ إذا كان على منارة، قَصْدَ الإسماع.
3 -
يلتفتُ ويلوي عنقه يمينًا، عند قوله:"حي على الصلاة"، ويلوي عنقه شمالاً عند قوله:"حي على الفلاح"؛ لأنَّ هَاتَيْنِ الجملتَيْنِ هما اللتان فيهما التصريحُ بمناداةِ النَّاسِ؛ ليحضروا للصلاة، وما عداهما من جمل الأذان، فَذِكرٌ.
4 -
أمَّا بقيَّة جسده فيبقى مستقبلَ القبلة، لا يلتفت به، ولا يستدبر به القبلة.
5 -
استحبابُ إبلاغِ الأذان للنَّاسِ وإسماعهم إِيَّاه بأيِّ وسيلة مباحة، كمكبِّرات الصوت الحديثة الآن، فهي مستحبَّة لما فيها من الفائدة الكبيرة، وليستْ من البدع؛ فإنَّ البدعة في الدِّين: هي طريقةٌ في الدِّين مخترعة، تضاهي العبادة الشرعية، يُقْصَدُ بالسلوك عليها المبالغةُ في التعبُّد لله تعالى، وهذه الأجهزةُ لا يقصد باستعمالها العبادة، وإنَّما يُقْصَدُ بها رفعُ الصوت، فهي وسيلة تبليغ، فمرجعُهَا إلى العادات، والله أعلم.
147 -
وَعَنْ أَبِي مَحْذُوْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْجَبَهُ صَوْتُهُ، فَعَلَّمَهُ الأَذَانَ" رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
أخرجه الدَّارمي (1/ 291)، وأبو الشيخ بإسناد متصل إلى أبي محذورة، وأخرجه أيضًا ابن حبان (5/ 574) من طريق أخرى، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، وصَحَّحه ابن السكن، وابن حزم، وابن دقيق العيد.
* مفردات الحديث:
- أبو مَحْذورة: بفتح الميم، وسكون الحاء: مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكَّة، اختُلِفَ في اسمه، وأشهرها أنَّه: أوس بن معير بن محيريز، قرشي من بني جُمَح.
- أعجبه صوته: عَجِبْتُ من الشيء عَجَبًا، من باب تعب، ومعناها: استحسانُ الشيء والرضا به.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحبابُ كون المؤذِّن رفيعَ الصوت، حَسَنَ الأداء، شجيَّ النداء.
2 -
استحبابُ تعليمِ الأذان لمن أراد أنْ يَقُومَ به.
3 -
استحبابُ تحسينِ الصوتِ بالأذان وتلاوةِ القرآن؛ لأنَّ هذا أدعَى للخشوع، والإقبالِ على السماع.
…
(1) ابن خزيمة (377).
148 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم العِيْدَيْنِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) وَنَحْوُهُ فِي المُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَغَيْرهِ (2).
ــ
* مفردات الحديث:
- سَمُرة: بفتح السين، وضم الميم، ابن جُنْدُب، وجابرٌ: صحابيٌّ جليلٌ حليفٌ للأنصار.
- غير مرَّة ولا مرَّتين: التحديد بالمرَّة والمرَّتين غير مرادٍ: وإنَّما المراد أنَّ ذلك كثير.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ صلاة العيد، سواء الفطر أو الأضحى، لا يشرَعُ لها أذانٌ ولا إقامة، وهو كالإجماع بين العلماء.
2 -
قال ابن القيِّم في الهدي: "كانَ صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلَّى في صلاة العيد، صلَّى من غير أذانٍ ولا إقامةٍ، ولا قولِ: "الصلاة جامعة"، فالسنَّةُ أَنْ لا يُفْعَلَ شيءٌ من ذلك".
3 -
الحكمةُ في عدم الأذان للعيدَيْن -والله أعلم- أنَّ دخولَ وقتهما يشتهرُ بثبوتِ دخولهما، وأنَّ وقتهما محدَّدٌ ومعلوم.
والأذانُ الغرضُ منه الإعلامُ بدخول الوقت، وهنا النَّاسُ ليسوا بحاجةٍ
(1) مسلم (887).
(2)
البخاري (960)، مسلم (886).
إلى الإعلام بدخول الوقت، وليسوا في حالِ غفلةٍ عن الصلاةِ ووقتها.
4 -
الأذانُ والإقامةُ لا يشرعان لغير الصلوات الخَمْس المكتوبة، فلا يشرعان لا لنافلة، ولا جنازة، ولا عيد، ولا استسقاء، ولا كسوف.
قال النووي: لا يشرعان لغير المكتوباتِ الخمس، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف.
***
149 -
وَعَنْ أَبِي قتادَةَ رضي الله عنه في الحَدِيْثِ الطَّوِيْلِ فِي نَوْمِهِمْ عَنِ الصَّلَاةِ: "ثُمَّ أذَّنَ بِلالٌ فَصَلَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا كانَ يَصْنعُ كُلَّ يَوْمٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ولهُ عَنْ جَابِر رضي الله عنه "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى المُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وإقَامَتَيْنِ"(2).
وَلَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ المَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بإقَامَةٍ وَاحِدةٍ"، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ:"لِكُلِّ صَلَاةٍ"، وفي روايةٍ لَهُ:"وَلَمْ يُنادَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا"(3).
ــ
* مفردات الحديث:
- في نومهم عن الصلاة: هي صلاةُ الفجر، حين رجوعهم من غزوة خيبر.
- المزدلفة: هي إحدَى مشاعر الحج، وهي واقعةٌ بين وادي محسِّر ومأزمي عرفة، فوادي محسِّر غربها، والمأزمان شرقها، سمِّيت مزدلفة؛ لازدلاف الحجاج بها من عرفات إلى منى، وهي مبيت الحجاج ليلة عيد النحر.
وسيأتي بيانها في الحج، إنْ شاء الله تعالى.
- ولم يناد: النِّداء -هنا- يراد به: الأذان الشرعي.
(1) مسلم (681).
(2)
مسلم (2/ 891).
(3)
مسلم (1288)، أبو داود (1928).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية الأذان والإقامة للصلاة الفائتة بنَوْمٍ، ومثلها المنسيَّة، فيؤذَّن لها ويُقام؛ لأنَّها ليست قضاء، وإنَّما هي أداءٌ؛ لحديث:"من نام عِن صلاةً أو نسيها، فليصلِّها إذا ذكرها، لا كفَّارة لها إلَاّ ذلك"[رواه البخاري (597)، ومسلم (684)]، ولمسلم (684) من حديث أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"من نسيَ صلاةً فليصلِّها إذا ذكرها؛ فإنَّ الله قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} ".
2 -
في حديث جابرٍ دليلٌ على أنَّ الصلاتَيْن المجموعتَيْن في وقتٍ واحدٍ لهما أذانٌ واحدٌ وإقامتان، لكلِّ صلاةٍ إقامةٌ، هذا هو الرَّاجحُ من الروايات، وسيأتي الخلاف.
