المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: الحديث الصحيح - ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها - جـ ١

[جمال بن محمد السيد]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: حياة ابن القيم، وسيرته العلمية وآثاره

- ‌الفصل الأول: عصر ابن القيم وبيئته

- ‌المبحث الأول: الحالة السياسية

- ‌المبحث الثاني: الحالة الدينية

- ‌المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية

- ‌المبحث الرابع: الحالة العلمية والثقافية

- ‌الفصل الثاني: حياة ابن القيم

- ‌المبحث الأول: اسمه، ونسبه، ومولده

- ‌المبحث الثاني: أسرته ونشأته الأولى

- ‌المبحث الثالث: أخلاقه وصفاته الشخصية

- ‌المبحث الرابع: زهده زعبادته

- ‌المبحث الخامس: نُبْل أهدافه ونقاء آرائه

- ‌المبحث السادس: مِحَنُه وَوَفَاتُه

- ‌الفصل الثالث: سيرته العلمية

- ‌المبحث الأول: نبوغه وتقدمه في العلم، وشهادة الأئمة له، وثناؤهم عليه

- ‌المبحث الثاني: شيوخه

- ‌المبحث الثالث: اهتمامه باقتتناء الكتب، وذكر مكتبته

- ‌المبحث الرابع: أَسْفَارُهُ وَرِحْلاتُهُ

- ‌المبحث الخامس: أَعْمَالُهُ العلمية ومَنَاصِبُهُ

- ‌المبحث السادس: تلاميذه

- ‌الفصل الرابع: مؤلفات ابن القيم

- ‌المبحث الأول: منهج ابن القيم في التأليف وخصائص مؤلفاته

- ‌المبحث الثاني: ذكر مؤلفات ابن القَيِّم

- ‌المبحث الثالث: مَصَادِرُ ابن القَيِّم في مؤلفاته

- ‌المبحث الرابع: دراسةُ بعض مؤلفات ابن القَيِّم

- ‌الباب الثاني: آراء ابن القيم ومنهجه في الحديث وعلومه

- ‌الفصل الأول: آراء ابن القيم وإفاداته في مسائل مصطلح الحديث

- ‌المبحث الأول: أقسام الخبر

- ‌المبحث الثاني: الحديث الصحيح

- ‌المبحث الثالث: الحديث الحسن

- ‌المبحث الرابع: المرفوع والموقوف

- ‌المبحث الخامس: الْمُرْسَل

- ‌المبحث السادس: تَعَارُض الوصل والإرسال، أو الرفع والوقف

- ‌المبحث السابع: الْمُنْقَطِعُ

- ‌المبحث الثامن: التدليس وحكم المدلس

- ‌المبحث التاسع: الشَّاذ

- ‌المبحث العاشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد

- ‌المبحث الحادي عشر: الموضوع

- ‌المبجث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد

- ‌المبحث الثالث عشر: رواية المجهول

- ‌المبحث الرابع عشر: كيفية سماع الحديث وتحمله

- ‌المبحث الخامس عشر: ناسخ الحديث ومنسوخه

- ‌المبحث السادس عشر: مُخْتَلِفُ الحديث

- ‌المبحث السابع عشر: معرفة من اختلط من الرواة الثقات

- ‌الفصل الثاني: آراء ابن القيم وإفاداته ومنهجه في الجرح والتعديل

- ‌المبحث الأول: آراء ابن القيم في الجرح والتعديل

- ‌المطلب الأول: في جواز الجرح، وأنه ليس من الغيبة المحرمة

- ‌المطلب الثاني: هل يثبتُ الجَرْحُ والتَّعْدِيْلُ بقولِ الواحد

- ‌المطلب الثالث: بماذا تثبت العدالة

- ‌المطلب الرابع: إذا خالف رأي أو الراوي أو فتواه روايته، هل يوجب ذلك القدح في روايته

- ‌المطلب الخامس: هل يشترطُ ذكر سببِ الْجَرْح والتعديل

- ‌المطلب السادس: في تعارض الجرح والتعديل

- ‌المطلب السابع: في حكم رواية الْمُبْتَدِعِ

- ‌المطلب الثامن: في ذكر فوائدَ متفرقة في الجرح والتعديل

- ‌المبحث الثاني: في بيان منهج ابن القيم في الجرح والتعديل

- ‌المطلب الأول: في مكانة ابن القيم رحمه الله في نقد الرجال

- ‌المطلب الثاني: منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال

- ‌المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل

- ‌المطلب الرابع: في ذكر بعض الفوائد الْمُتَفَرِّقَةِ في الكلام على الرواة

الفصل: ‌المبحث الثاني: الحديث الصحيح

‌المبحث الثاني: الحديث الصحيح

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في تعريف الحديث الصحيح، وضابطه، وشروطه:

الحديث الصحيح عند أهل الحديث: هو ما اتصل سنده، بنقل العدل الضابط عن مثله، إلى منتهاه، ولم يكن شاذاً ولا معللاً1.

