الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل
لم يقتصر ابن القَيِّم في حكمه على الرواة على مجرد التصريح بعبارات التوثيق والتضعيف، وإنما كانت له - إلى جانب ذلك - أساليب أخرى.
ويمكن إيجاز بعض تلك الأساليب فيما يلي:
1-
الاكتفاء بالإشارة إلى وجود الراوي - المراد جرحه أو تعديله - في الحديث أو الإسناد.
قال في شعبة: "ولكنه حديث فيه شعبة"1. يريد بذلك مدحه وتوثيقه.
وقال رحمه الله في تضعيف الحجاج بن أرطأة: "ولكن في إسناد حديث الترمذي: الحجاج بن أرطاة"2.
وقال في حديث: "رواه الترمذي، ولكن دَرَّاجاً أبا السمح بالطريق"3.
وفي مثل ذلك يُعرف مراده رحمه الله من جرح أو تعديل - بالقرائن المحيطة بذلك الراوي.
وهذه الطريقة استعملها ابنُ القَيِّم رحمه الله في الجرح
1 حادي الأرواح: (ص274) .
2 زاد المعاد: (2/287) .
3 حادي الأرواح: (ص 270) . وقوله: "بالطريق" أي هو في إسناد هذا الحديث، ففيه إشارة لتضعيفه بهذا الراوي، مع كون الترمذي رواه.
والتعديل على السواء، ولكن هناك بعض الأساليب ورد استعمال ابن القَيِّم لها في التعديل خاصة، فمن ذلك:
2-
تكرار اسم الشخص، إشارة إلى ثقته وإمامته وإتقانه. فقد قال في شعبة:"وشعبة هو شعبة"1. وقال في حديث: "فإذا رجحنا بالحفظ والإتقان، فشعبة شعبة"2. وقال عن الإمام مالك رحمه الله: "ومالك مالك"3.
3-
التعبير عن ثقة الراوي بإخراج الشيخين أو أحدهما له. وقد استعمل رحمه الله هذا الأسلوب في مناسبات عدة، فمن ذلك قوله في عمرو بن أبي سلمة التنِّيسي:"محتجٌّ به في الصحيحين"4. وقال في سليمان بن كثير: "اتفق الشيخان على الاحتجاج بحديثه"5.
4-
التعبير عن ثقة الراوي برواية الأئمة المشهورين - أو أحدهم - عنه. فقد قال رحمه الله في مَغْرَاء العبدي: "روى عنه أبو إسحاق السبيعي على جلالته"6. وقال مرة في تقوية شأن حجاج بن أرطاة: "وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أطارة، فقد روى عنه: سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق"7.
1 تهذيب السنن: (5/407) .
2 إعلام الموقعين: (2/ 369) .
3 تهذيب السنن: (2/330) .
4 زاد المعاد: (5/283) .
5 الفروسية: (ص52) .
6 الصلاة: (ص119) .
7 زاد المعاد: (2/147) .
فهذه بعض الأساليب التي اعتمدها ابن القَيِّم رحمه الله في التعبير عن جرح الرواة أو تعديلهم، وذلك إلى جانب من صرح فيهم بلفظ التوثيق أو التجريح.
التنبيه على بعض العبارات الخاصة بابن القَيِّم رحمه الله.
ويحسنُ في هذا المقام التنبيه على بعض العبارات التي استعملها ابن القَيِّم، مما يغلب على الظن أنها مما تميز رحمه الله بها، وأنه لم يُسبق إليها.
ولاشك أن ذلك يُلْقِي المزيدَ من الضوء على أهمية كلام ابن القَيِّم رحمه الله في الرجال، ومدى ما له من جهد وإسهام بارز في هذا الفن المهم، فمن هذه العبارات:
1-
قوله: "فلانٌ من الحُفَّاظ الثقاتِ الذين لم تُغْمَزْ قَنَاتُهُم".
وأصل الغمز: العصر باليد. والقناة: هي قناة الرمح، أي خشبته. ورمح غير مغموز القناة: إشارة إلى استقامته، ونفيٌ لاعوجاجه ولينه1.
فقول ابن القَيِّم رحمه الله عن الرواة "لم تغمز قناتهم": نفي لضعفهم ولينهم، وإثبات لثقتهم وقوتهم.
فهي من عبارات التعديل عنده، فقد قالها رحمه الله في رجل حاول البعض إعلال حديث بتفرده به، وهو: جعفر بن إياس2، فقصد
1 انظر: (لسان العرب) : (ص 3296) مادة: غمز. "والمغرب": (2/112-113) . مادة: غمز. (بتصرف) .
