الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس عشر: ناسخ الحديث ومنسوخه
النسخ: هو "عبارة عن رفع الشارع حكماً منه متقدماً بحكم منه متأخر".
ذكر ذلك ابن الصلاح رحمه الله، ثم قال:"وهذا حد وقع لنا سالم من اعتراضات وردت على غيره"1.
طرق معرفة النسخ: ويعرف ذلك بأمور، وهي:
أولاً: تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو أصرحها، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه بريدة رضي الله عنه:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها".
ثانياً: أن يجزمَ الصحابيُّ بأن ذلك الخبر متأخر، كقول جابر رضي الله عنه:"كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار".
ثالثاً: يُعرف ذلك - أيضاً - بالتاريخ، وهو كثير.
رابعاً: أن يقعَ الإجماع على ترك العمل بحديث، وأنه منسوخ. والإجماع لا يَنْسَخ ولا يُنْسخ، وإنما يدل على وجود ناسخ2.
وقد ورد في كلام ابن القَيِّم رحمه الله استعماله لبعض الطرق التي يستدل بها على النسخ، فمن ذلك:
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 139) .
2 ينظر تفصيل ذلك في: مقدمة ابن الصلاح: (ص139 - 140)، وتدريب الراوي:(2/190 - 192)، ونزهة النظر:(ص 38 - 39) .
1-
استدلاله على النسخ بمعرفة التاريخ.
قال رحمه الله في حديث طلق في الرُّخصة في ترك الوضوء من مَسَّ الذكر، ومعارضته بحديث أبي هريرة وغيره:"أن حديث طلق لو صح، لكان حديث أبي هريرة ومن معه مُقَدَّماً عليه؛لأن طَلْقاً قَدِم المدينة وهم يبنون المسجد، فذكر الحديث، وفيه قصة مس الذكر، وأبو هريرة أسلم عام خيبر بعد ذلك بست سنين، وإنما يُؤْخَذُ بالأحدث فالأحدثِ من أمره صلى الله عليه وسلم"1.
2-
وجود قرائن تدل على تأخر أحد الخَبَرين.
فقد استدلَّ ابن القَيِّم رحمه الله على نسخ حديث أبي هريرة مرفوعاً: " من أَدْرَكَه الفجر جنباً فلا يصوم ". بما رواه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من " أنه كان يصبح جنباً ويصوم "، فقال في تأييد القول بنسخ حديث أبي هريرة:"لا يصح أن يكون آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطال الصوم بذلك؛ لأن أزواجه أعلم الأمة بهذا الحكم، وقد أخبرن بعد وفاته: أنه كان يصبح جنباً ويصوم. ولو كان هذا هو المتقدم لكان المعروف عند أزواجه مثل حديث أبي هريرة، ولم يحتج أزواجه بفعله الذي كان يفعله ثم نسخ، ومحال أن يخفى هذا عليهن؛ فإنه كان يقسم بينهن إلى أن مات في الصوم والفطر"2.
1 تهذيب السنن: (1/135) .
2 تهذيب السنن: (3/266 - 267) .
شروط تحقق النسخ:
لابد للحكم بالنسخ في الخبرين المتعارضين من توافر بعض الشروط، وقد وَقَعَ في كلام ابن القَيِّم رحمه الله ذكر شيء من هذه الشروط، فمن ذلك:
قوله رحمه الله في الرد على من ادعى أن التمتع في الحج منسوخ: "أما العذر الأول، وهو النسخ، فيحتاج إلى أربعة أمور
…
يحتاج إلى:
- نصوص أخر،
- تكون تلك النصوص معارِضَة لهذه،
- ثم تكون - مع هذه المعارضة - مُقَاوِمة لها،
- ثم يثبتُ تأخرها عنها"1.
وأشار مرة إلى بعض هذه الشروط، فقال في حديث عبد الله بن حمار في ترك قتل شارب الخمر في الرابعة، وأنه ناسخ للأمر بقتله في الرابعة:
"وأما ادعاء نسخه بحديث عبد الله بن حمار، فإنما يتم بـ:
- ثبوت تأخره،
- والإتيان به بعد الرابعة،
- ومنافاته للأمر بقتله"2.
1 زاد المعاد: (2/187) .
2 تهذيب السنن: (6/237) .
ففي هذا تصريح منه رحمه الله بضرورة أن يكون الناسخ متأخراً، وأن يعارض المنسوخ معارضة لا يمكن معها الجمع بينهما.
وعَبَّر رحمه الله عن ذلك مرة بقوله:
"لا يمكن إثباته - يعني النسخ - إلا بعد أمرين:
أحدهما: ثبوت معارضته المقاوم له.
والثاني: تأخره عنه"1.
وقال رحمه الله في الردِّ على من ذهب إلى أن القيام للجنازة- قيام تابعها، ومن مرت به، والمشيع عند القبر - منسوخ، رد على ذلك بقوله: "وهذا المذهب ضعيف من ثلاثة أوجه: أحدها: أن شرطَ النسخ: المعارضةُ، والتأخرُ. وكلاهما منتف في القيام على القبر بعد الدفن، وفي استمرار قيام المشيعين حتى توضع
…
"2.
ويؤكد ابن القَيِّم رحمه الله ضرورة مقاومة الناسخ - في الصحة والقوة - للمنسوخ، فيقول في حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعاً في الإذن في الإقران بين التمرتين، وأنه ناسخ لحديث ابن عمر رضي الله عنه في النهي عن ذلك: "وهذا الذي قالوه - يعني ادعاء النسخ - إنما يصح لو ثبت حديث بريدة، ولا يثبت مثله
…
"3.
1 تهذيب السنن: (4/173) .
2 تهذيب السنن: (4/312) .
3 تهذيب السنن: (5/332) .
فتلخص من ذلك: أن الشروط التي قررها ابن القَيِّم رحمه الله للحكم بالنسخ، هي:
1-
عدمُ إمكان الجمع بين الخَبَرَين.
2-
صَلاحِية كلٍّ منهما للحُجَّة.
3 -
معرفةُ الْمُتَأَخِّرِ.
أما عدم إمكان الجمع بينهما: فلأن الجمع أولى من المصير إلى النسخ، قال الحازمي رحمه الله: "
…
فَإِنْ أَمْكن الجمع جمع
…
ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة كان أولى؛ صوناً لكلامه - بأبي هو وأمي - عن سمات النقص"1.
وأما اشتراط صلاحية كل من الخبرين للحجة: فلأن القويَّ لا تُؤَثِّر فيه مخالفة الضعيف2، فضلاً عن أن يقاومه فينسخه.
وأما اشتراط ثبوت تأخر أحد الخبرين: فقد أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله: "فإن عرف - يعني التاريخ - وثبت المتأخر به أو بأصرح منه: فهو الناسخ والآخر المنسوخ"3.
1 الاعتبار: (ص 9) .
2 انظر: نزهة النظر: (ص37) .
3 نزهة النظر: (ص 38) .