الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال
تقدَّم أن كلام ابن القَيِّم رحمه الله في الحكم على الرواة لم يأت نتيجة عمل مخصص لهذا الغرض، بمعنى: أننا لم نجد كلام ابن القَيِّم على الرجال مجموعاً مفرداً في مُؤَلَّف، حتى نتمكن من الوقوف على منهجه وأسلوبه من خلال ذلك، وإنما وُجِدَت أقواله في الرجال منثورة في أثناء كتبه، في أماكن متفرقة ومناسبات شتى، وذلك تبعاً لظروف دراسة كل حديث والحكم عليه.
ومع ذلك، فإنه يمكننا أن نُحَدِّد المنهج العام الذي التزمه، والخصائص الْمُمَيِّزَة لعمله في هذا الباب، وذلك من خلال استعراض النقاط التالية:
أولاً: لم يلتزم ابن القَيِّم رحمه الله طريقة واحدة في الحكم على الراوي. فتارة ينقل أقوال العلماء في الرجل، وتارة يحكم عليه هو بنفسه، وذلك بكلمة أو كلمتين، أو أكثر، وذلك بحسب ظروف كل راو، وما يقتضيه المقام.
ثانياً: قد يختلف حكم ابن القَيِّم رحمه الله على الرجل الواحد من مكان لآخر ومن مناسبة لأخرى. وليس ذلك من التناقض، ولكن يحصل ذلك لاختلاف الظروف والمناسبات، فكل حكم من هذه الأحكام يكون خاضعاً لتلك الظروف التي صَدَرَ فيها.
ومن أمثلة ذلك: كلامه في الحجاج بن أرطاة، فبينما هو يضعفه
في مواطن عدة1 - وذلك حيث ينفرد أو يخالف غيره - نجده يُقَوِّي أمره في مواطن أخرى، وذلك عندما يروي ما رواه الناس، ولا ينفرد بما يُنْكَرُ عليه.
فقد قال رحمه الله في حديث جابر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافاً واحداً": "فيه الحجاج بن أرطاة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء، أو يخالف الثقات"2.
وقال رحمه الله في الحديث نفسه في موضع آخر: "وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة، فقد روى عنه: سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق عنه. قال الثوري: وما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه. وعيب عليه التدليس، وقلَّ من سلم منه
…
وقال أبو حاتم: إذا قال: حدثنا، فهو صادق لا نرتاب في صدقه وحفظه"3.
فهكذا نجده يقبله في الشواهد والمتابعات، ويثني عليه، ويقوِّي حاله، ويضعفه حيث ينفرد ولا يُتَابَع.
ثالثاً: قد يلجأ ابن القَيِّم رحمه الله إلى الترجيح بين أقوال الأئمة عند التعارض. ويكون اختياره وترجيحه في الغالب مطابقاً لما يدعمه الدليل، وتؤيده قواعد الفن.
1 انظر مثلاً: تحفة المودود: (ص 175-176) .، وزاد المعاد:(1/50، 438)، والفروسية:(ص45) .
2 زاد المعاد: (2/111) .
3 زاد المعاد: (2/147) .
ومن أمثلة ذلك: قوله في صالح مولى التوأمة: "للحفاظ في صالح هذا ثلاثة أقوال، ثالثها أحسنها، وهو: أنه ثقةٌ في نفسه ولكنه تَغَيَّرَ بآخرته، فمن سمع منه قديماً فسماعه صحيح، ومن سمع منه أخيراً ففي سماعه شيء. فمن سمع منه قديماً: ابن أبي ذئب، وابن جريج، وزياد بن سعد، وأدركه مالك، والثوري بعد اختلاطه"1.
ورجَّحَ جانبَ التعديل في عكرمة قائلاً: "فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصَحَّحَ أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قَدْحِ من قَدَحَ فيه"2.
ورجَّح توثيق عمرو بن شعيب على تضعيفه، فقال: "الجمهور يحتجون به
…
واحتج به الأئمة كلهم في الديات"3. وقال مرة مؤكداً هذا الاختيار: "ونحن نحتج بعمرو بن شعيب"4.
وكذا اختار توثيق محمد بن إسحاق، إمام المغازي، فقال:"وثناء الأئمة على ابن إسحاق، وشهادتهم له بالإمامة، والحفظ، والصدق، أضعاف أضعاف القدح فيه"5.