3 -
فيه دليلٌ على أنَّ صلاة الليل إذا قُضِيَتْ في النَّهار أنْ يجهر فيها بالقراءة؛ فإنَّ القضاء يحكي الأداء في أغلبِ صوره، ولقوله في الحديث:"فصلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم كما كان يصنع كلَّ يوم".
ومثله صلاةُ النهار تصلَّى بالليل، كما تصلَّى بالنهار.
4 -
وفيه دليلٌ على أنَّ النائم عن الصلاة معذورٌ، ما لم يتخذ النومَ عادةً له، يفوِّت عليه الصلاة في وقتها.
5 -
وفيه دليلٌ على أنَّ الصلاة المقضيَّة، تشرعُ لها الجماعة؛ كالمؤدَّاة.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في الأذانِ والإقامةِ لصلاتَي المغرب والعشاء، المجموعتَيْنِ ليلة المزدلفة:
فذهب الحنفية: إلى أنَّهما تصلَّيان بأذانٍ واحدٍ، وإقامةٍ واحدة.
وذهب بعضهم، ومنهم سفيان الثوري: إلى أنَّهما تصليان بإقامةٍ واحدة بدون أذان.
وذهب بعضهم، ومنهم مالك: إلى أنَّهما تصليان بأذانين، وإقامتين.
وذهب بعضهم، ومنهم إسحاق بن راهويه: إلى أنَّهما تصلَّيان بإقامتين، بدون أذان.
وذهب بعضهم، ومنهم الشافعي وأحمد: إلى أنَّهما تصلَّيان بأذانٍ واحدٍ، وإقامتين.
وسبب الاختلاف: تعدُّد الروايات، وبما أنَّه خلافٌ على واقعة واحدة، فإنَّ ابن القيِّم وأمثاله من المحقِّقين حكموا على متون هذه الروايات بالاضطراب، وصحَّحوا رواية جابر الَّذي تتبَّع حجَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم من أوَّلها إلى آخرها، ورواية جابر هو أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَاّهما بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، وهذا هو مذهب الإِمامين الشَّافعي وأحمد، رحمهما الله تعالى.
واختلفوا في حكم الجمع إذا وصَلَ مزدلفة قبل دخول العشاء:
فالمشهورُ من مذهب الإمام أحمد: أنَّه يصلِّي كلَّ صلاةٍ في وقتها؛ لأنَّ عذره في الجمع زال.
وذهب بعضهم: إلى أنَّه يؤخِّر المغرب حتَّى يدخُلَ وقت العشاء؛ ليجمع بينهما، تحقيقًا للجمع المشروع في هذه الليلة.
وذهب بعضهم: إلى أنَّه يصلِّيهما جمعًا متى وصل، سواءٌ في وقت المغرب أو بعد دخول وقت العشاء، وهذا هو الأرجحُ؛ لأنَّه حصَلَ الجمعُ المراد، وحصَلَ به الصلاةُ من حين الوصول.
***
150 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما قَالَا: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ بِلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُوْمٍ، وَكانَ رَجُلاً أعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أصْبَحْتَ، أصْبَحْتَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي آخِرِهِ إِدْراجٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فكلوا واشربوا: أي: السحور، إنْ أردتم الصيام.
- ينادي: أي: يؤذِّن، كما في رواية الطحاوي، ومعناهما واحد، فالأذان: هو النِّداء؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9].
قال في المصباح: النِّداء، بكسر النون أكثر من ضمِّها، وبالمد فيهما أكثر من القصر.
- بليل: الباء للظرفية، أي: في ليل، والمرادُ به قبيل الفجرة حيثُ بيَّنته رواية البخاري:"لم يكنْ بينهما إلَاّ أنْ يَرْقَى هذا، وينزل هذا".
- أصبحت أصبحت: أي: دخلْتَ في وقت الصباح؛ فقد جاء في رواية البيهقي: "ولم يكن يؤذِّن حتَّى ينظر النَّاس إلى بزوغِ الفجر".
واختلف في اسم ابن أمِّ مكتوم، والأكثر: أنَّه عمرو، وهو قرشيٌّ عامريٌّ، وأُمُّه من بني مخزوم، وهو من المهاجرين الأوَّلين، وهو الَّذي نزل في قصَّته أوَّل سورة عبس.
(1) البخاري (617)، مسلم (1092).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جواز اتخاذ مُؤَذِّنَيْنِ لمسجدٍ واحدٍ، ويستحبُّ تعاقبهما في الأذان.
2 -
مشروعية أنْ يؤذِّن كل واحدٍ منهما في وقتٍ خاصٍّ معلوم؛ ليعلم وقت أذان هذا من أذان الآخر.
3 -
استحبابُ أنْ يكونَ الأذانُ على مكانٍ عالٍ؛ لقوله في بعض ألفاظ الحديث: "فما كان بينهما إلَاّ أنْ يصعد هذا، وينزل هذا".
4 -
جوازُ أذان الأعمَى، إذا وُجِدَ مَنْ يُخْبِره بدخول وقت الأذان.
5 -
جوازُ الأذانِ لصلاة الصبحَ قبل وقتها، فأصحابنا الحنابلةُ أجازوه من بعد نصف الليل، ولكن رواية البخاري (1919) لهذا الحديثِ لا تُثْبتُ ذلك؛ فإنَّ نص الرِّواية:"ولم يَكنْ بينهما إلَاّ أنْ يرقى هذا، وينزل هذا".
وعند الطحاوي بلفظ: "إلَاّ أنْ يصعد هذا، وينزل هذا".
وللعلماء في دخول وقت الأذان للصبح من الليل ستَّة أقوال، والأفضل: الاقتصار على الوارد أو قربه بقليل؛ فيكون في السحر قبيل طلوع الفجر، وعليه يدل الحديث، واختاره من الشَّافعية البغوي، ومال إليه من الحنابلة الموفَّق ابن قدامة.
6 -
جوازُ الأكل والشرب لمريدِ الصيامِ حتَّى يتبيَّن الصبح؛ فإنَّ أذان بلال الَّذي يتقدَّم الصبح بقليل، لم يكن أذانه مُحَرِّمًا للطعام على الصائم؛ قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].
7 -
وفيه دليلٌ على أنَّ مريد الصومِ لو أكلَ ظانًّا بقاءَ الليل، ثمَّ تبيَّن أنَّه أكلَ بعد طلوعِ الفجر: لا قضاءَ عليه، ولا إِثْمَ عليه؛ لأنَّه مأذونٌ له، وما ترتَّب على المأذون جائزٌ.
