الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: الْمُنْقَطِعُ
تعريفه: هو ما سقط من إسناده راوِِ واحد قبل الصحابي، من أي موضع كان السقط1. وكذا لو سقط من إسناده اثنان، لكن لا على التوالي2.
وهذا هو الأكثر في استعمالهم، كما صَرَّح به الخطيب وغيره3.
ومن المسائل المتفرعة عن نوع المنقطع:
العَنْعَنَةُ، أو: الإسناد الْمُعَنْعَن:
إذا قال الراوي في حديثه: عن فلان، من غير بيان للتحديث والإخبار والسماع، فما حكم هذا الإسناد؟ اختلف في ذلك:
- فقال بعضهم: هو من قبيل المنقطع والمرسل حتى يتبين اتصاله.
- والصحيح الذي عليه العمل: أنه من قبيل الإسناد المتصل، هذا الذي ذهب إليه الجمهور من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم، بل ذهب البعض إلى إجماع أهل النقل على ذلك4، وذلك بشرطين:
1 فتح المغيث: (1/153) .
2 تدريب الراوي: (1/208) .
3 فتح المغيث: (1/155) .
4 مقدمة ابن الصلاح: (ص 29) .
أحدهما: أن يكون الْمُعَنْعِنُ غير معروف بالتدليس.
الثاني: أن يثبت اللقاء بين الراوي المعنعن وشيخه، ولو مرة واحدة، كما ذهب إلى ذلك: البخاري، وشيخه علي بن المديني، وغيرهما من النقاد1.
واكتفى الإمام مسلم في الحكم لذلك بالاتصال: بأن يكون الراوي المعنعن وشيخه متعاصرين، مع إمكان اللقاء، وبالغ في خطبة "صحيحه"2 في الرد على من قال باشتراط ثبوت اللقاء، وأنه قول مخترعٌ لم يُسْبَق قائله إليه.
وقد أخذ ابن القَيِّم رحمه الله في هذه المسألة بمذهب الإمام مسلم رحمه الله، فكان يحكم على الإسناد المعنعن بالاتصال بمجرد تحقق المعاصرة بين الراوي وشيخه، وإمكان لقائهما، ولم ير أنه يلزم في ذلك ثبوت اللقاء بينهما، يتضح ذلك من كلامه في مناسبات عدة، فمن ذلك:
أن الطحاوي أعل حديث ابن عباس رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد: بأن قيس بن سعد لا يُعْلَم حدث عن عمرو بن دينار بشيء، فقال ابن القَيِّم رحمه الله:
"هذه عِلَّة ٌباطلة؛ لأن قيساً ثقة ثبت، غير معروف بتدليس. وقيسٌ وعمرو مكِّيَّان في زمان واحد، وإن كان عمرو أسن وأقدم وفاة منه. وقد روى قيس عن عطاء ومجاهد، وهما أكبر وأقدم موتاً من عمرو ابن دينار"3.
1 نزهة النظر: (ص 64) .
(1/29- 35) .
3 تهذيب السنن: (5/227) .
فابن القَيِّم رحمه الله في هذا المثال يكتفي - للحكم باتصال هذا السند - بكون قيس وعمرو عاشا في زمان واحد، وأن لقاءهما ممكن غير مستبعد، هذا مع كون قيس بن سعد ثقة ثبت ولا يُعرف بتدليس.
وما قاله ابن القَيِّم هنا من أن قيساً غير معروف بتدليس: غير كافِِ للحكم بالاتصال؛ إذ قد يكون المعاصر غير مُدَلِّس، ولكنه يرسلُ إرسالاً خفياً، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: "وقيل: يُشترط في حمل عنعنة المعاصر على السماع: ثبوت لقائهما
…
ولو مرة واحدة، ليحصل الأمن في باقي العنعنة عن كونه من المرسل الخفي، وهو المختار"1.