فهذا هو الحديث المحكوم له بالصحة بلا خلاف عند أهل الحديث، وهو ما جمع شروطاً خمسة، وهي:

1-

اتصال سنده: بأن يكون إسناده سالماً من سقوط فيه، بحيث يكون كل راوٍ من رواته سَمِعَهُ ممن فوقه.

2-

عدالة رواته: والعدل: من له ملكةٌ تحمله على مُلازَمَةِ التقوى والمروءة.

3-

ضبط رواته: والضبط نوعان:

أ- ضبط صدر: وهو أن يُثبت ما سمعه، بحيث يستحضره متى شاء.

ب- ضبط كتاب: وهو صيانته لكتابه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه. وقيَّد ابن حجر الضبط بـ "التام" إشارة إلى الرتبة العليا من ذلك.

1 مقدمة ابن الصلاح: (ص7 - 8)، وتدريب الراوي:(1/63) .

ص: 355

4-

عدم الشذوذ: والشاذ هو ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه.

5-

عدم العلة: بأن لا يكون فيه علة خفية تقدح فيه1.

وقد تناول ابن القَيِّم رحمه الله أكثر شروط الحديث الصحيح في عدة مناسبات، وبين أن الحديث لا يصح إلا بتوافر هذه الأمور، فكان مما قال في ذلك:

"فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمورٍ، منها:

1-

صحة سنده،

2-

وانتفاء عِلَّتِهِ،

3-

وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شَذَّ عنهم"2.

ومقصوده رحمه الله بصحة السند هنا: كون رواته عدولاً ضابطين؛ فإنه قال ذلك في معرض رَدِّه على الحاكم، إذ صحَّحَ حديثاً بالاستناد إلى ظاهر سنده، وأن رواته ثقات، فقال:"صحيح الإسناد". فرد عليه ابن القَيِّم رحمه الله بأن صحة السند - وهي ثقة الرواة - شرطٌ من شروط صحة الحديث، وليست وحدها الموجبة لصحة الحديث، بل لا بد أن ينضم إليها شروط أخرى.

ثم بَيَّنَ هذه الشروط وَوَضَّحَهَا في موضع آخر، فقال:

1 انظر تفصيل ذلك في: نزهة النظر مع النخبة: (ص29) .

2 الفروسية: (ص46) .

ص: 356

"ثقة الراوي: هي كونه صادقاً لا يتعمد الكذب، ولا يستحل تدليس ما يعلم أنه كذب باطل، وهذا أحدُ الأوصاف المعتبرة في قبول قول الراوي".

فأشار رحمه الله بذلك إلى وصف العدالة، وبين المقصود بها. ثم قال:"لكن بقي وصفُ الضبط والتحفظ، بحيث لا يُعرف بالتغفيل، وكثرة الغلط".

وهذا بيان منه رحمه الله للمقصود بشرط الضبط وزيادة تفصيل فيه.

ثم قال: "ووصف آخر: وهو أن لا يشذَّ عن الناس، فيروي ما يخالفه فيه من هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يُتابعُ عليه، وليس ممن يُحْتَمَلُ ذلك منه"1. وهذا إشارة إلى اشتراط نفي الشذوذ.

وأشار مرة إلى شَرْطَي العدالة والضبط، مع بيان معناهما، فقال:"فلم يُشترط فيها - أي الرواية - عددٌ، ولا ذكوريةٌ، بل اشْتُرِطَ فيها: ما يكون مُغَلِّباً على الظنِّ صدقَ الْمُخْبرِ، وهو: العدالة المانعة من الكذب، واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط"2.

1 الفروسية: (ص53) .

2 بدائع الفوائد: (1/5) .

ص: 357

وقد أكَّد رحمه الله أهمية توافر الضبط والعدالة في الراوي، وأنهما أساس الراوية، فقال في ابن إسحاق:"وثَّقَهُ كبار الأئمة، وأثنوا عليه بالحفاظ والعدالة اللذَيْن هما ركنا الرواية"1.

ومن أحكام العدالة التي ذكرها ابن القَيِّم:

أنَّ وقوع الراوي في بعض الذنوب لا يُنافي العدالة، فقاله رحمه الله:"قد يُغلط في مسمى العدالة، فَيُظَن أن المراد بالعدل: من لا ذنب له. وليس كذلك، بل هو عدلٌ مؤتمن على الدين، وإن كان منه ما يتوب إلى الله منه، فإن هذا لا ينافي العدالة، كما لا يُنافي الإيمان والولاية"2.

وهذا المعنى قد أكدَّه الأئمة رحمهم الله قبل ابن القَيِّم، فروى الخطيب في (الكفاية) 3 بسنده إلى سعيد بن المسيب رحمه الله أنه قال:"ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيبٌ لابدَّ، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه، وُهِبَ نَقْصُهُ لِفَضْلِهِ".

وروى بسنده أيضاً إلى الشافعي رحمه الله أنه قال كلاماً قريباً من ذلك4.

فهذه أبرز شروط الحديث الصحيح كما قررها ابن القَيِّم رحمه الله، وقد وافق بذلك ما ذهب إليه أئمة الشأن في كلامهم على الصحيح وشروطه وضوابطه.