رابعاً: قد يلجأ ابن القَيِّم إلى الجمع بين الأقوال التي ظاهرها التعارض في الرجل المختلف فيه. بحيث يحمل كل قول منها على وجه
1 جلاء الأفهام: (ص15) .
2 إغاثة اللهفان: (1/296) .
3 تهذيب السنن: (6/374) .
4 زاد المعاد: (5/ 429) .
5 أحكام أهل الذمة: (1/332) .
يحتمله، فيخرج من هذه الأقوال بحكم يمثل "قولاً وسطاً" في هذا الراوي، فلا هو يضعف مطلقاً، ولا يُوَثَّقُ مطلقًا.
فمن ذلك: قوله في عبد الله بن لهيعة: "وحديثُ ابن لهيعة يُحْتَجُّ منه بما رواه عنه العبادلة: كعبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرئ"1.
ويقول في محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "ثقةٌ حافظٌ جليلٌ، ولم يزل الناس يحتجون بابن أبي ليلى على شيء ما في حفظه يُتَّقَى منه ما خَالَفَ فيه الأثبات، وما تفرد به عن الناس"2.
فَبَيَّن رحمه الله أنه يعتبر به إذا وافق غيره، ولم يأت بما ينكر عليه، وأنه يترك من حديثه ما خالف فيه أو انفرد عن الناس، فلا يكون حجة في ذلك.
ويقول في سفيان بن حسين: "في الزهري: ضعيف"3.
ثم يُبَيِّن وجه الجمع بين قول من وَثقَهُ وقول من ضَعَّفَهُ، فيقول:"ولا تنافي بين قول من ضعفه وقول من وثقه؛ لأن من وثقه جمع بين توثيقه في غير الزهري وتضعيفه فيه"4.
فهكذا يبين رحمه الله أن بعض الرواة لا يعارضُ تضعيفُهُم
1 إعلام الموقعين: (2/406-407) .
2 زاد المعاد: (5/150) .
3 تهذيب السنن: (3/ 344) .
4 الفروسية: (ص44) .
توثيقَهُم؛ إذ كل منهما له وجه ومحمل، فإذا أخذ ذلك في الاعتبار أمكن الجمع بين الأقوال المتعارضة في الرجل، وهذا يحتاج إلى إحاطة كاملة ومعرفة تامة بمقاصد العلماء فيما يطلقونه من أقوال في الرواة ووجه كل قول منها، وبخاصة عند الاختلاف في الراوي، وقد مضى كلام ابن القَيِّم في التنبيه على ذلك.
خامساً: غالباً ما يقوم ابن القَيِّم رحمه الله بالدفاع عن الراوي الذي يرى أنه قد ضُعِّفَ تعنتاً، وأن من جرحه لم يأت بما يقدح فيه.
فيجتهد رحمه الله في الذَّبِّ عنه، وإثبات ثقته، وله في ذلك أسلوبه المتميز، وعباراته القوية التي تتسم بوضوح الْحُجَّة وقوةِ الدليل.
فمن ذلك: قوله في الردِّ على من ضعف ابن إسحاق: "إن ابن إسحاق بالموضع الذي جعله الله: من العلمِ والأمانة
…
قال علي بن المديني: لم أجد له سوى حديثين منكرين. وهذا في غاية الثناء والمدح، إذ لم يجد له - على كثرة ما روى - إلا حديثين منكرين"1. وقال أيضاً: "ثقة لم يجرح بما يوجب ترك الاحتجاج به
…
"2.
وقال رحمه الله في الدفاع عن المنهال بن عمرو - وقد حاول بعضهم جَرْحَهُ بسماع صوت طنبور من بيته -: "وليس في شيء من هذا ما يقدح فيه"3. وقال مرة - بعد أن نقل توثيقه عن الأئمة -:
1 تهذيب السنن: (7/ 94- 95) .
2 جلاء الأفهام: (ص6) .
3 تهذيب السنن: (1/ 92) .
"وبالجملة: فلا يرد حديث الثقات بهذا وأمثاله"1.
ويقول مدافعاً عن عكرمة مولى ابن عباس: "وإن قَدَحْتُم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جَاءَكُم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به - أنتم وأئمة الحديث - من روايته، وارتضاء البخاري إدخال حديثه في صحيحه"2. ويقول أيضاً: "وطَعَنَ - يعني: بعضهم - في عكرمة، ولم يصنع شيئاً"3.