8 -
إذا كان للمسجدِ الواحدِ مؤذِّنان، وأذَّنا للصبح، فالواجبُ أنْ يكون أذان
الأخير منهما مع طلوع الفجرة حتَّى يكون في أذانه الإعلامُ بالكفِّ عن المفطِّرات لمريد الصيام، والإعلام بدخولِ وقت الصلاة.
9 -
الحديثُ فيه إدراج، وهو من قوله: "وكان رجلاً
…
إلخ" قيل: من كلام ابن عمر، وقيل: من كلام الزهري.
10 -
قوله: "إنَّ بلالاً يؤذِّن بليل" يقتضي أنَّ هذه كانتْ طريقتَهُ وعادتَهُ دائمًا.
11 -
الأذان للصبح قبل الوقت مناسب؛ ذلك لأنَّ النَّاس في حالة نوم، ولو لم يؤذَّن إلَاّ بعد أنْ يطلع الفجر، لَمَا تمكَّنوا من الاجتماع في المسجد للصلاة، إلَاّ بعد فوات أوَّلِ الوقت، فَشُرِعَ الأذانُ ليلاً لهذه الغاية.
12 -
فيه دليلٌ على صحَّة العمل بِخَبَرِ الواحد.
***
151 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أنَّ بِلَالاً أَذَّنَ قَبْل الْفَجْرِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلا إِنَّ العَبْدَ نَامَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَضَعَّفَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ، وله روايتان:
إحداهما: الَّتي ساقها المؤلِّف من أنَّ الَّذي أذَّن قبل الفجر هو بلال، مؤذِّنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود، والترمذي، وابن المديني، وقد ضعفوها.
الثانية: أنَّ الَّذي بادَرَ بالأذان هو مسروح، مؤذَّن عمر، ورجَّحَهَا أبوداود؛ وهو الصواب.
* مفردات الحديث:
- ألَا: يؤتَى بها لاستفتاحِ الكلام، ويُراد بها -في مثل هذا- تنبيهُ السَّامع إلى ما يُلْقَى إليه من الكلام، كما هو المراد هنا.
- إنَّ العبد نام: أي: غَفَلَ عن الوقت بسبب النعاس، والمقصودُ: إعلام النَّاس بالخطأ، وبلال رضي الله عنه أصله مولًى لأبي بكر الصديق وأعتقه، فكان عمر بن الخطاب يقول: أبو بكر سَيِّدُنا، وأعتق سَيِّدَنا، يعني: بلالاً.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدلُّ الحديثُ على أنَّ الأذان لصلاة الصبح لا يصحُّ إلَاّ بعد طلوع الفجر، وأنَّ المؤذِّن إِذَا أخطأ فأذَّن قبل الصبح، عليه أنْ يعود فينبِّه النَّاس إلى خطئه؛
(1) أبو داود (532).
وهكذا وقع لبلال لمَّا أذَّن قبل الصبح.
2 -
هذا الحديثُ هو دليلُ الحنفية في أنَّ الأذانَ لا يصحُّ إلَاّ بعد دخول الوقت، ومن ذلك صلاةُ الصبح؛ فلا يؤذَّن لها قبل وقتها بطلوع الفجر.
3 -
جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة- أجازوا الأذانَ لصلاةِ الصبح قبل طلوع الفجر، وَحَمَلُوا هذا الحديثَ على أنَّه وَقَعَ قبل أنْ يشرع الأذان الأوَّل لصلاة الصبح.
4 -
إذا لم يمكنْ حملُ هذا الحديث على أحد المحامل الوجيهة، فإنَّه لا يقاوم الأحاديثَ الصحيحةَ التي تجيزُ الأذانَ لصلاةِ الصبح من الليل، ومنها:
(أ): ما جاء في البخاري (621) ومسلم (1093) من حديث ابن مسعود؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعنَّ أحدَكُمْ أذانُ بلال من سحوره؛ فإنَّه يؤذِّن بليل".
(ب): ما في البخاري (623) ومسلم (1092) من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ بلالاً يؤذِّن بليل، فكُلُوا واشربوا حتَّى يؤذِّن ابن أُمِّ مكتوم".
وحديث الباب إنْ صحَّ، فهو موقوفٌ على عمر بن الخطاب، فهو الَّذي وقع له ذلك مع مؤذِّنه، وأنَّ حمَّادًا انفرد به.
قال ذلك حفَّاظ الحديث وأئمة المسلمين؛ أمثال أحمد بن حنبل، والبخاري، والترمذي، وأبي حاتم، والذهلي، وغيرهم.
قال البيهقي: الأذان للصبح بالليل ثابت عند أهل العلم بالحديث، والأحاديثُ الصحاحُ أولَى بالقبول من هذا الحديث.
***
152 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ: فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُوْلُ المُؤَذِّنُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه مِثْلُهُ (2).
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي فَضْلِ القَوْلِ كَمَا يَقُوْلُ المُؤَذِّنُ كَلِمَةً كَلِمَةً سِوَى الحَيْعَلَتَيْنِ، فَيَقُوْلُ:"لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ"(3).
ــ
* مفردات الحديث:
- الحيعلتين: تثنية حَيْعَلَة، وهي كلمةٌ منحوتة من "حي على الصلاة" و"حي على الفلاح" ونَحْتُ الكلمة: أخذها وتركيبها من كلمتَيْن أو كلمات، كما يُقال: بَسْمَلَ من "باسم الله"، وَحَمْدَلَ من "الحمد لله"، وهكذا.
- مثل ما يقول المؤذِّن: "مثل" منصوبٌ على أنَّه صفة لمصدرٍ محذوف، أي: قولوا قولاً مِثْلَ ما يقول المؤذِّن، وكلمة "ما" موصولة، والمِثْلُ هو النظير.
- حول: الحول: القدرة على التصرُّف، والمعنى: لا تحوُّل عن معصية الله إلى طاعته إلَاّ به.
- قوَّة: أي: طاقة.
- لا حول ولا قوَّة إلَاّ بالله: يجوز في إعرابها خمسة أوجه، أفضلها فتحهما بلا
(1) البخاري (611)، مسلم (383).
(2)
البخاري (612).
(3)
مسلم (385).
تنوين، ومعناها: لا حركة ولا استطاعة إلَاّ بمشيئة الله، وهذا المعنَى هو المناسبُ في هذا المقام، وتسمَّى "الحوقلة"؛ فالحاء والواو من الحول، والقاف من القوَّة، والَّلام من اسم الله.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحبابُ إجابة المؤذِّن بمثل ما يقولُ في جُمَل الأذان، سوى الحيعلتين.
2 -
الإجابة في الحيعلتين تكونُ بـ "لا حول ولا قوَّة إلَاّ بالله".
3 -
الإجابةُ بهذه الطريقة في غاية الحسن والمناسبة؛ فألفاظُ الأذان بالذكر تكون من السامع والمجيبُ بالذكر مثلُ المؤذِّن، وأمَّا في النِّداء إلى حضور الصلاة بـ "حي على الصلاة، وحي على الفلاح"، فالمناسبُ التبرِّى من الحول والقوَّة على ذلك، والاستعانةُ بالله تعالى على المهمَّة التي يدعو إليها المؤذِّن ويناد لها.