1 جلاء الأفهام: (ص6) .

2 مفتاح دار السعادة: (1/163) .

(ص: 137 - 138) .

4 الكفاية: (ص 138) .

ص: 358

المسألة الثانية: في الفرق بين قولهم: "حديث صحيح"، وقولهم:"إسناده صحيح".

تقدَّم في المسألة التي قبل هذه: بيانُ ابن القَيِّم رحمه الله لعدم التلازم بين ثقة الرواة وصحة الإسناد، وبين صحة الحديث نفسه.

فإذا تقرر ذلك، فإنه ينبغي التفريق بين قولهم لحديث:"حديث صحيح"، وقولهم:"إسناده صحيح".

وقد نَبَّه على هذه المسألة ابن الصلاح رحمه الله، فقال في "مقدمته"1:"قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد، دون قولهم: هذا حديث صحيح أو حسن، لأنه قد يُقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ولا يصح، لكونه شاذاً أو معللاً".

وقد أَكَّدَ ابن القَيِّم هذا المعنى في أكثر من موضع من كتبه، وفي عدة مناسبات، فقال مرة:"ومن له خبرة بالحديث يُفَرِّقُ بين قول أحدهم: هذا حديث صحيح، وبين قوله: إسناده صحيح. فالأول: جَزْمٌ بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: شهادة بصحة سنده، وقد يكون فيه علةٌ أو شذوذ، فيكون سنده صحيحاً، ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه"2.

ولقد كان ابن القَيِّم رحمه الله مُطَبِّقَاً لهذا المبدأ في تعامله مع النصوص الحديثية وحكمه عليها، فمن ذلك:

قوله في حديث رواه عبد الرزق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حَلَفَ على يمين،

(ص19) .

2 مختصر الصواعق: (2/478) .

ص: 359

فقال: إن شاء الله، لم يحنث" قال رحمه الله:"وهذا الإسناد متفق على الاحتجاج به، إلا أن الحديث معلول"1.

وقال في حديث وقوع الفأرة في السمن، وما جاء في رواية: معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة من التفرقة بين الجامد والمائع، قال:"ولَمَّا كان ظاهر هذا الإسناد في غاية الصحة، صحح الحديث جماعة، وقالوا: هو على شرط الشيخين، وحُكِيَ عن محمد بن يحيى الذُّهَلِي تصحيحه، ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه، ولم يروه صحيحاً، بل رأوه خطأ محضاً"2.

فهذه بعضُ أمثلة من كلام ابن القَيِّم رحمه الله تُوَضِّحَ تفرقته بين صحة السند وصحة المتن، وأن الحديث الذي يصح سنده ويكون فيه علة لا يقال له: حديث صحيح، وإن قيل له: صحيح الإسناد.

المسألة الثالثة: حول (الصحيحين) البخاري ومسلم:

وتحت هذه المسألة فروع:

الفرع الأول: في أن (صحيح البخاريِّ) أصحُّ الكتب الْمُصَنَّفَةِ في الصحيح.

قال الإمام النووي رحمه الله في معرض كلامه على

1 تهذيب السنن: (4/360) .

2 تهذيب السنن: (5/340) .

ص: 360

(الصحيحين) : "

وصحيح البخاري أَصَحُّهُما، وأكثرهما فوائد

"1.

وقد أشار ابن القَيِّم رحمه الله إلى تقديم البخاري في ذلك، فقال عنه:"أجَلُّ من صَنَّفَ في الحديث الصحيح"2.

وقد أفاد رحمه الله: أن تقديم البخاري وترجيح كتابه راجعٌ إلى دقة نظره، وشدة انتقائه، فقال في حديث أبي هريرة في الرجل الذي رأى رؤيا وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله فيها: "وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوتَ، ثم أخذ به رجلٌ آخر فعلا

ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فعلا به

"3. قال رحمه الله:

"فلفظة: (ثم وصل له) فلم يذكر هذا البخاري، ولفظ حديثه:

(ثم وصل) فقط، وهذا لا يقتضي أن يوصل له بعد انقطاعه به

وهذا مما يبينُ فضلَ صدق معرفة البخاري، وغور علمه في إعراضه عن لفظة (له)

وإنما انفرد بها مسلم"4.

الفرع الثاني: في أنهما - رحمهما الله - لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما:

فإنه قد جاء عنهما التصريح بعدم استيعابه، قال ابن الصلاح:"روينا عن البخاري أنه قال: ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صحَّ، وتركت من الصحاح لملال الطول"5.

1 شرح مسلم: (1/14) .

2 زاد المعاد: (1/303) .

3 انظر: صحيح البخاري: ك التعبير، باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب ح 7046، ومسلم:(4/1777) ح 17 (2269) .

4 تهذيب السنن: (7/20) .

5 مقدمة ابن الصلاح: (ص10) .

ص: 361

وسئل الإمام مسلم رحمه الله عن حديث؟ فقال: "هو عندي صحيح". فقيل له: لِمَ لَمْ تَضَعْهُ ههنا؟ قال: "ليس كلُّ شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه"1.

وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم رحمه الله على هذا الأمر مراراً، وردَّ بذلك على من يُعِلُّ حديثاً بعدم إخراج البخاري ومسلم له، فكان مما قال في ذلك:"وتَرْكُ إخراج أصحاب الصحيح له - يعني حديث: " من أدخل فرساً بين فرسين

" - لا يدل على ضعفه، كغيره من الأحاديث الصحيحة التي تركا إخراجها"2.

وقال مرة رداً على من أعلَّ حديثاً بذلك: "وتَرْكُ رواية البخاري له لا يوهنه، وله حكمُ أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه؛ فإنه سماه: الجامع المختصر الصحيح"3.

وقال عن حديث: "من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال

": "فإن قيل: فَلِمَ لا أخْرَجَهُ البخاري؟ قيل: هذا لا يلزم؛ لأنه رحمه الله لم يستوعب الصحيح"4.

1 صحيح مسلم: (1/304) ح 63.

2 الفروسية: (ص38) .

3 إغاثة اللهفان: (1/294) .

4 تهذيب السنن: (3/312) .

ص: 362

الفرع الثالث: في رواية البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن بعض من تُكُلِّمَ فيه.

تناول ابن القَيِّم رحمه الله هذه القضية، فبين أن من أخرجا له ممن تُكُلِّمَ في حفظه، فإنهما لم يخرجا له اعتماداً، وإنما أخرجا له ما عَلِمَا أنه قد تُوبعَ عليه.

قال رحمه الله في حديث أبي أيوب مرفوعاً: " من صام رمضان، ثم أتبعه بستِّ من شوال

" - وقد أخرجه مسلم1 من حديث سعد بن سعيد الأنصاري، وقد تُكُلِّمَ فيه بسببه –:

"سَلَّمنا ضعفه، لكنَّ مسلماً إنما احتج بحديثه لأنه ظَهَرَ له أنه لم يخطئ فيه بقرائن ومتابعات، ولشواهد دَلَّتْهُ على ذلك، وإن كان قد عُرِفَ خطؤه في غيره، فكون الرجل يخطئ في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه، وهكذا حُكْمُ كثير من الأحاديث التي خَرَّجَاها وفي إسنادها من تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ حفظه، فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وجدا لها متابعاً"2.

وقد تناول ابن حجر هذه القضية، وأكد أن من أخرجا له ممن وُصِفَ بالغلط وسوء الحفظ، فإن ذلك يكون في المتابعات لا الأصول3.

1 صحيح مسلم: (2/822) ح 204، (1164) ك الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال....

2 تهذيب السنن: (3/312) .

3 هدي الساري: (ص384) .

ص: 363

المسألة الرابعة: في الصحيح الزائد على الصحيحين، ومن أين يُتَلَقَّى؟

تَقَدَّم أن أصحاب الصحيحين لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك، ومن ثَمَّ فقد بقي خارج الصحيحين كثير من الأحاديث الصحيحة.

ومن الكتب التي هي مَظِنَّةُ وجود الصحيح غير الصحيحين، مما كان لابن القَيِّم كلام عليها:

أولاً: (المستدرك) للحاكم: وفيه بعض المسائل:

المسألة الأولى: مراد الحاكم بقوله: "على شرط الشيخين".

أبان الحاكم عن مراده بذلك حين قال في خطبة كتابه: "وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات، قد احتج بمثلها الشيخان رضي الله عنهما أو أحَدُهُمَا"1.

وهذا الكلام صريحٌ في أن مراده: أن يكونا قد احتجا بمثل هذا الإسناد، ولكن تصرفه رحمه الله يخالف هذا الذي صرَّح به، ويدل على أن مراده: أن يكون رواة هذا الحديث الذي يستدركه عليهما قد خُرِّجَ عنهم بأعيانهم في "الصحيحين".

فإنه رحمه الله إذا كان الحديث قد أَخَرَجَا أو أحدهما لرواته، قال:"صحيح على شرط الشيخين، أو أحدهما". وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال: "صحيح الإسناد" حسب.

1 المستدرك: (1/3) .

ص: 364

ويُؤَكِّد هذا المعنى ويوضحه: أنه رحمه الله حَكَمَ على حديث من طريق أبي عثمان بأنه صحيح الإسناد، ثم قال:"وأبو عثمان هو مولى المغيرة، وليس هو بالنهديّ، ولو كان النهدي لحكمتُ بصحته على شرطهما"1.

ولأجل ذلك، فقد ذهب ابن الصلاح، والنووي، وابن دقيق العيد، والذهبي إلى أن مراده بقوله:"على شرطهما": أن يكون رجال الإسناد المحكوم عليه بأعيانهم في كتابيهما2.

وخالف في ذلك العراقي3، فحمل كلامه على المعنى الأول الذي أشار إليه في خطبة كتابه، ولكن رده الحافظ ابن حجر مؤيداً ما ذهب إليه الجماعة المتقدمون بأمثلة وبيان4.