ولما أعلَّ البخاري رحمه الله حديث عقبة بن عامر في: " لَعْن الْمُحَلِّل والْمُحَلَّل له"، بأن الليث بن سعد لم يسمعه من مشرح بن هاعان، وكذا أعلَّه أبو زرعة بقوله:"لم يسمع الليث من مشرح شيئاً
…
"، ردَّ ذلك ابن القَيِّم بقوله: "فإن الليث كان معاصراً لمشرح، وهو في بلده، وطلب الليث العلم وجمعه لم يمنعه أن لا يسمع من مشرح حديثه عن عقبة بن عامر وهو معه في البلد"2.
فهكذا كان ابن القَيِّم رحمه الله يذهب في هذه المسألة إلى الحكم للسند بالاتصال بمجرد المعاصرة مع إمكان اللقاء.
والذي يظهر - والله أعلم - أن ما ذهب إليه البخاري، وشيخه
1 نزهة النظر: (ص 64) .
2 إعلام الموقعين: (3/46) .
ابن المديني هو الراجح، وما ذهب إليه مسلم رحمه الله من انعقاد الإجماع على خلافه: غير مُسَلّمٍِ له، بل عمل أكثر الأئمة المتقدمين على مذهب البخاري.
وقد أشار ابن رجب رحمه الله إلى أن مذهب البخاري هذا هو مقتضى كلام الإمام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفاظ، قال: "بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع، كما تقدم عن الشافعي رضي الله عنه
…
"1. ثم قال - بعد أن نقل أمثلة كثيرة من كلام هؤلاء الأئمة تدل على اشتراطهم اللقيّ-:
"فإذا كان هذا قول هؤلاء الأئمة الأعلام - وهم أعلم أهل زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه، مع موافقة البخاري وغيره - فكيف يصح لمسلم رحمه الله دعوى الإجماع على خلاف قولهم، بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا، يقتضي حكاية إجماع الحُفَّاظِ الْمُعْتَدِّ بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يُعْرَفُ عن أحد من نظرائهم، ولا عَمّن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم
…
"2.
وسبق ابنَ رجب إلى الاعتراض على مسلم في ذلك: ابنُ الصلاح رحمه الله؛ إذ قال: "وفيما قاله مسلم نظرٌ، وقد قيل: إن القول الذي رَدَّهُ مسلمٌ هو الذي عليه أئمة هذا العلم: عليّ بن المديني والبخاري وغيرهما"3.
1 شرح علل الترمذي: (ص272) .
2 شرح علل الترمذي: (ص278) .
3 مقدمة ابن الصلاح: (ص 31) .
وقد نقل الإجماع على مذهب البخاري حافظا المشرق والمغرب: الخطيب1 وابن عبد البر2.
وبَيَّنَ الحافظ ابن حجر رحمه الله في عِدَّة مناسبات رُجحانَ مذهب البخاري، فقال:"وهو المختار، تبعاً لعلي بن المديني، والبخاري، وغيرهما من النقاد"3. وقال في مكان آخر - بعد أن بَيّن الباعث للبخاري على اشتراط ذلك -: "فتبيّن رجحان مذهبه"4. ونقل عنه السيوطي رحمه الله قوله:
"من حَكَمَ بالانقطاع مطلقاً: شَدَّدَ، ويليه من شَرَطَ طول الصحبة، ومن اكتفى بالمعاصرة: سَهَّل، والوسطُ - الذي ليس بعده إلا التعنت -: مذهب البخاري ومن وافقه
…
"5.
فَتَبَيّنَ من ذلك: أن ما ذهبَ إليه ابن القَيِّم رحمه الله من الحكم بالاتصال بمجرد المعاصرة: مرجوحٌ، وأنَّ الراجح هو اختيار البخاري ومن وافقه: من اشتراط ثبوت اللقاء؛ إذ إن ذلك مقتضى الاحتياط، والله تعالى أعلم.
1 انظر: فتح المغيث: (1/160) .
2 التمهيد: (1/12 - 13) .
3 نزهة النظر: (ص 64) .
4 النكت على ابن الصلاح: (2/596) .
5 تدريب الراوي: (1/216) .