4 -
حديثُ أبي سعيد أن القول مثلُ قول المؤذِّن في جميع جُمَل الأذان، وحديثُ عمر أنَّ السَّامع يقول عند "حي على الصلاة، وحي على الفلاح": "لا حول ولا قوَّة إلَاّ بالله":
فمَنْ ذهَبَ مذهبَ الترجيح، أخذ بعموم حديث أبي سعيد؛ لأنَّه أصح.
ومن ذهب مذهب الجمع، حَمَلَ العامَّ على الخاص، وعمل بالحديثين، وهو الاقتصارُ على الحيعلة، وهو مذهبُ جمهور العلماء، ومنهم المالكية والحنابلة، وهذا هو الأولى؛ عملاً بنصوص السنة كلِّها.
5 -
فضل الله تعالى ورحمته على عباده، فالأذان عبادةٌ جليلةٌ، ولن يدركها ويدرك فضلها كلُّ أحد، فعوِّض من لم يؤذِّن بالإجابة؛ ليحصُلَ على أجر الإجابة، وسيأتي بيانها، إنْ شاء الله تعالى.
6 -
قوله: "كلمةً كلمةً" فيه استحبابُ المتابعة، فيقولُ المجيبُ الجملةَ بعد المؤذِّن لا معه؛ فقد روى النسائي في الكبرى (6/ 14) عن أمِّ سلمة: "أنَّه
-صلى الله عليه وسلم كان يقول كما يقول المؤذِّن حين يسكت".
7 -
قال العلماء: لو لم يجاوبه حتَّى فرَغَ من الأذان، استُحِبَّ له التدارُكُ إنْ لم يَطُلِ الفصلُ، فإنْ طال، فإنَّها سنَّة فاتَ محلُّهَا.
8 -
جمهورُ العلماء على أنَّ إجابةَ المؤذِّن سنَّةٌ مستحبة، وليمست بواجبة؛ لما روى مسلم (382) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم سمع مؤذِّنًا، فلمَّا كبَّر، قال:"على الفطرة"، فلمَّا تشهَّد، قال:"خرجت من النَّار"؛ فلو كانت واجبة، لقال مثل ما يقول.
وذهب فريقٌ من الحنفية والظاهرية: إلى أنَّها واجبة، وفريقٌ آخر من الحنفية: لا يرون الوجوب بل الاستحباب؛ كقول الجمهور، وهو الرَّاجح من القولين، والله أعلم.
9 -
أمَّا إجابةُ المقيم بمثل ما يقول، فقد جاء فيه ما روى أبو داود (528) عن بعض أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ أنَّ بلالاً أخذ في الإقامة، فلمَّا قال: قد قامت الصلاة، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:"أقامها الله وأدامها"، وقال في سائر ألفاظ الإقامة كنحو حديثِ عمر في الأذان؛ ولكنَّه ضعيف.
10 -
لا تكره متابعة المؤذِّن في حالي من الأحوال، ولا وَقْتٍ من الأوقات، إلَاّ في حالٍ نَهَى الشرعُ عن الذكر فيها.
***
153 -
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ رضي الله عنه قَالَ: "يَا رَسُوْلَ اللهِ! اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمي، فَقَالَ: أنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يأْخُذُ عَلَى أذَانِهِ أَجْرًا" أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ.
أخرجه الخمسة، وحسَّنَه الترمذي، وصحَّحه الحاكم وابن خزيمة.
قال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أخرى، دون قوله:"واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا".
ولكن رواه بهذه الزيادة أبو عوانة في صحيحه، ولهذه الزيادة طريق ثالثة صحَّحها الترمذي.
* مفردات الحديث:
- اقتد بأضعفهم: أي: لَاحِظْ أضعفَهم في تخفيف الصلاة.
- أجرًا: يعني: أجرة دنيوية على أذانه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قَدِمَ عَلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم في المدينة وَفْدُ ثَقيف، قادمين من الطَّائف سنةَ تسع من الهجرة، فضرَبَ لهم النَّبي صلى الله عليه وسلم في قبَّهً في ناحية المسجد؛ ليسمعوا القرآن، وكان معهم عثمان بن أبي العاص الثقفي -وهو أصغرهم سنًّا- فكان في تلك
(1) أحمد (4/ 21)، أبو داود (531)، الترمذي (209)، النسائي (2/ 23)، ابن ماجة (714)، الحاكم (1/ 199).
الفترة يلازم النَّبي صلى الله عليه وسلم ويستقرئه القرآن، فحفظ شيئًا كثيرًا من القرآن، فكان أعلمَهُمْ بكتابِ الله وبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حرصه على الخير وصلاحه، جعله أميرًا عليهم وعلى الطائف.
2 -
طلب من النَّبي صلى الله عليه وسلم أنْ يكونَ إمامًا لقومه في الصلاة، فجعله إمامًا، فقال:"أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم".
3 -
هذا الطلبُ ليس مِنْ طلبِ الولاية المذموم، الَّذي يرادُ به الاستعلاءُ على النَّاس، وطَلَبُ الجاهِ والمنصب، وإنَّما طلب هذه الولاية ليحصُلَ له أجرها وثوابها؛ فبهذا يكون الطلَبُ وجيهًا محمودًا.
4 -
إذا كَانَ الإنسانُ يعلَمُ من نفسه الكفاءةَ والقُدْرَةَ على العمِل، وأنَّ غيره لا يقومُ مقامه ولا يَسُدُّ مكانه، فيتعيَّن عليه الطلب؛ لكونه فرْضَ عين عليه، ومن ذلك طَلَبُ يوسف عليه السلام الولايةَ بقوله:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف]؛ فإنَّه رأى اقتصاد مصر مترديًا، ورأى في نفسه قوَّةً وقدرةً على إصلاحه وحفظه، فطلبه لهذه الغاية الشريفة.
5 -
يستحبُّ للإمامِ مراعاةُ حال الضعفاء والمسنِّين والعجزة؛ فلا يشقُّ عليهم بطولِ الصلاة، وطولِ الانتظار لها، وإنَّما يراعي حال الضَّعَفَة والعاجزين.
6 -
اختيار المؤذِّن الأمين، الَّذي يؤذِّن لوجه الله تعالى وطَلَب ثوابه، لا الرَّجل الَّذي لا يؤذِّن إلَاّ لأجل عرضٍ من الدنيا، فهذه عبادةٌ جَليلةٌ لا يفرّط في ثوابها لأجل الدنيا، أمَّا إذا أخذ الجُعَالةَ والرِّزْقَ من بيت المال، أو من الأوقاف الخيرية على العمل الديني، فلا بأس؛ لأنَّ مَنْ أراد القيامَ به لا يتمكَّن من ذلك إلَاّ بهذا المرتَّب؛ ليقومَ بنفقة نفسه، ونفقةِ مَنْ يعول، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
***
154 -
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيؤذِّنْ لَكُمْ أحَدُكمْ
…
" الحَدِيْثَ. أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- حضرت الصلاة: يعني: دخل وقتها.