وقد ذهب ابن القَيِّم رحمه الله في فهمه لكلام الحاكم إلى ما ذهب إليه الأكثرون، ومن ثَمَّ كان كثيراً ما يتعقبه عندما يخالف في أحكامه هذا الاصطلاح، ومن الأمثلة في هذا الصدد:

أن الحاكم قد صحح حديثاً على شرط مسلم، فتعقبه ابن القَيِّم بقوله:

"في إسناده حسين بن عبد الله، ولم يخرج له في الصحيحين"5.

1 المستدرك: (4/249) . وانظر: نكت ابن حجر على ابن الصلاح: (1/320) .

2 تنظر أقوالهم في: مقدمة ابن الصلاح: (ص11)، وتدريب الراوي:(1/127)، وفتح المغيث:(1/44) .

3 التقييد والإيضاح: (ص30) .

4 النكت على ابن الصلاح: (1/319 - 321) .

5 تهذيب السنن: (4/30) .

ص: 365

كما أن الحاكم رحمه الله في حكمه على الحديث بأنه على شرطهما: لم يراع حالهما وتصرفهما مع بعض الرواة، بل جعل ذلك أمراً مطلقاً في كل راوٍ رآه في كتابيهما.

فمن ذلك: أنهما قد يخرجا للشخص في المتابعات دون الأصول، فيطلق الحاكم القول في هذا الراوي: أنه على شرطهما.

ومن تعقبات ابن القَيِّم عليه في ذلك: أنه روى حديثاً من طريق: الزهري، عن ابن إسحاق، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها في فضل السواك، ثم قال:"صحيح على شرط مسلم" فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "ولم يصنع الحاكم شيئاً؛ فإن مسلماً لم يروِ في كتابه بهذا الإسناد حديثاً واحداً، ولا احتج بابن إسحاق، وإنما أخرج له في المتابعات والشواهد"1.

وقال في حديث من رواية ابن إسحاق صححه الحاكم على شرط مسلم: "وفي هذا نوع مساهلة منه؛ فإن مسلماً لم يحتجَّ بابن إسحاق في الأصول، وإنما أخرج له في المتابعات والشواهد"2.

ومن ذلك أيضاً: أن البخاري ومسلماً قد يحتجان براوٍ وشيخه كل على انفراد، ولا يحتجان بهذين الراويين إذا اجتمعا وكانت رواية هذا

1 المنار المنيف: (ص21) .

2 جلاء الأفهام: (ص5) .

ص: 366

التلميذ عن ذلك الشيخ؛ وذلك: لضعفه فيه، أو عدم سماعه منه أو غير ذلك من الأسباب. فيأتي الحاكم فيحكمُ على حديث من رواية هذا الراوي عن هذا الشيخ بأنه على شرطهما، وذلك لمجرد وجود هذين الراويين في كتابيهما.

ومن تعقبات ابن القَيِّم عليه في ذلك: أن الحاكم قال في حديث تضمين العارية من رواية الحسن عن سمرة: "على شرط البخاري"، فرد عليه ابن القَيِّم قائلاً:

"وفيما قاله نظر؛ فإن البخاري لم يخرج حديث العقيقة في كتابه من طريق الحسن عن سمرة

"1.

يعني على القول بأنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة.

ومن ذلك أيضاً: أن صاحب الصحيح قد يَطَّرِحُ من حديث الثقة ما يعلم أنه قد غلط فيه، فيأتي الحاكم فيستدرك عليه جميعَ حديث هذا الثقة، دون نظرٍ إلى طريقة صاحب الصحيح في استبعاد بعض حديثه.

وفي هذا المعنى يقول ابن القَيِّم رحمه الله: "

فغلط في هذا المقام من استدرك عليه جميع حديث الثقة - يعني الحاكم - "2.

فهذه الأمثلة كلها من تصرف الحاكم تؤكد مراده بقوله على شرطهما، وأنه يقصد وجود هؤلاء الرواة أنفسهم في الصحيحين، وتعقبات ابن القَيِّم عليه - كما مضى - تؤكد حمله اصطلاحه على هذا المعنى.

1 تهذيب السنن: (5/197-198) .

2 زاد المعاد: (1/364) .

ص: 367

المسألة الثانية: تساهل الحاكم:

قضى الأئمة على الحاكم بأنه متساهل في شرط الصحيح، فقال ابن الصلاح:"وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل في القضاء به"1. وَوَصَفَهُ بذلك النووي2 - أيضاً - وغيره.

وقد وَضَعَهُ ابن القَيِّم - أيضاً - في مرتبة المتساهلين في التصحيح: فقال مرة - وهو يتكلم على حديث: "من عشق فعفَّ

" - "وأنكره أبو عبد الله الحاكم على تساهله"3.

وقال مرة: "

مع فرط تساهله فيما استدركه عليهما"4.

ولذلك كان ابن القَيِّم رحمه الله كثيراً ما يتعقبه في تصحيحاته، فمن ذلك:

أن الحاكم صحَّحَ حديثاً في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد من رواية: يحيى بن السباق، عن رجل من آل الحارث، عن ابن مسعود مرفوعاً، فقال ابن القَيِّم رحمه الله:"وفي تصحيح الحاكم لهذا نظرٌ ظاهرٌ؛ فإن يحيى بن السباق وشيخه غير معروفين بعدالة ولا جرح"5.