ويقول عن عبد الملك بن أبي سليمان - وقد ضعفوه بحديث الشفعة -: "وتلك شكاة ظاهر عنه عارها"4.
وقال عن إبراهيم بن طهمان - وقد ضعفه ابن حزم -: "لله ما لقي إبراهيم بن طهمان من أبي محمد بن حزم، وهو من الحفاظ الأثبات الثقات
…
"5.
وكذلك نجده رحمه الله عندما يُعَارَضُ الثقة بشخص ضعيف، فإنه يرد ذلك بشدة، مؤكداً ضعف هذا المعارض، ومن أقواله في ذلك:
قوله في عَطَّاف بن خالد - وقد خالف الثقات فزاد في الإسناد
1 تهذيب السنن: (7/ 140) .
2 زاد المعاد: (5/ 264) .
3 زاد المعاد: (2/ 434) .
4 زاد المعاد: (2/ 146) . وهذه العبارة شطر بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وتمامه:
وعَيَّرَهَا الواشون أَنِّي أُحِبُّها
…
وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عَنْكَ عارُها
يقال: ظهر عني هذا العيب، إذا لم يعلق بي ونبا عني. (لسان العرب: ظهر) .
5 زاد المعاد: (5/ 708) .
رجلاً -: "فأما عطاف: فلم يرض أصحاب الصحيح إخراج حديثه، ولا هو ممن يُعَارض به الثقات الأثبات
…
"1.
وقال في أبي شيخ الهنائي - وقد روى عن معاوية النهي عن أن يُقْرن بين الحج والعمرة -: "وأبو شيخ: شيخ لا يحتج به، فضلاً عن أن يُقَدَّم على الثقات الحفاظ الأعلام
…
"2.
سادساً: الشمول، والإحاطة، وغزارة المعلومات في عباراته التي يطلقها على الرواة. بحيث تشتمل عبارة واحدة - مثلاً - على معلومات متكاملة عن الراوي، وبذلك يكون لهذه العبارات أثر كبير في تجلية صورة الراوي وتوضيحها.
فيقول رحمه الله في إبراهيم بن طهمان: "من الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمة الستة على إخراج حديثهم، واتفق أصحاب الصحيح - وفيهم الشيخان - على الاحتجاج بحديثه، وشهد له الأئمة بالثقة والصدق، ولم يحفظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش، ولا يُحْفَظُ عن أحد من المحدثين قط تعليل حديث رواه، ولا تضعيفه به"3.
فهذه الجملة - على وجازتها - قد أحاطت بأحوال الْمُتَرْجَم وبَيَّنت مرتبته، وأعطت صورة كاملة عنه، فهو:
1-
من الحفاظ الأثبات الثقات المشهود لهم بالثقة والصدق.
1 تهذيب السنن: (1/ 363) .
2 زاد المعاد: (2/ 138) .
3 زاد المعاد: (5/ 708) .
2-
أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
3-
احتج به الشيخان في (صحيحيهما) .
4-
لم يُحْفظ عن أحد من الأئمة فيه خدش ولا قدح.
5-
ولا ضَعَّفَ أحد من الأئمة حَديثاً رواه، ولا أعله به.
ومثل ذلك: قوله في "بقية بن الوليد": "ثقة في نفسه، صدوقٌ حافظٌ، وإِنَّمَا نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرةِ روايته عن الضعفاء والمجهولين، وأما إذا صَرَّح بالسماع فهو حجة"1.
وقال في "حميد بن صخر": "ضَعَّفَهُ النسائي، ويحيى بن معين. ووثقه آخرون. وأنكر عليه بعض حديثه. وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد"2.
فقد أفادت هذه العبارة أن حميداً هذا:
1- اخْتُلِفَ فيه، فوثقه جماعة وضعفه آخرون.
2-
وأنه أنكرت عليه أحاديث.
3-
والخلاصة في أمره: أنه لا يحتج بما ينفرد به.
وبعد، فهذا ما أمكنَ التنبيه عليه فيما يتعلق بالخطوط العامة للمنهج الذي سار عليه ابن القَيِّم رحمه الله في نقد الرجال والحكم عليهم، ولعل ذلك يُسْهِم في تقديم صورة واقعية للناحية النقدية عند ابن القَيِّم، ويلقي الضوء على شخصيته المتميزة في هذا الجانب المهم من
1 تهذيب السنن: (1/ 129) .