- فليؤذِّن: الَّلام لام الأمر، والفعل بعدها مجزوم بها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
وجوبُ الأذان، وأنَّه من الفروضِ الواجبة على المسلمين؛ فهو من شعائر الدِّين الظاهرة، التي يُقَاتَلُ مَنْ تركها.
فقد روى البخاري عن أنسٍ قَالَ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنا قومًا، لم يكن يُغِيْرُ بنا حتَّى يصبح، وينظر، فإذا سمع أذانًا كفَّ عنهم، وإنْ لم يسمع أذانًا أغار عليهم"، فالأذان شعار الإسلام.
2 -
أنَّ الأذانَ فرضُ كفاية، إذا قام به مَنْ يكفي، سقط عن الباقين، وإلَاّ أثموا جميعًا، وهذه قاعدةُ فروضِ الكفايات كلِّها.
3 -
إطلاقُ الحديث بأذان أحد الحاضرين مقيَّدٌ بالنصوص الأُخر، من بيان الصفاتِ المطلوبة في المؤذِّن، منها:
(أ) قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: "ألقه إلى بلال؛ فإنَّه أندى منك صوتًا"[رواه أبو داود (499)].
(1) البخاري (628)، مسلم (674)، أحمد (3/ 436)، أبو داود (589)، الترمذي (205)، النسائى (2/ 9)، ابن ماجة (979).
(ب) وقوله صلى الله عليه وسلم: "واتَّخِذْ مؤذِّنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا"[رواه أبو داود (531)، والترمذي (155)].
(ج) وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤذِّنُ مؤتَمَنٌ"[رواه أبوداود (517)، والنسائي (207)].
(د)"أنَّ النبَّي صلى الله عليه وسلم سَمِعَ أذانَ أبي محذورة، فاعجبَهُ صوتُهُ فعلَّمه الأذان"[رواه ابن خزيمة (377)].
وهكذا من ذكر الصفات التي تُطْلَبُ في المؤذِّن.
4 -
اشتراطُ الإسلامِ في المؤذِّن، فلا يصحُّ من كافرة لقوله:"وليؤذِّن لكم أحدكم".
5 -
أنَّ الأذان لا يصحُّ إلَاّ إذا حضرتِ الصلاة بدخول وقتها، وتقدَّم استثناء صلاة الصبح بالأحاديث الصحيحة.
6 -
وجوبُ رفع الصوت في الأذان؛ لأنَّ المقصود إعلام النَّاس بدخول الوقت.
***
155 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلالٍ: "إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتْ فَاحْدُرْ، وَاجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارَ مَا يَفْرُغُ الآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ
…
" الحَدِيْثَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ (1).
ــ
*درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ.
قال الترمذي: لا نعرفه إلَاّ من حديث عبد المنعم، وهو إسناد مجهول، كما ضعَّفه البيهقي (1/ 248) وابن عدي، وله شاهد من حديث أبي هريرة، وأخرجه أبو الشيخ من حديث سليمان، ومن حديث سليمان، ومن حديث أُبَيّ بن كعب عند عبد الله أبن الإمام أحمد، وكلها واهية.
لكن روي هذا المعنى من كلام عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما كما في مصنف أبن أبي شيبة
قال الصنعاني: إلَاّ أنَّه يقوِّي روايات هذا الحديث المعنى الَّذي شُرِعَ له الأذان.
* مفردات الحديث:
- ترسَّل: أي: تمهَّل، ورتِّل ألفاظَ الأذان، ولا تسردها.
- احْدُر: بالحاء والدَّال المهملتين، والدَّال المضمومة، فراء، والحَدْرُ: الإسراعِ فِي الإقامة.
- فرغ: فرَغ يَفْرُغُ -من باب قعد- فراغًا، يقال: فَرَغَ من الشيء: أتمَّه، والمراد
(1) الترمذي (195).
هنا: انتهى من كله.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحبابُ الترسُّل، والتمهُّل، والترتيل في أداء الأذان؛ ليسمع البعيد.
2 -
أمَّا الإقامة فالأفضلُ الحدر بها وإرسالُهَا مسرعًا بها؛ لأنَّها لإعلامِ الحاضرين بإقامة الصَّلاة، فلا يحتاجون ما يحتاجُ إليه البعيد.
3 -
الأذانُ هو إعلامُ النَّاس بدخول الصَّلاة، ودعوتُهُمْ إلى الحضورة فالأفضلُ أنْ يُجْعَلَ بين الأذانِ وإقامةِ الصلاةِ وقْتٌ يستعدُّون فيه للحضور، ويَفْرُغون من أعمالهم، التي بدأ الأذان وهم قائمون بها، من أكلٍ ولبسٍ وطهارةٍ ونحوها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"اجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يَفْرُغُ الآكل من أكله".
4 -
كما أنَّ المستحبَّ أنْ لا يطيل الانتظار ما بين الأذان وقبل الصلاة، فيشق علي الحاضرين.
5 -
في البخاري (603) ومسلم (378): "أمِرَ بلالٌ أنْ يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلَاّ قد قامت الصلاة".
قال الترمذي: هو قول أكثر العلماء.
وشَفْعُ الأذان، وإيتار الإقامة: هو المتواتر في الجملة، والحكمةُ في تكرير الأذان وإفراد الإقامة: أنَّ الأذان لإعلام الغائبين، فاحتيج إلى التكريرة بخلاف الإقامة: فإنَّها لإعلام الحاضرين؛ فلا حاجة إلى تكرير ألفاظها.
***
156 -
وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُؤَذِّنُ إِلَاّ مُتَوَضِّىءٌ" وَضَعَّفَهُ أيضًا (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
ضُعَّفَ هذا الحديثُ بالانقطاع بين الزهري وأبي هريرة؛ كما أنَّ الراوي عن الزهري ضعيف، ورواه الترمذي، عن يونس، عن الزهري، عنه موقوفًا، وقال: هذا أصح.
* مفردات الحديث:
- إلَاّ متوضِّىء: يتعيَّن في "متوضِّىء" الرَّفع على أنَّه بَدَلٌ من المستثنى منه، وهو فاعل مقدَّر.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
ظاهرُ الحديثِ اشتراطُ الطهارة للأذان، لكنْ حمله الجمهور على الاستحباب، دون الوجوب.
2 -
الحكمة في مشروعية الطهارة للأذان أمران:
الأوَّل: لاتصاله بالصلاة؛ فإنَّ تمام الحديث عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الأذان متصلٌ بالصَّلاة؛ فلا يؤذِّن أحدكم إلَاّ وهو طاهر" من باب الاستعداد لها بشرطها.