وصَحَّحَ الحاكم حديثاً في المسح على الخفين وفيه مجهولون، فقال

1 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .

2 انظر: تدريب الراوي: (1/105) .

3 الجواب الكافي: (ص366) .

4 الفروسية: (ص58) .

5 جلاء الأفهام: (ص20) .

ص: 368

ابن القَيِّم: "والعجب من الحاكم، كيف يكون هذا مُسْتَدركاً على الصحيحين، ورواته لا يُعْرَفون بجرح ولا تعديل؟! "1.

المسألة الثالثة: بيان مرتبة تصحيح الحاكم:

أما عن مرتبة ما يصححه الحاكم ودرجته، فقد قال ابن الصلاح- بعد أن حكى تساهل الحاكم-:"فالأولى أن نتوسط في أمره، فنقول: ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة: إن لم يكن من قبيل الصحيح، فهو من قبيل الحسن، يُحْتَجُّ به ويُعمل به، إلا أن تظهر عِلَّةٌ توجب ضعفه"2. ووافق النوويُّ ابنَ الصلاح على ذلك، ولكنه حَصَرَهُ في الحسن فقط3.

وتعقبهما البدر ابن جماعة، فقال:"والصواب: أن يُتتبع ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الصحة أو الضعف". نقله عنه العراقي وصَوَّبَهُ4.

وإذا كان ما ذهب إليه ابن الصلاح والنووي في ذلك يُعَدُّ نوعاً من التساهل - إذ من شأنه أن يؤدي إلى تصحيح الضعيف - فإن ابن القَيِّم رحمه الله قد تّشَدَّدَ جداً في مرتبة ما يصححه الحاكم ودرجته:

فقال مرةً - وقد صحح الحاكم على شرط مسلم حديث

1 تهذيب السنن: (1/118) .

2 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .

3 انظر: تدريب الراوي: (1/107) .

4 التقييد والإيضاح: (ص30) .

ص: 369

عائشة رضي الله عنها في تفضيل الصلاة بسواك على الصلاة بغير سواك-: "لم يصنع الحاكم شيئاً

وهذا وأمثاله هو الذي شان كتابه وَوَضَعَهُ، وجعل تصحيحه دون تحسين غيره"1.

وقال مرة - يرد على الحاكم تصحيحه إسناد حديث المُحَلِّل -: "

ولا يَعْبَأُ الحُفَّاظ - أطباء الحديث - بتصحيح الحاكم شيئاً، ولا يرفعون به رأساً ألبتة، بل لا يدل تصحيحه على حُسْنِ الحديث، بل يُصحح أشياء موضوعة بلا شك عند أهل العلم بالحديث

والرجل يصحح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه"2.

وقال مرة في كلامه على الحديث نفسه: "

وبالجملة: فتصحيح الحاكم لا يستفاد منه حسن الحديث ألبتة، فضلاً عن صحته"3.

وهذا منه رحمه الله مبالغة وتشدد، والأولى والأليق في ذلك ما سبق في كلام ابن جماعة رحمه الله: من تتبع ما حكم عليه، ووضع كل حديث منها - بعد دراسته - في المرتبة اللائقة به؛ ذلك أن (المستدرك) فيه "شيء كثير على شرطهما، وشيء كثير على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل

وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد، وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث - نحو المائة - يشهد القلب ببطلانها" كما قال الذهبي4.

1 المنار المنيف: (ص21) .

2 الفروسية: (ص46) .

3 الفروسية: (ص52) .

4 سير أعلام النبلاء: (17- 175) .

ص: 370

ومن مظان وجود الصحيح الزائد على الصحيحين أيضاً:

ثانياً: "جامع الترمذي":

قال ابن الصلاح: "ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة

كأبي داود السجستاني وأبي عيسى الترمذي"1.

وقد وَصَفَ ابن القَيِّم رحمه الله الترمذي بشيء من التساهل في التصحيح، فقال مرةً في حديث عليٍّ رضي الله عنه في ترخيص النبي في الجمع بين اسمه وكنيته بعد وفاته، وقول الترمذي عنه:"حسن صحيح":

"وحديث عليٍّ رضي الله عنه في صحته نظرٌ، والترمذي فيه نوع تساهل في التصحيح"2.

وقال مرةً: "مع أن الترمذيَّ يُصَحِّحُ أحاديثَ لم يُتَابعْهُ غيرهُ على تصحيحها، بل يصحح ما يُضَعِّفُهُ غيره أو يُنْكِرُهُ"3.

وقد حَكَمَ بتساهل الترمذي أيضاً: الحافظ الذهبي، ولكنه أسرف في ذلك وبالغ، فقال في ترجمة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف:

"وأما الترمذي: فقد روى من حديثه: الصلح جائز بين المسلمين، وصححه؛ فلهذا لا يَعْتَمِدُ العلماء على تصحيح الترمذي"4.