2 زاد المعاد: (1/ 359) .
مباحث علوم الحديث، والذي يمثل الأساس المتين للحكم على المرويات ونقدها وتمحيصها.
وبعد هذا العرض العام لمنهجه رحمه الله في ذلك، يمكن استخلاص أبرزِ السِّمَات والخصائص التي اتسمت بها شخصيته النقدية، وأقوالُهُ في الرجال، فمن ذلك:
1-
سعَةُ اطِّلاعه على أقوال الأئمة، وإلمامه بما قيل في الراوي، فنجده - مثلاً - يقول في "حبيب بن أبي حبيب":"كَذَّاب وضَّاع باتفاق أهل الجرح والتعديل"1. وقد يكون قصده بذلك جمهورهم وأكثرهم، ولكن هذا لا ينفي ما قدمنا.
ومثله ما تقدم من قوله في "إبراهيم بن طهمان": "لم يُحْفَظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش"2.
2-
كثرة مصادره في الرجال، فنجده رحمه الله ينظرُ في الرجل الواحد عدة مصادر، فمن ذلك: أنه قال في رجل - وقد اختلف في اسمه -: "وهكذا هو في: "تاريخ البخاري"، "وكتاب ابن أبي حاتم"، "والثقات" لابن حبان، "وتهذيب الكمال" لشيخنا أبي الحجاج المزي"3.
3-
تَمَيُّزُ شخصيته رحمه الله في نقد الرواة؛ فلم يكن مجرد ناقل لأحكام غيره، بل كان له أثر بارزٌ في تمحيص هذه الأقوال ونقدها، وقد مرت أمثلة لذلك.
1 مختصر الصواعق: (2/391) .
2 زاد المعاد: (5/708) .
3 جلاء الأفهام: (ص12) .
4-
مَعْرِفَتُهُ رحمه الله بكثير من ضوابط الجرح والتعديل، وإعماله هذه الضوابط أثناء حكمه على الرواة، ومن هذه القواعد والضوابط:
أ - أنَّ الْجَرْحَ غير القادح لا أثر له في رد الرواية.
ب - الوَهْمُ اليسير لا يؤثر على ثقة الراوي وإتقانه؛ إذ إن ذلك لا يسلم منه أحد.
ج - عدم قبول رواية الْمُبْتَدِع إذا روى ما ينصر بدعته.
د - عدمُ قبول الجَرْحِ إلا مفسراً، وبِخَاصة في الراوي الْمُخْتَلَفِ فيه.
وقد تقدم الكلام على هذه الضوابط وذكر أمثلة لها في المبحث الماضي.
5-
معرفته رحمه الله بكثير من دقائق هذا الفن وأموره التي لا غنى عنها للناقد والْمُتَكَلِّمِ في الرجال، فمن ذلك:
أ - معرفته بأوطان الرواة وبلدانهم، فيقول مثلاً:"هذا إسناد شامي"1.
ب - معرفته بطبقات الرواة، واستفادته من ذلك في أحكامه على الرجال، والأمن من الخلط بين المشتبهين، فمن ذلك: أن ابن الجوزي اشتبه عليه عبد الله بن وهب الإمام، بعبد الله بن وهب النسوي الوضاع، فَغَلَّطَهُ ابن القَيِّم رحمه الله في ذلك، مستدلاً بأن الحديث من رواية:
1 تهذيب السنن: (1/169) .
أصبغ بن الفرج، ومحمد بن عبد الله بن الحكم وغيرهما من أصحاب عبد الله بن وهب الإمام. وأما النسوي: فهو متأخر، فإنه من طبقة يحيى بن صاعد1.
ج - معرفته رحمه الله بمراتب الرواة، ودرجاتهم في الحفظ، وَمَنِ الْمُقَدَّم منهم عند الاختلاف، فمن ذلك: قوله في أصحاب شعبة: "وغندر أصحُّ الناس حديثاً في شعبة"2. ويقول في أصحاب قتادة: "وهشام - يعني الدستوائي - وإن كان مقدماً في أصحاب قتادة، فليس همام وجرير إذا اتفقا بدونه"3.
1 انظر: تهذيب السنن: (5/251-252) .
2 تهذيب السنن: (3/312) .
3 تهذيب السنن: (3/404) .