الثَّانِي: أنَّ الأذان عبادةٌ ينبغي الإتيان بها على طهارة، لاسيَّما العبادة المتعلِّقة بالصَّلاة.
(1) الترمذي (200).
3 -
وإِذَا كان الأذان تشرع له الطهارة، فهي في الإقامة -الَّتي هي الإعلام للقيام إلى الصَّلاة- من باب أولى؛ ولذا قال العلماء: وتكره إقامةُ مُحْدِثٍ.
قال شيخ الإسلام: في صحة إقامة المُحْدِثِ خلافٌ.
4 -
الَّذي صَرَفَ العلماءَ عن الأخذ بظاهر الحديث -فلم يوجبوا الطهارةَ على المؤذِّن- هو أنَّ الحديثَ ضعيفٌ، لا تقومُ به حُجَّةٌ على إثبات حكم شرعي، فقد ضعَّفه الترمذيُّ، والحافظ ابن حجر بالانقطاع، والترمذي صحَّح وقفه على أبي هريرة.
***
157 -
وَلَهُ عَنْ زِيَادِ بْنِ الحَارِثِ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُوْل اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ أذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ"، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا (1).
ــ
درجة الحديث:
الحديث حسنٌ بشواهده.
رواه الترمذي، وقال: إنَّما نعرفه من حديث عبد الرحمن الإفريقي، وهو ضعيفٌ عند الجمهور؛ ولكنَّ العمَلَ عليه عند أكثر أهل العلم، قال أحمد: لا أكتب حديث الإفريقي.
قال في التلخيص: وقد ضعَّفه ابن القطان وغيره.
وله طريقٌ ثانية: أخرجها الطبراني والعقيلي، من حديث سعيد بن راشد، عن عطاء، عن ابن عمر، وفيه قصَّة، وسعيد ضعيف، وضعَّف حديثه هذا أبوحاتم الرَّازي وابن حبان.
وقد حسَّن الحديث الحازمي، وقواه العقيلي وابن الجوزي، وصحَّحه أحمد شاكر.
*ما يؤخذ من الحديث:
1 -
روى الخمسة عن زياد بن الحارث الصُّدَائي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أخا صُدَاءٍ أذِّن، قال: فأذنت، فأراد بلالٌ أنْ يقيم، فقال صلى الله عليه وسلم: يقيم أخو صُداء؛ فإنَّ من أذَّن فهو يقيم".
2 -
الحديث دليلٌ على أنَّ الإقامة حقٌّ لمن أذَّن، قال الترمذي: العمَلُ على هذه عند أكثر أهل العلم، أنَّ من أذَّن فهو يقيم.
(1) الترمذي (199).
3 -
جمهور العلماء يُجَوِّزُن إقامَةَ مَنْ لم يؤذِّن؛ لعدم نهوضِ الدليل على المنع، ولِمَا يَدُلُّ عليه قول عبدالله بن زيد: أنا رأيت الأذان، وأنا أريده، قال:"فأقم أنت".
وسيأتي أنَّه حديثٌ ضعيفٌ.
4 -
استحقاقُ الأشياء العامَّة للنَّاس بالشروع فيها، والأخذ بأسباب استحقاقها، فالأذانُ هو النِّداء الأوَّل، والإقامة هي النِّداء الثاني، فاستَحَقَّ الثَّانيَ لقيامه بالأوَّل.
***
158 -
وَلأبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّه قَالَ: "أنَا رَأيْتُهُ -يَعْنِي الأَذَانَ- وَأنَا كُنْتُ أرِيْدُهُ، قَالَ: فَأَقِمْ أنْتَ" وَفِيْهِ ضَعْفٌ أَيْضًا (1).
ــ
*درجة الحديث:
الحديث حسنٌ.
الحديث في إسناده محمد بن عمر الواقفي، وهو ضعيفٌ، ضعَّفه ابن القطان، وابن معين، والبيهقي، وقال: وقع في سنده ومتنه اختلاف.
وله طريقٌ أخرى أخرجها أبو الشيخ عن ابن عبَّاس، وإسناده منقطع، لأنَّه من رواية الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وهذا من الأحاديث التي لم يسمعها الحكَمُ من مقسم.
لكن حسَّن الحديثَ ابنُ عبد البر؛ كما في التلخيص الحبير (1/ 209)، وحسَّنه الحازمي؛ كما في الدراية لابن حجر، وحسَّنه ابن الملقِّن.
وروى البيهقي في الخلافيَّات عن عبد الله بن زيد: "
…
فقال: "علمهن بلالاً"، قال: فتقدَّمت، فأمرني أنْ أُقيم، فأقمت" وإسناده صحيح؛ كما في الدراية للحافظ ابن حجر (1/ 115).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
عبد الله بن زيد الأنصاري هو الَّذي رأى الأذانَ في المنام، وأخبر به النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأقرَّه حكمًا شرعيًّا، وشعيرةً إسلامية كبرى.
2 -
النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يَرُدَّ حجته بذلك ولم يَنْفِهَا، وإنَّما قال عليه الصلاة والسلام:
(1) أبو داود (512).
"يكفيك الإقامةُ، فأقم أنت".
3 -
النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قدَّمَ المصلحةَ العامَّةَ على المصلحة الخاصَّة؛ فعبد الله بن زيد له حقٌّ في الأذان، وقيامه به مصلحةٌ خاصَّةٌ به، وقيامُ بلال به مصلحةٌ عامَّة لِحُسْنِ صوتِهِ ونداوته، فقدَّمها، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله ابن زيد:"قم مع بلال، فَأَلْقِ عليه ما رأيتَ فليؤذِّنْ به؛ فإنَّه أندى منك صوتًا"[رواه الترمذي (189)]، ففي هذا تقديمُ المصلحة العامة على المصلحة الخاصَّة، وأنَّه من السياسةِ الشرعيَّةِ الحكيمة.
4 -
جوازُ أنْ يقومَ بالأذان واحدٌ، ويقومَ بالإقامة آخَر، وهو مذهبُ الجمهور، كما تقدَّم.
5 -
حرص الصحابة رضي الله عنهم على فعل الخير، وتسابقهم إليه؛ فهم أوَّل من تناله هذا الآية:{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون].
6 -
فضلُ الأذانِ، وتنافُسُ الصحابة بالحصول على القيامِ به؛ فقد جاء في البخاري (615)، ومسلم (437) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّداء والصف الأوَّل، ثمَّ لا يجدوا إلَاّ أنْ يَسْتَهِمُوا عليه، لَاسْتَهَمُوا عليه".