1 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .

2 زاد المعاد: (2/348) .

3 الفروسية: (ص45) .

4 الميزان: (3/ 407) .

ص: 371

وقال مرة أخرى: "

فلا يُغْتَرُّ بتحسين الترمذي، فعند الْمُحَاقَقَةِ: غَالِبُهَا ضِعَافٌ"1.

ولا شكَّ أن هذا غير مقبول من الذهبي رحمه الله، ولذلك فقد رَدَّهُ الحافظ العراقي بقوله:"وما نقله عن العلماء من أنهم لا يعتمدون تصحيح الترمذي: ليس بجيد، وما زال الناس يعتمدون تصحيحه"2.

ولذلك فإن ما قاله ابن القَيِّم أقرب إلى الواقع، وأليقُ بحال الترمذي ومكانة (جامعه) ؛ فإنه لم يجعل التساهل عاماً في أحكام الترمذي، شاملاً لكل كتابه، وإنما قال:"فيه نوع تساهل في التصحيح" وقال: "يصحح أحاديث لم يتابعه غيره على تصحيحها". فهو يخالف في تصحيح بعض الأحاديث، وهذا - لا شك - أولى من إطلاق القول بتساهله، وعدم الاعتماد على أحكامه.

ومما يدل على تحفظ ابن القَيِّم نفسه في ذلك الحكم، وعدم إهداره أحكام الترمذي - كما قال غيره -: أنه يعتمد كثيراً أحكام الترمذي، وينقلها محتجاً بها ساكتاً عليها، يعرفُ ذلك كلُّ من طالع كتب ابن القَيِّم.

وعلى كل حال، فإن هذا الكلام لا يقلل من مكانة الإمام الترمذي وكتابه.

1 الميزان: (4/416) .

2 الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين: (ص241) نقلاً عن (شرح الترمذي) للعراقي.

ص: 372

ثالثاً: "صحيح ابن حبان":

وهو من الكتب التي يُعتمد عليها في معرفة الصحيح أيضاً؛ فقد التزم فيه مؤلفه الصحة، وهو وإن كان خيراً من المستدرك بكثير1، إلا أنه قد وقع له نوع تساهل أيضاً، وجعله ابن الصلاح مقارباً للحاكم في التساهل2.

وابن القَيِّم رحمه الله يعتمد تصحيح ابن حبان في الكثير الغالب، مما جعله يحتج أحياناً ببعض الضعيف من "صحيحه"3.

ومع ذلك، فإن ابن القَيِّم رحمه الله قد انتقد ابن حبان من جهة أخرى؛ وذلك أنه قال في حقه:"وابن حبان كثيراً ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنه موقوف"4.

وقد استشهد ابن القَيِّم على هذه الدعوى بمثالين، وتبين بعد الدراسة: أن أحدهما قد صحَّ مرفوعاً، رواه كذلك غير واحد ولم ينفرد برفعه ابن حبان5. والحديث الآخر: الصواب فيه الوقف، ولكن شارك ابن حبان في روايته مرفوعاً جماعة؛ منهم: أحمد، وأبو يعلى وغيرهما6، ولم ينفرد ابن حبان بروايته مرفوعاً.

1 اختصار علوم الحديث - ابن كثير: (ص27) .

2 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .

3 ينظر على سبيل المثال: زاد المعاد: (1/43 –44) ، (3/204-205) .

4 أحكام أهل الذمة: (2/622) .

5 انظر حديث رقم: (128) من قسم الأحاديث.

6 انظر حديث رقم: (123) من قسم الأحاديث.

ص: 373

وعلى كل حال، فإن هذا الحكم من ابن القَيِّم رحمه الله لم أر من أطلقه على ابن حبان غيره، ولو وقع في (صحيح ابن حبان) شيء من ذلك، فهل يكون بالكثرة التي وصف ابن القَيِّم؟؟ الأمر يحتاج إذن إلى دراسة وتتبع لما انفرد ابن حبان بروايته مرفوعاً والناس يروونه موقوفاً، وحينئذٍ يمكن معرفة صحة دعوى ابن القَيِّم من عدمها.

المسألة الخامسة: في فوائد متفرقة تتعلق بالحديث الصحيح.

الفائدة الأولى: في قولهم لحديثين: "هذا أصح من هذا".

إذا قيل لحديث: إنه أصح من حديث، فهل يلزم من ذلك صحة هذا الحديث الْمُرَجَّحِ مطلقاً؟

نَبَّهَ ابن القَيِّم رحمه الله على ذلك، وبين أن ذلك قد يكون من باب "التصحيح الْمُقَيَّدِ"، أو "التصحيح النسبي".

فقد قال أبو داود في حديث ركانة: أنه طَلَّقَ امرأته ألبتة، وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: والله ما أردت إلا واحدة

فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً

"1. فاعترضه المنذري قائلاً: "وفيما قاله نظر"2. فرد ابن القَيِّم على المنذري بقوله: "

فإن أبا دود لم يَحْكُمْ بصحته، وإنما قال بعد روايته: هذا أصحُّ من حديث ابن جريج

وهذا لا يدل على أن الحديث عنده

1 سنن أبي داود: (2/657) ك الطلاق، باب في البتة.