2 تهذيب السنن: (3/425) .
ابن القَيِّم بعبارته: أن هذا الراوي على درجة من الثقة والتثبت لا يضر معها تفرده، وإنما يضر تفرد من كان مجروحاً، وليس هذا كذلك.
2-
قوله: "ما سَوَّى اللهُ ولا حُفَّاظُ دينه بين فلانٍ وفلانٍ".
قال ذلك في المقارنة بين راويين لبيان أن أحدهما ثقة، والآخر ضعيف، فلا يمكن مقارنته بهذا الضعيف وتشبيهه به.
فقد قال ابن حبان في شأن داود بن الحصين، وزيد بن جبير - وقد وقعا في حديث -:"يجب تجنب رواية زيد وداود جميعاً". فَرَدَّ ابن القَيِّم رحمه الله ذلك بقوله: "ما سَوَّى الله ولا حفاظُ دينه بين زيد ابن جبير وداود بن الحصين". ثم أخذ في نقل أقوال الأئمة في توثيق داود ابن الحصين، ثم قال بعد ذلك: "وأما زيد بن جبير: فقال البخاري وغيره: متروك
…
" وسرد أقوال الأئمة في تضعيفه1.
3-
قوله: "ارْتَقَى مِنْ حَدِّ الضَّعْفِ إلى حَدِّ التَّرْكِ".
وَصَفَ بذلك الجارودَ بن يزيد2، وقد كَذَّبَه جماعة، وحكم آخرون بأنه متروك3، وكانت كلمات بعضهم توحي بمجرد ضَعْفِه.
وقد قال فيه ابن القَيِّم هذه الكلمة بمناسبة روايته حديثاً في عدم وقوع الطلاق إذا استثنى الْمُطَلِّق، فكأن ابن القَيِّم رحمه الله أراد أن يؤكد بكلمته هذه: أن مجيئه بمثل هذه الطامات مما يعزز الحكم بكونه
1 رسالة الموضوعات: (ق48) .
2 إعلام الموقعين: (4/69) .
3 انظر: الميزان: (1/384) .
"متروكاً" لا يحل الاحتجاج به، وأن كلمة "ضعيف" قليلة في حقه.
كما أن هذه العبارة من ابن القَيِّم رحمه الله تحملُ نوعاً من السخرية والتهكم؛ إذ إن التَّرقي عادة يكون إلى الأحسن والأعلى.
4-
قوله: "لم يُسْفِرْ1 صباحُ صِدْقِهِ في الرواية".
قال هذه العبارة في عمر بن صبح2 كناية عن كذبه، والتصاق هذا الوصف به، وإقامته على ذلك.
وهذا من الأساليب البلاغية التي استعملها رحمه الله في نقد الرواة، حيث لجأ إلى الطِّباق والتورية للتعبير عن جرح هذا الرجل.
5-
قوله: "كُسَيْرٌ عن عُوَيْرٍ"3.
قالها في "العرزمي عن الكلبي"4، وفي "سليمان بن عيسى السجزي عن عبد الرحيم العمي"5.
وهاتان الكلمتان مأخوذتان من مَثَلٍ عربيٍّ قديم، وهو قولهم:"عُوَيْرٌ وكُسَيْرٌ، وكلٌّ غَيْرُ خَيْر". وهو من الأمثال التي تُعَبِّرُ عن الخلة غير المحمودة، كما قال أبو عبيد البكري6، ثم ذكر قصة هذا المثل ومناسبته.
1 أسفر الصبح: أضاء. (مختار الصحاح: ص301) .
2 تهذيب السنن: (6/ 324) .
3 وهما تصغير: "مكسور"، و "أعور".
4 تهذيب السنن: (5/ 409) .
5 جلاء الأفهام: (ص 237) .
6 فصل المقام في شرح كتاب الأمثال: (ص378) .
وقال الجوهري: "يقال في الخصلتين المكروهتين: كُسَير وعوير، وكل غير خير"1.
وقد تَبَيَّن من صنيع ابن القَيِّم رحمه الله استعمال هاتين الكلمتين للجرح الشديد، ولاسيما في حق من كان متهماً بالكذب.
وبعد، فهذا ما أمكنَ التنبيه عليه من ألفاظ الجرح والتعديل التي يغلب على الظن: أن ابن القَيِّم رحمه الله قد انفرد بها، والله أعلم.
1 انظر: لسان العرب: (ص 3164) مادة: عور.