7 -
فيه مراعاةُ المصالح الخاصَّة إذا لم تُخِلَّ بالمصالح العامة؛ فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أَذِنَ له في الإقامة رعايةً لحقِّه، وقيامُهُ بها لا يُخِلُّ بمقصودِ الإقامة، فما هي إلَاّ إعلامٌ للحاضرين بقيامِ الصَّلاة، فلا تحتاجُ إلى صوتٍ عالٍ كالأذان.
159 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المُؤَذِّنُ أمْلَكُ بِالأَذَانِ، وَالإِمَامُ أمْلَكُ بِالإِقَامَةِ" رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَضَعَّفَهُ (1).
ولِلْبَيْهَقِيِّ نَحْوهُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِنْ قَوْلهِ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ.
قال في التلخيص: تفرَّد به شَرِيك، قال البيهقي: وليس بمحفوظ، ورواه أبوالشيخ من طريق أبي الجوزاء، عن ابن عمر، وفيه مُعَارِكُ بن عباد، وهو ضعيف، ورواه البيهقي عن عليٍّ موقوفًا.
قلت: مُعَارِك: بضم الميم بعدها عين مهملة ثمَّ ألف ثمَّ راء وآخره كاف.
* مفردات الحديث:
- أملك بالأذان: فهو أحقُّ به، ووقته موكولٌ إليه؛ لأنَّه الأمينُ عليه.
- أملك بالإقامة: فالإمَامُ أحقُّ بها، فلا يقيمُ المؤذِّنُ إلَاّ بإشارته.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
المؤذِّنُ موكولٌ إليه تحرِّي دخول الوقت، فهو الأمينُ عليه، فمراقبته ودخوله منوطةٌ به، وراجعٌ أمرُهُ إليه.
2 -
أمَّا الإقامةُ فأمرها راجعٌ إلى الإمام، فلا يقيمُ المؤذِّنُ إلَاّ بعد إشارته.
(1) ابن عدي في الكامل (4/ 1327).
(2)
البيهقي (2/ 19).
3 -
قيام المأمومين إلى الصلاة، وَرَدَ فيه ما جاء في البخاري (637) ومسلم (604):"إذَا أُقيمت الصَّلَاة، فلا تقوموا حتَّى تروني".
4 -
أمَّا شروعُ المقيم في الإقامة، ففيه حديث جابر بن سمرة في مسلم (606):"إنَّ بلالاً كان لا يقيم حتَّى يَخْرُجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم".
5 -
ظاهرُ الحديث الأوَّل أنَّ المقيم يقيمُ، وإنْ لم يحضر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وظاهر الحديث الثاني أنَّه لا يَشْرَعُ في الإقامة حتَّى يخرُجَ من بيته ويراه، وجَمَعَ العلماءُ بين الحديثَيْن بأنَّ بلالاً يرقُبُ وقتَ خروجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإذا رآه، شرع في الإقامة قبل أنْ يراه غالبُ النَّاس، ثمَّ إذا رأوه، قاموا إلى الصَّلاة.
*خلاف العلماء:
قال في المغني: يستحب أنْ يقومَ المأمومُ إلى الصَّلاة، عند قول المؤذِّن: قد قامت الصلاة.
قال ابن المنذر: أجمَعَ على هذا أهل الحرمَيْن.
وقال الشَّافعي: يقوم إذا فرَغَ المؤذِّن من الإقامة.
وقال أبو حنيفة: يقوم إذا قال: حَيَّ على الصلاة.
ولا يستحبُّ عندنا -الحنابلة- أنْ يكبِّر الإمام، إلَاّ بعد فراغ المقيم من الإقامة، وعلى هذا جُلّ الأئمة في الأمصار، وما نقل عن الإمام أبي حنيفة: أنَّه يكبِّر إذا قال المقيم: قد قامت الصَّلاة، فهو قول غير مصحَّح في المذهب، بل الصحيحُ والمفتَى به عندهم كرأي الجمهور.
وقال مالكٌ في الموطَّأ: لم أسمَعْ في قيام النَّاس حين تقامُ الصَّلاة حَدًّا محدودًا، إلَاّ أنِّي أرى ذلك على طاقة النَّاس؛ فإنَّ منهم الثقيل والخفيف.
وقد تقدَّم في حديث أبي قتادة: "إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتَّى تروني"؛ فهو يفيد أنَّ قيام النَّاس إلى الصلاة، منوطٌ برؤية الإمام مقبلاً إليها.
***
160 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بيْنَ الأَذَانِ وَالإِقامَةِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ.
رواه أحمد (11790)، وأبو داود (521)، والترمذي (212) وصححه؛ كما صححه ابن حبَّان (4/ 594)، والضياء.
قال الألباني: فيه زيدٌ العَمِّيُّ ضعيف، ولكن الحديث جاء من طريق أخرى صحيحة، ورجالها كلُّهم ثقات.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرده الله تعالى، بل يقبلُهُ من فضله وكرمه.
2 -
استحبابُ الدعاء في هذا الوقت، واغتنامُ النفحةِ الإلهيَّة والكرمِ الرباني.
3 -
لعلَّ السبَبَ في قبول الدعاء في هذا الوقت الفاضل، أنَّ منتظرَ الصلاةِ في صلاة، فهو عند الله تعالى في صلاة، والدعاءُ في الصلاة لا يُرَدُّ.
فقد جاء في البخاري (647) ومسلم (362) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزالُ أحدكم في صلاة ما دامَتِ الصلاةُ تحبسه، لا يمنعه أنْ يَنْقَلِبَ إلى أهلِهِ إلَاّ الصلاة".
4 -
استحبابُ التقدُّم إلى المسجد؛ لتحصيلِ هذا الوقت والاجتهاد فيه.
5 -
قيَّدت الأحاديثُ هذا الدعاء بأنَّه إذا كان بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ، فهذا اعتداءٌ في
(1) النسائي في الكبرى (6/ 23)، ابن خزيمة (425).
الدعاء، يأثم صاحبه، ولا يقبل دعاؤه.
6 -
قال ابن القيِّم فى الجواب الكافي: الدعاءُ مِنْ أقوى الأسباب، فليس شيءٌ أنفع منه، فمتى أُلْهِمَ العبدُ الدعاءَ، حصَلَتِ الإجابة.
وقال الشيخ تقي الدِّين: مِنْ أدبِ الدعاءِ الثناءُ على الله تعالى، والصَّلاةُ على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالدعاءُ من أبلغِ الأسباب لجلب المنافع وَدَفْعِ المضارّ، ويستحبُّ إخفاءُ الدعاء؛ فهو أبلَغُ في التضرُّع، وأقربُ للإخلاص.
***
161 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَالَ حِيْنَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: الَّلهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعوة التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيْلَةَ وَالفَضِيْلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَة" أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ (1).
ــ
*درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ.
أخرجه البخاري (614) والأربعة، قال المجد ابن تيميَّة في المنتقى: رواه الجماعة إلَاّ مسلمًا، وكذا قال ابن دقيق العيد في الإلمام.