2 مختصر السنن: (3/134) .

ص: 374

صحيح، فإن حديث ابن جريج ضعيف، وهذا صعيف أيضاً، فهو أصح الضعيفين عنده.

وكثيراً ما يُطلق أهل الحديث هذه العبارة على أرجح الحديثين الضعيفين، وهو كثير في كلام المتقدمين، ولو لم يكن اصطلاحاً لهم، لم تدل اللغة على إطلاق الصحة عليه؛ فإنك تقول لأحد المريضين: هذا أصح من هذا، ولا يدل على أنه صحيح مطلقاً، والله أعلم"1.

الفائدة الثانية: في معنى قولهم: "صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال ابن القَيِّم رحمه الله في معنى هذه العبارة: "إن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون: صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك جَزْمٌ منهم بأنه قاله، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين: إن المراد بالصحة: صحة السند، لا صحة المتن. بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم: صحة الإضافة إليه، وأنه قاله"2.

ثم بَيَّن رحمه الله أن بين "صحة السند"، و" صحة الحديث" فرقاً، فلذلك لا يصح حمل قولهم:"صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" على صحة السند. وقد تقدم الكلام على الفرق بين صحة السند، وصحة الحديث3.

1 تهذيب السنن: (3/134) .

2 مختصر الصواعق: (2/478) .

3 انظر ص: (359) .

ص: 375

الفائدة الثالثة: عدم جواز الجزم بنسبة ما لا يُعلم صحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن القَيِّم رحمه الله عند كلامه على عدم جواز إطلاق حكم الله على ما لا يعلم الشخص يقيناً أنه حكم الله: "وهكذا لا يَسُوغُ أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. لما لا يُعلَمُ صحته، ولا ثقة رواته، بل إذا رأى أي حديث كان، في أي كتاب، يقول: لقوله صلى الله عليه وسلم. أو: لنا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم، وهذا خطر عظيم، وشهادة على الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يَعْلَم الشاهد"1.

قلت: وهذا من باب الاحتياط والتَّثَبُّتِ فيما يُنْسَبُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من يَنْسُبُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يَعْلَمُ صحته مُعَرَّضٌ للوقوع في الكذب عليهصلى الله عليه وسلم.

وقد حَذَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ونبه عليه، فقال - فيما رواه عنه المغيرة بن شعبة وغيره -:"من حدَّثَ عني بحديث يُرَى أنه كَذِبٌ، فهو أحد الكاذبين"2.

1 أحكام أهل الذمة: (1/20)، فهو رحمه الله يعيبُ من لا يعلم عن ثبوت الحديث شيئاً ومع هذا يورده للاحتجاج فيقول:"لقوله صلى الله عليه وسلم" يعني الحجة والدليل قوله صلى الله عليه وسلم، أو:"لنا قوله" أي: دليلنا.

2 أخرجه مسلم في (صحيحه) في المقدمة (1/9) باب وجوب الرواية عن الثقات، وترك الكذابين. وابن ماجه في المقدمة أيضاً:(1/14) ح38 - 41. باب من حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً وهو يرى أنه كذب.

وأحمد في مسنده: (4/250) ، وابن عبد البر في التمهيد - المقدمة - (1/41)، والبغوي في شرح السنة (1/266) ح 123. قال البغوي:"حديث صحيح".

ورمز له السيوطي بالصحة. (الجامع الصغير مع فيض القدير 6/116 ح 8631) ، وصححه الشيخ الألباني (صحيح الجامع ح 6199) .

ص: 376

وذكر ابن القَيِّم رحمه الله في مناسبة أخرى ما كان عليه أهل العلم بالحديث من الجزم بنسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند تَأَكُّدِهِم من صحته، وتعبيرهم عن ذلك بصيغة التمريض عند عدم تأكدهم من صحته أو شكهم في ذلك، فقال:

"كما كانوا يجْزِمُون بقولهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر، ونهى، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك، يقولون: يُذكرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى عنه، ونحو ذلك"1.

ولقد كان ابن القَيِّم رحمه الله ملتزماً هذا المبدأ في تعامله مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمه عليه، فمن ذلك:

أنه رحمه الله ذكر حديثين في فضل الفَاغِيَة2، ولم يكن متأكداً من صحتهما، ولا عارفاً بحالهما، فَصَدَّرَهُمَا بصيغة التمريض:(رُوِيَ)، ثم قال:"والله أعلم بحال هذين الحديثين، فلا نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا نعلم صحته"3.

1 مختصر الصواعق: (2/478) .

2 هي نَوْرُ الحناء. وقيل: نور الريحان

وقيل: فَاغِيَةُ كلُّ نَبْتٍ: نوره. والنَّوْرُ: زهر الشجرة. (النهاية: 3/461، ومختار الصحاح: ن ور) .

3 زاد المعاد: (4/348) .

ص: 377