* مفردات الحديث:
- اللهم: يعني: "يا الله"، والميمُ عِوَضٌ عن ياء النَّداء، فلذلك لا يجتمعان، قال علماء اللغة: إنَّ "اللهم" في كلام العرب على ثلاثة أنحاء:
1 -
أحدها للنِّداء المحض.
2 -
للإيذان بنُدْرةِ المستثنى؛ كقولك بعد كلام: اللهم إلَاّ إذا كان كذا.
3 -
ليدل على تيقُّن المجيب في الجواب المقترن هو به؛ كقوله لمن قال: أزيد؟: اللهم نعم، أو اللهم لا.
- رَبَّ: منصوبٌ على النِّداء، والربُّ: هو المربِّي المصلح للإنسان.
- الدعوة: بفتح الدَّال هي ألفاظُ الأذان المشتملة على التوحيد.
- التَّامَّة: صفةٌ للدعوة، وُصفت بالتَّمام؛ لأنَّ فيها أتمَّ القول، وهو لا إله إلَاّ
(1) أحمد (657)، أبو داود (205)، الترمذي (1164)، ابن حبان (816)، النسائي في عشرة النساء (137، 140).
الله، ولأنَّها اشتملت على أصول الشريعة وفروعها.
- الصَّلاة القائمة: إمَّا أنْ يكونَ معناها التي ستقام، أو الدَّائمة، أي: التي لن تغيِّرها مِلَّةٌ ولا نسخ، فهي قائمةٌ دائمة، ما دامت السمواتُ والأرض.
- آتِ: أوَّله همزة ممدودة، فعلُ دعاءٍ مبنيٌّ على حذف حرف العلَّة، ومعناه: أَعْطِ، والفاعلُ ضميرٌ مستتر، تقديره: أنت.
- الوسيلة: على وزن فعيلة، وتُجْمَعُ على وسائل، وهي في اللغة: ما يتُقرَّب به إلى الغير، وهي المنزلة كما صرَّح بذلك صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخر، فقال:"إنَّها منزلة في الجنَّة، لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أنْ أكون أنَا هو"[رواه مسلم (384)].
- الفضيلة: معطوفة على الوسيلة عَطْفَ بيان، وهي مرتَبَةٌ زائدة على سائر الخلق.
- مقامًا محمودًا: نصب مقامًا على الظرفية، ونُكِّرَ تفخيمًا، و"محمودًا" صفة له، والمقامُ المحمود يُطْلَقُ على كلِّ ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، والمراد هنا: الشفاعةُ العظمَى في فصل القضاء، حيث يحمده فيه الأوَّلون والآخرون.
- حلَّت له: من حَلَّ يَحِلّ، بكسر حاء المضارع منه، أي: وَجَبَتْ له، واستحَقَّ الشفاعة؛ فهي ثابتةٌ لابدَّ منها بالوعد الصَّادق، وهو جوابُ "مَنِ" الشرطية.
- شفاعتي يوم القيامة: الرَّاجحُ: أنَّ المراد بهذه الشفاعة العظمى، التي بها إراحة الخلائقِ مِنَ الموقف، ويحتملُ إرادةُ غيرها من شفاعاتِ النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم؛ كالشفاعة بإدخالِ الجنَّة بغير حساب، وكرفعِ الدرجات، ليعطَى كل واحدٍ ما يناسبه، والله أعلم.
- يوم القيامة: القيامة في اللغة: اسمٌ لما يقوم، ودخلها التَّأنيثُ للمبالغة؛ لما يقوم فيها من الأمور العظام، التي منها قيامُ الخلائقِ مِنْ قبورهم، وقيامُ
الأشهادِ على العباد، وقيامُ النَّاس في الموقف، وغير ذلك.
وقد جاء لها أسماءُ كثيرة في الكتاب العزيز.
قال القرطبي: وكلَّما عَظُمَ شان شيء، تعدَّدت صفاته، وكثرت أحواله، وقد سمَّاها الله تعالى في كتابه بأسماءٍ عديدة، ووصفها بأوصافٍ كثيرة.
- الَّذي وعدتَه: عائدٌ إلى قوله "مقامًا محمودًا"، وأطلق عليه الوعد؛ لأنَّ "عسى" في الآية ليس على بابه، فهو في حقِّ الله واقعٌ.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث بهذا اللفظ الَّذي أورده المؤلَّف، سليمٌ من زيادات ضعيفة، أضيفت إليه.
2 -
فضيلةُ هذا الدعاءِ الجامع لهذه التوسُّلات العظيمة، والدرجات الرَّفيعة من نداء الله، والتضرُّع إليه بألوهيَّته وربوبيَّته، وبدعواتِهِ التَّامَّاتِ الكاملات، وبالمنازِلِ العالية، وبهذه الصَّلاةِ الدَّائمة القائمة، أنْ يُتمَّ على نبيِّنا محمَّد نعمته، ويعليَ شأنه، ويرفع مقامه بإعطائِهِ الشفاعة العظمى، والرتبةَ الكبرى، وأنَّ ينيله مقامَ الحَمْدِ والثناء الَّذي وعده إيَّاه، حين أكمَلَ رسالته، وأدَّى أمانته، ونصَحَ أمته، وأكمَلَ عبوديته، وتفطَّرَتْ قدماه متهجِّدًا بكتابه، ومطَّرِحًا بين يدي ربه.
3 -
مَنْ أجاب المؤذِّن، وصلَّى على نبيِّنا محمَّد -كما قيد بحديث آخر- فقد استحَقَّ أنْ يكون ممَّن يشفعُ فيهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، حينما يتأخَّرُ جميعُ الشفعاءِ، ويتصدَّى لها هو صلى الله عليه وسلم.
4 -
أُلحق بهذا الدعاء جمل زائدة، ليسَتْ ثابتةً، منها:
- اللهم إنِّي أسالك بحَقِّ هذه الدعوة.
- والدرجةَ الرفيعة.
- إنَّك لا تُخْلِفُ الميعاد.
- يا أرحم الرَّاحمين.
فهذه الفقرات نقدها العلماء، وبينوا أنَّها غيرُ ثابتة، والواجبُ هو الاقتصارُ على ما صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5 -
هذا الحديثُ فيه زيادتان؛ لحصول فائدة هذا الدعاء:
الأولى: إجابةُ المؤذِّن بمثل ما يقول، عدا الحيعلتين؛ كما تقدَّم.
الثانية: الصَّلاةُ على النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّها مدخل الدعاء.
*فائدة:
جاء في صحيح مسلم (384) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص؛ أنَّه سَمعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذَا سمعتم المؤذِّن، فقولوا مثل ما يقول، ثمَّ صَلُّوا عليَّ، ثمَّ سَلُوا اللهَ لي الوسيلة، فمَنْ سال الله لي الوسيلةَ، حَلَّتْ عليه شفاعتي".
انتهى الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني
وأوله "باب شروط الصلاة"